وحين أراد أن يهيئ لها سعادة الرضا في جواره، لم يعرف كيف يجعل إرادته تسبق إرادتها فيما تشتهي فيمنحها ما تشاء قبل أن تدعوه إليه آمرة مطاعة ... فتعودت أن تكون آمرة مطاعة!
ولو أن الحجاب بينهما فيما بين الخطبة والزفاف لم يكن في حراسة التقاليد لتفاهم قلباهما على الود الكريم، ووضعا الأساس لحياة الغد على غير جرف هار من الوهم والخيال!
هل كان يعلم يومئذ أن الرجل ينزل منزلته من نفس المرأة بسلطانه وغلبة إرادته، لا بالتذلل والطاعة وشكوى تباريح الهوى؟ ... وعاشرته بضع سنين تعيش معه في البيت كضيف على ميعاد، وكان حظ صديقاتها وأصدقائها منها أكثر من حظه، فربما قضى الساعات في البيت وحيدا وهي هناك، تتنقل زائرة من دار إلى دار، فلم تكن تلزم دارها إلا يوما واحدا في كل أسبوع تستقبل فيه ضيوفها ... ... ومضت على وجهها والرجل في غفلته ...
وفجأه المرض في المصيف واشتدت به العلة، ونصحه الطبيب أن يعود ... أفتعود زوجه من المصيف ولم يمض من الصيف إلا أيام، وليس في العام المديد إلا صيف واحد ... كل اثني عشر شهرا ...؟ ما أغلظ كبده لو أنه ألح عليها في العودة معه قبل أن تنال قسطها من متاع الروح والجسد ...! ... وخلفها على الشاطئ العريان في حراسة الشيطان، تداعب أمواجا في البر وأمواجا في البحر، ثم عادت إليه حين حلا لها أن تعود ... على أنها قد عادت يومئذ أكثر علما بالحياة، وكأنما صنعتها هذه الفترة التي قضتها وحيدة في المصيف صنعة جديدة، فلم تهنأ لها الحياة على ما تعودت من قبل، وحالت ابتسامتها عبوسا ورضاها سخطا، ولم يعد يعنيها كثيرا أن تتحبب إلى رجلها حين يطل من عينيه شيطانه، فقد كان شيطانها أقوى وأغلب ...!
وتهامس الناس عن رجل وامرأة، ورفت على الشفاه بسمات، وتحيرت في العيون نظرات، وتحدث جار من النافذة إلى جاره. وبلغه النبأ أخيرا، وأفاق من وهم الحب وهو على شفير الهاوية، وتراءى له في أعماق الهوة التي تحت قدميه خيال رجل وامرأة وغلام! ... واستعاد رجولته ولكن بعد أن فقد من يأتمر بأمره، وفارقها في صمت عيوفا أبيا، ولكنه خلف قلبه هناك ... تحت وسادتها وبين الحشايا ...!
وتم له ما دبر، ونقل من المدرسة التي كان يعمل فيها؛ ليفارق البلد الذي دفن فيه الشباب والحب والأمل، وتركها وولدها وراح ينشد العزاء وحيدا بعيدا، وقد أقسم أن يعيش حياته وحيدا بعيدا لا تساكنه امرأة في دار، ولا تشاركه في فراش!
ومضت سنوات، وها هو ذا يعود ليأخذ ولده يعيش في حضانته؛ لقد كان يأبى حتى هذه اللحظة أن ينتزع منها ولدها على كره؛ إبقاء على الماضي الذي كان ... يا ويحه! كم ذا يعاني العاشق من ألوان المذلة حين يتنازعه عقله ووجدانه ...! ها هي ذي تدعوه ليأخذ ولده راضية؛ لكأنما كرهت أن يكون ولدها معها نميمة تدل أصدقاءها على أنها أم ...! •••
وصلصل الجرس في المدرسة مرة ثانية وما يزال الأب غريقا يغالب موجات الذكرى الطاغية في يأس العاشق الوفي جوزي بحبه ووفائه غدرا وخيانة! - «تعال يا بني! إنني أنا أبوك!»
وضمه إلى صدره واغرورقت عيناه، ولمحه زميل قديم من زملائه في المدرسة وهو يوشك أن يغادر الباب وفي يده غلامه، وناداه زميله فتمهل، وكأنما عثر الزميل القديم بكنز حين لقي صديقه، فهز يده بعنف وعلى شفتيه ابتسامة رضا، وكان في عينيه سر تهمان أن تبوحا به وهو يقول: «أفلا تسأل عن أصدقائك بعد طول الغياب؟!»
قال الرجل وكأنما يتحدث إلى نفسه: «أراك بخير!» ولم يدر ماذا قال؛ لأنه لم يكن يعني ما قال ...
ناپیژندل شوی مخ