الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
ثالثا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
رابعا: تطور النبوة
خامسا: اكتمال النبوة
سادسا: وقوع النبوة
سابعا: إعجاز القرآن
ثامنا: الشخص أم الرسالة؟
تاسعا: تواتر الرسالة
عاشرا: مضمون الرسالة
الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية (المعاد)
أولا: وضع المشكلة
ثانيا: قانون الاستحقاق
ثالثا: دوام الاستحقاق
رابعا: شمول الاستحقاق
خامسا: الموت
سادسا: حياة القبر
سابعا: المعاد
ثامنا: علامات الساعة
تاسعا: اليوم الآخر
عاشرا: الجنة والنار
الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
ثالثا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
رابعا: تطور النبوة
خامسا: اكتمال النبوة
سادسا: وقوع النبوة
سابعا: إعجاز القرآن
ثامنا: الشخص أم الرسالة؟
تاسعا: تواتر الرسالة
عاشرا: مضمون الرسالة
الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية (المعاد)
أولا: وضع المشكلة
ثانيا: قانون الاستحقاق
ثالثا: دوام الاستحقاق
رابعا: شمول الاستحقاق
خامسا: الموت
سادسا: حياة القبر
سابعا: المعاد
ثامنا: علامات الساعة
تاسعا: اليوم الآخر
عاشرا: الجنة والنار
من العقيدة إلى الثورة (4)
من العقيدة إلى الثورة (4)
النبوة - المعاد
تأليف
حسن حنفي
الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
لما كانت العقليات الشق الأول من علم أصول الدين وقد ظهر فيها الإنسان قابعا وراءها ومنبعا للإلهيات، يظهر التاريخ في الشق الثاني من العلم وهو السمعيات أو النبوات كمنبع لها؛ وعلى هذا النحو تكشف العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات، وهما الشقان الأساسيان في علم أصول الدين، عن الموضوعين الرئيسين فيه وهما الإنسان والتاريخ وإن بديا غير ظاهرين مغتربين؛ الإنسان مغترب في الذات والصفات والأفعال، والتاريخ مغترب في النبوة والمعاد، محاصر بين الماضي والمستقبل، ومحصور بين إيمان العامة وفردية الإمام.
وكما شملت العقليات موضوعات أربعة؛ الذات والصفات وخلق الأفعال والحسن والقبح، فإن السمعيات أيضا تشمل موضوعات أربعة؛ النبوة والمعاد والأسماء والأحكام (الإيمان والعمل) والإمامة؛ فالنبوة إذن موضوع في السمعيات، وتبدأ النبوة باب السمعيات؛ لأنها الطريق إلى معرفة الأخبار المتعلقة بالمعاد والأسماء والأحكام والإمامة؛ لذلك ظهرت مسألة الكلام ليس كصفة ولكن من حيث هو كلام يمكن نقله تاريخيا ويكون مصدرا للمعرفة. وهي كلها أبعاد للتاريخ؛ فالنبوة تشير إلى تطور الوحي في الماضي، والوحي هو التاريخ، والمعاد يشير إلى تاريخ الإنسانية في المستقبل، وكلاهما يكون التاريخ العام للإنسانية جمعاء، ماضيها ومستقبلها؛ ثم يبرز الفرد في التاريخ في الأسماء والأحكام في بعدي النظر والعمل، كما تظهر الدولة بعد الفرد في صيغة الإمام؛ وبالتالي يظهر التاريخ المتعين في الفرد والدولة منبثقا من التاريخ العام، وكأن الفرد بنظره وعمله هو القادر على تحويل التاريخ العام للإنسانية جمعاء إلى تاريخ خاص للفرد. ولما كان الفرد يعيش مع آخرين نشأت الدولة كامتداد للفرد، وأصبحت الدولة هي المحققة للتاريخ العام والمحولة له إلى تاريخ خاص لمجتمع بعينه في مرحلة تاريخية بعينها؛ فالدولة باعتبارها ممثلا للأفراد هي الوريث الوحيد للتاريخ العام.
والنبوة أبعد الموضوعات عن التجريدات العقلية والمقولات الفلسفية وأقربها إلى اللغة الشائعة، وكذلك الأمر في سائر الموضوعات السمعية، ما دام العقل قد غاب ومفاهيمه قد اختفت، ولم يعد هناك إلا الشواهد السمعية دون تأويل أو تعقيل أو تنظير، وهي أكثر الموضوعات اعتمادا على النص والأخبار تواترا وآحادا؛ لذلك كان موضوع الأخبار جزءا منها. ومع ذلك يظهر الطابع الجدلي للدفاع وللرد على الخصوم، وكأن مهمة العقل هي الدفاع عن مسلمات الإيمان وأخبار السمع، وكذلك الحال في باقي الموضوعات السمعية خاصة المعاد، وكأن القدماء قد اكتفوا بإعمال العقل في الإلهيات وحولوها إلى عقليات وتركوا السمعيات لأجيال أخرى تقطع النصف الثاني من الشوط، فيتحول العلم كله إلى عقليات. فإذا كان السلف قد قطعوا النصف الأول من الشوط تكون مهمة الخلف قطع النصف الثاني منه؛ وبالتالي يتحول علم أصول الدين من علم عقلي نقلي إلى علم عقلي خالص لاحقا بمجموعة العلوم العقلية. (1) مكانها في العلم
يتدرج موضوع النبوة ويأخذ مكانه في العلم؛ ابتداء من عدم ظهوره على الإطلاق في الكتب المتقدمة إلى ظهوره تدريجيا حتى يأخذ وضعه بعد العقليات وفي أول السمعيات، حتى يصبح ذا أهمية بالغة في العقائد المتأخرة، ويصبح قطبا ثانيا في العقائد التي تدور على قطبين رئيسيين؛ الله والرسول. فلا تظهر في مصنفات التوحيد المتقدمة أو المتأخرة كما لا تظهر في مصنفات المعتزلة كأصل من الأصول الخمسة،
1
ثم تبدأ في الظهور في النهاية إثباتا لكمال الأنبياء ثم إثباتا لآيات الأنبياء ولكرامات الأولياء في مقابل قضاء الحاجات للأعداء ثم ذكر أبناء النبي،
2
ثم تظهر أيضا في كتب العقائد المتقدمة بعد التوحيد، الذات والصفات والأفعال، وقبل الإمامة في عدة مسائل أهمها: جواز النبوة، وعموم النبوة، وعدم نسخها، والمعجزة ثم الإعجاز.
3
ثم تظهر النبوة لأول مرة بعد التوحيد سلبا، وذلك برفض نظريات البراهمة وإنكار النبوة، ثم إثبات نبوة محمد والرد على من أنكرها من المجوس والصابئة والنصارى، وإثبات الأخبار ضد اليهود، وإثبات النسخ أيضا ضدهم، وإثبات عموم الرسالة ضد العيسوية. وبعد ظهور الصفات والأصول تأتي مباحث الخبر والتواتر والآحاد كمقدمات للإمامة.
4
ثم تظهر النبوات في آخر الحسن والقبح كمقدمة لباب النبوات. ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل.
5
وقد تدخل النبوات ضمن التكليف العقلي كما أنها تدخل ضمن تطور الوحي.
6
وفي المصنفات الاعتزالية تظهر النبوة في آخر باب العدل الذي يشمل حرية الأفعال والحسن والقبح.
7
وتظهر النبوة بعد العدل ثم المعجزات والكرامات ثم معرفة أركان الإسلام وأحكام التكليف والأمر، وكأن النبوة تدخل في موضوعات الفرد والدولة، فتظهر على أنها فعل في التاريخ، وتتحول من عقيدة نظرية إلى مسار عملي في الفرد والجماعة، تحقيقا للرسالة في التاريخ كما هو الحال في الحركة الإصلاحية الحديثة.
8
وقد تنهي النبوات أبواب التوحيد؛ إذ منها يستنبط الوعد والوعيد والإيمان والإمامة، ويدور الكلام فيها في ثلاثة أمور؛ جواز بعثة الأنبياء، ووقوع البعثة، ونبوة محمد.
9
ثم تأخذ النبوة شيئا فشيئا مكانها الطبيعي في العلم بعد انتهاء العقليات، وكأول موضوع في السمعيات؛ فتظهر بعد التوحيد والعدل دون أن تكون بابا في السمعيات بعد النبوة مباشرة،
10
ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل ولكن الأخبار تظهر كمقدمة للإمامة .
11
ثم تبدو النبوة في بداية القطب الرابع بعد الأقطاب الثلاثة الأولى عن الذات والصفات والأفعال، وقبل المعاد والإمامة، وملحقها عن تاريخ الفرق دون ذكر للقطب كله؛ تحت باب السمعيات. ويثبت جوازها كآخر فصل من الأفعال؛ أي في العدل قبل الانتقال إلى القطب الرابع والأخير الذي يبدأ بإثبات النبوة الخاصة، وكأن إثبات النبوة العامة أدخل في الأفعال ونفي الواجبات على الله في الجواز.
12
وبالرغم من هذا الاستقرار النهائي لمكان النبوة في العلم قد تضطرب مباحثها وتتأرجح مسائلها، ولكن معظمها يأتي بعد العدل ويتداخل مع بعض مسائل السمعيات الأخرى كالإيمان،
13
وقد تظهر النبوة بعد مسائل العدل وقبل المعاد والإمامة ثم تظهر كرامات الأولياء والنسخ بعد الإمامة في النهاية،
14
وقد تظهر النبوات بعد العدل وقبل المعاد والإمامة.
15
وتأتي النبوة بعد الوعد والوعيد وقبل المعاد ثم تظهر من جديد بعدها في العصمة وأفضلية الأنبياء على الملائكة، ثم تظهر مسائل الوعد والوعيد والمعاد من جديد مما يدل على أنها جزء من السمعيات.
16
وتبدو النبوات بعد المعاد وقبل الإمامة في محورين أساسين؛ جوازهما بالعقل ووقوعهما بالفعل، مع ترك الحشو التاريخي والغيبي منها.
17
ثم تظهر النبوة لأول مرة في باب السمعيات في مكانها المستقر مع المعاد والأسماء والأحكام والإمامة.
18
ثم يهتز البناء في العقائد المتأخرة؛ فتظهر النبوة بعد المعاد والوعد والوعيد والإيمان والعمل وقبل الإمامة في النهاية.
19
كما تظهر بعض موضوعات للنبوة بعد العدل، مثل الملائكة ثم بعد مسائل التوحيد، ثم يبرز المعاد ومسائل الإيمان والعمل والوعد والوعيد ثم المعاد في بعثة الرسل ثم تأتي الإمامة والتاريخ في النهاية.
20
وفي بعض الموسوعات المتأخرة تظهر النبوة بوضوح دون بناء نظري، ولكنها تحتوي على تعريف النبي والفرق بينه وبين الرسول والمعجزة والملائكة وعصمتهم، والأنبياء وشرفهم ومحبتهم.
21
وفي العقائد المتأخرة عندما يرتكز علم التوحيد على قطبي الإلهيات والنبوة تبدأ النبوة في القطب الثاني وتكون شاملة للحشر والجزاء وللإمامة معا،
22
وقد يتفصل القطب الثاني ويشمل الملائكة والكتب والسمعيات والقضاء والقدر،
23
وقد يشمل الباب الثاني بعد التوحيد الإيمان بالرسل والأنبياء والسمعيات،
24
وقد تتفضل الملائكة مع الأنبياء كالقطب الثاني في التوحيد مع الله ثم السمعيات التي أتى بها النبي.
25
وبعد التوحيد تظهر أحيانا مسائل الملائكة والكتب وعددها والأنبياء وأصحاب الشرائع وعدد الأنبياء والرسل وأسماؤهم ثم يأتي المعاد في النهاية.
26
وأحيانا تكون مباحث النبوة والرسالة القطب الثاني بعد الإلهيات، وتسقط السمعيات ودون أن تطغى على الإلهيات.
27
وفي العقائد المتأخرة أيضا بالإضافة إلى انتظام العقائد في قطبي الله والرسول ينطبق على كل منها نظرية الوجوب والإمكان والاستحالة؛
28
فيندرج الإيمان بالرسل تحت نظرية الواجب والممكن والمستحيل؛ ثلاثة للواجب: الصدق والأمانة والتبليغ، وأضدادهما للمستحيل: الكذب والخيانة والكتمان، والجائز واحد وهي الأعراض البشرية؛ فالعقائد في الرسل سبعة. وأحيانا تظهر بعد التوحيد كعقائد تسعة؛ أربعة في الوجوب، وأربعة أضدادها في الاستحالة، وواحدة في الجواز، وبعدها تأتي باقي السمعيات؛ الجن والملائكة والأنبياء والأولياء ثم التاريخ.
29
فمن الخمسين عقيدة التي يجب على المسلم أن يؤمن بها يشغل الله منها واحدا وأربعين والرسل تسعة. وقد يدخل إرسال الرسل فيما يجوز على الله، وتظهر الأفضلية بينهم والمعجزات ونسب الرسول وأولاده قبل الخصال الأربعة؛ الصدق، والأمانة (العصمة)، والتبليغ، والفطانة، والأدلة عليها؛ وأخيرا جواز وقوع الأعراض البشرية وبعدها تظهر السمعيات. وقد تظهر نفس الموضوعات مع عدد الأنبياء، ثم تفضيل الملائكة وتفضيل الكتب المقدسة، ثم الإيمان بما أتى به الرسول؛ أي بالسمعيات، ثم النهاية بحياة الرسول ومولده وآياته وأولاده وحياته. وأحيانا تتضخم النبوة كما حتى تطغى على التوحيد. وقد يزاد على ذلك كله الإقرار بأن النبوة غير مكتسبة بل فضل من الله، وأنها مؤيدة بالمعجزات، وأنها ليست في النساء، ويعاد من جديد التفضيل والمعجزات ومنع النسخ والمعراج ثم التاريخ والقرن والخلافة والمبشرون بالجنة وبداية الاختلاف وظهور الأئمة وتقليدهم والأولياء وكراماتهم. ثم تأتي باقي السمعيات كالإيمان والعمل والإمامة.
30
وفي إحدى الحركات الإصلاحية تعود معظم موضوعات النبوة التقليدية مع بعض التوجيهات العملية مثل المعارضة لزيارة القبور وكبار الأولياء، وتظل الملائكة والشياطين والجن، ويتم التركيز على التاريخ الساقط بعد النبوة والخلافة دون محاور ودون بناء عقلي محكم.
31
وفي حركة إسلامية أخرى تظهر ضرورة النبوة كتكملة لمبحث الحسن والقبح، ثم تظهر النبوة تحت الرسالة العامة «المعجزة وما يجب للرسل» ثم حاجة البشر إلى الرسالة ودوافعها النظرية «المعرفة» والعملية «السعادة» ثم الوحي وتعريفه وكونه ممكن الوقوع ثم وظائف الرسل، ورسالة محمد والقرآن والإسلام ثم الاحتجاج على الإسلام. طغت النبوة على التوحيد وأصبحت أوسع منه ثلاث مرات. تحولت النبوة إلى الرسالة، واختفت الغيبيات منها وقل التركيز على شخص النبي، وظهرت مفاهيم التقدم في التاريخ واكتمال الوحي وبداية التعامل مع التراث الغربي والرد عليه.
32 (2) موضوعاتها ومحاورها
ونظرا لأهمية موضوع النبوة فإنها تخرج أحيانا من البناء النظري للعلم ومكانها الطبيعي بين التوحيد والعدل وبين الإيمان والعمل والمعاد والإمامة، وتدخل في المقدمات النظرية الأولى بعد نظرية العلم ونظرية الوجود، وتدخل عصمة الأنبياء في الإيمان والعمل ثم تظهر نبوة النساء والرؤيا في اللطائف،
33
كما تدخل النبوة لأهميتها في المقدمات إثباتا لإمكانها ضد منكريها أو مثبتي استمرارها وشمولها للطبيعة.
34
كما تظهر بعض موضوعات النبوة في كتب الحجاج، مثل دلائل النبوة والعصمة والنسخ والأخبار.
35
وبالرغم من بقاء هذه الموضوعات متفرقة متناثرة ومتداخلة فيما بينها إلا أنه يمكن جمعها في عدة محاور رئيسية نظرية أو عملية، عقلية أم تاريخية؛ وبالتالي يمكن عرض الموضوع وبناؤه بعد بيان تطوره واكتماله، وأنه من خلال هذا البناء يمكن رؤية المحاور الرئيسية فيه تكثر أو تقل؛ فإذا كانت الموضوعات خمسة عشر، فإنه يمكن وضعها في محاور رئيسية أقل، في ثلاثة مثلا؛ معناها وجوازها ومعرفتها، عدد الأنبياء وترتيبهم وصحة نبواتهم، وخاتمهم وعموم رسالته، وتفضيل الرسل بعضهم على بعض.
36
وإن كانت الموضوعات تسعا فإنه يمكن أيضا وضعها في محاور أقل، مثل إثباتها، وعصمة الأنبياء، وتفضيلهم، والمعجزة، والكرامة.
37
وإذا كانت الموضوعات خمسا فإنه يمكن أيضا وضعها في محاور أقل، مثل جوازها، ودليل صدقها، وخاتم الأنبياء، وأحكامهم.
38
وإذا كانت الموضوعات أربعا فإنه يمكن أيضا تلخيصها في محاور أقل؛ جوازها والدليل على صدقها وخاتم الأنبياء.
39
وإذا كانت الموضوعات ثلاثة فإنه يمكن ضمها في موضوعين اثنين؛ جوازها وصدقها.
40
أما إذا كانت الموضوعات اثنين، فإنها تكون محورين أساسيين في بيان جوازها بالعقل ثم في بيان وقوعها بالفعل؛ الأول يعرض للحق النظري والثاني يعرض للواقع العملي.
41
والحقيقة أن محاور النبوة الرئيسية أقل من موضوعاتها؛ هي بطبيعة الحال تبدأ بالسؤال النظري عن وجوبها أو استحالتها أو إمكانها، وهو سؤال الحق النظري وأنها ممكنة الوقوع، ثم يظهر المحور الثاني عن الدليل على صدقها؛ المعجزة أو غيرها، ثم يبدأ المحور الثالث عن تطورها بداية ووسطا ونهاية، وعلاقة المراحل بعضها بالبعض ناسخا ومنسوخا، وتوقفها كلية باكتمالها وتحقيق الغاية منها، ثم يظهر المحور الثالث والأخير عن النبوة في آخر مراحلها والدليل على صدقها، وهو الإعجاز وطرق نقلها، ورسالتها دون شخص نبيها، وأخيرا عن مضمونها العقائدي والتشريعي الذي يتناوله علم الأصول؛ ففي هذه المحاور الثلاثة تندرج كل الموضوعات المتناثرة؛ فتاريخ الأنبياء وتاريخ الأديان، سواء ديانات إبراهيم أو الديانات الشرقية القديمة والحوار معها، أكثر من الحوار مع الفرق الكلامية، كل ذلك يدخل في المحور الثاني عن تطورها، وكل الموضوعات المتعلقة بشخص النبي، مثل العصمة والتفضيل، كل ذلك يدخل في المحور الثالث عن الرسالة التي تجب شخص النبي. أما الموضوعات الغيبية كالملائكة وكيفية اتصال النبي بها فكلها تدخل في المحور الأول حول وجوبها واستحالتها وجوازها، ولكن يظل المحوران الرئيسيان للنبوة هما إمكانها ووقوعها، لا الموضوعات التاريخية الصرفة ابتداء من شخص النبي حتى صحابته وتابعيه وآل بيته، ولا الموضوعات الغيبية الصرفة وهي طريقة اتصال النبي بمصدر الوحي، كما هو الحال في نظرية الاتصال في علوم الحكمة. (3) معناها وحقيقتها
تعني النبوة الخبر أو الإخبار؛ فالوحي يأتي من الخبر، والخبر مصدر الوحي؛ الخبر هو الدال، والوحي هو المبادئ العامة في المعرفة الإنسانية لا شخص النبي، وموضوعه حياة البشر وصالح الناس وليس شخص المرسل أو الرسول. تعطي النبوة إذن معارف وأخبارا، فهي من جانب المعرفة من أجل توجيه السلوك؛ لذلك جاءت النبوة اشتقاقا من النبأ أي الخبر بالهمزة؛ أي الإعلام، والإعلام غير الإلهام، وليس من باب الظن والوهم أو الكهانة أو النجوم، بل إخبار الله بما يكون. النبوة إذن نوع من المعرفة متميزة عن أنواع المعارف الأخرى؛ يقينها باطني، ومعرفتها يقينية. إذا كان الإلهام كشفا فالنبوة استدلال، وإذا كان التوهم ظنا فالنبوة يقين، وإذا كانت الكهانة من استراق الشياطين السمع من السماء، فيرمون بالشهب الثواقب وقد انقطعت بمجيء الرسول، فالنبوة عقل وليست سحرا، وإذا كانت النجوم تجارب تتعلم، فالنبوة علم وليست تخمينا أو خرافة، وإذا كانت الرؤيا لا يدري أحد صدقت أم كذبت، فالنبوة لا تأتي إلا في اليقظة دون الحلم.
42
وهناك معان زائدة في النبوة تتحدث عن كيفية المعرفة، صحيح أن الوحي لغة يعني الإعلام في خفاء ولكنه اصطلاحا إعلام الله للأنبياء، إما بكتاب أو برسالة ملك أو بمنام أو بإلهام، وإلهام غير الأنبياء في هذه الحالة ليس وحيا، فالوحي للتشريع وليس فقط للمعارف النظرية؛ لذلك قد يجيء الوحي بمعنى الأمر وبمعنى التسخير، ويكون الإلهام بمعنى الهداية والإشارة، ويطلق بهذا المعنى على القرآن والسنة؛ أي على الوحي المكتوب والمدون، وقد يزاد على هذا المعنى الزائد أصلا تفصيل كيفية حدوث الوحي، بأن يخلق الله حالة في النبي يسمع بها مثل صلصلة الجرس، أو من خلال ملك يتمثل رجلا؛ أي عن طريق الصوت أو الرؤية، عن طريق السمع أو البصر، من خلال الأذن أو العين؛ أي من خلال الحواس. وهذه المعاني الزائدة يصعب تأصيلها عقلا وتبقى سمعية خالصة.
43
وقد ركز الفلاسفة على النبوة بهذا المعنى الزائد داخل نظرية الاتصال؛ فقد أراد الفلاسفة أن يجمعوا فيها خواص ثلاثا؛ أن يكون النبي مطلعا على الغيبيات ما دامت النفوس الإنسانية مجردة قادرة على إدراك المجردات، وأن تظهر منه الأفعال الخارقة للعادة ما دام بروحه قادرا على التأثير، وأن يرى الملائكة مصورة ويسمع كلامها وحيا، نوما أو يقظة.
