وكانت القرية ساطعة الأنوار احتفالا بعرس عابد، حين كانت أمينة تدرع الظلماء في طريق لا تعرف لها غاية!
وأصبحت القرية بعد ليلة ساهرة تبحث عن أمينة فلم يعرف لها خبر؛ ولكن سرها ظل مكتوما كما أرادت فلم يطلع عليه أحد؛ لأن الثلاثة الذين يعرفونه لم يكن يسرهم أن يعرفه أحد!
وراح أبوها وذوو قرابتها يتقصصون الخبر ويتتبعون الأثر، فلم يبلغوا إلى غاية؛ وذهب الناس في الحدس مذاهب، ولكن أحدا منهم لم يبلغ من سوء الظن أن يتهم أمينة تهمة تنال من شرفها؛ إذ كانت عندهم فوق الظنون والريب؛ فاتهموا بها وحش الفلاة وموج البحر ولم يتهموها؛ وأقاموا لها مأتما وقرءوا القرآن!
وسمع عابد النبأ فخمن ما كان، وأقام مأتمها في قلبه ولم يزل صدى أغاني العرس في أذنيه!
لم يسعد عابد بزواجه كما رجا أهله، ولم ينس؛ وعاش كما قدر له أن يعيش: بين حطام الأمل ولوعة الذكرى ولذع الندم، وصباح ومساء، ونجم ينير ونجم يغور، والحياة هي الحياة، إلا ما تجد له الذكرى من الألم وعذاب القلب ووخز الضمير!
ومضت بضع عشرة سنة، ولم يزل عابد كعهده يوم كان؛ لم يغيره الشيب الباكر شيئا ولم تقو الأيام أن تمحو آلامه. على أنه اليوم يعيش سيد نفسه في القصر الأبيض؛ فقد آل إليه القصر والمزرعة بعد وفاة أبيه وأمه، وعقمت زوجه فلم تقدر أن تمنحه الولد، كما عقمت من قبل فلم تقدر أن تمنحه الحب؛ وعاش وعاشت كما يعيش الضيف في غير أهله، فليس بينهما شابكة من حب تخفف عنه، ولا رابطة من أمل تقربها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبي نداءه وتبسم له، لكانت حياته جحيما لا طاقة عليها ولا صبر معها. وقد جاء بهذه الخادم إلى القصر الأبيض بعض أصحاب عابد القدماء من فتيان القرية، يسأله أن يستخدمها ويؤويها؛ ومنذ ذلك اليوم اصطفاها عابد لخدمته الخاصة، فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترويح عنه، وليس لأحد غيره عليها من حق.
وأحل عابد خادمته الجديدة «زهيرة» محلا من الكرامة لا يحل مثله الخدم في بيوت السادة؛ فقد أحس في نفسه منذ رآها عاطفة تفرض عليه نوعا من الرقة في معاملتها، ورأى في عينيها بريقا من الإخلاص يقتضيه لها نصيبا من الرعاية؛ وكانت صموتا مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخره، وكأنما صنعت لها روحها ابتسامتها الدائمة فلا ترى إلا ضاحكة السن، تطل من عينيها نفس راضية تنشر حولها جوا من الطمأنينة والسعادة.
لم يكن ذلك إحساس عابد وحده حين ينظر إلى زهيرة، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره. على أنها كانت إلى جانب ما تتمتع به من الحظوة عند سيدها ومن شعور العطف عند أصدقائه تحس شيئا من الألم لسوء ما تعاملها به سيدتها، فلم تكن تلقاها إلا عابسة أو صاخبة، ولم تكن حالها مع سائر الخدم في القصر خيرا من حالها مع سيدتها، فقد كانت عندهن في موضع التهمة في أمانتها؛ فكثيرا ما اختفت أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يدها؛ ولكن سيدها كان من حسن الظن بها بحيث يتأتى لها أن تمد يدها إلى ما تشاء من ماله؛ فكيف يتهمها بمنديل، أو خاتم، أو صورة تختفي، أو زجاجة عطر ...؟
بمثل هذا كانت تتهمها خادمات القصر، ولو شئن لاتهمنها تهمة أخرى يبلغن بها الرضا من نفس سيدتهن الغيور ...!
وبلغت زهيرة سن الشباب، ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خلق إلى جمال الخلق وطيب المعاشرة. وبلغت الجفوة بينها وبين سيدتها حدا بعيدا، فلولا الكبرياء لصرخت في وجهها المرأة العقيم: «لماذا أنت هنا يا فاجرة ...!» ولكنها كانت تصطنع كل يوم سببا غير السبب الحقيقي لتنشئ بينها وبين الخادم معركة ...!
ناپیژندل شوی مخ