وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمدته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنسانا ضعيفا قليل الحول لا قدرة له على التصرف، ولا طاقة له بالاحتمال ...!
ووجد له شغلا من فراغ ... وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها لا يبالي نظرات الناس، فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يدا في يد، وجنبا إلى جنب!
وأحس إبليس - فوق ألم الحب الذي يجد - ألما جديدا من آلام البشرية، وقذف منظر الزوجين المتحابين في قلبه الحسد ...!
وآده العجز والشعور بالحرمان، فعاودته شيطانيته ثائرة محنقة، على أنه وقد ذاق بعض لذات البشرية في آلامها، لم يكن يطيب له أن يرتد إلى عالمه، ولكنه حين أحس العجز عن الظفر بالمرأة التي يشتهيها، راح يستمد الحيلة من طبيعته «الشيطانية» الأولى ليظفر بما يشتهي وهو باق في بشريته!
ولكنه - وا أسفا! - لم يستطع أن يكون شيطانا ورجلا في وقت معا، وحين ألهمته طبيعته الأزلية بالرأي وأمدته بالحيلة، فقذف فكرته في نفس المرأة، كان خلقا آخر ليس من البشرية ولا حظ له من المرأة. ونفذ سهم إبليس إلى قلب الحسناء، فنظرت إلى وراء تفتقد عاشقها المدنف فلم تره؛ وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطانا لا تحسه النظرات ولا يخضع لنواميس هذا العالم؛ ورآها وهي تنظر نحوه متلهفة مشتاقة، فما نالته نظرتها ولا مست قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقته حين لبس جلدة شيطان ...!
وكتب في تاريخ الأرض أن إبليس قد تاب مرة، ولكن ردته إلى شيطانيته امرأة ...!
رجل ... وامرأة!
جلس الرجل في حجرة الانتظار بالمدرسة يجيل طرفه في قطع الأثاث المبعثرة، وينقل الطرف بين السقف والأرض والحيطان. لم يتغير شيء عما رآه لآخر مرة منذ أربع سنوات ... يوم كان معلما في هذه المدرسة ... ... هذا النضد الصغير في الزاوية كأنه قطعة من بناء الحجرة، لم يتزحزح أنملة عن موضعه؛ وهذه الأريكة الكبيرة التي طالما تمدد عليها في أوقات فراغه ولوى ذراعيه تحت رأسه وسبح في أحلام اليقظان؛ وهذه الصور في أطرها معلقة على الحيطان تطل منها هذه الوجوه الصغيرة في أساريرها مرح الطفولة، وفي عينيها بريق الأمل المتوثب؛ لم تزل كذلك في موضعها حيث صففها بيديه قبل سنين، ولكنها زادت عما عهدها طائفة من الصور في عديد من الأطر؛ لا شك أنها صور الفرق التي أتمت دراستها بالمدرسة منذ فارقها ...
ودفعه الحنين إلى الماضي؛ فنهض يتأمل صور تلاميذه هؤلاء الذين عاش بينهم شطرا من حياته في منزلة الأب الثاني، ثم فارقهم وفارقوه منذ سنين بعيدة، فوجا بعد فوج، إلى حيث لا يدري من فجاج الحياة. ما أسرع مر السنين! أي هؤلاء التلاميذ يذكره اليوم وإنه ليذكرهم فردا فردا؟ وأين هو اليوم منهم وأين هم؟ لعل منهم اليوم صاحب المنصب الرفيع والجاه العريض، وهو ما زال حيث تركوه في منصبه وجاهه، تتقاذفه المقادير من قرية كبيرة إلى مدينة صغيرة، ولكنه في موضعه من الحياة حيث كان: معلم أطفال! ذلك مكانه على الحقيقة مهما تقلبت به الأمكنة والأزمان!
ووقف بإزاء صورة من عديد الصور المعلقة، فلم ينتقل عنها ولم يخفض بصره؛ لقد ألمت برأسه ذكريات من الماضي، ذكريات حية لم يزل قلبه بدمها ينزف. وحدق في الصورة طويلا تحديق العانس في المرآة تنعى الشباب وتتهم الزمن ... منذ ثماني سنوات حين دعي ليجلس بين تلاميذه في هذه الصورة، كان شخصا آخر غير الشخص الذي يعيش اليوم ... لقد كان يومئذ يعيش في دنيا من الأحلام، أحلام الشباب والمرأة والحب، أين هو اليوم مما كان؟ أما الشباب فقد عرقته أحداث الزمن، وأما الحب فقد دفنه هناك ولفه في أكفان اليأس والخيبة، وأما المرأة ...
ناپیژندل شوی مخ