44
والحقيقة أن هذه الخواص الثلاث تجسيد للمعاني الزائدة في النبوة وتصوير لها؛ فالنبوة ليست غيبية بل حسية تؤكد على رعاية مصالح العباد، والغيبيات اغتراب عنها، والمعارف النبوية دنيوية حسية تتعلق بشئون الناس وصلاح معاشهم، كما أنها إخراج للنبي عن حدود الطاقة البشرية، وجعل صدق النبوة خارجيا وليس داخليا وضد قوانين العقل والطبيعة وليس معها، كما أن هذه المعاني الزائدة المشخصة وقوع في الغيبيات وإخراج للنبوة من محورها الأفقي، النبوة في العالم ومسارها في التاريخ إلى محورها الرأسي، النبوة كطريق بين النبي والله، طريقة للوصول خارج الزمان وخارج التاريخ، ولا يهمنا في النبوة طريقة الإيصال؛ الوحي أو الرسول أو من وراء حجاب، ولا يهمنا أيضا في النبوة الملك وأنواعه وطريقة قدومه وجرسه وصوته وشكله، ولا يهمنا ثالثا خيال النبي، وكيف كان يأتيه الوحي نائما أم يقظا، لا شأن لنا بالصلة بين الله والرسول وطريقة الاتصال بينهما بالملاك أو بغيره، اسمه وشكله وصوته؛ فذلك لا يمكن معرفته حسا أو عقلا، ولا شأن لنا بالنبوة بين الملائكة والجن والشياطين أو البهائم والطير والجمادات ما دامت مثلنا، نحن البشر؛ فهي كلها موضوعات مفارقة لا تسمح بها نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى، ما يهمنا هو الرسالة ذاتها التي بها صلاح العباد، والنبوة للبشر وحدهم؛ فطريق النبوة جزء زائد على تعريفها وخارج عن حقيقتها.
وقد تعني النبوة معنى ثانيا غير الإعلام والإخبار وهي الرفعة، فالنباوة من غير همزة ما ارتفع من الأرض؛ وبالتالي يكون النبي هو رفيع المنزلة عند الله، وهو معنى يترك النبوة ويتجه نحو النبي، ويترك الرسالة ويعرف الرسول، ويترك النبوة في التاريخ ويتصور علاقة النبي بالله، ويؤثر قيمة الارتفاع على الانخفاض، والصعود على الهبوط، ويفضل التأويل على التنزيل، وهو ما يعارض سير الوحي ومسار النبوة.
45
وليست وظيفة النبوة الإخبار بالمستقبل؛ فتلك كانت وظيفة النبي قبل خاتم النبوة كدليل على الصدق، وطبقا للمعنى الاشتقاقي للفظ في اللغة العبرية.
46
أما المعنى في ختم النبوة فهو تحليل الحاضر وليس الإخبار بالمستقبل، وإذا كان هناك قصص فإنما يهدف إلى إعطاء الحاضر ومد الوعي بدروس الماضي وخبرات الأمم السابقة؛ فالوعي بالحاضر هو وعي بالتاريخ، وما الحاضر إلا تراكم للماضي. الماضي عبرة ودرس وتطور يصب في الحاضر، مسارا من الماضي إلى الحاضر وليس نكوصا من الحاضر إلى الماضي. أما المستقبل فمرهون بفعل الحاضر ومشروط باستمرارية الماضي في الحاضر؛ فالماضي هو مستقبل الحاضر ومستقبل المستقبل على حد سواء. يظن القدماء أن النبوة تنبؤ بالمستقبل وقراءة له، ويظن المعاصرون أن النبوة رجوع إلى الماضي، والنبوة في حقيقة الأمر هي تحليل للحاضر لمعرفة جدل الماضي والمستقبل فيه، وقراءة الماضي هي استبصار للمستقبل، وما الحاضر إلا لحظة التقاء بينهما يتم فيها كشف القوانين ورؤية حركة التاريخ.
وتسمى النبوة بعدة ألفاظ مترادفة مثل البعثة والرسالة. الوحي والنبوة متقاربان، والبعثة والرسالة متقاربان؛ الوحي هو كل العلم، والنبوة الطريق إليه؛ والبعثة النبوة المعلنة، والرسالة النبوة المكلفة. تدل المصطلحات الأربعة المتقاربة على تدرج من النظر إلى العمل أو من العام إلى الخاص، من الوحي إلى النبوة إلى البعثة إلى الرسالة.
47
وتتضمن النبوة كرسالة أربعة أطراف: مرسل وهو الله، ومرسل إليه وهو النبي، ومرسل إليهم وهم العباد، ومرسل وهو الشيء؛ فالمرسل هو الوعي الخالص والمرسل هي الرسالة. وأهم طرف من هذه الأطراف الأربعة ليس المرسل أي الوعي الخالص؛ فذلك هو موضوع التوحيد، باب العقليات، الشق الأول في علم أصول الدين، وليس المرسل إليه أي شخص النبي؛ فهو مجرد رسول لإيصال الرسالة. أهم طرف في المعادلة الرباعية هي الرسالة أي التكليف، والمرسل إليهم أي نحن البشر، عباد الله في التاريخ. شخص النبي إذن ليس أحد موضوعات النبوة ومعنى زائد في تعريفها، النبي مجرد واسطة لإيصال الرسالة من المرسل إلى المرسل إليهم، وليس جزءا من النبوة بشخصه. طبعا هناك شروط النبوة إذا ما توافرت عند أي إنسان يكون هو النبي، لا ترجع النبوة إلى جسم النبي أو إلى عرض من أعراضه أو حتى إلى علمه بربه؛ فذاك يقع من غير نبوة أو علم النبي بكونه نبيا، فالمعلوم غير معلوم بعد، بل ترجع إلى الرسالة والمرسل إليهم حتى ولو كان المرسل مجهولا، وكأن المرسل إليه غائب بشخصه، اختفى بعد إيصال الرسالة وأداء الأمانة، وتبقى الرسالة طالما بقي المرسل إليهم يحملونها عبر الأجيال ويحققونها في التاريخ.
ولكن هل هناك فرق بين النبي والرسول؟ الفرق بين النبي والرسول هو الفرق بين التصور والنظام، بين العقيدة والشريعة، بين النظر والعمل. يأتي النبي بالنظر وبالعقيدة وبالتصور، ولا يأتي بالضرورة بنظام أو شريعة أو يبني مجتمعا ويؤسس دولة، فالنظر لم ينعقد بعد، في حين أن الرسول هو الذي يولد النظام من التصور، ويحقق الشريعة من العقيدة، ويحول النظر إلى عمل، كما يشير النبي إلى البعد الرأسي فقط؛ الصلة بينه وبين الله، في حين أن الرسول يشير إلى البعد الأفقي أيضا؛ أي الصلة بينه وبين الناس في التبليغ وحمل الرسالة وأداء الأمانة، ومن هنا أتت صفات الرسول الأربعة؛ الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة، واستحالة أضدادها؛ الكذب والخيانة والكتمان والتهور. ويشتق لفظ النبي من فعل لازم في حين يشتق لفظ الرسول من فعل متعد، الأول لا يشير بالضرورة إلى كل الأطراف في حين يشير الثاني ضرورة إلى الأطراف الأربعة؛ المرسل، والمرسل إليه، والمرسل إليهم، والرسالة. يطالب النبي بالتصديق فحسب بينما يطالب الرسول بالتصديق وبالعمل. الإيمان عند الأول مجرد إقرار وتصديق في حين أنه عند الثاني إقرار وتصديق ونظر وعمل. قد لا ينجح النبي في النبوة، ويصيبه من الأذى الكثير، فدوره هو الشهادة على العصر في حين أن الرسول مطالب بالنجاح؛ بناء المجتمع وتأسيس الدولة؛ لذلك كان بالنبوة تعظيم واستحقاق نظرا للشهادة أما الرسالة فجزاؤها قدر الأعمال، وإن كان كلاهما مؤيدا بالمعجزات فإن تأييد النبي بها أقوى من تأييد الرسول الذي يكفيه يقين الرسالة الداخلي، والقدرة على تكوين الأفراد وتجنيد المؤمنين والدفاع عن النفس بالفعل، ومقابلة العنف بالعنف، والأخذ بأسباب القوة بغية الانتصار.
48
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
والسؤال الأول النظري هو جواز البعثة وهل هي واجبة أم مستحيلة أم ممكنة، فإثبات النبوة أو إنكارها إحدى المسائل الأساسية التي تصنف طبقا لها الفرق، والحقيقة أن الفرق بين الوجوب والإمكان ليس كبيرا؛ فكلاهما إثبات للنبوة في مقابل الاستحالة التي تعني الإنكار، إنما الخلاف بين الوجوب والإمكان إنما فقط في درجة الإثبات، إما الوجوب ضرورة أو الوقوع إمكانا. إنما يخشى من الوجوب الوقوع في الواجبات العقلية، الواجبات على الله مثل الصلاح والأصلح واللطف والألطاف والعوض والاستحقاق؛ وبالتالي يكون الخلاف بين الإنكار والإثبات، ثم يتفرع الإثبات إلى الضروري والممكن.
1 (1) هل النبوة واجبة؟
النبوة واجبة على أسس ثلاث؛ فهي واجبة أولا نظرا للواجبات العقلية، مثل الصلاح واللطف والعوض والاستحقاق وطبقا للحسن والقبح العقليين، ووجوبها ضروري بناء على الضرورات العقلية، وهي واجبة ثانيا لأنها أصلح للعباد وبناء على نظرية الصلاح والأصلح؛ فالإنسان في حاجة إلى الدخول في معاملات، وإلى علم ما يحصل به الانقياد والعون، والحاجة إلى قوانين وسنن وشرائع، وهي واجبة ثالثا نظرا لأنها لطف من الله طبقا لنظرية اللطف والألطاف؛ فلما كان العقل لا يستقل بالتعريفات التشريعية كان لطفا من الله وكرما منه أن يتم نعمته على الإنسان وهو أشرف المخلوقات؛ ومن ثم النبوة تعبير عن كرم المبدأ الأول؛ الله، ولطف الله بالعباد، النبوة إذن واجبة بناء على الواجبات العقلية ونظريتي الصلاح واللطف.
2
وتكون الصعوبة حينئذ في كيفية الجمع بين الحسن والقبح العقليين، وقدرة العقل على إدراكهما كصفات موضوعية في الأفعال، وفي نفس الوقت احتياجه إلى النبوة كعون له على التكاليف؛ فما دامت التكاليف واجبة عقلا فإنها لا تحتاج إلى وجوب ثان بالنبوة، بل إن الصلاح والأصلح واللطف والألطاف والعوض عن الآلام والاستحقاق كل ذلك من الواجبات العقلية؛ وبالتالي ليست أساسا لوجوب النبوة.
وإذا كان التكليف عقليا، واستحقاق الثواب والعقاب عقليا، والتنبيه والتحذير تأكيدا لما في العقول، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأصول العقلية الخمسة، فكيف تجب النبوة بناء على هذا الوجوب العقلي المكتفي بذاته وإلا كان الوجوب وجوبين؛ وجوب عقلي ضروري ووجوب شرعي إضافي زائد لا حكم له؟ وإذا كانت الحياة امتحانا واختبارا وجهدا ومعاناة، فإن ذلك إنما هو نتاج لممارسة الحرية، وهي من العقليات وليست من السمعيات كالنبوة. ليست النبوة إذن من الواجبات العقلية إلا بناء على الصلاح واللطف باعتبارهما واجبين عقليين، فإذا ما حكم العقل أن النبوة بها صلاح العباد ولطف من الله بهم، تكون واجبة على هذا الأساس كحكم عقلي بالصلاح واللطف، وليس كحاجة وعون ومدد نتيجة لقصور العقل وحاجته إلى وصاية أو هداية. وما العمل لو حكم العقل باستغنائه عما سواه، وبقدرته على معرفة الصلاح والأصلح دونما حاجة إلى نبوة؟
3
والعجيب أن تعتمد إحدى الحركات الإصلاحية الكبرى، الأشعرية في التوحيد الاعتزالية في العدل، على تبرير واجب النبوة بهدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة؛ أي هدم أسس الدين ذاته، وكأن إثبات وجوب النبوة لا يتم إلا على حساب الأسس الحسية والعقلية والاجتماعية التي تقوم عليها العقيدة ذاتها؛ وبالتالي لم يبق حتى نصف الاعتزال في العدل، وأصبح نصف الأشعرية في التوحيد هو السائد في موضوع النبوة؛
4
مما يدل على أن أنصاف الحلول في الحركة الإصلاحية انتهت إلى الأشعرية السائدة منذ ألف عام، وقد تم ذلك من قبل في حركة إصلاحية سابقة فيما وراء النهر، عندما تحولت الماتريدية بعد عدة أجيال إلى الأشعرية التقليدية، فهل تجب النبوة لأنها تعطي مجموعة من المعارف النظرية التي لا يستطيع العقل الوصول إليها؟ هل تعطي معرفة الصانع وصفاته والعقل قادر على الوصول إليها بإجماع نظار الأمة متكلمين وحكماء؟ هل حاجة البشر إلى الرسالة هي حاجتهم إلى معرفة الغيبيات وفي مقدمتها حياة النفس بعد مفارقتها البدن وقد أجمع الحكماء على إثباتها بالعقل؟ ولم تمنع النبوة في كل دين ولدى كل ملة من منع فريق من إنكار خلود النفس ووجود حياة أخرى بعد الموت. إن التوحيد كله يمكن إدراكه بالعقل بما في ذلك الصفات السمعية، وإلا لما كون العدل باب العقليات في علم أصول الدين في مقابل السمعيات ومنها النبوة، وكيف تكون النبوة طريق العلم بالتوحيد والسمعيات لا تؤدي إلى العقليات؛ فالسمعيات ظن والعقليات يقين على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ والصفات كلها مثل الإنسان، الإنسان الكامل وليس الإنسان المتعين، الإنسان كما ينبغي أن يكون وليس الإنسان كما هو كائن. وفيم الحسن والقبح العقليان؟ أليست هناك معارف عقلية؛ حسن عقلي وقبح عقلي؟ فالتوحيد حسن عقلي، والشرك قبح عقلي، وإذا خاف الإنسان الخطأ النظري وقع في التردد والشك وفي الظن والجهل؛ أي في كل مضادات العلم، فإن العقل قادر على بث الطمأنينة فيه وتحويل التردد والشك إلى قطع، والظن إلى يقين، والعلم إلى جهل، وإذا كانت الحاجة إلى النبوة هي أنها تشير على العقل بطرق الاستدلال، أليس العقل قادرا على ذلك وهو واضع منطق البرهان؟ وهل النبوة منطق صوري أم منهاج عملي للناس؟ وهل تعطي النبوة هذا المنطق الاستدلالي عن طريق النص أم أنها في حاجة إلى العقل لاستخراج هذا المنطق؛ وبالتالي يكون من عمل العقل في النبوة وليس من عمل النبوة وحدها؟
5
فإذا ما اكتفت النبوة في منطق الاستدلال بالنص وحده، فإنه يظل ظنيا لاعتماده على النص ولا يتحول إلى يقين إلا بالعقل، على ما هو معروف في باب الأدلة في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى.
6
إن العقل قادر على صياغة منطق للبرهان يقوم على أوليات العقل وبداهات الحس وشهادة الوجدان، كما أنه قادر على وضع نظرية في الصدق يمكن بها التحقق من صحة نتائجه وصدق براهينه، في حين يظل البرهان على صدق النبوة خارجيا محضا إذا كان هو المعجزة، أو ذاتيا خالصا إذا كان مجرد الإيمان. يبدو أن الوحي ما زال معروضا حتى في الحركات الإصلاحية الحديثة على أنه نظرية في النبوة؛ أي الوحي الرأسي مصدر المعارف النظرية، في حين أن الوحي ليس فقط نظرية في النبوة، بل نظرية في التاريخ؛ أي الوحي الأفقي مصدر التشريع العملي والأساس النظري للعمل الفردي والجماعي؛ لذلك سرعان ما تحولت نظرية النبوة كوعي رأسي في الحركة الإصلاحية الحديثة إلى نظرية إشراقية صوفية، وانتقلت من الفلسفة إلى التصوف، وتحول النبي من منظر وقائد إلى صوفي وولي. إن تفاوت العقول في الإدراك لا يعني أي نقص في العقل، بل يعني خطأ في استعماله، ويمكن بمنطق البرهان وبنظرية الصدق وبالمراجعة والاستدلال المشترك تجاوز اختلاف العقول والوصول إلى الاتفاق بينها، واتفاق العقلاء أولى من اختلافهم، وبداهات العقول وأولياتها واحدة، عامة وشاملة، لا اختلاف عليها بين العقلاء، والنبوة لا أسرار فيها ولا غموض، بل أفكار واضحة ومتميزة يمكن إدراكها بالعقل السليم والتحقق من صدقها بالبرهان.
7
هل تجب النبوة لحاجة الإنسان إلى التجريب، وكأن الإنسان قاصر على استخدام الحواس والاعتماد على المحسوسات والمشاهدات والمجربات وهي جزء من المعلومات طبقا لنظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ التجريب موضوع العلم التجريبي ومادته الأولى، وقد برع القدماء في العلوم التجريبية في الطبيعة والكيمياء والأدوية والطب، ولم يكتفوا بالطب النبوي، وأسسوا المبادئ العامة للطب التجريبي، ونقدوا المنطق الصوري، ووضعوا قواعد المنهج التجريبي. العلم التجريبي علم إنساني يهدف كالعلم العقلي إلى الكشف عن قوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان، وما فائدته إن كانت النبوة تغني عنه؟ والمعروف تاريخيا أن العلوم النبوية كانت أقرب إلى العلوم الإشراقية الصوفية منها إلى العلوم العقلية التجريبية، لا تحتوي النبوة على أسس علم الفلك وإن كانت توجه الشعور نحو الطبيعة والتأمل في الكون والنظر إلى الأهلة لمعرفة المواقيت، حتى يأتي العقل والتجريب ليضع قواعد علم الفلك وأصوله. إن الصناعات والعلوم التجريبية من اكتشاف الإنسان واختراعه؛ لذلك كانت الطبيعيات سابقة على الإلهيات في علوم الحكمة، كما كان المنطق سابقا على الطبيعيات؛ فالعقل والتجريب سابقان على النبوة، بل والطريق إليها، كما أن العقل والطبيعة سابقان على النظر إلى الله والطريق إليه، كما بان من قبل في نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى أن المحدث هو الطريق إلى القديم وأن الصنع دليل على وجود الصانع.
8
هل تجب النبوة لحاجات عملية؛ أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة، ما دام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان؟
9
ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها؟ هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع. صحيح أن النبوة تحتوي على تشريع، ولكنها توجيهات عامة في حاجة إلى تفصيلات واستنتاجات من العقل والواقع، من واقع المجتمع واستقراء حوادث التاريخ. صحيح أن النبوة تحتوي على بعض التوجيهات الخلقية والإرشادات العملية، ولكن لا تكفي الدعوة إلى المحبة والتعاون أن تكون أساسا لتكوين المجتمع الإنساني، وهل النبوة في نهاية الأمر نظرية في التأليف الاجتماعي أم في الصراع الاجتماعي؟ هل وظيفة النبوة حل الصراع الاجتماعي أم حسمه؟ إيقافه أم حله؟ إن المجتمع في حاجة لفهم تركيبه وقوانين حركته وصراعه إلى أكثر من المحبة والعدل والمبادئ العامة والقيم النظرية. صحيح أن الحاجة إلى التعاون وتأسيس المجتمعات وإقامة الدول تكشف عن الأساس الاجتماعي للوحي وعن البعد الأفقي له، كما تكشف المعارف النظرية عن البعد الرأسي فيه، ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان قاصر عن إدراك الحقائق الاجتماعية وعاجز عن توجيه الأمور العملية، وتأسيس الدول، وتدبير الملك. إن علوم السياسة والاجتماع والقانون والتاريخ أيضا من وضع الإنسان مثل باقي العلوم العقلية والتجريبية. ولماذا تهدم القوانين الإنسانية وتبين مفاسدها وعيوبها من أجل إثبات وجوب الشرائع النبوية؟ ألا تثبت النبوة إلا على أنقاض البشرية؟ إن تغير القوانين البشرية ليس عيبا بل تطور واجتهاد، كما هو الحال في الفقه، وإن اختلاف الطبائع والشعوب وارد في القوانين البشرية والشرائع الإلهية على حد سواء.
10
وإن هذا التضارب بين القانون البشري والقانون السماوي لهو أساس الثنائية في وجداننا المعاصر، وأحد أسباب مصائب عصرنا في الصراع بين الاتجاه العلماني والحركة السلفية. إن وظيفة الرسل في قيادة الأمم هي نفسها وظيفة القادة والأبطال، ولم تخل البشرية من كليهما معا دون أن يكون أحد الفريقين بديلا عن الآخر أو سببا لإيجاده، بل إن رئاسة الأنبياء تقوم على تصور هرمي للعالم؛ النبي في القمة، والناس في القاعدة، وما بينهما القواد والوزراء والعمال، طبقا لنظرية الفيض وترتيب العقول وترتيب الأجناس والأنواع ومراتب القوى الإنسانية؛ فالنبوة عند القدماء نظام رئاسي هرمي بالضرورة كما هو واضح في «المدينة الفاضلة»، علاقة الرئيس بالمرءوس علاقة القمة بالقاعدة أو المركز بالمحيط، وكأن سلطة النبي سلطة مركزية رئيسية، قاهرة ومسيطرة، وكأن السلطان لا يكون إلا أعلى عليين والناس أسفل سافلين!
11
بالإضافة إلى هذه الفوائد العامة للبعثة التي تجعلها ضرورية واجبة، هل هناك فوائد أخرى لها على التفصيل؟ هنا تظهر العبادات على أنها الدافع الأول على ضرورة البعثة، والتي لا يستطيع العقل أو الواقع الوصول إليها، ولماذا تكون العبادات ضد العقل والطبيعة ومفروضة عليهما دون أن تكون تعبيرا عنهما؟ وهل العقل عادة والشرع عبادة والعادة لا تكون عبادة؟ إن وضع العقل في مقابل العبادة يجعل العبادة لا عقلية غير مفهومة وغير معللة بحكمة مع أن العلة أساس التشريع يمكن إدراكها بالعقل والتجريب، ولا توجد عبادة واحدة، وكل ملة تعبد بشعائرها، وترى فيها أنسب تعبير عن إيمانها وعقائدها، وإذا كان العمل عبادة فإن العقل قادر على أن يصل إليه دون أشكال ورموز وصور لا تعبر عن جوهر الإيمان وقصد العقيدة.
12
كيف تثبت النبوة إذن كضرورة نظرية وعملية على حساب العقل من أجل هدمه، وإرادة الإنسان من أجل إعلان عجزه، ودونما حاجة إلى القدرات البشرية وعلومها وصناعاتها وسياساتها وشرائعها؟ إن الوحي علم مستقل بذاته يستنبطه الإنسان ويضع قواعده وأصوله، لا هو بعلوم الدين ولا هو بعلوم الدنيا، هو علم المبادئ الأولى التي تقوم عليها العلوم جميعا، وهي مبادئ عقلية وطبيعية، شعورية ووجودية في آن واحد.
