وانقطعت سبيبة الذكرى، فأفاقت من غفلتها وراحت تمسح الدموع عن وجنتيها بأطراف السجف وتنظر الطريق.
وأخذ عينيها بريق الكرات الملونة مدلاة من حبالها يتلاعب بها الهواء، تلاعب اليأس والهم بنفسها؛ واضطربت في مرأى عينها الرايات الخضر اضطراب أوراق الشجر هبت عليها رياح الخريف ...
لقد كانت وحدها في البيت، فلم ترافق أمها إلى بيت صاحبتها لتزف إليها التهنئة.
منذ أمس، حين زارتها صديقتها داعية، لم تستقر على حال من لذع الغيرة وألم الحرمان، وقدرت - إن هي أجابت الدعوة - أنها ستكون بين المدعوات موضع السخرية والإشفاق، وما تطيق أن يسخر منها أو يشفق عليها أحد ...
ومر من تحت النافذة فوج من الشباب يقصدون بيت العروس، وراحت تختبر فراستها لعلها أن تعرف زوج صديقتها من بين هؤلاء. أفكانت تريد ذلك حقا، أم هي تريد أن تعرف من بينهم رجل أحلامها الذي صحبته في الوهم سنوات ... وزفرت زفرة خافتة وراحت تحصي سنيها التي عمرتها على الأرض: يا ويلتا! خمس وعشرون سنة ... لقد تزوجت أمها في الثالثة عشرة، فلعلها هي لو تزوجت في مثل سن أمها كانت موشكة أن تصير جدة ... وركبها اليأس، واصطلحت عليها الأفكار السود، ولم تجد لنفسها طاقة بالوحدة بعد، فأخذت زينتها وأسرعت إلى بيت العروس تتفرج ...
وهاجت أحزانها مظاهر الفرح، وبهرتها الأنوار البراقة، ولدغتها ثعابين الغيرة من عناقيد الزهر متعانقة متشابكة، ورنت في أذنيها ضحكات النساء كأن قلبا من الزجاج ينكسر!
وانتظم النساء حلقات على عادتهن يتهامسن، فانطوت على نفسها في زاوية من البهو تحاول ألا تتحدث إلى أحد أو يتحدث إليها أحد، وخيل إليها أن التمنيات التي توجهها إليها صواحبها سخرية وشماتة ... «العقبى لك!» ما أحراهن أن يترجمنها إلى اللغة الصريحة فيقلن: «الرحمة والرثاء لك أيتها العانس المسكينة ...!» وأديرت على برد الخريف أكواب الشراب المثلوج، ووزعت الحلوى في العلب المذهبة الثمينة، وتزاحم النساء يتخاطفنها كأنما يقتضين الأجر على ما شرفن العروس بالحضور للتهنئة! ورأت هي أنها لم تتفرج مما بها وإنما زادت هما على هم، فأسرعت عائدة إلى الدار.
ولم تنم المسكينة ليلتها، ولكن أخذتها إغفاءات متقطعة تتخللها الرؤى والأحلام ...
وعاد تفكيرها في الزواج بعض عملها اليومي، ولكنها لم تعد تفكر في الرجل إذ تفكر في الزواج، أكثر مما تفكر في مظاهر الاحتفال وزينة العرس حين يكون العرس، وفيمن تدعو ليشاركها في الفرح من نساء المدينة وشبان المدينة. كانت تفكر في الانتقام لكبريائها التي زعمتها ديست يوم عرس جارتها فلانة، وما كانت تفكر في وسيلة للانتقام إلا فيما يكون من مظاهر الاحتفال بزواجها، يوم تتزوج ... سيكون احتفالا خيرا من احتفال جارتها، وسيزين بيتها أروع من زينتها، وسيجتمع لها من سراة المدينة ووجهائها من لم يجتمع لعروس قبلها. ستحاول يومئذ أن تسعر الغيرة والحسد في قلوب كل صواحبها أكثر مما كانت تسعرهما بكبريائها وتيهها عليهن وهي ما تزال صغيرة تطلب العلم معهن بالمدرسة أو تشاركهن اللعب في فناء الدار ...
وتطورت أمانيها من شيء إلى شيء، فلم يعد كل ما يعنيها هو الزواج أو الزوج، وإنما تركزت كل آمالها في فكرة واحدة، هي أن تتهيأ لها الأسباب لتكون عروسا في حفل يتحدث به فتيات المدينة وفتيانها جميعا؛ لتثأر لكبريائها وترد الشماتة!
ناپیژندل شوی مخ