قالت بدرية: «فهل كان ذلك إلا بيديك وأيدي إخوتك وأبناء عمومتك من أعراب البادية ...؟ لقد كان سهمك هو الذي نفذ إلى حشاشته قبل أن يجهز عليه قومه!»
الجائزة
في القرن الثالث بعد الميلاد، في عصر الملك الوثني «دقيانوس» خرج من مدينة طرسوس في بلاد الروم، بضعة نفر من المسيحيين المؤمنين، فرارا إلى الله بدينهم من بطش الملك، ثم لم يظهروا ولم يعلم عنهم شيء ... وكان منهم وزير الملك ...! *** ... ومضت ثلاثمائة سنة، ومات دقيانوس، وقامت دولة على أنقاض دولة، ورفرف السلام على المدينة التي تخضب ثراها بدماء الشهداء في عصر الطاغية دقيانوس، وعاد الناس أحرارا في دينهم وفي شعائرهم، وعاش المسيحي إلى جانب اليهودي إلى جانب الوثني في طرسوس، إخوانا متحابين، لا يسأل أحد أحدا عن دينه ولا يجادله في مذهبه. وانصرف كل لشأنه وحاجته.
وجلس «صهيون بن يهوذا» إلى مكتبه ذات صباح بجانب النافذة من غرفته الواسعة المشرفة على الطريق وبين جنبيه هم يعالجه ...
لقد كان صهيون كاهن اليهودية الأعظم في طرسوس، ولكن شئون طائفته لم تكن تشغله يوما عن شئون نفسه، وكان مؤمنا مسموعا بالتقوى والفضيلة، عالما مشهورا بالاطلاع وسعة المعرفة، مؤرخا يروي عن السلف ويحفظ أيام الأمم ويقص ماضي التاريخ، ولكنه كان إلى كل أولئك يهوديا من بني إسرائيل، يحب المال ويحسن تثميره وتربيته ... ومن ذلك كان أكثر همه حين يخلو إلى نفسه. ... وطال به الوقت وهو جالس إلى مكتبه يحسب ويعد، ويقبض أصابعه ويبسطها في حسبة لا تنتهي، ويحصي ما معه من الدراهم وما سوف يأتيه، ثم ابتسم راضيا ونهض عن كرسيه لحظة، ثم عاد بكتاب مخطوط فبسطه تحت عينيه وجلس يقرأ ...
ذلك كتاب قديم لم يقرأه أحد قبل صهيون إلا كاتبه نفسه، وقد عثر به منذ أيام عند يهودي هرم من سدنة المعبد فاشتراه بنصف درهم ...
وأخذ يقلب الكتاب صفحة صفحة وهو يقرأ عجلان غير متريث، ثم وقع فجأة على خبر استرعى انتباهه وأيقظ شيئا في نفسه، واستمر يقرأ: ... وكان «ميشلينيا» وزير الملك الوثني الطاغية «دقيانوس» مسيحيا مؤمنا، ولكنه كان لا يجهر بدينه عند مولاه، وقد اتخذ في داره معبدا لا يعرف الطريق إليه إلا صديقه «مرنوش» حيث يلتقيان كل مساء لعبادة الرب الأعظم.
وهز صهيون رأسه مبتسما وهو يقول: «ما أبدع هذا!» ثم عاد يقرأ: ... ووقف دقيانوس على سر ميشلينيا وصاحبه فثارت ثائرته.
وخفق قلب صهيون بعنف إشفاقا على الفتيين من ثورة الملك الذي لا يرحم، واستمر يقرأ: ... وتوعد الملك وزيره بأقصى العقاب، وضرب له أجلا يفيء فيه إلى نفسه قبل أن يمضي فيه أمر الملك ويحل عقابه ...!
وازدادت خفقات قلب الكاهن عنفا وشدة، وحضره ما يذكر من سيرة هذا الطاغية المتأله الذي خضب أرض طرسوس بدماء المؤمنين من رعيته، كبرياء على الله، في غير رحمة ولا إحسان!
ناپیژندل شوی مخ