13
وإن كل ما يمكن التوجه به ضد العقل الإنساني والقدرة البشرية، يمكن التوجه به أيضا إلى تفسير النبوة وتأويل الوحي الذي يقوم به عقل الإنسان، وتظهر فيه مصالحه ويفرض فيها إرادته، وهل سلم الإيمان من التعصب والجهل؟ أليست القوانين المستنبطة من الشرائع النبوية تتدخل فيها الأهواء الفردية والمصالح الاجتماعية المتضاربة حين تطبيقها؛ وبالتالي يقضي على حسنها في ذاتها؟ إن الشهرة والغفلة والنسيان وكل مظاهر النقص الإنساني تعم العقل، سواء عمل بمفرده أم فسر النبوة وأول الوحي، وهل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟
14
حتى أمور المعاد التي قد تكون أحد بواعث وجوب النبوة، فإن العقل قادر على أن يصل إليها، وقد توصلت مجتمعات بأكملها إلى خلود النفس دون نبوة، كما أن العقل قادر على أن يصل بمفرده إلى قانون الاستحقاق، وأن الجزاء على قدر الأعمال، عقابا أم ثوابا ؛ فلا يوجد فعل إلا وله أثر، ولا يوجد أثر إلا في العالم، سواء كان في الحال أو في المآل، مباشرا أو غير مباشر.
15
وكيف يكون الإحساس بالقلة والقهر أساسا لوجود الوحي وضرورته؟ ألا يثبت الوحي إلا بقهر الإنسان وإحساسه بالضآلة والعجز أمام قوة عظمى تعرف أفضل منه وتقدر على ما لا يقدر عليه؟ وهل استطاعت النبوة أن تمنع الإنسان من أن يعمل عقله أو يمارس حريته أو أن تجعله أكثر عقلانية وأعظم قدرة؟ فالنبوة لم تمنع الإنسان من إنكار وجود الله، أو إنكار النبوة، أو عدم التصديق بالمعجزات، أو إنكار الشرائع ورفضها بناء على القبح العقلي والضرر المادي، أو إهمال التطبيق والاكتفاء بالجانب النظري كما هو حال البشر الآن، أو إسقاط فاعلية الجانب الأخروي والتخويف بالوعد والوعيد، أو نشوب القتال والفتن والحروب الطائفية التي لا تقل عن الحروب العلمانية.
16
إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل. العقل يحسن ويقبح وقادر على إدراك صفات الحسن والقبح في الأشياء، كما أن الحسن قادر على الإدراك والمشاهدة والتجريب، لا طريق إلى الصانع إلا العقل والحسن، ويمكن معرفة الأخلاق بالفطرة، والاستحقاق واجب عقلي، وكمال النفس بالنظر والعمل، وذلك هو موقف الفقهاء دون مزايدة في الإيمان أو هدم للمعرفة الإنسانية.
17 (2) هل النبوة مستحيلة؟
إن القول باستحالة النبوة هو رد فعل طبيعي على القول بوجوبها؛ فكلاهما طرفا نقيض، إثبات ونفي، وجوب واستحالة؛ فبينما يقوم الوجوب على هدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة والقانون، تقوم الاستحالة على تأكيد العقل والعلم وعلى الاعتراف بقدرات الإنسان النظرية والعملية على تأسيس العلوم الاجتماعية.
وهناك ثلاثة دوافع للقول بالاستحالة، إما الامتناع من حيث المبدأ والإمكانية النظرية الخالصة (العقل الأولاني أو المبدئي)، أو الامتناع من حيث كفاية العقل دونما حاجة إلى مصدر آخر للمعرفة (العقل النظري)، أو الامتناع من حيث التكليف العملي وإن كانت مقبولة نظريا (العقل العملي).
18 (أ) الاستحالة المبدئية
تقوم الاستحالة المبدئية؛ أي الإنكار الميتافيزيقي للنبوة وإثبات استحالة البعثة، على حجج ثلاث؛ الأولى: لا بد أن يعرف المبعوث أن المرسل له هو الله، ولا طريق إلى معرفة ذلك؛ فلعل المرسل هو الجن، والحقيقة أن هذه الحجة تجعل النبوة متوقفة على المرسل، في حين أن النبوة واقعة تاريخية، يقينها في وقوعها الذي يفرض إمكانها، وبرهان صدقها داخلي ولا يتوقف على المرسل أو حتى على المعجزة كدليل على صدق النبي، كما أن افتراض الجن افتراض غيبي غير مرئي، كالمرسل سواء بسواء، والنبوة مسارها في التاريخ ما بعد الرسول وليس ما قبله؛ أي البعد الأفقي وليس البعد الرأسي. النبوة الرأسية ليست جزءا من النبوة؛ أي من السمعيات، بل هي جزء من الإلهيات؛ أي العقليات في صفتي الكلام والإرادة. لا يهم في النبوة مصدرها؛ أي ما قبل الإعلان، بل تبليغ الرسالة بعد الإعلان وضمان صحتها التاريخية، وهو اليقين الخارجي، ثم ضمان صدقها النظري وإمكانيات تحقيقها ومطابقتها للواقع وهو يقينها الداخلي، وليس المطلوب في النبوة لمعرفة صدقها إمكانية التمييز بين كلام الله وكلام الإنسان ما دام يأتي في صوت إنساني وبلغة إنسانية ولرسول إنساني ليبلغه للناس، ولا يسمع كلام الله مباشرة إلا بالصوت من خلال الأذن الإنسانية. صحيح أنه لا يوجد اضطرار بأن ما تلقاه الرسول علم من الله، ولو أراد الله علما لاضطره إليه، ومع ذلك فإن الإنسان قادر بمفرده عن طريق الاستبصار واستشراف الباطن معرفة ما يدور في نفسه وذلك بانعكاس نظرته إلى الداخل والتركيز على شعوره، كما يستطيع أن يستشرف شعور الآخرين ببصيرته، خاصة إذا كانت تربطه بهم علاقة حب، والحدس يقين لا ظن، يمكن أن يتكرر. قد يخطئ مرة ولكن لا يخطئ كل المرات، ولا يعني خطؤه عدم وقوعه أو استحالته.
19
والحجة الثانية أن الرسول من الله كمرسل إلى الرسول كمرسل إليه إن كان جسمانيا فلا بد أن يكون مرئيا؛ وبالتالي تستحيل النبوة لأن الرسول من الله إلى النبي جسماني لم يره أحد. والحقيقة ألا يهم أيضا كيفية وصول الوحي من الله إلى الرسول؛ فذلك أدخل في نظرية النبوة في علوم الحكمة وليس في علم أصول الدين . صدق النبوة في صدق الكلام ومطابقته للواقع ومصالح الناس، صدق النبوة في صحتها التاريخية ونقلها المتواتر أولا، ثم في صحة تفسيرها طبقا لقواعد اللغة وأسباب النزول ثانيا، ثم في إمكانية تحقيقها تحقيقا لمصالح الناس ثالثا، وكما هو الحال في علم أصول الفقه.
20
ويمكن أن تكون وسيلة الاتصال غير مرئية بخلق علم ضروري في النفس دونما رسول، ويمكن أن يكون الرسول مرئيا للمرسل إليه وحده دون غيره أو يكون مرئيا له ولغيره دون أن يتعرف الغير عليه كرسول.
21
والحجة الثالثة أن التصديق بها يتوقف على العلم بوجود المرسل، وذلك لا يحصل إلا بغامض النظر وغير مقدر بزمان، ولما كان للمكلف الاستمهال ودعوى عدم العلم فيلزم إفحام النبي وعبث البعثة، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا، والحقيقة أن التصديق بالنبوة لا يتوقف على وجود المرسل، بل على الصدق الداخلي وبرهان العقل ومصالح العباد، بالإضافة إلى الصدق الخارجي عن طريق التواتر لإثبات الصحة التاريخية للنصوص؛ أي للوحي المكتوب. وقد يكون البرهان واضحا بديهيا وليس غامضا، ويمكن في عمر الإنسان الوصول إليه ويكون في العمر بقية للتنفيذ، وربما يعبر عن هذه الاستحالة بالتساؤل حول كيفية اتصال المطلق بالنسبي واللامرئي بالمرئي، فإذا كان الاتصال لا يتم إلا بين نوعين متجانسين، فكيف يتم اتصال بين طرفين مختلفين؟ فإذا كان الله غير مشاهد أو مرئي، فكيف يتم الاتصال بينه وبين الرسول وهو مشاهد مرئي؟ وإذا كان الرسول مشاهدا مرئيا، ألا يقتضي ذلك أن يكون الطرف الآخر كذلك؟ ويسهل الرد على هذا التساؤل بالتفرقة بين المطلق والنسبي اعتمادا على حجج العقول، واستنادا إلى نظرية الوجود بالتفرقة بين القديم والحادث، أو بين الواجب والممكن، أو حتى بالرجوع إلى المبادئ العامة الأولى في التفرقة بين العلة والمعلول.
22
وقد يعترض على وجوب النبوة بمسألة التفضيل أو الاختيار، فإذا كان البشر متساوين فكيف يفضل إنسان على آخر يختار كي يكون نبيا؟ لا يكفي لتبرير الاختيار الحر مجرد إرادة المختار؛ لأنه تبرير لا عقلي، ولا يكفي أن يكون سبب الاختيار والتفضيل عمل النبي واجتهاده؛ فكثير هم العاملون المجتهدون؛ وبالتالي يظل السؤال قائما: لم هذا العامل المجتهد بعينه؟ ولا يكفي أيضا أن يكون سبب الاختيار هو اضطرار النبي للعلم؛ إذ يظل السؤال قائما: لماذا اضطرار هذا الإنسان بعينه كي يكون نبيا دون غيره، فضلا عن أن اضطراره لا يفسر سبب الاختيار والتفضيل بقدر ما يفسر كيفية تلقي الوحي، ولا يكفي أيضا أن يقال إن سبب الاختيار هو قدرات طبيعية لدى الرسول؛ لأن القدرات خلقية لا دخل فيها لمسئولية الأفراد واستحقاقهم الشخصي؛ وبالتالي يظل سؤال الاختيار قائما، خاصة وأن الرسول ينال أعظم أجر وأفضل منزلة، والحقيقة أنه لا رد على هذا السؤال الشخصي، وسيظل باستمرار واردا في هذا الشخص أو ذاك.
23
إنما الرد الوحيد هو ضرورة وجود الرسول كوسيلة لتلقي الوحي، ولما كان الشخص مجرد وسيلة، فإن سبب التعيين يكون سؤالا افتراضيا صرفا. الرسول هنا هو عموم الشخص وليس خصوص الرسول.
تقوم إذن الاستحالة المبدئية على إنكار النبوة على أساس مبدئي ومنهجي قبل أن تتناولها كموضوع تاريخي؛ وبالتالي لا يمكن التعرض لها إلا على هذا الأساس؛ أي بيان إمكان النبوة قبل بيان وقوعها. (ب) الاستحالة العقلية
وتقوم الاستحالة العقلية على اكتفاء العقل دونما حاجة إلى مصدر آخر للمعرفة، فالمعرفة مصدرها واحد وهو العقل، ففي العقل الكفاية لكل أنواع المعارف؛ وبالتالي تستحيل النبوة، ويكون إنكار النبوة على درجتين، إما أن تنكر النبوة على الإطلاق بلا استثناء، أو تثبت نبوة وتنكر أخرى؛ الأولى أقرب إلى الإنكار المبدئي الميتافيزيقي، والثاني إنكار عملي شعوبي طائفي يفضل نبيا على آخر، ويعترف بنبوة دون أخرى، ويصعب التوفيق فيه بين الإنكار المبدئي والاعتراف الجزئي.
24
ولا يعني إنكار النبوة، نظرا لاكتفاء العقل، إنكار التوحيد؛ فالتوحيد من العقليات، فلا تعارض إذن بين توحيد الصانع وإنكار النبوة، إثباتا للعقليات دون السمعيات. يقوم التوحيد الفطري على العقل والطبيعة وليس في حاجة إلى نبوة كأحد المعارف العقلية أو الواجبات العقلية، وما دام العقل يستطيع أن يصل إلى كل ما يصل إليه الوحي في النظر والعقائد وفي العمل والشرائع، فلا حاجة إلى النبوة كنظرية في المعرفة أو كنظرية في الأخلاق. إن إنكار النبوة على الإطلاق إنما يدل على الثقة بالعقل البشري وإلى الاعتراف بالطبيعة والفطرة، فإذا كان العقل والطبيعة قادرين على هداية الإنسان، فما الحاجة إلى النبوة؟
25
وقد تقوم الاستحالة العقلية على تحسين العقل وتقبيحه؛ فما حسنه العقل يفعل وما قبحه العقل يترك، وما لم يحكم فيه العقل بحسن أو بقبح يفعل عند الحاجة، ويترك عند عدمها؛ فالعقل والطبيعة هما أساس الحكم على الأشياء، بل إن العقل قادر على الوصول إلى التكليف وإلى الواجبات العقلية، ومنها شكر المنعم والعوض عن الإيلام بلا استحقاق، مثل إيلام البهائم عند الذبح. وقد تستعمل قاعدة الحسن والقبح العقليين كحجة جدلية لإثبات استحالة النبوة عقلا؛ فإما أن يكون النبي مستدركا بالعقل أم لا، فإن كان الأول فلا فائدة من انبعاثه، وإن كان ضد العقل فلا يمكن قبوله. وقد أكمل الله العقول، وجعلها قادرة على إدراك الحسن والقبح والتمييز بينهما، وجعلها دليلا على الخالق ومرشدا لمصالح الخلق منعا للظلم ووسيلة للعلم، فلا حاجة للنبوة في وجود العقل، وإن أتت متفقة مع العقل فهي إضافة زائدة لا لزوم لها ولا غاية، وإن أتت مخالفة له فلا يمكن قبولها لما كان العقل هو الأساس.
26
واعتبار الناس محجوجة بعقولهم لا يدل على أي أثر خارجي، بل يعبر عن ضرورة داخلية في نظرية الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة، وأن العقل أساس النقل، وأن كل ما يتوصل إليه بالسمع يمكن معرفته عقلا، حتى الشرعيات والعبادات إن لم تعرف بخواصها فإنها تعرف بغاياتها، ويستحيل أن يكون السمع أساس العقل؛ لأن الأدلة والبراهين عقلية خالصة لا سمع فيها، كما أن معرفة الحسن والقبح واردة قبل السمع، وقد أمكن إدراك التوحيد والعدل بالعقل، وهما البابان الرئيسيان في العقليات وهي الإلهيات، ويشترك في النظر جميع العاقلين بشرط الوعي، فلا يكف عن النظر إلا نائم أو مجنون أو ساه، وإن الاستشهاد على منع النظر بمن يمنع النظر لهو استشهاد على الطبيعي بالشاذ، والطبيعة تؤدي إلى النظر أكثر مما تؤدي إلى الجهل، فالطبيعة عاقلة،
27
بل إن الإنسان بعقله قادر على تحدي النبوة مثل قدرة «الشيطان» الذي طلب الاستمهال فاستمهل، ولما كانت النبوة ترتكز على العقل فلا خوف من تحدي العقل للنبوة، وإلا كان العقل يتحدى نفسه وهو البناء الذي تقوم النبوة عليه.
28
وفي كل عقل خاطران؛ خاطر للإقدام من الله، وخاطر للإحجام من «الشيطان». وللإنسان حرية الاختيار بين الخاطرين أو الباعثين. الخاطران في القلب؛ الأول يدعو للحق والثاني يدعو للباطل، ويقع التكليف بوقوع هذين الخاطرين، وإن غفلة الغافل عن الخواطر ليست نقضا للخواطر، بل نقض للغافل، كما لا يعني تعارض الخواطر الشك وتكافؤ الأدلة، بل تعني حرية الإنسان وضرورة اختياره بين الخير والشر، وأن عدم وقوعها من إنسان لا يعني أنها لا تقع ضرورة عند كل إنسان، والخاطران ليسا عقليين فحسب، بل هما في القلب باعثان يكشفان عن صراع العواطف وحياة الوجدان، ويكونان شرط الحرية والاختيار دون إلجاء، ويتفق هذان الخاطران مع الثنائية المتعارضة المعروفة في كل دين وملة بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بين الحسنة والسيئة، وما ينتج عنها من ثنائية الجزاء في الثواب والعقاب.
29
وتحيل الخواطر إلى موضوع الحرية والاختيار أكثر من إحالتها إلى موضوع العقل المكتفي بذاته دونما حاجة إلى نبوة؛ فقد يوجد الخاطران متضادين، الأول من الله والثاني من «الشيطان»، وعلى الإنسان أن ينصر الأول على الثاني في معركة الخواطر.
30
وقد يكون خاطر الدعوة إلى الطاعة أمرا خفيا للطاعة من الله، يقابله أمر خفي للعصيان من الشيطان، وقد يكون الخاطر قولا جليا من الله بلا واسطة أو بتوسط رسول مقرون بمعجزة، وقد يكون الخاطران مجرد باعثين في القلب على الإقدام والإحجام؛ أحدهما للطاعة، والثاني للمعصية، من أجل الاختيار بينهما دونما حاجة إلى تجسيم أو تشخيص أو تشبيه، وإلا لزم في حال الشيطان تكليفه بخاطرين؛ واحد من الله والآخر من شيطان آخر، ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية.
31
والحقيقة أن الخواطر إنما هي البواعث النفسية والمرجحات العقلية التي تجعل الإنسان يختار بينها، وهي أقرب إلى طباع النفس وميولها ورغباتها، وما تميل إليه وما تنفر منه طباعا؛ فالعقل والطبيعة صنوان.
قد يستطيع الإنسان معرفة الحسن والقبح عن طريق التصفية؛ فالأفعال الإنسانية إن كانت خيرة ترتفع نفس فاعلها بحيث تكون أقرب إلى الملائكة والنفوس المجردة؛ وبالتالي لا تحتاج إلى نبوة من خارجها وإلى أنبياء يرشدونها وكان ذلك ثوابها. أما إذا كانت أفعالها سيئة هبطت إلى أسفل واقتربت من عالم الحيوان، وكان في ذلك عقابها، وهي نظرية التناسخ التي هي أقرب إلى النظريات الإشراقية التطهرية الأخلاقية؛ الصعود إلى النور والهبوط إلى الظلمة. لا تحتاج عالما آخر للثواب أو العقاب، بل يتم ذلك في هذا العالم في دورات الحياة المتعاقبة. العقل هنا هو تصفية القلب، العقل الباطني الذي لا يحتاج أيضا إلى نبوة أسوة بالعقل الاستدلالي.
32
والحقيقة أن هذه النظرة لا تصدق إلا على الصفوة العاقلة صاحبة الوعي المتميز، ولكنها لا تصدق على عامة الناس، هي ليست تكذيبا للأنبياء على الإطلاق، ولكنها تبين أن عقل الصفوة قادر على الاستغناء عنها.
33
فبالنسبة للعامة هناك أمور، خاصة العبادات وأشكالها، في حاجة إلى نبوة لبيانها؛ إذ لا يستطيع العقل الاهتداء إليها وإن استطاع معرفة الحكم منها وغايتها، ويظل الأمر بالنسبة للخاصة أن العبادات وأشكالها لا تكون جوهر النبوة التي هي في حقيقتها معارف نظرية يستطيع العقل أن يصل إليها. قد تكون النبوة ضرورية لعامة الناس الذين لم يتعودوا على ممارسة النظر وإعمال العقل، ولكنها ليست ضرورية للخاصة الذين تعودوا على النظر وعلى إعمال العقل، وقد ينشأ هذا التعود إما بالطبيعة وإما بالاكتساب وإما بكليهما معا، وهو ما أكده الفلاسفة أيضا، ومع ذلك يمكن للعامة أيضا بحسها الشعبي وببصيرتها التلقائية أن تدرك حقائق النبوة، خاصة العملية منها، مثل المساواة والعدالة، وهي الحقائق التي تتوق إليها الجماهير الغفيرة نظرا لما تعانيه من فقر وضنك؛ فالخاصة بعقولها، والعامة بضنكها يمكنها إدراك حقائق النبوة، كما يمكن بواسطة نشر التعليم تحويل العامة إلى خاصة، فيصبح كل أفراد المجتمع من الخاصة، وإذا كان العقل يستطيع أن يعرف كل شيء نظرا وعملا، عقيدة وشريعة، فقد تظل ممكنة لإباحة بعض الأشياء يحظرها العقل.
34
وإذا كان العقل في غنى عن الرسل، فقد كان بإمكان الله اضطرار العقول إلى معرفته دونما حاجة إلى اللف والدوران وتأسيس الوحي على العقل وجعل من يقدح في العقل يقدح في النقل، وإذا كان العقل هو الأساس ففيم النقل؟ وما الفائدة من الرسل إذا كان في العقل مندوحة؟ إذا كان العقل يحسن ويقبح، فما فائدة الوحي؟
35
ليس القول باكتفاء العقل استبدادا بالرأي، ولكنه ثقة بالعقل وإعلان لاستقلاله، وهو ما ترمي إليه النبوة؛
36
فالمدافع عن النبوة ضد العقل إنما يتمثل النبوة في مراحلها الأولى قبل اكتمالها، والمدافع عن العقل مكتفيا بذاته دونما حاجة إلى نبوة إنما يتمثل النبوة في آخر مراحلها بعد اكتمالها؛ فالنبوة وسيلة لاكتمال العقل، وكمال العقل غاية النبوة. (ج) الاستحالة العملية
وتقوم الاستحالة العملية على نفي التكليف ابتداء أو نفي اعتبار الشرائع مضادا للعقل. فما الداعي إلى الخلق ثم التكليف؟ وإذا كان الخلق نعمة فإن التكليف نقمة؛ وبالتالي يكون الفعل متناقضا بين أوله وآخره، وتتمثل استحالة التكليف تفصيلا في عدة أمور؛ إذ كيف يكون التكليف ممكنا مع جبر الأفعال لما كانت الأفعال كلها واقعة بقدرة الله ومعلومة من قبل؟ إن ضياع حرية الإنسان أمام إرادة مطلقة تعلم كل شيء سلفا يقضي على شرعية التكليف أولا، وعلى أسباب وجود النبوة ذاتها ثانيا. كيف يبعث نبي ومعلوم سلفا مصير الإنسان وماذا سيفعل وإذا كان سيهتدي أم لا؟ ما فائدة التبليغ ومصير الإنسان مقدر من قبل؟ كيف يعاقب الإنسان وهو معروف سلفا أنه سيموت كافرا حتى ولو أرسلت إليه الرسل؟ ذلك سفه، والعقاب ظلم قبيح، كما أن التكليف إضرار لما يلزمه من التعب والنصب في حالة الفعل، والعقاب في حالة الترك؛ فهو تعب في الدنيا وعقاب في الآخرة، وإذا كان التكليف لا لغاية فإنه يكون عبثا، وإذا كان لغرض يعود على الله فالله منزه عن الأغراض وغني عن العالمين، وإذا كان لغرض يعود على الإنسان فإما أن يكون ضررا وهو منتف يرفضه العقل، وإما أن يكون نفعا وهو ما لا وجود له؛ فالتكليف إضرار بالعقاب، خاصة للكفار وللعصاة، وإذا كان التكليف مع الفعل فلا فائدة لوجوبه ما دام في الفعل غنى عنه، وإذا كان قبل الفعل فإنه يكون تكليفا بما لا يطاق؛ لأن الفعل قبل الفعل محال، وأخيرا فإن التكليف بالأفعال الشاقة يشغل عن التفكير ويحيد عن معرفة الله، فالفاعل لا يكون حكيما والحكيم لا يكون فاعلا.
