واطمأنت الحياة بالناس حين بطل سحر الشيطان، فاجتمعوا على الرضا والطاعة في حال شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمة عدوان يدعو إلى المقاومة، أو تربص ينبه إلى الحذر، أو كيد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أمة وحده، يعيش في رضا وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحا وحبا للخير؛ ولكن الجماعة حين وجدت الأمن والسلام، لم تجد ما يشد وحدتها ويربطها آصرة إلى آصرة.
ودب النعاس إلى أجفان الحياة؛ فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط لأنه جهاد في غير عدو؛ واستنام الناس إلى القدر لأن التمني ضرب من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالا على نصف الناس؛ فليس ثمة عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم، وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟
وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟ •••
وقال فتى لصاحبه: «قد آن أوان «مولد» الولي العارف بالله ...» فأجابه صاحبه: «دع عنك يا صديقي، وتعال نلتمس نزهة في غير ساحة هذا المولد، فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؟ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله، وأتخذ أولياءه قدوتي وإمامي ...»
وأمن صاحبه على قوله، ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى؛ لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!
وقال بعضهم لبعض: «أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا؟»
فأجاب شيخ كبير: «ذلك من عمل الشيطان ...»
وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول: «ليت خمري كانت خلا ...!»
وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي: «أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد ...؟» •••
ونظر شيخ من الزهاد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ وهل يضاعف الأجر إلا المقاومة؟ أما لو أن عابدا قضى الدهر كله راكعا ساجدا، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الإيمان والتقى، فهو أبدا في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبدا مأجور أجرا لا ينتهي!
ناپیژندل شوی مخ