[من فتاوى شيخ الاسلام]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سلك طريقه واهتدى بهديه وعمل بسنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى العبادة وفروعها وهل مجموع الدين داخل فيها؟
فأجاب بجواب جامع نافع فقال: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ثم فصل هذا الجواب وشرحه برسالة جامعة بلغت مائة وثماني وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط فاختصرتها في بضع صفحات لعلها أن تقرأ ويستفاد منها فيعبد الإنسان ربه على بصيرة والعبادة هي التي خلقنا لها وعنها نسأل وعليها نجازى فيجب علينا أن نتفقه في معناها ومدلولاتها وقد شرح ابن القيم رحمه الله منازل القرآن قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } في كتابه مدارج السالكين في ثلاثة مجلدات وقد بلغت ستا وستين منزلة وذكر الشيخ عبد الرحمن الدوسري في تفسير الفاتحة من تفسيره صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم، ذكر من مدلولات { إياك نعبد وإياك نستعين } مائة وتسعين مدلولا.
وذكر شيخ الإسلام في هذه الرسالة (العبودية) أن كل طاعة لله فهي عبادة من الأقوال والأعمال والاعتقادات كما أنها تستلزم الخضوع والانقياد والاستسلام لله وحده في جميع المجالات فكل طاعة لله فهي من شعب الإيمان وكلها من أنواع العبادة فيجب علينا أن نحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بمحبة الله ورسوله وامتثال ما أمر الله به ورسوله والانتهاء عما نهى الله عنه ورسوله.
مخ ۱
وسوف يسأل الإنسان إذا مات في قبره من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ولا يفوز بالإجابة الصحيحة إلا من كان مطيعا لله ولرسوله وعاملا بشرائع الإسلام في هذه الحياة نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وأن يحيينا على الإسلام ويتوفانا عليه.
كما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة قيمة بعنوان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(1).
وبناء على أهميتها وعظيم شأنها اختصرتها في هذه الرسالة.
فأولياء الله هم المؤمنون المتقون المفلحون الفائزون، وأولياء الشيطان هم الكفرة والمشركون والمنافقون الخاسرون.
أسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرة أوليائه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العبودية في الإسلام حقيقتها
وشمولها من فتاوى شيخ الإسلام (2)
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [البقرة: 21] فما العبادة وما فروعها وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا وما حقيقة العبودية وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات؟
مخ ۲
فأجاب رحمه الله العبادة اسم جامع لكل ما يجب الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والصوم والزكاة والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضاء بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة.
حقيقة العبادة
وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له وهي التي خلق الخلق لها قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56] وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36] وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25] وجعل ذلك لازما لرسوله إلى الموت كما قال: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] ونعته الله بالعبودية في أكمل أحواله في الإسراء والإيحاء والدعوة، ونعت صفوة خلقه بالعبودية فقال: { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } [ص: 45] { واذكر عبدنا أيوب } [ص: 41] { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [الزمر: 17، 18] .
مخ ۳
فالدين كله داخل في العبادة وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فأجابه بذلك ثم قال في آخر الحديث: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»(1) فجعل هذا كله من الدين، والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال دنته فدان أي أذللته فذل، ويقال ندين الله وندين لله، أي نعبد الله ونطيعه ونخضع له، والعبادة أصل معناها الذل أيضا يقال: طريق معبد أي كان مذللا قد وطئته الأقدام.
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم لغير الله فتعظيمه باطل ، فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم لا رب لهم غيره.
ولا مالك لهم سواه، ولا خالق لكل شيء ومسخره ومدبره إلا هو، فإذا عرف أن الله ربه وخالقه وأنه مفتقر إليه ومحتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذه العبادة متعلقة بالإلهية لله تعالى ولهذا كان عنوان التوحيد (لا إله إلا الله) بخلاف من يقر بربوبية الله ولا يعبده أو يعبد معه إلها آخر، فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله وأنزل كتبه.
مخ ۴
من أنواع العبادة ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، رافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يرفع به مكروها، فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله، وكل ذلك من العبادة وكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة، العبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان أحدهما ألا يعبد إلا الله والثاني ألا يعبده إلا بما شرع وأمر لا يعبده بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110].
فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات والحسنات هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته.
دعوة الرسل إلى العبادة
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليهم السلام في سورة الأعراف وغيرها: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59] وبالعبودية نعت كل من اصطفى من خلقه، إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلا عظيما وهو تفاوتهم في حقيقة الإيمان وهم ينقسمون فيه إلى خاص وعام.
مخ ۵
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخلق والنهي عن مسألة المخلوق والعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه، وإذا طلب رزقه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه، وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجاؤه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ، فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى القلب.
علامة محبة الله
وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في الحصول على ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب وهي موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى ويبغض الكفر والفسوق والعصيان، وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد حبا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين:
من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل.
لا يصلح القلب إلا بعبادة ربه
والقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده وحبه والإنابة إليه، ولو حصل كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو محبوبه ومعبوده ومطلوبه.
مخ ۶
وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك السرور والسكون إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بأن يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئا لذاته إلا الله فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله.
فقر العباد إلى الله
والعبد مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو الله الذي لا إله غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين (العبادة والاستعانة) فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه.