37
والحقيقة أن كل هذه الحجج ضد التكليف يمكن الرد عليها؛ فالخلق بلا تكليف مجرد طبيعة دون عقل، ومادة دون حرية، وإن ما يميز الإنسان عن باقي الظواهر الطبيعية هو التكليف الحر، وإلا كان مجرد مخلوق مثلها؛
38
فكما أن الخلق نعمة فإن التكليف نعمة الخلق في الطبيعة ونعمة التكليف في الحرية، صحيح أن التكليف يبطل بعقيدة الجبر، فكيف يتم التكليف وكل شيء يتم بقدرة الله بما في ذلك أفعال المكلف، ولكنه لا يبطل بحرية الاختيار وهي أحد مكتسبات العدل. إن التكليف يكون قدحا في النبوة على افتراض الجبر، ولكنه لا يكون قدحا إذا كان قائما على حرية الاختيار؛ وبالتالي يكون للوحي مبررات وجوده، وإذا كان التكليف إضرارا عاجلا فإن ذلك من أجل منفعة آجلة؛ مشقة الاستيقاظ مبكرا للصلاة لا تعادلها منفعة الأفعال المبكرة وفوائد الصلاة، ومشقة الصيام لا تعادلها مآثره في السيطرة على النفس والإحساس بالآخرين، ومشقة الجهاد والتضحية بالنفس لا يعادلها نصر الأمة وبقاء الحق، والثواب والعقاب متضمنان في الأفعال.
39
والفعل القبيح يتضمن عقابه من داخله؛ تأنيب الضمير وحكم الناس، والقصاص من الأفراد فيه حياة للمجموع، وإن غاية التكليف هو تحقيق الرسالة وازدهار الحرية وكمال الطبيعة وتحقيق إمكانيات الوجود الإنساني، والتكلف تكليف قبل الفعل بما يطاق، في حدود الطاقة والقدرة والأهلية؛ وبالتالي فهو ممكن، وليس تكليفا من الخارج، بل هو التزام داخلي تعبيرا عن قدرات الإنسان على تغيير العالم. ليست الغاية معرفة نظرية بالله، بل هي تكليف عملي، وهو تحقيق المعرفة النظرية بالفعل، فالفعل ليس ضعفا في النظر، بل تحقيق وإتمام له.
فإذا ما تم الاعتراف بالبعثة وإمكانها، فإنه قد يمتنع وقوعها نظرا لمعارضة الشريعة لمقتضيات العقل؛ وبالتالي لا تكون من عند الله، مثل ذبح الحيوان وإيلامه، وتحمل الجوع والعطش في أيام معينة، ومنع الملاذ التي بها صلاح البدن، والتكليف بالأفعال الشاقة، وتفضيل بعض الأماكن على البعض الآخر، والإتيان ببعض الشعائر التي لا توافق العقل، والالتزام ببعض الأحكام التي تعارضه، مثل تحريم النظر إلى الحرة الشوهاء وإباحته إلى الأمة الحسنة.
40
والحقيقة أن هذه الأشياء لا تطعن في النبوة وتجعلها مستحيلة؛ لأنها ليست جوهر التوحيد، فالوحي لا طقوس فيه ولا شعائر، والعبادات فيه صورة والمعاملات هي المضمون، ويمكن القيام بالصورة دون المضمون أو تمثل المضمون بصور أخرى، فالطقوس لا تمس جوهر الوحي، ومع ذلك يمكن إدراك دلالاتها وأخذ الدلالة وترك الأشياء الدالة؛ فالبعض منها رموز مثل رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، ويمكن إيجاد دلالاتها في التجربة البشرية فيما يتعلق بالذكريات ورغبة الإنسان في زيارة الآثار والأطلال وأماكن المحبين ومنازل الشعراء وآثار المفكرين للرجوع بالذهن إلى الماضي وتذكر سير الأبطال واسترجاع حياة المجاهدين، والسعي رمز للجهاد، ورمي الجمرات رمز للنضال، كما يمكن إسقاطها كلية كما فعل الحكماء، ولكن العامة في حاجة إلى طقوس وشعائر واحتفالات ومواكب، والوحي أتى للجميع، عامة وخاصة؛ وبسبب هذا الجانب اللاعقلي في صور العبادات رفض الفقهاء التعليل وأبطلوا القياس، ولكن يظل التعليل أساس الأحكام ويظل القياس أصلا من أصول التشريع؛ فليس كل ما في الشريعة مضادا للعقل، بل إن الأحكام التي بها صلاح العباد، أي كل ما يتعلق بالمعاملات، يمكن فهمها بالعقل وإدراك غايتها وقصدها.
والشريعة في نهاية الأمر وسيلة لا غاية، وسيلة يحصل بها الإنسان على فائدة، ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة؛ فالصيام مثلا وسيلة للإحساس بالآخرين جوعا وعطشا، ولكن يمكن للإنسان أن يشعر بذلك دون الصيام وحده، وذلك بالالتزام بقضايا الفقر ومشاكل الجماعة، وإذا كان الصيام نوعا من الراحة للبدن، فإنه يمكن للإنسان أن يخفف من طعامه وشرابه وقاية للبدن وحرصا على صحته، وإذا كان الصيام يدل على أن للإنسان إرادة على بدنه وقدرة على التحكم في وظائفه العضوية، فيمكن للإنسان أن يمارس هذه الإرادة في مواقف اجتماعية في حالة حصار أو سجن أو فقر، وبنفس الطريقة إذا كانت الغاية من الصلاة هي الاطمئنان الداخلي وحضور الفكر اليومي والرجوع إلى الباطن لتعادل الكفة مع مشاغل اليومية، فيمكن تحقيق هذه الغاية لا بالصلاة وحدها بل بالتفكر أو التأمل أو الاكتفاء بالفنون والآداب والعلوم، وإذا كانت الغاية من الصلاة الإحساس بالوقت ووقوع الأفعال في الزمان والإحساس بالفور، وبأن لكل لحظة فعلا، وإلا لكان الفعل قضاء، فإنه يمكن الحصول على هذا الإحساس بالزمان ليس بالصلاة وحدها، ولكن بالإحساس بالعمر والشعور بالغاية والرسالة وبضرورة العمل على تحقيقها، ووضع خطة يومية للتنفيذ على مراحل، وإذا كانت الغاية من الصلاة صحة البدن وسلامة الأعضاء ونظافة الجسم بالحركات والقيام والقعود والوضوء والطهارة، فإن الإنسان يستطيع أن يحصل على هذه الفائدة لا بالصلاة وحدها ولكن عن طريق الرياضة البدنية وبالنظافة الدائمة، وأخيرا إذا كانت الغاية من الزكاة هي إحساس الإنسان بأن ما يملك ليس له، وبأن للآخرين حقا فيه، فإن الإنسان بطبيعته وبفكره وبنظام الوحي لا يملك شيئا، وكل ما في الواقع يستخدم لمصلحة الجماعة؛ فلا يوجد حق للأنا وللآخر، بل يوجد حق للجماعة، وإذا كانت الغاية من الزكاة سيولة المال ورفض كنز الأموال، فإن الإنسان بفكره وتنظيمه لاقتصاده يمنع اكتناز الأموال؛ فالمال للاستثمار وليس للاكتناز. العبادات إذن معقولة ولها أسسها الواقعية في مصلحة الإنسان، ولا تقوم على مجرد قرار أو سلطة أو رسم أو صورة، حتى إنه من الصعب وصفها بأنها طقوس أو عبادات، بل هي أفعال.
41
وبالتالي يبرز سؤال، لماذا إذن العبادات والشرعيات إذا كان الإنسان يستطيع الوصول إلى غاياتها بأساليب أخرى؟ لا يستطيع ذلك إلا من أوتي حظا من الوعي والثقافة، وهو ما لا يتأتى للجميع، ولما كان الوحي أسلوبا في مخاطبة الجميع فإنه أتى بهذا الأسلوب في التعامل حتى يسهل على الجميع فهمه وتطبيقه والعمل به، فالخاصة والعامة معا قادرون على حد سواء على فهم العبادات، ولكن الخاصة وحدهم هم القادرون على الحصول على الغايات بوسائل أخرى، وإذا كان المجتمع كله خاصة واستطاع أن يكون على درجة من الوعي والثقافة، فإنه يصل إلى نفس الغايات بوسائل متعددة، ولكن اتحاد الوسائل قد يكون أيضا نوعا من توحيد السلوك وأكثر ضمانا للوصول إلى الغايات من وسائل أخرى ما زالت تحت التجربة، وهو ما لاحظه الحكماء من قبل؛ فالفلسفة والشريعة متفقتان في الغاية وهو صلاح النفس وتحقيق كمالها، وكأن الأخلاق هي نقطة الالتقاء بين الفلسفة والشريعة؛ فإذا ما أدى تطبيق الشرائع إلى نفاق بغياب الفضائل الداخلية وحضور الصور الخارجية أتت الفلسفة لتعيد إلى الصورة مضمونها وإلى الشريعة حياتها، وإذا خير العاقل بين التقوى دون الشرائع أو بين غياب التقوى وحضور الشرائع لكان الأول هو الأكمل. أما فيما يتعلق بذبح الحيوان وإيلامه فلا يكفي لإثبات شرعية ذلك أن يقال إنه مسموح به من قبل المالك، فهذا تصور خارجي للشرعية، وجعل العقل والطبيعة معا تابعين لإرادة خارجية إنما يمكن فهم ذلك باعتبار أن الإنسان سيد الكون، وكل شيء مسخر له. ولماذا الرفق بالحيوان والرفق بالإنسان أولى؟ لذلك هناك قانون الاستحقاق وقانون العوض عن الآلام كي يعيش الإنسان راضيا عن نفسه مقيما للعدل ونافيا للجور والظلم. (3) النبوة ممكنة
إن لم تكن النبوة واجبة أو مستحيلة فهي ممكنة أي جائزة، والقول بوجوبها وضرورتها لا يحتاج إلى إثبات، والقول باستحالتها في حاجة إلى دلائل نفي. أما القول بإمكانها فهو في حاجة إلى إثبات، ووقوعها بالفعل دليل على إمكانها وكأن وقوع الشيء بالفعل أكبر دليل على إمكانه. لا يثبت إمكان النبوة أولا ثم وقوعها ثانيا على ما هو معروف من أسبقية الفكر على الواقع، والمبدأ على الحادثة، ولكن يثبت إمكان النبوة بعد وقوعها؛ أي بأسبقية الواقع على الفكر. لا يتم إثبات النبوة قبليا استنباطيا بل يتم بعديا استقرائيا. يثبت الإمكان من الوقوع ولا يثبت الوقوع من الإمكان، وهو ما يتفق مع التوجيه العام لعلم أصول الدين في اعتبار مبحث الوجود سابقا على التوحيد، وأن معرفة الحادث هو الطريق إلى معرفة القديم، وبلغة الحكماء، سبق الطبيعيات على الإلهيات. ما دامت الرسالة واقعة فالنبوة ممكنة الوقوع؛ ومن ثم كان إنكار النبوة أو القول باستحالتها إنكارا للواقع وهدما للضرورة، وما دامت نبوة محمد، ونحن عليها، قد وقعت، فالنبوة جائزة حتى لا يقول أحد أنا لا أدري هل النبوات السابقة قد وقعت أم لم تقع؛ فإمكان وقوع النبوة من وقوعها بالفعل كما أن إثبات الحركة يكون بالحركة بالفعل، ولكن، ماذا نفعل بمن لا يسلم بوقوعها وينكر حدوثها بالفعل؟ هناك القرائن الحسية وفي مقدمتها الكتاب المدون والمقروء والنقل المتواتر. وهل يثبت الواقع فكرا؟ وهل تشرع الواقعة للمبدأ؟ نعم، فلا شيء يسبق الواقع شرعا، وشرعية المبدأ إنما تكمن في واقعيته، وفي علم أصول الفقه أن وضع الشريعة ابتداء ووضعها للأفهام هو في نفس الوقت وضعها للامتثال ووضعها للتكليف.
42
وهل يثبت العام من الخاص؟ فالعام تجريد والخاص واقع، كما تثبت النبوة في آخر مراحلها أولا قبل أن تثبت النبوات السابقة التي يخبر عنها في ختم النبوة المنقولة نقلا متواترا، وهناك فرق بين إمكان النبوة ووقوعها من ناحية وبين تحقيقها من ناحية أخرى، فالأولى إمكانية نظرية خالصة بينما الثانية إمكانية عملية تتحقق بحرية الأفعال.
43
وقد يكون الوحي ممكن الوقوع بدليل وجود الحدس والمعرفة المباشرة في الحياة الإنسانية، والحقيقة أن تفاوت البشر في العقول وإلهام البعض وإبداع البعض الآخر والذكاء الخارق لفريق ثالث لا يعني إثبات النبوة، بل يشير إلى إبداع الإنسان وقدراته على الخلق، والنبوة في النهاية ليست معرفة نظرية فقط، بل هي تشريع عملي وتحقيق فعلي، ولا يحتاج إمكان وقوع الوحي إلى إثبات وسائط غير مرئية أو مرئية، فالرؤية المباشرة لا تحتاج إلى وسائط.
44
وقد يثبت إمكان النبوة عن طريق نظريتي الصلاح واللطف؛ فالنبوة بها صالح العباد، وهي تفضل ولطف، وذلك إثبات للنبوة بالعودة إلى الحسن والقبح العقليين والعقل الغائي، كأحد مظاهر العدل.
45
وقد تثبت النبوة بدليل نظري خالص مستمد من التوحيد؛ أي وجود الله وصفاته، خاصة الكلام والقدرة، فالله متكلم وقادر؛ وبالتالي تكون النبوة من كلامه والبعثة في قدرته. النبوة ممكنة لأن أفعال الله جائزة، ولما كانت النبوة تستعمل أيضا طبقا لمنهج النص والشواهد النقلية لإثبات وجود الله، فإن استعمال وجود الله لإثبات النبوة وقوع في الدور. وما الفائدة من استعمال النبوة تراجعيا لإثبات وجود الله وقد تم من قبل إثباته في التوحيد؟ وكيف تثبت السمعيات العقليات؟ ولماذا تتراجع النبوة إلى المرسل أي إلى ما قبل النبوة، ولا تتقدم إلى المرسل إليهم وإلى الرسالة في التاريخ أي إلى ما بعد النبوة؟ وهل مصدر النبوة بالنسبة لنا الله أم أسباب النزول؟
46
وقد تثبت النبوة نظرا بأنها تعطي التفصيلات بعدما يعطي العقل العموميات، وفي هذه الحالة يكون العقل فوق النبوة، وتكون النبوة تابعة للعقل، وقد يستغني الإنسان بالعموميات عن التفصيلات؛ فالعموميات هي الأساس، وما التفصيلات إلا تطبيقات فرعية لها، العموميات هي الروح والتفصيلات هي الجسد. وماذا لو قال آخر إن النبوة تعطي العموميات في حين يجتهد العقل في استنباط التفصيلات وهو أقرب إلى صلة النبوة بالعقل؟ أما المجربات فهي من العلم الطبيعي وليست من الوحي، ولا يمكن أن تتوقف العلوم الطبيعية والتجريبية على السمع، فإذا كانت التجربة ليست يقينية لتغيرها حسب الأفراد، فإنها مطردة من فرد إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، كما أن العقل ليس هو العقل الصوري المجرد، بل هو العقل الشامل للطبيعة والتاريخ ومجرى العادات وشهادة الحس والوجدان؛ أي كل ما لدى الإنسان من بديهيات حسية أو عقلية أو وجدانية أو إنسانية عامة تؤيدها تجارب العصور وخبرات الشعوب. أما المعارف النظرية الأخرى مثل معرفة الله وصفاته، فالعقل قادر على الوصول إليها بعد أن أصبحت من مكتسبات التوحيد. أما أمور المعاد مثل الوعد والوعيد وكل ما يتعلق بالغيبيات فلا تثبت إلا بعد ثبوت النبوة؛ لأن طريق العلم إليها الروايات والأخبار.
47
وقد تثبت النبوة عملا بإثبات حاجة الإنسان إلى التعاون؛ وبالتالي إلى الرئاسة . ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يقيم معاشه إلا بالاشتراك مع آخر، لزمت النبوة كي تضع قانونا ينظم العلاقات الاجتماعية وتسن الشرائع وتضع النظم، وكأن النبوة لا تثبت إلا ببيان أن الإنسان وحش لأخيه الإنسان، وأنه لا بد من حاكم عادل ونظام وشريعة لصلاح الخلق تأتي من الخارج لتحقيق الصلاح مع غياب أي تصور داخلي لعقد اجتماعي حر قادر على تحقيق التعاون وتنظيم شئون الرئاسة. إن تنوع حاجات الإنسان النظرية والعملية أيضا لا محدود، لديه الحدس والاستدلال، العلم الضروري والعلم النظري، ولديه القدرات الفردية والجماعية على العمل والتحقيق، فإذا ما أعطت النبوة النظر والعمل لتلبية حاجات الإنسان إلى معلم أصبح الإنسان قاصرا في حاجة إلى وصي، وكأن الإنسان عاد إلى ما قبل النبوات، وكأن النبوة لم تصل بعد إلى خاتمها. ولماذا تثبت النبوة بتدمير الإنسان وجعله قاصر الفهم والإدراك، عاجزا عن الفعل والحركة، تفرض عليه الوصاية بدعوى الهداية؟ يبدو أن حجج وجوب النبوة قد عادت لإثبات إمكانها حتى لحق الإمكان بالوجوب، وكأن الإمكان هو مجرد وجوب مقنع.
48
إن إمكان النبوة قد يؤدي إلى الأدوار الآتية: (أ)
يعطي الوحي بداية يقينية مطلقة حتى يتجنب الإنسان محاولات الخطأ والصواب إلى ما لا نهاية، ويبقى احتمال الخطأ في الفهم والتطبيق أقل. صحيح أن العقل قادر على الوصول إلى هذه البدايات اليقينية، ولكن الوحي يقصر الوقت ويقلل الجهد ويعطي دفعة للعقل بالأوليات الأولى، ثم تكون مهمة العقل بعد ذلك الاستدلال وإيجاد الأنساق المحكمة والتطبيقات العملية والتكيف حسب الزمان والمكان. علاقة الوحي بالعقل إذن هي علاقة الحدس بالبرهان، علاقة المقدمات بالنتائج. إن البداية اليقينية شرط لليقين في الاستدلال، وإن الفكر كله هو علم البدايات أو علم الأوليات، خاصة أن هذه البدايات قد تم تجريبها في الوعي الإنساني على مدى تطور البشرية، وأصبحت مجربة من قبل ومحققة في التاريخ. (ب)
قد يشرع الوحي لبعض الأعمال ويسن بعض النظم والقوانين محققا بذلك النظريات في صيغة تشريعات؛ وبالتالي يقوم بتأسيس النظر والعمل معا. ولا يعني ذلك مجرد الشعائر التي قد تكون ضرورية للعامة كطريق للعمل الصالح، بل أيضا النظم السياسية والاقتصادية التي يجهد المنظر نفسه في الوصول إلى أفضلها وأكثرها تحقيقا للمصالح العامة. وعندما يقوم ذهن واحد بوضع النظريات والتشريعات المستنبطة منها يكون ذلك أقل احتمالا للخطأ من وضع النظريات وحدها وترك التشريعات لاستنباط ذهن آخر. الوحي هنا ضرورة عملية لما كانت حياة الناس في حاجة أولا إلى نظم وتشريعات حتى وإن لم تدرك الأسس النظرية التي تقوم عليها، ويبقى للذهن البشري أيضا استنباط نظريات تفصيلية من التشريعات العامة طبقا للزمان والمكان، وكلما كان الضبط في البدايات أحكم كانت الدقة في الاستنتاجات أعظم، فإذا كان الحدس الأول هو حكمة التشريع أو فلسفته، فإن النظرية العامة تكون هي أساس استنباط القوانين وصياغة التشريع. (ج)
يعطي الوحي نظرة كلية شاملة للحياة مقابل النظرة الإنسانية المتجزئة؛ فنظرا لوضع الإنسان في زمان معين ومكان معين وفي مجتمع محدود في طبقة بعينها؛ أي باختصار نظرا للموقف الإنساني ولكل المحددات الإنسانية، لا يستطيع الإنسان إلا أن يدرك موقفه الخاص مهما كانت لديه من قدرة على الحياد والتجريد وعلى العموم والشمول. يستطيع الوحي أن يقابل هذه التجزئة ويعطي نظرة شاملة كلية للحياة؛ وبالتالي يأمن الإنسان من الوقوع في وجهات النظر الخاصة المحددة، ونظرا لما قد ينتاب النظرة الخاصة من نقص في الحياد ومن صعوبة التمييز بين الرأي والهوى، فإن الوحي يحمي من هذا الخطر؛ فالوحي باعتباره تعبيرا عن الوعي الخالص يعطي تصورا محايدا لا يقوم على هوى أو مصلحة أو انفعال. صحيح أن الفيلسوف يمكنه أن يتجرد عن الهوى كما يمكنه أن يحقق حياد الشعور، ومع ذلك يظل الوحي يمثل ضمانا أكثر لعديد من المنظرين. الوحي إذن قادر على إعطاء هذه المعرفة الشاملة الموضوعية الخالية من وجهات النظر التي يتميز بها الإنسان، وخاليا من الأهواء والرغبات والتميزات التي تخضع لها الأحكام البشرية. حقائق الوحي منصفة غير متحيزة، لا تأخذ نظر فرد دون فرد أو مصلحة جماعة دون جماعة، وكأن التاريخ قد اكتمل والحقائق البشرية العامة قد عرفت. (د)
يمكن للوحي توفير الجهد وتقصير المسافة واختصار الشوط؛ فلو أن الإنسان بجهده الخاص أراد الحصول على النظريات ثم استنبط منها التشريعات لكان في حاجة إلى عدة أعمار. يأتي الوحي لتخفيف الحمل، ويكفي الإنسان مئونة البحث النظري في الأسس العامة للتطبيق حتى يكرس الإنسان وقته وجهده للعمل والتحقيق. ولا يعني ذلك إبطال الإنسان لعمل العقل، فمهمة العقل هنا عملية في التفسير وهو ما سماه الأصوليون تخريج المناط وتنقيح المناط وتحقيق المناط؛ أي معرفة العلل المؤثرة في الواقع والتي على أساسها قامت الأحكام، وهنا تمحى التفرقة بين العقل النظري والعقل العملي، بين فهم العالم وتغييره. النظر كيفية العمل، والفهم من أجل التغيير. أعطى الوحي اليقين النظري حتى يركز الإنسان جهده على التطبيق العملي؛ فلو ظل الإنسان طيلة حياته يبحث عن اليقين النظري فربما انقضى نحبه ولم يصل إليه بعد. فمتى يتمثل هذه الحقيقة ويستفيد منها؟ وماذا يفعل قبل أن يكتشفها؟ يمكن للوحي تقصير المسافة إلى النصف، فيعطي الإنسان اليقين النظري حتى يخصص عمره وجهده للتطبيق العملي. وإجابة على السؤال الأول: هل النبوة ضرورية أم ممكنة أم مستحيلة؟ يمكن القول بأن النبوة كانت ضرورية قبل آخر مرحلة فيها، قبل أن يكتمل الوعي الإنساني ويستقل عقلا وإرادة، ثم أصبحت ممكنة لحظة اكتمال الوحي، وهي الآن مستحيلة بعد اكتمال الوحي واستقلال الإنسان.
49
ثالثا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
إذا كانت النبوة جائزة؛ أي ممكنة الوقوع، فما الدليل على صدقها بعد وقوعها؟ هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟ وماذا تعني المعجزة؟ وما برهانها؟ وما شروطها؟ وما دلالتها؟ وما هي أنواعها؟ وهل هي ضرورية أم جائزة أم مستحيلة؟ وما الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر؟ وهل مستمرة باستمرار النبوة أم منقطعة بانقطاعها؟ لقد ركز القدماء على المعجزة لدرجة أنها أصبحت الموضوع الأول في النبوة، بل وبديلا عنها، فأصبحت الوسيلة غاية والغاية وسيلة، ولم تنج من ذلك حتى الحركات الإصلاحية الحديثة. (1) معناها، وشروطها، ودلالتها (أ) معناها
المعجزة في اللغة مأخوذة من العجز، وهو نقيض القدرة ونفيها، والمعجز في الحقيقة هو فاعل المعجز في غيره وهو الله، وزيدت الهاء للمبالغة؛ فالمعنى الأول للمعجزة هو إثبات عجز الإنسان ونفي قدرته وإثبات قدرة الله ونفي عجزه. المعجزة بهذا المعنى من الله أساسا وليس لها هدف آخر مثل صدق النبي، وكأن الله هو الذي في حاجة إلى صدق ألوهيته وتصديق الناس له، فلا تسمى معجزة النبي إلا مجازا لأن الله هو المعجز حقيقة، وسميت كذلك لأن من ليس نبيا يعجز عن الإتيان بما يظهره الله على النبي، ولكن يظل فاعل المعجز هو الله، وهو القادر على إظهار المعجز على النبي كدليل على صدق نبوته، وعلى من ليس بنبي كدليل على قدرة الله. ولما كانت المعجزات من الله يظهرها على النبي كدليل على قدرة الله، ففي هذه الحالة قد لا تكون دليلا على صدق النبي، بل مجرد دليل على قدرة الله القادرة على إظهار المعجز على النبي وعلى من ليس بنبي.
1
والحقيقة أنه لماذا تكون المعجزة من العجز، عجز الإنسان وقدرة الله؟ هل هذا احترام للإنسان وتعظيم لله أم أنه تعظيم لله على حساب الإنسان؟ وهل تثبت قدرة الله بإثبات عجز الإنسان، وهل عجز الإنسان شرط لإثبات قدرة الله؟ وهل نحتاج لإثبات قدرة الفيل إثبات عجز النملة أو لإثبات قدرة الأسد إثبات عجز الفأر، تعالى الله عما يصفون؟ ألا يمكن إثبات قدرة الإنسان وقدرة الله في نفس الوقت؟ إن إثبات قدرة الله ليس تعظيما له ما دامت على حساب قدرة الإنسان، وإن قدرة الله أعظم من أن تثبت بعجز الإنسان. فإذا كان هدف المعجزة إثبات قدرة مطلقة فوق قدرة الإنسان المحدودة، فهذا ليس غاية الوحي، بل إن غاية الوحي عكس ذلك تماما، إثبات أن لا قدرة فوق الإنسان، وأن الإنسان قادر قدرة مطلقة. غاية الوحي رفض قوى الطبيعة والسيطرة وقوى الطغاة العاتية وقوى البخت والمصادفة وكل القوى غير العاقلة. إذا كانت الغاية من المعجزة إثبات قدرة مطلقة، فهذه لا تحتاج إلى إثبات. إذا كانت الغاية منها إثبات عجز الإنسان أمام القدرة المطلقة فهو كإثبات أن الفيل قادر على سحق النملة، كما أن ذلك موضوع قد سبق إثباته في التوحيد في الصفات، العلم والقدرة والحياة. وكيف يوضع الإنسان والله متكافئين في الإثبات والنفي؟ وكيف تصور العلاقة بينهما عكسية وليست طردية؟ إن الأولى عند إثبات قدرة الله إثبات قدرة الإنسان، فالعلاقة بينهما علاقة الوعي الخالص بالوعي المتعين، علاقة الإنسان الكامل بالإنسان المتعين، فكلاهما وعي خالص والخلاف فقط في درجة التعين، كما أن إثبات عجز الإنسان حطة في شأنه وتجويز العبث والظلم على الله. فكيف يخلق الله إنسانا عاجزا ثم يطالبه بالتكليف؟ وإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، فالأولى أن يخلق الله القادر الإنسان قادرا، ولو كان الإنسان عاجزا لكان الله عاجزا مثله، تعالى الله عما يصفون.
وقد يزاد على هذا المعنى الأول معنى ثانيا يبرز دور المعجزة كدليل على صدق النبي، وهو الغاية من المعجزة، ويجعل هدفها ليس بدايتها قدرة الله، بل نهايتها الدلالة على صدق النبي. وهو تعريف للشيء بعلته الغائية في مقابل تعريفه كما سبق بالعلة الفاعلة؛ لذلك يتم البحث في هذا المعنى عن المعجزات الدالة على نبوة الأنبياء، وفي صفاتها اليقينية، ودلالتها، واختصاص الأنبياء بها، وما يجوز فيها وما لا يجوز، وفي صفة المبعوث وما يتعين به من غيره في أحواله التي يجب أن يكون عليها، كما يتم البحث فيمن تظهر المعجزة عليه، وحاجة النبي إليها، وكيف يستدل بها على صدقه، وفي معجزات كل نبي حتى إعجاز القرآن في آخر مرحلة في الوحي وختم النبوة.
2
وقد يزاد معنى ثالث على المعجزة عندما تصبح خرقا لقوانين الطبيعة وأمرا على خلاف العادة، وهنا يكون معناها ليس بالعلة الفاعلة وهو الله أو بالعلة الغائية وهي الدلالة على صدق النبي، بل بالعلة المادية؛ أي كظاهرة طبيعية على خلاف العادة، مناقضة لقوانين الطبيعة ويصاحبها التحدي؛ تحدي البشر على الإتيان بمثلها أو على معارضتها ومنع وقوعها؛ وبالتالي إعلان الإنسان عجزه عن المعارضة وعلى الإتيان بمثلها.
3
والسؤال الآن: هل يمكن خرق قوانين الطبيعة ؟ أليست سنن الكون دائمة وثابتة حتى يمكن للإنسان إدراكها وتسخيرها؟ وما فائدة التحدي مقرونا مع عدم المعارضة؟ إن التحدي لا يكون صحيحا قائما على تكافؤ الفرص إلا إذا كان مقرونا بالقدرة على المعارضة. هل عدم المعارضة فضيلة؟ وهل النموذج الأسمى لفعل الإنسان هو التسليم بالعجز والإذعان؟ أليست مأساة المسلمين اليوم في الإذعان لقوى القهر والاستسلام للطغيان وعجزهم عن المعارضة؟ ولقد تحدى الشيطان من قبل وأصبح التحدي عاملا مؤثرا في الدنيا وأصبح كل شيء مجندا، الأنبياء والرسل، والشرائع، والعقول، لمواجهة تحدي الشيطان. (ب) شروطها
ويمكن استنباط شروط المعجزة من جملة تعريفاتها السابقة؛ فمن شروطها أن تكون من فعل الله أو ما يقوم مقامه، وأن تكون خارقة للعادة دون أن يكون ذلك في مقدور النبي، وأن تتعذر معارضتها، وأن تكون ظاهرة على مدعي النبوة حتى تكون دليلا عليها، وألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذبا لها، وإلا تكون متقدمة على الدعوى بل مقارنة لها، فالتصديق قبل الدعوى غير مقبول وأن يتم ذلك في زمن التكليف قبل زواله أو بعده أو بعد الموت، ويشترط أيضا التحدي بها أو الاكتفاء بقرينة.
4
وبعض الشروط تخل بالتعريفات الأولى ومناقضة لها، مثل أن تكون من فعل الله أو ما يقوم مقامه، وليس هناك من يقوم مقام الله أو يقدر على المعجزات سواه بما في ذلك الرسول أو «الملاك»، وأن التطابق مع الدعوة وعدم الاختلاف معها لا يكون بمجرد تطابق القول مع المعجزة، بل بمقياس آخر للصدق، مثل تطابق القول مع العقل أو المعجزة مع الواقع، وكثير من المعجزات تتم قبل التكليف للنبي، بل وقبل ولادته كما هو معروف في البشارة، وبعد مماته في الظواهر الطبيعية مثل الرعد والبرق ساعة الموت.
5
وإن توقفت المعجزات بنهاية التكليف أو بالموت فالكرامات مستمرة بعد الموت، وقد يقال إنها قبل البعثة أو بعدها كرامة وأثناء البعثة معجزة.
6
ومن المعنى الأول للمعجزة، الله هو الفاعل للمعجز، وهو أيضا الشرط الأول، أن يكون هو الفاعل أو غيره. يميز القدماء بين نوعين من المعجزة؛ الأول ما لا يقدر على جنسها غيره، مثل إحياء الأموات، وإبراء الأكمه والأبرص، وقلب العصا حية، وفلق البحر، وإمساك الماء في الهواء، وتشقيق القمر، وإنطاق الحصى، وإخراج الماء من بين الأصابع؛ والثاني خلق الله اختراعا وكسبا لصاحب المعجزة، مثل إقدار الإنسان على الطفر والصعود إلى السماء، وقطع المسافة البعيدة في الساعة القصيرة، وإطلاق لسان الأعجمي بالعربية مما لا تجري به العادة.
7
فمقياس التصنيف ما يدخل تحت قدرة الله وما يدخل تحت قدرة العباد، أو حدوث فعل غير معتاد مثله، وتعجيز الفاعل بشيء معتاد عن فعل مثله.
8
وفي كلتا الحالتين يكون مقياس التصنيف القدرة الإلهية والعجز الإنساني، أو على أكثر تقدير القدرة الإلهية والاكتساب الإنساني، وعند الحكماء المعجزة ثلاثة أنواع: ترك وفعل وقول. الترك مثل الإمساك عن التحدث بخلاف العادة، والفعل لا يأتي إلا من النبي، مثل فتق الجبل أو شق البحر، والقول إخبارا بالغيب والتنبؤ بالمستقبل. ويفسر الحكماء المعجزة تفسيرا نفسيا؛ فالترك هو انجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن البدن، زهدا في العالم، وقدوة للغير، وهو معروف عند أصحاب الرسالات وكبار القواد والزعماء في موقفهم من العالم؛ فالمعجزة تعبير عن قدرة النفس الخالصة على الإتيان بما لا تستطيعه النفس قبل الصفاء، قدرتها على المعرفة والاستكشاف، في حين أن الصوفي يقرن النظر بالعمل في المعجزات ويجمع بين معجزات المتكلمين العملية ومعجزات الحكماء النظرية.
9 (ج) دلالتها
هل تدل المعجزة على صدق النبي؟ عند القدماء إذا قام النبي بمعجزة واحدة وعجز الناس عن معارضتها، فقد لزمتهم الحجة وكانت دليلا على صدق النبي ووجوب تصديقه ووجوب طاعته.
10
ولا يجوز لهم مطالبته بمعجزة أخرى؛ فإن عصوه جاز لله عقابهم على عدم تصديقهم بالمعجزة الأولى، وكأن المعجزة ليست للتكرار.
11
ويكاد يجمع القدماء على أن البرهان خارجي وهو المعجزة سواء كانت واجبة أو ممكنة أو مستحيلة. فهل تؤدي المعجزة إلى تصديق الرسول، وهي برهان خارجي عن طريق القدرة وليس داخليا عن طريق اتفاقها مع العقل أو تطابقها مع الواقع؟ وكيف يتم التصديق بالمعجزة دون وسائل المعرفة وطرق العلم وخارج نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ وهل تؤدي المعجزة إلى الطاعة والانقياد دون إعمال للعقل أو التحقق من مضمون الخبر غاية ومصلحة وواقعا؟ ولماذا لا تتكرر المعجزة للتأكيد وللتيقن كما تتكرر التجربة كأحد شروط صدقها؟ وكيف يثبت الله أو يعاقب بناء على تجربة واحدة تصديقا أو إنكارا. لقد أخبر الوحي عن عشرات المعجزات لنبي واحد، واحدة تلو الأخرى، يتم التصديق ثم الإنكار للأولى، ثم التصديق والإنكار للثانية وهكذا دونما يأس أو ملل. وإن المجريات، وهي تكرار للمحسوسات والمشاهدات لجزء من مادة العلم طبقا لنظرية العلم. وماذا كانت النتيجة في النهاية؟ وقعت معجزات بالمئات ولم يصدق الناس بالأنبياء، بل وازداد البعض منهم كفرا وعصيانا، في حين عندما توقفت المعجزات بمعنى خرق قوانين الطبيعة وأصبح الدليل على صدق النبوة داخليا أي عقلا وواقعا، نظرا وعملا، فكرا ومصلحة، آمن الناس وأسسوا مجتمعات وأقاموا دولا وفتحوا العالم القديم.
12
وأن الذين صدقوا بالأنبياء عن طريق المعجزات لأقل من الذين صدقوا بهم عقلا وواقعا ومصلحة وتشريعا.
13
إن التصديق بالنبوة إنما يتم باتفاقها مع العقل ومع مصالح الناس وليس بالمعجزة، طالما لم تؤد المعجزة إلى التصديق بالنبوة وطالما انتفت شروطها؛ إذ لا يكفي في صدق المعجزة سلامتها عن المعارضة، فقد تكون عدم معارضتها ناشئة من جهل مؤقت بقوانين الطبيعة التي خيل للناس نقضها، والمعجزة غير الآية؛ فالآية ليست معجزة لأنها دليل متسق مع الطبيعة والعقل في حين أن المعجزة ضد الطبيعة وضد العقل. الآية صادقة في حين قد تكون المعجزة خادعة بالسحر. بالأولى خطورة خطأ الإدراك والتفسير وعدم رؤيتها، وبالثانية خطورة عدم التصديق. وإذا كانت المعجزة تصيب الإنسان بضآلته وجهله وعجزه أمام الطبيعة، فإن الآية تعطيه الثقة بعقله وبالقدرة على معرفة قوانين الطبيعة واستقرائها وتسخيرها لصالحه، وإذا كانت المعجزة تجعل الكون سرا مغلقا لا يمكن الدخول فيه فإن الآية تجعل الطبيعة كتابا مفتوحا، وموضوعا للتأمل والبحث، تسهل القراءة فيه.
14
والآية هي في نفس الوقت ظاهرة طبيعية وآية قرآنية، فالتأمل في الطبيعة هو تأمل في النص، وفهم النص هو رؤية للطبيعة، والظاهرة الطبيعية قد تكون الأرض والسماء أو الشمس والقمر، أو الليل والنهار، أو الرياح والبرق، أو نباتية أو حيوانية أو إنسانية، وليس فيها معنى المعجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة وقوع شيء على غير المألوف والمعتاد.
15
وتدل المعجزة عند القدماء بأن يخلق الله العلم بالصدق بعد وقوع المعجز؛ فالله هو الذي أوقع المعجز وهو الذي أحدث العلم دونما نظر أو استدلال؛ وبالتالي يكون السؤال: وما فائدة المعجزة إذن والله قادر على خلق العلم مباشرة دونما حاجة إلى مناسبة؟
وهل المناسبة مجرد عادة وبالتالي يكون التصديق مجرد ارتباط عادات بين النبي والمعجزة؟ وإذا كانت المعجزة تظهر أيضا على يد الكاذب فما أهميته كدليل على صدق النبوة؟ وما مقياس التصديق بين النبي الصادق والنبي الكاذب ما دامت المعجزة تظهر على كليهما، وما دام التصديق بها مجرد ارتباط بين عادات، بين النبي والمعجزة؟
16
ثم كيف تقام صحة الأصل على صحة الفرع؟ كيف يقاس صدق النبوة، وهو الأصل، على صحة المعجزة وهي الفرع؟ أليس ذلك دورا؟ فالعلم بصحة المعجزة من صدق النبوة، والعلم بصدق النبوة من صحة المعجزة!
17
إن المعجزة هي في النهاية حديث بلغة العصر وتحد لمستواه العلمي وتجاوزه إلى مستوى آخر يجمع بين العلم والفاعلية في الطبيعة، مثل موسى والسحر، وعيسى والطب، ومحمد والبلاغة؛
18
وبالتالي فهي ليست ضد العقل أو العالم، بل هي تقدم للعقل وتطوير للعلم. (2) استحالة المعجزة
إن لم تكن المعجزة مستحيلة عقلا لأنها واقعة مشاهدة عند بعض القدماء والمحدثين، فإنها عند البعض الآخر مستحيلة نظرا وعملا، إمكانا ووقوعا؛
19
فالبناء العقلي الذي تقوم عليه المعجزة بناء هاو لا أساس له، ويمكن التحقق من تهاوي هذا البناء بالعودة إلى معاني المعجزة وشروطها ودلالتها، وتقوم استحالة المعجزة على إنكار العلم بها.
20
فلا يكفي القول بأن الله خالق ومالك كل شيء لبيان إمكان المعجزة ووقوعها؛ فهذا هو تصور المجبرة، يفعل في الطبيعة ما يشاء؛ فلو كان ذلك صحيحا لما احتاج إلى رسول ومعجزة وتصديق وحساب وعقاب؛ فباستطاعته أن يخلق علما وتصديقا وإيمانا وثوابا للجميع، وقد تكون من فعل الرسول لتميز نفسه على باقي النفوس بصفائها وقدراتها الخاصة على التخيل، أو لمزاجه الخاص وقدراته الإبداعية المتميزة على غيره أو لكونه ساحرا عليما ببعض الطلسمات وببعض المركبات، كالمغناطيسية والكهرباء والضوء والصوت وسائر قوى الطبيعة، لعله علم ببعض الأجسام النباتية أو الحيوانية لها خواص عجيبة لا يعلمها الآخرون وليست لباقي الأجسام المألوفة، ولعله متصل ببعض «الجن والشياطين» والأرواح الفلكية أو الملائكة يعينونه عليها ويجعلونه أقدر من غيره على الإتيان بالأفعال غير المعتادة، ولعله تعلم صناعة النجوم وتأثيرها على هذا العالم واستعمل هذا الفن للتأثير على الناس إن حقيقة أو إيهاما، ولعل ما يقع منه كرامة لا معجزة، مجرد أفعال لأولياء يتخيلها الناس فيها لأنهم ينتظرون منهم أشياء على غير المألوف ما دامت حياته كلها كذلك.
21
ومع أن الكرامة من نفس نوع المعجزة إلا أنها أخف وطأة وأكثر مشاهدة وأقرب إلى الفهم، والمعجزات قدح في العقل وإنكار لبديهيات العقول ورجوع بالتطور البشري إلى الوراء قبل ختم النبوة، حيث كان العقل يقف عاجزا عن فهم قوانين الطبيعة، فيلجأ إلى السحر والعبادة درءا للخوف واتقاء للمخاطر، كما أنها إنكار لقوانين الطبيعة؛ فالمعجزة قدح في العقل وقدح في الطبيعة. وإن تكرار المعجزات إنما يدل على أنها ليست خوارقا للعادات، وإنما هي حوادث تتكرر على مدى العصور، في كل زمان ومكان؛ وبالتالي ينتفي منها الطابع الفريد، فإذا ما تكررت الحوادث الفريدة فإنها لا تصبح معجزة، وقد تحدث الحوادث الفريدة في قطر آخر أو بفاعل آخر ولا تكون فريدة فيه أو عنده، ويجوز العقل وقوع أمثالها في الماضي والحاضر والمستقبل. ما يهم فقط هو رصد حوادث التاريخ ومعرفة تاريخ السير والأبطال وحياة القادة العظام، وإذا ما تكررت الحادثة الفريدة أمكن إخضاع التكرار لقانون، وأصبحت الحوادث الفريدة كلها إنما تتم طبقا لقانون طبيعي، وتصبح حوادث طبيعية، بل إن خرق الحادثة الواحدة الفريدة للقانون الطبيعي العام إنما يتم وفقا لقانون آخر وليس ضد القانون الأول، ويساعد تكرارها على اكتشافه؛ ومن ثم تنتظم قوانين الطبيعة فيما بينها من حيث الخصوص والعموم، ما يصدق على بعض الظواهر، وما يصدق على بعض آخر أعم من الأول.
22
وقد تكون المعجزات في النهاية من فعل الأجسام بطباعها وليس خرقا لقوانينها، وتحدث طبقا للطبائع وليس قلبا لها؛ فقوانين الطبيعة ثابتة لا تخرق بفعل أحد، وإن خرقها لأدل على النفي منه على التصديق، وأدعى إلى زعزعة الثقة بالعقل وبالعلم منه إلى إعطاء معرفة أو تصديق بديل. هناك إذن قوانين الطبيعة وخواص الأشياء التي تمنع من التصديق بالمعجزة؛ بمعنى مناقضتها لها وجريانها على غيرها. المعجزات إذن ليس شيء منها من فعل الله؛ فالله قد خلق الأجسام ثم خلقت الأجسام الأعراض بأنفسها، وليست المعجزة حدوث أجسام وإنما حدوث أعراض في الأجسام على وجه لم تألفه العادة، والمتولدات من أفعال لا فاعل لها إلا الأجسام التي تتولد عنها الأعراض.
23
إن القول بالطبائع ليس إنكارا للصفات عامة وللكلام خاصة، أو إنكارا للشرع وإسقاطا للتكليف؛ فهذا إرهاب باسم الذات والصفات للعلم وللحرية.
وإن تم التسليم بأن فاعل المعجزة هو الله، فلم يفعلها من أجل التصديق وأفعال الله غير معللة بعلة أو بفرض أو بغاية؟ ولماذا لا تكون المعجزات ابتداء وهو أقرب إلى نفي العلية والغائية. وقد تكون المعجزة تكرارا لعادة متطاولة، أو كرامة لولي، أو إرهاصا لنبي آخر، أو امتحانا لعقول المكلفين وليس بالضرورة للتصديق. وما حاجة الله إلى المعجزة وبقدرته مشافهة الخلق أو خلق التصديق فيهم بلا وسيلة أو ذريعة أو مناسبة؟ وهل المعجزة دليل صدق؟ وهل الصدق خارجي ضد العقل والطبيعة أم داخلي باتفاقه مع بداهة العقل وقوانين الطبيعة ومصالح الناس؟ وقد يقع التصديق بالإيهام أو بالاجتهاد أو بالتأويل، كما هو الحال في المتشابهات، فيكون للمصدق نعم الثواب، بل إن التصديق على هذا النحو متعذر؛ فإما أن يتم التصديق بنفس دعوى النبي وخبره فيه احتمال الصدق والكذب، وإما أن يتم بأمر خارجي، إما بمشافهة مع الله، أو باقتران قول يدل على صدق الرسول، ويكون هذا القول المقترن إما في مقدوره، وبالتالي يكون في مقدورنا، أو في مقدور الله وحده، معتادا وبالتالي يكون في مقدورنا، أو على غير المعتاد فيكون فعلا لله وحده يثبت قدرته ولا يثبت صدق النبي. وطالما سأل نبي معجزة في وقت معين أو مكان معين، فلم تحدث لأنها مخصصة بمشيئة الله وإرادته. إن اقتران بعض المعجزات بدعوات الأنبياء إنما كانت من قبيل الاتفاق وبمحض المصادفات، كما أن وقوعها قبل دعوته أو بعدها لا يكون دليلا على صدقه إن لم يكن دليلا على كذبه.