حقيقة دين الإسلام
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به، كتبه وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره فالمستسلم لله ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة ولن يستغنى العبد عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ولا يوالي إلا من والاه ولا يعادي إلا من عاداه الله ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئا إلا لله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله فكلما قوي إخلاص حبه ودينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عن المخلوقات.
مخ ۷
وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الشرك والكفر والكبر (والدين الحق) هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وتحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغيره بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع.
وهذا الأصل هو أصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعليه جاهد وبه أمر وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه، وجماع الدين أصلان، ألا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع ولا نعبده بالبدع كما قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110].
مخ ۸
وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ففي الأولى ألا نعبد إلا إياه وفي الثانية أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا تصديق خبره وطاعة أمره وقد بين لنا - صلى الله عليه وسلم - ما نعبد الله ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله وقد هدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق فاتبعوه فأخلصوا دينهم لله وسلموا وجوههم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعظموهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بهداهم وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا غياه وهو حقيقة العبادة لله رب العالمين فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفرق بين أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان (1)
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأرشد به من الغي وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
مخ ۹
وفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي والمؤمنين والكفار والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله فمن شهد له محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله وأولياء الشيطان.
وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 62، 63] وقال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 257] .
وقال تعالى: { هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا } [الكهف: 44].
وذكر أولياء الشيطان فقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] وقال تعالى: { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [النساء: 119، 120] وقال: { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } [الأعراف: 30].
مخ ۱۰
وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 62، 63].
من عادى وليا لله فقد حارب الله
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب» الحديث.
وهذا أصح حديث يروى في ذكر الأولياء فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة وذلك لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا ما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما ينهى،وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي قال: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» وفي حديث آخر رواه أبو داود «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان».
الولاية والعداوة
والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، وإذا كان ولي الله هو الموافق لما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له فمن عادى وليا لله فقد عاداه ومن عاداه حاربه ولهذا قال: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة».
مخ ۱۱
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم، إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع لأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه في من قبلهم، وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة»(1).
وفضائله - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله جعله الفارق بين أوليائه وأعدائه فلا يكون وليا لله إلا من آمن به، وبما جاء به وتبعه باطنا وظاهرا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبع رسوله فليس هو من أولياء الله بل من خالفه كان من أعداء الله ومن أولياء الشيطان قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31] قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول فليس من أولياء الله وفي الحديث: «إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا» (2).
مخ ۱۲
أولياء الله والكفرة من اليهود والنصارى والمشركين يدعون أولياء الله وليس كذلك بل هم أعداء الله، وكذلك المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر، وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 62، 63] فكل مؤمن تقي فهو لله ولي، ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكل رسول أرسله الله وبكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [البقرة: 136، 137] ولا بد في الإيمان أن تؤمن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين. ولا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين.
ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن، ومن الإيمان به الإيمان بأنه هو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيد وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر من أولياء الشيطان.
مخ ۱۳
انفراد الله بالخلق والتدبير وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع، ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة رسل، ثم لو بلغ الرجل من الزهد والعبادة ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس بمؤمن ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى، وعبادهم، وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين ممن له عبادة في دينه وزهد وليس مؤمنا بجميع ما جاء به الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر عدو لله.
ولهذا نزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } [الزخرف: 36] وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له شيطان فيقترن به ويصده عن الطريق السوي قال تعالى: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } [طه: 124] فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها ولهذا لو ذكر العبد الله تعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد وعبده مجتهدا في عبادته ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء ومشى على الماء فإن الشيطان يحمله في الهواء.
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله فمن كان أكثر إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله.
تفاضل الناس في ولاية الله
والناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى.
مخ ۱۴
وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، وأولياء الله على طبقتين:
سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان والمطففين وفي سورة فاطر.
فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إلى الله بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباته أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه».
فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا، المقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوا لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون فلم يشربوا صرفا بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا فالمقربون السابقون أفضل من الأبرار أصحاب اليمين.
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى فهم متفاضلون في ولاية الله، بحسب ذلك كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والفسوق والمعاصي والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك.
أصل الإيمان والتقوى
وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [الإسراء: 15] .
مخ ۱۵
وإذا كان العبد لا يكون وليا لله حتى يكون مؤمنا تقيا ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين ومعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله فمن لم يتقرب إلى الله بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله.
ليس لأولياء الله زي خاص
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحا ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا، كما قيل كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء، قد دل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم.
الأولياء ليسوا معصومين
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يظن بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى عنه وليس كذلك ولم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى فإن الله تعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
الواجب على الناس
والواجب على الناس اتباع ما بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتقوى الله حق تقاته بأن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر كما فسر التقوى بذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجا، فالشريعة هي الشريعة والمنهاج هو الطريق، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام وهي أن يستسلم العبد لله رب العالمين ولا يستسلم لغيره.
مخ ۱۶
فمن استسلم لغيره كان مشركا { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 28، 116] ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيهم { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [غافر: 60] ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } [آل عمران: 85] عام في كل زمان ومكان فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم.
من صفات أولياء الله
وأولياء الله المؤمنون المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداؤه أولياء الشيطان وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم.
وبسط هذه الأمور له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيفعلون ما أمر به وينتهون عما نهى عنه.
ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي وهو سماع المشركين ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الإنس والجن فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسيا أو جنيا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وخلفائه صلاة وسلاما نستوجب بهما شفاعته آمين.
ناپیژندل شوی مخ