24
وما العمل إذا شك الناس حتى بعد وقوع المعجزات ولم يحدث التصديق بها؟ هل من الضروري وجود معجزة خاصة لكل مصدق، وإلا فليس أمامنا إلا التقليد أو الخبر أو الإيمان بلا دليل؟ وماذا تفعل الأجيال التي لم تلحق بالأنبياء وتشاهد معجزاتهم؟ هل تستمر المعجزات لهم وتتكرر جيلا بعد جيل، وبالتالي لا تصبح معجزات فريدة بواقع التكرار، أم تتوقف المعجزات وتصبح الأجيال اللاحقة بلا دليل على صدق النبوة؟ ليس أمام الأجيال الحالية إلا التصديق بالأنبياء السابقين بناء على روايات المعجزات إن كانت متواترة، وبالتالي يكون الخبر المتواتر بالنسبة لها هو الدليل على وقوع المعجزة. وإذا كان الخبر المتواتر دليلا فالأولى أن يكون كذلك مباشرة على صدق النبوة، بتواتر الكتاب مباشرة ووصوله بلا تحريف أو تبديل، بلا زيادة أو نقصان، خاصة وأن النبوة هي علاقة المرسل إليه بالمرسل إليهم، وهي الرسالة وليست علاقة المرسل بالمرسل إليه وهي النبوة.
25
وإن تم التسليم بأن الله فعلها من أجل تصديق المدعي، فلماذا يكون كل من صدق الله فهو صادق؟ يحدث هذا إذا ثبت أن الكذب على الله محال، وهذا لا يتأتى إلا بإثبات الحسن والقبح العقليين في أفعال الله، وإلا لاستحالت معرفة امتناع الكذب عليه. إن ارتباط العجز بصدق الله يوجب على الله الصدق، وهو مخالف لأصل عدم وجوب شيء عليه، وإن عدم وجوب الصدق يجوز الإضلال على الله؛ وبالتالي يجوز إظهار المعجزات على يد كاذب، ولا يظهرها على يد صادق، دون أن يكون في ذلك نقض للألوهية وإضرار بالربوبية ، وإن كثيرا من الأنبياء لم تربط دعوتهم بالآيات والمعجزات أو بتصديقها؛ مما يدل على ارتباط صدق الرسول بالمعجزات، حتى ولو أمكن التمييز بين المعجزات والكرامات من ناحية، وبين السحر والطلسمات من ناحية أخرى، فكيف يتم التصديق بالأولى وتكذيب الثانية، والكذب والإضلال والغواية وكل القبائح تجوز على الله، ما دام الله لا يجب عليه شيء؟
26
وكيف يجيز الله أمثال هذه المعجزات على أيدي الكذبة لإضلالهم دون أن يوقفهم أو ينهيهم أو يحذرهم أو يخبر الناس بها؟ وهل يجوز على الله الإضلال والله لا يفعل القبيح؟ شرط النبوة أنها من الله صدقا، وأن الله لا يفعل الكذب شرط أساسي به يمكن التفرقة بين المعجزة على يد صادق والمعجزة على يد كاذب، وأن ظهور المعجزات على أيدي الكذابين مدعي النبوة إنما يدل على أن المعجزة ليست دليلا على صحة النبوة، وإذا كانت المعجزة تقع من غير الأنبياء فما الدليل على أن كل من تقع منه المعجزة ليس نبيا؟ وإذا وقعت المعجزة على أيدي الكذبة فما الدليل على صدق النبي حتى ولو أتى بمئات المعجزات؟ وما الفرق بين المعجزة التي تقع على يد النبي الصادق وتلك التي تقع على يد النبي الكاذب؟ وما الفرق بينهما لو كان كلاهما خرقا لقوانين الطبيعة، وجريانا على غير المألوف، وسريانا على نقيض العادة؟ وحرصا على الصدق الإلهي وصدق النبي، فإن الأقرب هو عدم ظهور المعجزة على أيدي الكذابين، حتى ولو كان في ذلك عدم إعطاء الأولية المطلقة للقدرة الإلهية على صدق النبي. أما ظهور المعجزة أو الكرامة على أيدي أعداء النبي، مثل «إبليس» أو فرعون، فإنه ممكن لاستدراجهم ثم عقوبتهم، وهي في هذه الحالة تسمى قضاء حاجات ليزدادوا طغيانا وليزدادوا عقابا. وكيف يجوز ذلك على الله؛ استدراج الأعداء لزيادة العقاب، تكذيبهم وإبطال المعجزات والكرامات لهم؟ ألا يعود الأمر من جديد كما كان، ظهور المعجزة على أيدي الكذابين وأعداء النبي، فيبطل الصدق الإلهي، كما يبطل صدق النبوة، وتعجز الإرادة الإلهية، وتقوى إرادة الأعداء؟
27
أما بالنسبة لمقارنة المعجزة بالتحدي وعدم المعارضة، فقد لا يبلغ التحدي كل القادرين على المعارضة، ولعل القادرين تركوا المعارضة تواضعا، إعلاء لكلمة الله، أو خوفا من السيف، أو انشغالا عنها بشئون المعاش، وقد تتم المعارضة ولا تظهر؛ لإخفائها وطمس آثارها. وإن كان البعض قد عجز عن المعارضة فلربما لا يعجز البعض الآخر، بل إن عجز البعض الأول لا يدل على صدق النبي، بل على تفاوت القدرات في الفاعلية والأثر. وشرط التحدي أن يكون المتحدى بمثله داخلا تحت القدرة حتى يصح التحدي، وإلا لو طلب من الإنسان زحزحة الجبال أو إحداث زلزال فلا يكون تحديا بل تعجيزا. وإن كان التصديق يتم ضرورة، فإن الضرورة أيضا ليست بأولى بالتصديق من التكذيب، ورؤية المعجزة على أنها سحر أو رؤيتها على أنها معجزة يظهر دافع العناد.
28
فإذا كانت المعجزة دليل الصدق الوحيد على النبوة، واستحالت المعجزة استحالت النبوة بدورها، وإن لم يكن للناس طريق آخر لإثبات النبوة غير طريق المعجزات الخارقة للعادات وبطلت المعجزات بطلت النبوات، وحوصر الطريق إلى الله. وما الذي جعل المعجزة هي الطريق الوحيد لإثبات النبوة وأولى بالدلالة عليها من غيرها؟ وهي لا تصدق النبوة إلا بهذا الطريق القائم على وجود المحال الممتنع في العقل والطبيعة؟ إن المعجزة إنكار لمبادئ العقل الثابتة ولقوانين الطبيعة المطردة، فكيف تكون دليلا على وحي يستند أساسا إلى مبادئ العقل وقوانين الطبيعة؟ وكيف تكون الأعراض دليلا على وجود الله. إذا كانت المعجزة تغيرات في الأعراض وجريانها على نحو غير مألوف على الأجسام، فكيف تكون الأعراض، وهي مشروطة بالأجسام ولا تستقل بذاتها، دليلا على وجود الجواهر المفارقة؟ إن العرض لا يؤدي إلى جوهر، والمشروط لا يؤدي إلى الشارط، كما أن الفرع لا يثبت الأصل، والمعجزة فرع والنبوة أصل.
29
وما الفائدة من إثبات النبوة بالمعجزة الآن، والنبوة واقعة مسلم بها في حين أن التسليم بالمعجزة أقل؟ لقد كان الزمن الماضي زمن نشر الرسالة والرد على منكريها وليس الأمر كذلك الآن. إن التحدي الآن هو تحويل الوحي إلى علم يقوم على العقل، ويستند إلى الطبيعة ، ويحقق مصالح الناس، أو بلغة العصر تحويل الوحي الذي أتت به النبوة إلى أيديولوجية تملأ في الناس فراغهم النظري، وتقضي على فتورهم ولامبالاتهم وتجندهم؛ لاسترداد حقوقهم، والدفاع عن استقلالهم وحرياتهم، والمحافظة على أراضيهم وثرواتهم.
لقد لاحظ القدماء خاصة الحكماء أيضا التفسير النفسي للمعجزات؛ فإذا كانت المعجزات إما تركا أو فعلا أو قولا، فإن الترك يحدث بانجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن البدن زهدا في الحياة، وعلى ما هو معروف من سير كبار القادة والزعماء. والفعل تعبير عن القدرة المطلقة الناتجة عن الإحساس بالحق وضرورة بلوغ الهدف، والقدرة على الخيال؛ صعود الجبال، قطع الفيافي والقفار، عبور المحيطات، ركوب الهواء والصعود إلى القمر والكواكب. أما القول فإنه يعبر عن القدرة على التنبؤ بناء على إحساس بالتاريخ وشعور بمساره، وإدراك لقوانينه، ومعرفة بالمراحل الماضية، وبالمرحلة الحالية، وبالمرحلة المستقبلية. فالوعي النبوي هو وعي تاريخي، يعي دروس الماضي من تاريخ النبوة، ويعرف بنية الحاضر، ولديه رؤية واضحة للمستقبل.
30
وقد يتضخم البناء النفسي فيتحول من قدرة فعلية إلى وهم، ومن صورة إلى حقيقة، ومن باعث إلى شيء، ومن إيجاب إلى سلب، ومن عبقرية إلى جنون. هنا يتم الفصل بين الذات والموضوع، فتتضخم الذات على حساب الموضوع حتى تبلغ الذات الموضوع ويضيع الموضوع المتضخم، فينشأ الوهم وخداع الحواس، وينتهي العقل وتختفي الطبيعة. وهنا تغضب الطبيعة لموت المسيح، وينشق القمر وتنكسف الشمس لموت إبراهيم، ويسبح العصا بين يدي الرسول، ويحن الجذع إليه، ويشبع المئات بل والآلاف من لقمتين وسمكتين. وقد يتحول التفسير إلى تفسير اجتماعي سياسي، ويصبح الأنبياء زعماء سياسيين مهمتهم تسييس العامة وتجنيدها وتعبئة مقدرات الأمة وشحذ إمكانياتها؛ فالأنبياء في التاريخ القديم هم كبار المصلحين والمعلمين، بل والقادة، لنشر مثل ومبادئ تتجاوز عصورهم من أجل نقل الوعي الإنساني إلى درجة أرقى، ومرحلة تالية في طريق اكتمال النبوة، وإعلان استقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة.
31
وكرد فعل على إثبات النبوة بالمعجزة كبرهان خارجي، يكفي سماع الخبر من الرسول وتصديقه بلا حجة أو برهان أو دليل، أو حتى التأكد من صحة الخبر ما دام المطلوب هو التصديق بصرف النظر عن صورة الدليل.
32
إذا كان الدليل هو المعجزة، وإن لم تكن المعجزة دليلا، فالنبوة بلا دليل أفضل فإنها صريحة، ولكن كيف تجوز النبوة وكيف يسمع الوحي بلا تصديق؟ والحقيقة أن عدم الإتيان بالمعجزات، أو بدلائل إثبات صدق النبوة، لا يدل بالضرورة على انتفاء كل دليل على ذلك؛ فقد توجب النبوة بمجرد الخبر وصدقه الخارجي في التواتر وصدقه الداخلي في الاتفاق مع العقل والطبيعة ومصالح الناس، وأن مجرد سماع الخبر لا يكفي لصدق النبوة، وإن كان كافيا في المجتمعات المضطهدة المنتظرة أمامها المخلص وسماع ندائه وبلاغه، فالإمام يعبد ولا يمكنه إجراء المعجزات أمام كل المجتمعات؛ وبالتالي يكفي السماع بظهوره. والمطلوب تصديق الناس واتباعهم الأئمة، بصرف النظر عن البرهان ما دام البرهان هو المعجزة وليس العقل؛ أي خلب اللب وليس دليل العقل، استرعاء الانتباه واستيلاء الدهشة وليس المنطق والبرهان.
وقد سبب رد الفعل هذا رد فعل ثان، وهو المطالبة بالدليل الذي ليس هو المعجزة، فالمعجزة ليست دليلا، والخبر يحتمل الصدق والكذب؛
33
فلا يحتوي الوحي على معجزة من فعل النبي؛ أي دليل خارجي دون تصديق داخلي، ولا يكفي مجرد الخبر دون صحة تاريخية مشروطة بالتواتر. ليست المعجزة دليلا خارجيا يمكن الاعتماد عليه والتصديق به، بل مجرد شاهد خارجي على قدرة الرسول، لا يمكن التحقق من صدقها إلا بدليل الحس وبداهة العقل وشهادة الوجدان. المعجزة برهان خارجي وليست برهانا داخليا، والتصديق لا يكون خارجيا، ولا يكون إلا داخليا. ليست المعجزة دليلا على صدق خاتم الرسل، في آخر مرحلة من مراحل الوحي، بل دليل الوحي ذاته من النواحي الأدبية والفكرية والتشريعية، وليس ذلك معجزة بل إعجازا. ربما قامت المعجزات في المراحل السابقة للوحي لإيقاظ الشعور، وتحريره من سيطرة القوى المادية والسياسية، ولكنها لا تستطيع أن تحرر الشعور بطريقة أبقى، أكثر دواما، وأشد رسوخا، بل إن المعجزة بوضعها القديم تأخذ مدلولا جديدا وهي قدرة الإنسان المطلقة على الفعل، وتخطي العقبات، وعلى عدم وجود المستحيل أمامه. الرسول هو القدوة في تطبيق الوحي، والنموذج الأول لهذا التطبيق، والتجربة الرائدة في هذا المجال.
إن دليل النبي هو صدق رسالته بتطابق ما يأتي به مع العقل والواقع ومصالح الناس؛ فالدليل ليس خارجيا من المرسل، بل داخليا، من الرسالة ذاتها. ليس دليلا خارجيا من معجزة أو بتدخل إرادة خارجية من الله أو من الرسول، أيا كانت في قلوب المؤمنين لإحداث التصديق، بل دليل داخلي ينبع من طبيعة العقل وشهادة الواقع. ليس نظام الوحي معجزا بمعنى عدم قدرة الإنسان على الإتيان بمثله؛ إذ يستطيع الإنسان بعقله أن يصل إلى كل حقائق الوحي. وكي لا يطول الوقت، ويضيع العمر، ويبذل الجهد في النظر ولا يبقى شيء للعمل، وللأمان من الخطأ، أو من تشعب وجهات النظر الجزئية وتضاربها، أعطى الوحي النظام الشامل مسبقا؛ حتى يبذل الإنسان جهده في فهم التفصيلات والتطبيق وفي التحقيق العملي. ولا يعني صدق الرسالة مجرد سلامتها من أخطاء القياس، بل تطبيقها في الواقع، ومعرفة صدقها بالتجربة وفي حياة الناس. وفي هذه الحالة يكون صاحبها صادقا، لا بمعنى أنه أتى من عند الله، فالجانب الغيبي في النبوة لا يدخل فيها، بل يعني أن رسالته صادقة في الواقع، يثبتها العقل، وتؤيدها التجربة، ويجد الناس فيها حلولا لمشاكلهم وبناء لمجتمعهم.
34 (3) هل هناك فرق بين المعجزة، والكرامة، والسحر؟
إذا كانت المعجزة هي خرقا لقوانين الطبيعة وجريا على غير العادة، فما الفرق بينها وبين الكرامة والسحر؟ الحقيقة أنه لا خلاف بين الثلاثة في النوع، ما دامت كلها خرقا لقوانين الطبيعة، وسيرا ضد مجرى العادات، وإنكارا لبداهات العقول، ولكن الخلاف في الدرجة فقط، وهو خروج من علم أصول الدين إلى علوم التصوف؛ لذلك يكثر الاستشهاد بأقوال الصوفية أكثر من مقالات الفرق. (أ) المعجزة والكرامة
وتظهر المعجزات على أيدي الصالحين والأولياء ظهورها على أيدي الأنبياء، وفي هذه الحالة تسمى كرامات، ومع ذلك فهي لا تثبت نبوتهم، بل قد تضادها أفعال أخرى تجر إلى إسقاط الشرائع وإبطال التكاليف، وتؤدي إلى تعدي الحدود وإيقاف الأحكام.
35
أما الولاية فتعني العامة فعل الأوامر واجتناب النواهي، وهي نوعان؛ الولاية العامة وهي مكتسبة بإرادة الإنسان ومجاهداته، والولاية الخاصة وهي العطايا الربانية كالعلم اللدني ورؤية اللوح المحفوظ، ذاتية خالصة لا دليل عليها يمكن بواسطته التيقن من صدقها.
36
كما تظهر المعجزات أيضا على أيدي الخادعات للأعداء، مثل الشياطين التي تتشكل في صور مألوفة لتوسوس للإنسان وتخدعه، وفي هذه الحالة لا تكون المعجزات خاصة بالأنبياء وحدهم، بل بالصالحين والأولياء والأعداء، ويستحيل بعدها معرفة هل هي دليل على النبوة أم على الولاية أم على العداوة، وهل هي دليل على الصدق أم تساوى فيها الصدق والكذب، النبي والمتنبي؛ لذلك قد تخصص ظهور المعجزات على الأولياء بالكرامات، وتبقى المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء.
37
والكرامة تيسير لأسباب الخير وتعسير لأسباب الشر،
38
وهذا عود من جديد لمسألة الحرية الإنسانية لأفعال الشعور الداخلية، وكأن المعجزة أو الكرامة هما نيل من أحد مكتسبات العدل، ورجوع إلى الوراء من جديد. تفسر الولاية وكأنها التوفيق والطاعة والعون؛ أي تدخل الله إيجابيا في أفعال الشعور الداخلية في حرية الأفعال، أو تعبيرا عن الواجبات العقلية مثل الصلاح واللطف، فالولاية قضاء للحاجة وتفريج للكرب. الولاية توقع حدوث شيء نظرا لشدة الحاجة إليه، ثم بعد حدوثه بالفعل يشعر الإنسان أنها ولاية مع أنها شدة الحاجة بعد انقضائها، ولو لم تكن الحاجة ملحة والانتظار طويلا لكانت حادثة عادية.
39
ومع ذلك هناك فروق بين المعجزة والكرامة. تظهر المعجزة على يد النبي بينما تظهر الكرامة على الولي، فالفرق بين المعجزة والكرامة هو الفرق بين النبي والولي أو بين النبوة والولاية، ومن صدق بالمعجزة صدق بالولاية، ومن آمن بالأنبياء آمن بالأولياء، ولكن كيف يوضع النبي على مستوى الولي، والنبوة على مستوى الولاية، والمعجزة على مستوى الكرامة؟ أليس ذلك حطة من النبوة ورفعا للكرامة؟ وإذا كانت المعجزة لتصديق النبي فإن الكرامة لقضاء الحاجة؛ فغاية المعجزة دينية في حين أن غاية الكرامة عملية، وإذا كانت الغاية من المعجزة دينية، أي الإيمان بالله، فإن الغاية من الكرامة أخلاقية، أي التقوى والعمل الصالح، وإذا كان صاحب المعجزة معصوما ، فإن صاحب الولاية ليس كذلك،
40
وإذا كانت المعجزة من فعل الله أكثر من فعل النبي، فإن الكرامة من فعل الولي أكثر من فعل الله أو النبي، وقد يكون للكرامة بهذا المعنى ميزة على المعجزة، وهي أنها من فعل الإنسان، وتثبت قدرته على التأثير النفسي، وكيف أن التركيز على الشعور يخلق موضوعه، سواء حقيقة أو مجرد إيحاء بذلك للآخرين؛ لذلك تقع المعجزة ضرورة بينما تقع الكرامة ضرورة أو اختيارا.
41
وإذا كانت المعجزة يراها كل إنسان، فإن الكرامة لا يراها إلا الولي. رؤية المعجزة عامة لكل الناس بينما رؤية الكرامة خاصة للولي وللأولياء. فائدة المعجزة إذن عامة في حين أن فائدة الكرامة خاصة.
42
وإذا كانت المعجزة تقع في كل وقت يريده النبي، فإن الكرامة تقع في وقت مخصوص يريده الله، ومع ذلك المعجزات قبل البعثة كرامات؛ لأن المعجزات دليل على صدق النبوة، والبعثة لم تكن قد بدأت بعد.
43
وإذا كان الإعلان عن المعجزة واجبا حتى يراها الناس ويصدقوا النبي، فإن كتمان الكرامة ضروري. المعجزة تتطلب المعارضة والتحدي، وبالتالي الإعلان عنها ضروري، في حين أن الكرامة ليست كذلك، فتظل طي الكتمان، وقد يطلع الله عليها بعض عباده المخلصين،
44
ولكن ما فائدة الكتمان؟ وكيف يعرف الناس الكرامة ما دامت مجهولة، لا تتعدى غاية الكرامة إلا الثقة بالنفس، والفرح بالذات، والرضا عليها، وبث الطمأنينة فيها، وإدخال السعادة عليها، ويظل السؤال ألا تظهر الكرامة على يد الفاسق، كما تظهر النبوة على يد النبي الكذاب؟ كيف السبيل إلى التفرقة بين الكرامة الحقة والكرامة الكاذبة؟
والحقيقة أنه لا فرق بين المعجزة والكرامة، من حيث إن كليهما يؤديان إلى خرق قوانين الطبيعة وإنكار أوليات العقل.
45
وقد تجرأت الحركة الإصلاحية الحديثة على نفي الكرامات وخوارق العادات على يد الأولياء، وإثبات المعجزات وخوارق العادات على يد الأنبياء وحدهم،
46
وقد قامت بذلك اتكاء على الموقف الاعتزالي الوسط القديم؛
47
فلو جازت الكرامة لبطلت دلالة المعجزة على النبوة، وضاع التخصيص، ولجاز ظهورها على غير النبي ما دامت عامة وشائعة. لو صحت كرامات الأولياء لبطلت معجزات الأنبياء، ولو جاز اختراق العادات من كل وجه لجاز اختراقها من كل وجه، لا فرق في ذلك بين كرامة ومعجزة، وينتهي الأمر إلى التشكك في قوانين الطبيعة ووجود الإنسان في عالم يحكمه الوهم وتسيره الرغبات المكبوتة.
48
وإذا كان الإنسان قادرا بالدعاء على التأثير في الطبيعة سرا من خلال فعل الله وهي الكرامة، فالأولى أن يكون قادرا على التأثير فيها مباشرة عن طريق الفعل علانية أمام الناس وعلى رءوس الأشهاد، وليبقى عملا رائدا وسنة للناس، حاضرا في التأريخ. وإن تجرأت الحركة الإصلاحية على إنكار الكرامات، فإنها ما زالت تثبت المعجزات مع تساويهما في خرق قوانين الطبيعة، وقلب لمجرى العادات، وإخلال للقواعد بالرغم من وجود أصل قديم لنفي المعجزات حرصا على إثبات قوانين الطبيعة.
49
ولماذا الدفاع عن خرق العادات؟ وأيهما أفضل؛ أن نعيش في عالم له سنن وقوانين، يوثق به ونتحكم فيه، أم نعيش في عالم لا يحكمه قانون ولا يوثق بنظمه؟ وإذا كانت المعجزات تصح فقط في هذا العالم دون أي عالم آخر، حيث تسود فيه الإرادة المطلقة بلا طبيعة، فكأن الهدف من المعجزة هو القضاء على الطبيعة وعلى قوانينها الثابتة في هذه الدنيا، حتى تضطرب حياة الناس، فيستسلمون للقوة القاهرة القادرة على كل شيء، بما في ذلك الطبيعة التي استعصى على الناس فهمها والسيطرة عليها. وهل خلق السموات والأرض على هذا النظام شبيه بخوارق العادات؟
50
وهل تثبت قدرة الله بالضرورة بخرق العادات، والأقرب إلى الحكمة أن تثبت بالنظام وسنن الكون؟ والرسول نفسه لا يخرق الطبيعة ولا تنخرق قوانين الطبيعة فرحا له أو حزنا على موت أبنائه. ولماذا تستغل نتائج العلم وقوانينه الحديثة مثل اللاتحدد لإثبات المعجزات وإنكار قوانين الطبيعة، وهي قوانين متغيرة تثبت اليوم ما تنفيه غدا، وتنتفي بالأمس ما تثبته اليوم، وتجعل الدين ملحقا للعلم وتابعا له؟ إن وجود ظواهر شاذة في الطبيعة إنما تحدث وفقا لقوانين أخرى أعم منها وأشمل؛ فالمعجزة حادثة طبيعية تحدث وفقا لقوانين أخرى أعم منها وأشمل؛ فالمعجزة حادثة طبيعية تحدث وفقا لقانون طبيعي نجهله حتى الآن. المسألة إذن مرهونة بتقدم العلم، وتاريخ المعجزات جزء من تاريخ العلم وتقدمه.
51 (ب) المعجزة والسحر
ولما كانت المعجزة خرقا لقوانين الطبيعة فإنها تقترب من السحر والشعوذة والمخاريق والطلسمات والحيل، فهي كلها خرق لقوانين الطبيعة وهدم لبداهات العقل وشهادة الحس إن حقيقة أو خيالا، واقعا أو إيهاما؛ فالسحر عند البعض موجود وثابت، فيرتقي الساحر في الهواء أو يقلب الإنسان حمارا؛ فالسحر قلب للأعيان، وإحالة للطبائع حقيقة ليس خداعا، وكل من يثبت المعجزة بهذا المعنى، فإنه يثبت السحر على هذا الأساس.
52
ولا فرق بين السحر والعين فكلاهما ثابت موجود،
53
وهناك عديد من الشواهد النقلية تدل على وجوده، ترتكز على وقائع تاريخية محددة كانت أسباب النزول.
54
والسحر نوعان؛ الأول: ما يأتي من قبل الكواكب من خلال الطلسمات في التأليف بين الطبائع، والثاني: هي الرقى، وهو كلام مكتوب من حروف مقطعة غدت قوة تثير الطبائع.
55
فإذا كان السحر يشارك المعجزة والكرامة في أن الكل خرق لقوانين الطبيعة وهدم لبداهات العقول، أصبح الفرق بينهم في الدرجة لا في النوع، فإذا كان فاعل المعجزة هو الله مباشرة أو من خلال النبي، فإن فاعل السحر هو الجن والشياطين؛ وبالتالي يزداد الأمر غموضا في المجهول. وإذا كانت المعجزة خارج نطاق القدرة الإنسانية فإن السحر يكون من مقدورات البشر، ويكون الله قادرا عليه. السحر نوع من القدرة الخارقة في حدود القدرة البشرية، وتمن مستمر للإنسان أن يكون أقدر مما هو عليه إن استعصت عليه الحيل، وانقطعت به السبل. وإذا كانت الحيلة من أنواع السحر تظل المعجزة من الله والحيلة ليست كذلك، وتظل المعجزة حادثة خارقة للطبيعة في حين قد لا تكون الحيلة كذلك يمكن تعلمها، وهناك علم بأكمله للحيل. وإذا كانت المعجزة لا يقع فيها الاشتراك بل تظل خاصية فريدة للنبي، فإن الاشتراك يقع في الحيل. وإذا كانت المعجزة للأنبياء وحدهم فإن الحيل لأهل صناعة الحيل. وإذا كانت المعجزة تحديا لأهل الصناعة فإن الحيلة ليست كذلك لهم،
56
ولكن تستعمل المعجزة لغة السحر إذا كان العصر عصر سحر؛ فالمعجزة إنما تأتي بلغة العصر وطبقا لمستوى علومه،
57
ولكن يظل يغلب عليهما معا أنهما خرق لقوانين الطبيعة، وتغير في جواهر الأجسام، حتى إذا توجهت المعجزة أساسا إلى الجواهر يتوجه السحر أساسا إلى الأعراض.
58
وبالرغم من أن الكرامة أيضا كالمعجزة وقضاء حاجات، ولا تظهر إلا على ولي تقي فاضل، فإن السحر شر لا يظهر إلا على فاسق؛ فالتعارض بين الكرامة والسحر مثل التعارض بين الخير والشر.
59
وطبقا لهذه الفروق بين المعجزة والكرامة من ناحية والسحر من ناحية أخرى لا تكون المعجزة سحرا.
60
والحقيقة أن الفرق بين المعجزة والسحر ليس كبيرا، ما دام كلاهما خرقا لقوانين الطبيعة وإنكارا لبداهات العقل.
61
كلاهما يقوم في الشعور على بناء واحد، وكلاهما يؤدي وظيفة واحدة. وإن اعتبار المعجزات حيلا ومخاريق رد فعل طبيعي على اعتبارها وقائع حدثت بالفعل، فكل منهما رد فعل على الآخر، وهي في الحقيقة صور فنية للتأثير على النفوس والإيحاء بالمعاني.
62
إن الطبائع لا تتغير لا بفعل المعجزة ولا تحت أثر السحر. هناك خواص للأشياء لا يمكن التحايل عليها أو سحرها إلا بخداع الحواس والإيهام. ليس هناك عين أو رقى؛ فالعين مجرد حدوث شر للآخر بناء على استكثار الخير له، ودون هذا الحكم النفسي من الذات فلا حكم بالشر على الواقع. أما بالنسبة للرقى فلا وجود لقدرة للكلام الكتابي المدون، مقطعا في حروف أو مجمعا في جمل. لا أثر للكلام إلا من خلال الصوت والتعبير والجهر بالقول، أو بتنفيذه في أحكام عملية وسلوك فعلي. وقد قامت إحدى الحركات الإصلاحية من قبل برفض الرقى والتماتم والأحجبة. إن ما يسمى سحرا هو تفاعل كيميائي في الظواهر الطبيعية، طبقا لقوانين التفاعل التي يسميها الجاهل بها سحرا، كما أن الحقائق تقوم على التمييز بين الواجب والممكن والمستحيل، وهي من بداهات العقول. السحر كالمعجزة نفي لقوانين الطبيعة، وزعزعة لثقة الشعور بالطبيعة والعقل، وجعله خاضعا لصاحب السلطة والأثر.
رابعا: تطور النبوة
لم يظهر الوحي مرة واحدة، بل وقع على مراحل؛ لا توجد إذن نبوة واحدة، بل عدة نبوات متتالية منذ أول الأنبياء وهو أول البشر، آدم، حتى آخر الأنبياء، دون أن يكون آخر البشر، محمد. فما الصلة بين مراحل الوحي السابقة؟ وما الصلة بين هذه المراحل جميعا وآخر مرحلة التي بها خاتم النبوة؟ ما صلة السابق باللاحق واللاحق بالسابق؟ هل صلة تقدم واكتمال، تغير وثبات، تطور وبناء؟
وقد سمى القدماء ذلك «النسخ»، ولا يعني النسخ فقط تبديل آية بدل آية، كما هو الحال في آخر مرحلة من مراحل الوحي، بل ظهور وحي تابع لوحي آخر، وظهور نبوة بعد نبوة. يعد النسخ هنا بين مرحلة وأخرى، وليس بين آية وآية داخل نفس المرحلة. هو النسخ العام وليس النسخ الخاص، نسخ النبوة وليس نسخ الآية، نسخ المسيحية لليهودية، ونسخ الإسلام للمسيحية مثلا. والنسخ لا يكون إلا في الشرائع والنظم والعبادات والأعراق، أما في العقائد فلا يوجد نسخ؛ فالقوانين النظرية واحدة لا تتبدل، أما كيفية ممارساتها وتطبيقاتها وصياغاتها في قوانين وتشريعات، فهي التي يقع فيها النسخ. لا يعني النسخ إذن الإبطال والإزالة، بل يعني التطور والتقدم وتكييف الشريعة طبقا لدرجة تقدم الوعي البشري في الأصول والفروع، ودفعها درجة أخرى إلى الإمام إسهاما في عملية الإسراع في التطور؛ من أجل الوصول إلى تحقيق الغاية من الوحي، وهو استقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة، في حين أن النسخ في آخر مرحلة يتوجه فقط إلى الفروع دون الأصول.
ولم يقتصر القدماء على ديانات الوحي المذكورة فيه فحسب، بل ضموا إليها الديانات البشرية الأخرى، التي قد تكون في أصلها نبوات إلهية، أو تكون نبوات إنسانية صرفة؛ لذلك لا يقتصر القدماء على الحديث عن اليهودية والمسيحية والإسلام كبرى المراحل، بل أيضا عن البراهمة والصابئة والمجوس، خاصة وأن لهم مواقف بالنسبة لديانات الوحي، ويعترفون بأنبيائهم ويقرون بنبواتهم.
1
وقد تعرض القدماء للفرق والديانات التي عرفها العرب والمسلمون؛ فاليهودية والمسيحية فرق عربية، ولا شأن لها باليهودية والمسيحية كما عرفها الغرب بعد ذلك، ثم نقلنا نحن معرفتها بهم منه، اللهم إلا إذا كان هناك استمرار بين الفرق العربية القديمة والفرق الغربية الحديثة. الفرق اليهودية والمسيحية هي الفرق داخل الحضارة وليس خارجها، وكذلك البراهمة والصابئة والمجوس هي الفرق التي عرفتها الحضارة وانتشرت داخلها بعد أن تحول أصحابها إلى الدين الجديد، أو بقى البعض منهم على دياناتهم القديمة، أو عرفها المسلمون فقط تاريخيا إثر الترجمة ومعرفة ديانات الأمم السابقة ومللها، سواء كانت بلادها مفتوحة أو لم تفتح بعد، واقتصر الأمر على نقل تراثهم. وأخذ القدماء معارفهم عن الديانات القديمة من مصادرها الأولى؛ أي من الكتب المقدسة لكل دين وملة، وليس من كتب تاريخ الفرق القديمة، أو رواية وسماعا دون التحقق من المصادر؛ وبالتالي فإن معرفتهم بها موثقة، وليست كمعرفتنا نحن بآراء الخصوم وفرق المعارضة، التي لا نعلمها في الغالب إلا من كتب تاريخ الفرق التي كتبتها الفرق الناجية. ويثبت القدماء نبوة كل الأنبياء وكل مراحل الوحي السابقة؛ دفاعا عن اكتمال الوحي وشموله ضد منكري إحدى مراحله نيابة عن باقي الفرق، فكأنهم يقومون بعملهم وبعمل غيرهم، وكأن آخر مرحلة هي الأمينة على شمول الوحي واكتمال النبوة، وهي القادرة على تبني الوحي في تمامه وكماله حرصا عليه، وليس دفاعا عن قوم أو ملة أو عنصر أو جنس، وتنكرا للأقوام والملل والشعوب الأخرى؛ فكل ملة تقطع مراحل الوحي وتوقفه عندها، وآخر مرحلة تعترف بالمراحل جميعا، ولا توقف الوحي إلا عند اكتمال النبوة وتحقق غاية الوحي في التاريخ، وقد قام بذلك البعض دون البعض، سواء في نشأة الحضارة أم في ذروتها، في المشرق أو في المغرب؛ فقد بدأت الأمم المغلوبة بعد الفتح التوجه إلى الدين الجديد من الخلف، بعد أن عجزت عن مواجهته من الأمام بنشر دياناتها السابقة وعقائدها القديمة في حضارة تقوم على التسامح الديني والحوار الفكري وتعدد الأديان.
2 (1) هل يستحيل النسخ بين المراحل؟
إذا كان من الممكن تناول موضوع النبوة إمكانا ووقوعا على نحو نظري خالص، فإنه يصعب فعل ذلك حين الحديث عن تطور النبوة؛ فما دام الأمر مع التاريخ فلا بد من أسماء أنبياء وأسماء فرق ومذاهب، ويتحول علم أصول الدين بالضرورة من علم للعقائد إلى علم للفرق. وتطور النبوة إنما يعني بتعبير اصطلاحي «النسخ»؛ فالتطور يعني المراحل، والنسخ هو أحد أشكال العلاقات بين هذه المراحل. ولما كانت النبوة متطورة، وكان الوحي قد وقع على مراحل عدة، كان من الضروري أولا إثبات النسخ ضد منكريه وهم اليهود، وتنكر اليهود النسخ لأنها تتضرر منه مرتين؛ مرة بنسخ المسيحية لليهودية، ومرة بنسخ الإسلام للمسيحية؛ ومن ثم كانت المحاولات لإثبات النسخ (بالإضافة إلى التحريف الذي تشارك فيه المسيحية) موجهة أساسا ضد اليهود مع تعديد فرقهم المختلفة، وهم قسمان؛ القسم الأول أبطل النسخ ابتداء كاستحالة عقلية ولم يجعله ممكنا؛ إذ يستحيل أن يأمر الله بشيء وينهى عنه، فينقلب الحق باطلا والباطل حقا، وتتحول الطاعة إلى معصية والمعصية إلى طاعة، ويوقع الله في الجهل والندم، ويحدث تغيرا في العلم الإلهي، وتقلبا في الإرادة الإلهية، وهو سؤال البداء: هل يجوز البداء على الله؟ ولكن نظرا لاختلاف الفرق اليهودية فيما بينها حول النسخ فيما يتعلق بأي النبوات تنسخ، فلم تفصل في هذه الحجة الأولى، حجة البداء، ولكن فصلت فيها الفرق الإسلامية المنكرة للنسخ طبقا لهذه الحجة النظرية المبدئية.
3
والقسم الثاني أجاز النسخ، ولكنه أنكر وقوعه في نبوته وإن وقع في نبوات الآخرين، واعتمادا على حجة نقلية من موسى يحرم فيها وقوع النسخ في التوراة. الفرق اليهودية كلها تثبت النسخ، ولكنها تختلف في المنسوخ ومداه ووجهته.
إن جواز النسخ عقلا وعدم وقوعه نقلا يجعل العقل معارضا للنقل، كما يجعل الجواز العقلي فارغا بلا مضمون ما دام لا يقع، في حين أن الجواز العقلي والإمكان الواقعي شيء واحد، والاعتماد في ذلك على النقل يضعف من الجواز العقلي، فالمعارض العقلي أقوى من النقل؛ وبالتالي إن نقل عن موسى قوله إن شريعته آخر الشرائع فإنه يكون معارضا بالعقل؛ لأن نبوة موسى إحدى مراحل الوحي، وهناك فرق بين وقوعه سمعا وعدم وقوعه نقلا؛ فقد يقع سمعا ولا ينقل، وعدم نقله لا ينفي عدم وقوعه، فإن وقع ونقل؛ أي فإن قاله بالفعل فقد يعني ذلك مجازا بأن شريعته شريعة عظيمة، وأنه ليس في الشرائع أعظم من التوراة. والتوراة بالفعل لا تنسخ؛ لأنها تحتوي على مجموع القيم الإنسانية العامة، وأعيد تثبيتها في شريعة عيسى كليا وفي شريعة الإسلام جزئيا. ويمثل هذا القول خطورة أعظم إذا ما تم الانتقال من نسخ الشرائع إلى نسخ النبوات، ومن عظمة التوراة وشريعتها التي لا تنسخ إلى إنكار النبوات التالية لموسى، مثل نبوة عيسى ونبوة الإسلام. ويبدو أن الهدف من إنكار النسخ ليس التمسك بشريعة التوراة اعتمادا على قول موسى، بل إنكار لنبوتي عيسى والإسلام؛ لأن من اليهود من يقر بنبوات تسعة عشر نبيا بعد موسى. وقد يكون الدافع الأول والأخير هو إنكار نبوة الإسلام، وليس نبوة عيسى الذي يثبت شريعة التوراة ويعمل بها، ولكن فقط يجددها من الداخل ويعيد إليها روحها وتقواها الباطنية، فلو جازت نبوة الإسلام لجاز نسخ الشرائع قبله؛ وبالتالي تبطل شريعة التوراة مع أن نبوة الإسلام تثبتها. والنسخ في الحقيقة ليس رفعا، بل تبديل حكم بحكم آخر مثله أو خير منه، وكل نظرة تراثية تأخذ بأقوال الأحبار فإنها ترفض النسخ، فالنسخ تجديد في حين أن أقوال الأحبار تقليد.
4
وقد ينكر نسخ الشرائع عقلا وسمعا؛ فنسخ الشرائع محال عقلا وجاء السمع بتأكيد حكم العقل. وهو موقف أكثر اتساقا من جواز النسخ عقلا وامتناع نقله سمعا. وتقوم الاستحالة العقلية على بعض المقولات الإسلامية التي كانت سائدة بالأندلس، سواء عند بعض الفرق الإسلامية، مثل البداء وتجويز الجهل على الله، أو في علم أصول الفقه باستحالة نسخ الأشياء قبل امتثاله وقت فعله، فالشريعة اليهودية كانت متمثلة منذ موسى، وكان وقت فعلها قد حان، ومثل نسخ الأخف بالأثقل على سبيل العقوبة للمكلف، وشريعة عيسى وشريعة الإسلام ليست بأثقل من شريعة التوراة إن لم تكن أخف. ويظهر الأثر الإسلامي على هذه الفرقة اليهودية في أخذها التوراة وحدها وما في كتب الأنبياء، وتكذيب أقوال الأحبار. أما النقل عن موسى فسنده ضعيف، وإن صح فمعناه مشروط بعدم خلو نبي آخر، فإن بطل استحالة النسخ عقلا وشرعا صح جوازه.
5
وقد يكون الهدف من النسخ التوقف عند مرحلة دون مرحلة، والاعتراف بنبي وإنكار نبي آخر، وهو ما يعارض مسار التطور والهدف من توالي النبوات. قد تعظم مرحلة بالنسبة إلى أخرى، وقد تشير مرحلة إلى تغير كيفي بينما تشير الأخرى إلى مجرد تغير كمي؛ لذلك كانت نبوة موسى وهارون ويوشع لا يمكن إنكارها؛ فموسى صاحب التوراة، وهارون صاحب المعبد والخلافة، ويوشع غازي الأرض والآخذ بيد اليهود من التيه والمستقر في فلسطين. فبينما تقصر النبوة لقصورها على أنبياء «الشريعة والأرض» توسع لتصبح كل من تظهر عليه المعجزات من أجل رد الاعتبار لباقي الأنبياء من بني إسرائيل، ثم تعتبر المعجزات في حالة عيسى ومحمد حيلا ومخاريق تبطل نبوتيهم، ثم يستثنى عيسى كنبي صادق بأنه لم يظهر بعد، وأنه سيظهر في نهاية الزمان. ونهاية الزمان على الأرض؛ لأنه لا يوجد بعث وحياة بعد الموت. ونظرا للخلاف التاريخي حول التوراة، فقد يكون لكل فرقة توراتها، تقرأ فيها عقائدها، وترى فيها نفسها، فالتوراة هي السجل التاريخي لكل فرقة. أما أرض المعاد فالشام وليس فلسطين، ونابلس وليس القدس، ما دام سليمان ليس نبيا؛ مما يدل على أن القدس لم يكن لها هذه الدلالة التي لها الآن في اليهودية، لا قبل سليمان ولا بعده.
6
ويمكن الاعتراف بنبوات المراحل السابقة، بشرط ألا تكون نسخا لبعضها البعض، وكأن نبوة وحي مستقل بذاته، وليست حلقة في مسلسل النبوات؛ وبالتالي تنتفي الحكمة من التسلسل، ألا وهو تطور البشرية وارتقاؤها من مرحلة إلى أخرى. كل نبوة مستقلة بذاتها؛ وبالتالي لا يحدث تراكم كمي يؤدي إلى تغير كيفي، ولا يحدث تواصل بين النبوات، وتبدأ كل نبوة من الصفر ومن حيث بدأت الأولى لدى شعب آخر؛ وبالتالي ينتهي خط التقدم الذي يخترق النبوات، أو على الأقل يغيب التصور الحلزوني لها الذي يجمع بين الدائرة والخط، بين العود الأبدي والتقدم. وكل نبوة محدودة بقوم وجنس، وليست عامة للبشر جميعا، ولا توجد نبوة واحدة قادرة على اختراق حدود القومية والجنس بما في ذلك اليهودية؛ فالنبوة خاصة وليست عامة، فإذا كان النسخ جائزا عقلا ولكن غير واقع عملا، فإنه يكون بلا فائدة، ويكون الجواز العقلي مجرد افتراض صوري لا أثر له ولا فاعلية فيه، فإذا ما تم الاعتراف بنبوتي عيسى ومحمد، كل منهما لقومه، عيسى لبني إسرائيل، ومحمد لبني إسماعيل (وأيوب لبني عميص، وبلعام لبني مواب)، فإنهما لا ينسخان شريعة موسى، فلا تواصل بين النبوات، ولا أثر لأحدهما على الأخرى. ولما كان عمر الدنيا قصيرا لا يتحمل التغيير والتبديل، ونسخ شريعة وإحلال أخرى، ظلت شريعة موسى باقية، وكأن الحياة تعني الثبات دون التغير، وكأن حياة الإنسان وسيلة وبقاء الشريعة غاية. والحقيقة أن التواصل بين النبوات، ونسخ الشريعة المتقدمة للشريعة السابقة، اعتراف بوحدة الوحي وتطوره حتى اكتماله في خاتم النبوة التي تصبح عامة للناس كافة. إن عموم الرسالة لا ينقض خصوص النبوة، كما أن خصوص النبوة لا يعارض عموم الرسالة، فما من قوم إلا وفيهم نذير، وقد يكون لقوم واحد رسولان، وفي هذه الحالة يتفقان في الشريعة، وقد يكون رسول في قوم دون قوم، وقد يظهر رسول عند قوم ورسول آخر عند آخرين، وفي هذه الحالة لا يؤدي اختلاف الزمان إلى اختلاف في الواجبات العقلية، فإذا كان عموم الرسالة مشروطا بالتبليغ بالرغم من خصوصية النبي وقومه، إلا أن هناك رسالات عامة حملها أنبياء للناس جميعا؛ فقد كانت نبوة آدم إلى جميع ولده الذين أدركوه، وكانت نبوة إدريس لجميع الناس في عصره، وكانت نبوة نوح أيضا كذلك، وإلى ما بعد الطوفان، إلى أوان النبي الذي بعده، حتى لا يخلو البشر من رسالة، وكانت نبوة إبراهيم إلى الناس كافة، ومنها رسالة محمد إلى البشر كافة والذين نعرفهم في الدنيا.
7
وقد يثبت النسخ لأن فيه فائدة للملة، وتنكر نبوة محمد لأن فيها إنكارا لها. وهذا موقف متناقض تتعارض نتائجه مع مقدماته؛ فإثبات النسخ يتضمن التسليم بتطور الوحي وباكتمال النبوة؛ أي بنسخ كل مرحلة لاحقة للمرحلة السابقة، وبنسخ المرحلة الأخيرة للمراحل السابقة كلها، ونفي النسخ يجعل من المراحل السابقة مجرد تمهيدات وإرهاصات لها، وأن أنبياء بني إسرائيل ما هي إلا صور مكررة ومصغرة للصور الكبرى الفريدة، السيد المسيح.
8
ويمكن اختيار إحدى مراحل النبوة، واعتبارها هي النبوة كلها طبقا للاتفاق في المزاج والهوى، وتقوم بذلك الديانات التاريخية التي تختار النبوات التي تتفق معها، ثم تختزل باقي المراحل فيها؛ فقد تكون النبوة لآدم وحده دون غيره من الأنبياء، فآدم هو الإنسان الأول وهو النبي الأول، وبعد ذلك تستطيع الإنسانية أن تسير بمفردها برسالة التوحيد والعدل؛ أي بالعقليات دون السمعيات، والعقليات جوهر العقيدة وأساسها، ودون أن يتلقى آدم رسالة، فقد يكون معذورا إذا كان جحودا ناكرا؛ لأنه لم يأته نذير. أعطت النبوة الأولى دفعة أولى للإنسان علما وخلقا؛
وعلم آدم الأسماء كلها . وإذا كانت النبوات جوهرها واحد فلم التكرار؟ ليست الشرائع جوهر التوحيد، والإنسان قادر على صياغة شرائعه طبقا للظروف، ولكن التوحيد غير متطور؛ وبالتالي فلا نبي إلا آدم.
9
والحقيقة أنها نظرة مثالية طوباوية، تجعل الخاص عاما، وترى أن الإنسانية قادرة على التعليم من نبوة واحدة، وأن الحقيقة النظرية لها الأولوية على التشريع العملي، ولكن في واقع الأمر تحتاج الإنسانية إلى نبوات متتالية؛ حتى تتعلم من تجارب الصواب والخطأ، وحتى تتراكم عندها الخبرات، وحتى تتسع دائرة الخاصة أكثر فأكثر، وتقل دائرة العامة. وقد يتم اختيار إبراهيم وحده دون غيره؛ فإبراهيم أبو الأنبياء، صاحب التوحيد الطبيعي ومؤسس دين الفطرة؛ دين العقل والحنفاء، دين الأخلاق والعمل الصالح والتقوى الباطنية. ولما كان الإسلام دين إبراهيم، الحنيفية السمحة، كان الدين واحدا، والنبوة واحدة؛ الدين الشامل للإنسانية جمعاء، وإن إبراهيم بمفرده كان أمة، ومن يرغب عن دينه فإنه لا يكون موحدا.
10
وهي نظرة طوباوية توحد بين الخاصة والعامة، بين الحكيم والناس. وكم في البشر من إبراهيم؟ وكم من الناس يوحدون على الطبيعة اعتمادا على العقل واستئناسا بالفطرة؟ وإذا كان البراهمة يرفضون نبوة موسى وعيسى، فالتوحيد الطبيعي ليس في حاجة إلى خلاص ولا إلى تشريع، فإن المانوية تثبت نبوة عيسى لإشراقه في النفس، كمعلم داخلي، والذي لا يحتاج الإنسان معه إلى تشريع. والحقيقة أن كل محاولة لإثبات النبوات اللاحقة بعد النبوة السابقة هي في نفس الوقت دليل لإثبات تطور النبوة في آخر مراحلها حتى خاتم النبوة.
11
وقد تتوقف النبوة على شيث وإدريس وعلى كتابيهما، بالرغم من التظاهر بالاعتراف بنبوة عيسى، حتى يعتبروا كالنصارى في الحقوق الاجتماعية.
12
وقد تقتصر النبوة على زرادشت. ولما ضاع معظم أجزاء كتابه التي بها الشرائع، تحول الدين المجوسي إلى دين سري لا يباح منه بشيء، ودخلت فيه الأساطير التي تتحدث عن وحدة أول البشر وأول الرسل مثل آدم. فلما قتله الشيطان خرج من صلبه نطفة غاصت في الأرض ونبتت منها يباستان، فصارتا ذكرا وأنثى؛ أصل البشر جميعا. فإذا سهل فهم اختزال النبوات على بعض الأنبياء العظام، آدم وإبراهيم، فإنه يصعب قصرها على أنبياء للديانات التاريخية تعارض العقل والطبيعة، وتكون أكبر حجة على حاجة الإنسانية إلى نبوات حتى يرقى وعيها ويستقل عقلا وإرادة.
13 (2) جواز النسخ بين المراحل
وقد تحول موضوع النسخ بين المراحل في العقائد المتأخرة إلى أحد موضوعات الإيمان، من حيث الكم وإن لم يكن من حيث الكيف، من حيث العدد وإن لم يكن من حيث الدلالة، من حيث التراكم والتكرار وإن لم يكن من حيث المعنى والتطور. فيجب معرفة الرسل المذكورة في القرآن تفصيلا وغيرهم إجمالا. هناك إذن مجموعتان من الأنبياء والرسل، مجموعة لم يذكرها القرآن ومجموعة أخرى ذكرها، فعدد الأنبياء والرسل في الواقع أكثر بكثير مما ورد في القرآن، فلا توجد أمة إلا خلا فيها نذير، ولكن القرآن قص البعض ولم يقصص البعض الآخر.
14
ربما قص ما هو مخزون في الوعي العربي، وما يتناقله الناس، وما ترسب في أذهانهم، خاصة إذا كانوا موضع تبجيل واحترام مثل إبراهيم، وربما قص ما له دلالة أكثر من غيره حتى يتم التركيز على بعض النماذج المثالية، كما هو الحال في أصول الأحكام، ثم قياس الفروع عليها لاشتراك معها في العلة أو الدلالة، وربما قص البعض رغبة في الاختصار، فيستحيل ذكر عشرات الآلاف من الأنبياء والرسل، وإلا كان مجرد سجل تاريخي لا يستوعبه الناس، ولا يدركون دلالته، واستحال حفظه، وتحول الوحي إلى سجل للتاريخ وحوليات له.
15
فإذا أمكن معرفة مجموعة الأنبياء والرسل التي ذكرها القرآن، فكيف يمكن معرفة المجموعة الأخرى خارج الإشارة العامة عن وجودهم استنباطا من القرآن، وخارج الإشارة إلى عددهم في الأحاديث رغم تفاوتها في درجة الصحة التاريخية؟ هل للأرقام المذكورة مثل 100024 صحيح؟ هل له دلالة رمزية؟ وهل يمكن استنباط أن عدد الأمم السابقة هو مثل هذا العدد، ما دامت كل أمة لها نبي أو رسول؟ وما هي هذه الأمم والأقوام والمجتمعات وأين كانت؟ وماذا كانت نبوات الأنبياء ورسالات الرسل؟ وهل اندثرت كلية أم ما زالت باقية آثارها؟ وهل منها خارج بني إسرائيل والعرب؟ هل منهم من ظهر في شعوب آسيا؛ الصين والهند وفارس؟ هل منهم لاوتزي وكونفوشيوس وبراهما وماني؟ هل منهم حكماء الصين والهند وأنبياء فارس الذين نادوا بالتوحيد وبالعمل الصالح وعزفوا عن الدنيا وزكوا الروح؟ هل ظهر البعض في أفريقيا أو في الأمريكتين؟ وما أكثر الديانات في القارات الثلاث والحضارات التي قامت على أسسها؟ وإذا كان أولو العزم من الرسل المذكورة في القرآن، فهل يمتد الأمر ويتسع ويصبح كل زعيم وقائد ومرشد وكبير للقوم وساحر ومعلم وفاضل نبيا أو رسولا؟ هل يصبح كل من يحمل دعوة أو رسالة نبيا، وكل محارب ومقاتل ومجاهد وقائد ورئيس رسولا؟
والخلاف عند القدماء في عدد الأنبياء والرسل يتراوح بين 100024 على أكثر تقدير، وبين خمسة وعشرين على أقل تقدير، فالعدد الأول لا سند له إلا الرواية التي قد تصح وقد تضعف تاريخيا، وقد يكون للعدد مدلول رمزي غير مألوف بتركيبه وإن كان مألوفا بجمع أعداده؛ 4 + 2 + 1 = 7، والرسل منهم 313 معتمدا على نفس السند الظني، وله نفس الدلالة الرمزية؛ 3 + 1 + 3 = 7، وقد يكون لذلك سند تاريخي آخر، وهو عدد الذين جاوزوا النهر مع طالوت في قتل جالوت، وعدد أصحاب النبي في غزوة بدر، وإلى هذا الحد تبلغ نسبة الرسل من الأنبياء 1 : 3195 تقريبا، وكأن العقائد النظرية وفي مقدمتها التوحيد أصعب بكثير في الاقتناع بها من الشرائع العملية ، ولكن هناك اتفاق على أن أولهم آدم وأن آخرهم محمد، وعلى أن الكتب أربعة؛ التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد،
16
وهناك شبه إجماع على أن العدد الأصغر وهو 25 هم الأنبياء والرسل المذكورة في القرآن تفصيلا، وكأن نسبة ما ذكر القرآن إلى نسبة ما لم يذكر القرآن 1 : 4001، وكأن القرآن لم يذكر شيئا على الإطلاق، وذلك يدعو إلى مزيد من التشكك في صحة العدد الكبير الأول.
17
ولا يوجد تفضيل نبي على آخر أو رسول على آخر، بل هناك مراحل كمية وكيفية، أساسية وفرعية، تطور مستمر وتطور منكسر؛ أي تطور وثورة في تاريخ النبوة ومسار الوحي. ليس التفاضل بين أشخاص الأنبياء، بل بين رسالاتهم كمراحل متتالية لتطور وحي واحد؛ فتفاضل الرسالات ليس من حيث القيمة، بل من حيث درجتها في تطور الوحي في التاريخ، وقد يتجاوز التفضيل إلى إنكار النبوات أو بعضها، أو يخف إنكارها ويتحول إلى تفضيل، وفي كلتا الحالتين يدل الاختزال أو التفضيل على شعوبية أو قومية، وتعصب كل ملة لأنبيائها والتضحية بكمال الوحي ووحدته من خلال التطور. ومن الطبيعي أن تعتبر كل ملة نبيها آخر الأنبياء وأن لا نبي بعده، أو أن نبيها أفضل الأنبياء وأن لا نبي أفضل منه، وهو على رءوسهم يوم القيامة شهيدا عليهم جميعا. وما هو مقياس التفضيل؟ هل هي طريقة مخاطبة الله للنبي سواء مباشرة أو بواسطة وأفضلية الأولى على الثانية؟ النبوة الرأسية؛ أي صلة الله بالنبي وطريقة الاتصال به لا شأن لنا بها، ولا يمكن معرفتها أو التحقق من صدقها، وما يهمنا هو النبوة الأفقية؛ أي صلة النبي بالأجيال التالية وتبليغها الرسالة وحفظها صحيحة تاريخية بمناهج نقل مضبوطة شفاها أم كتابة، وقد تكون الواسطة أفضل؛ لأنها تدل على رقي أعظم من حيث التنزيه لله ودرجة التطور في النبوة؛ فالاتصال بلا واسطة يعني التشبيه (النار مثلا) في حين أن الواسطة تعني التنزيه (الملك). وهل يكون مقياس التفضيل الأبوة والبنوة ونسب الرسول وسلالته؟ قد يخرج الابن الكافر من الأب المؤمن ، أو الابن البار من الأب العاق. ولا يكون المقياس المعجزات أو الكرامات كيفا أو كما؛ فخاتم الأنبياء ليس له معجزات، وليست المعجزة بالمعنى القديم؛ أي خرق قوانين الطبيعة دليلا على صدقه، وإلا كان عيسى من هذه الناحية صاحب أكبر قدر ممكن من المعجزات، واعتبار خاتم الأنبياء صاحب معجزات بالمعنى القديم هو قراءة للماضي في الحاضر، وليس قراءة الحاضر في الماضي، وإسقاط المعنى القديم للمعجزة على المعنى الجديد لها، وليس قراءة المعنى القديم للمعجزة وتفسيره بالمعنى الجديد لها. المعجزة الجديدة في الإبداع الأدبي الفكري في النظم والتشريع، في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة. ولا يكون مقياس التفضيل أيضا درجات الثواب، ومراتب الجنة التي لم تقع بعد، والتي لا نعلم عنها شيئا، والتي هي نتيجة للأعمال، ولكن قد تكون مقاييس التفضيل الخصوص والعموم في الرسالة طبقا لمراحل الوحي؛ فالمرحلة السابقة للخاصة والمرحلة اللاحقة للعامة. قد تكون درجة الانتشار ومقدار النفع الذي تحققه النبوة في التاريخ؛ فكلما كان انتشارها أوسع ونفعها أكبر كانت أقرب إلى الفطرة والعقل، وبالتالي أقرب إلى خاتم النبوة واكتمال الوحي. وقد يكون المقياس هو رتبة النبوة وليس النبي، ودرجة الرسالة وليس الرسول في تطور الوحي، في البداية أم في النهاية، أبعد عن الاكتمال أو أقرب إليه؛ فالفضل يرجع إلى الرسالة وليس إلى شخص الرسول، وأواخر الأنبياء أقرب إلى اكتمال النبوة من أوائل الأنبياء.
18
وقد يكون التفضيل أحد وسائل تقليص عدد الأنبياء والرسل في خمسة وعشرين نبيا ورسولا إلى خمسة فقط، وهم أولو العزم من الرسل، وهم الأنبياء والرسل الذين أصبحوا قادة أمم وزعماء شعوب، وحولوا الرسالة من النظر إلى العمل، من العقيدة إلى الشريعة، وجعلوا الوحي دولة ونظاما للعالم. هم أكثر من الصابرين على البلاء، ذوو الحزم والجد والصبر، نجباء الرسل، بل هم المأمورون بالجهاد وبالقيادة، والقادرون على الزعامة المؤهلون للرياسة، أصحاب السياسة، ومنهم خاتم النبوة، وقد كانت القيادة لشعبين؛ اليهود، فلما فشلت أصبحت للعرب؛ لذلك قد يكون عشرة منهم أولو العزم؛ خمسة عند اليهود وخمسة عند العرب.
19
فإذا كان نوح وإبراهيم وموسى ومحمد أنبياء زعماء، ورسلا قادة، فهل الأمر كذلك عند عيسى؟ يبدو أن أولي العزم ليسوا فقط أنبياء زعماء، ورسلا قادة، بل هي مراحل أساسية في تطور النبوة؛ عيسى للحقيقة، ونوح وموسى للشريعة، وإبراهيم ومحمد للدين الطبيعي. وقد يستبعد آدم؛ لأنه لم يكن له عزم بسبب الغواية. وقد يوضع يوسف وأيوب ضمن الخمسة؛ لأن كلا منهما صاحب بلاء وصمود. ويخضع ترتيب الخمسة إلى التطور الزماني للوحي في التاريخ.
وآخر الشرائع ناسخة لكل الشرائع السابقة، بفعل التطور وارتقاء التاريخ واكتمال النبوة. ولما كانت لا توجد شريعة بعدها فهي ناسخة لا منسوخة، وباقية في التاريخ كبناء بعد اكتمالها كتطور، ولا يعني ذلك استمرار تغير المصالح والمنافع وبقاء الشريعة على ثباتها الأول، بل يعني أن أسسها العامة أصبحت تعبر عن كمال العقل وازدهار الطبيعة، وأن التغير بعد الاكتمال إنما هو في التفاصيل وطرق التطبيق، وذلك متروك للاجتهاد وطرق الاستنباط. أما العقائد النظرية فلا نسخ فيها، مثل التوحيد والعدل والمضمون الاجتماعي للرسالة، ومستقبل الإنسانية (المعاد).
20
ولماذا يخرج عمل الفرد ونظام الدولة، وهما الموضوعان الأخيران في السمعيات، من العقائد النظرية؟ أما سؤال على أي شرع كان خاتم الأنبياء قبل البعثة فهو سؤال شخصي لا يمس جوهر الرسالة، فحياة الرسول قبل البعثة ليست جزءا منها، وحياته بعد البعثة تطبيق لها وليست جزءا من البعثة بذاتها. ومع ذلك فالإجابة على السؤال هي أنه لم يكن على شريعة سابقة، بل كان على دين الفطرة، دين العقل والطبيعة، أصل دين إبراهيم، فشريعة موسى أصبحت منسوخة بشريعة عيسى، وشريعة عيسى لم يتم نقلها نقلا صحيحا ووقع التحريف فيها، والصحيح منها نقله رواة لم تسلم عقائدهم النظرية أيضا من التبديل والتحريف، وفي مقدمتها استبدال التثليث بالتوحيد، والذين سلموا من التحريف النظري قلة لا يبلغ عددهم يقين التواتر.
21
ولا يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء، بل يعني أن العقل هو وريث الوحي، وأن الوحي قد أكمله وبه استقل الشعور، فلا يقال إن الأنبياء اليوم ليسوا أنبياء ولا إن الرسل رسل، وإن رسول الله ليس كذلك الآن؛ لأن ذلك خلط بين مراحل التاريخ. كان الأنبياء أنبياء وكان الرسل رسلا، وأدوا أدوارهم في التاريخ، وتحققت غاية الوحي المرحلية، وهم كذلك الآن تاريخيا، ولكن بطبيعة الحال، لا يظهرون اليوم كأنبياء وكرسل من جديد؛ فقد تطور الزمان، وتحققت الغاية، واكتملت النبوة، وأصبح العقل قادرا على التمييز بين الحسن والقبيح، والإرادة حرة قادرة على الاختيار؛ فالقول إذن خلط في مراحل التاريخ بين الماضي والحاضر، بين الوسيلة والغاية، بين الوقوع والاكتمال، بين التطور والبناء. وإذا كانت الحجة في ذلك أن الروح عرض، وأن العرض يفنى أبدا ولا يبقى زمانين، فإن ذلك يكون خلطا بين المستوى الطبيعي والمستوى الإنساني؛ فالروح ليست عرضا بل هي جوهر مستقل، وهي ليست فانية، بل باقية من حيث هي فكر، كما أنه خلط بين المرسل إليه والرسالة، بين الشخص والمبدأ، فإن فني المرسل إليه فالرسالة باقية تواترا عبر الأجيال، شفاها أو كتابة، نظرا أو عملا، عقيدة أو شريعة، وإن انقضى الشخص فالمبدأ يتمثله الإنسان، وتحققه الجماعات، وتطبقه الأمة، ويكون أساس الدولة.
22
وقد استطاعت الحركة الإصلاحية الحديثة إدراك تطور الوحي، من خلال مفهوم التقدم، وأن مراحل الوحي الكبرى تنتهي إلى كمال الإنسانية ممثلة في استقلال العقل وحرية الإرادة، وتشبيه الإنسانية بالكائن الحي وأدواره من الطفولة إلى الصبا ثم إلى الرجولة. هناك إذن تواز بين تطور الوحي ورقي الإنسان واكتمال كليهما في آخر مرحلة فيه. أخذ الوحي طابعا تجريبيا تعليميا للإنسان تأكيدا على أهمية التجربة وتكييفا للشريعة طبقا لقدرات الإنسان وطاقته، فإذا ما تحققت غاية النبوة اكتملت؛ فالنبوة وسيلة لا غاية، والوحي طريق وليس نهاية، وتلك كانت الحكمة من التطور والتدريج والمراحل؛
23
لذلك تخاطب الأديان العقل والحس والوجدان؛ حتى تكتمل إدراكات الإنسان، وتزدهر وسائل معرفته. تخاطبه بالعقل وتطالبه بالبرهان، وتجمع بين الحس والعقل، بين التجربة والمنطق، وترفض التقليد واتباع الآباء والأجداد بلا برهان، وتدعو إلى الاجتهاد وإلى إعمال النظر، وتحث على العلم والتفقه، وتجعل العلماء ورثة للأنبياء. ووصل العقل إلى درجة من الكمال في المرحلة الأخيرة، حتى إدراك الذات والصفات والأفعال، وصل إلى أعلى درجة في التنزيه ضد مظاهر التأليه والتجسيم والتشبيه في المراحل السابقة. لقد كان من أهم مهام الوحي توضيح اللبس في النظر، وإزالة الخلط في المبادئ العامة، ورفض الشرك والتوسط والأسرار والتقاليد، وكل ما يعارض العقل من وهم وظن وشك، والتأكيد على الوضوح والتميز والبداهة في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة؛ مما يفسر سهولة الإسلام ويسر أحكامه وعدالة شريعته. أصبح الإسلام لذلك دين الفطرة، دين العقل والطبيعة والحرية، ينتشر بسهولة ويسر دون غزو أو قوة أو سيف، وفي نفس الوقت أصبح الإنسان قادرا على التأثير في الطبيعة، وقادرا على الاختيار الحر؛ فاستقلال العقل مطابق لحرية الإرادة، وإعمال النظر متزامن مع الالتزام وتحمل المسئولية. وقد ظهرت ممارسات الحرية في الواقع في نظم الحكم التي سادت في الأندلس، حتى هاجر إليها يهود أوروبا هربا من الاضطهاد الديني، كما ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة الإحساس بالتماثل بين الوحي وبين ما ظهر في أوروبا في عصر التنوير، من إعلاء لمبادئ استقلال الفكر وحرية الإرادة، واعتماد على العقل والطبيعة، وحرص على التقدم ورؤية للإنسان وللمجتمع، وبالرغم من حملة الغرب على الشرق حملة واحدة إبان الحروب الصليبية لمدة مائتي عام، إلا أنهم رجعوا منه بالعلم والفكر، ثم أصلحت أوروبا حالها، واعترف الغرب بفضل الإسلام وما نهل منه، وما كان وراء نهضته الحديثة من عقلانية وتنوير.
24
انتشر الإسلام بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ؛ لحاجة الأمم إلى الإصلاح، وتعبير الإسلام عن حاجات الجزيرة العربية للوحدة والعدالة، وحاجة العالم القديم إلى مثل جديدة قادرة على إعادة بناء نظمه بعد تهاوي الإمبراطوريتين القديمتين، نتيجة للحروب المتبادلة، وبسبب السيطرة والقهر والتدمير المتبادل. لقد ثبتت الأديان مصالح الناس، وكانت دافعا على تقدمهم وبقائهم في التاريخ، وأصبحت التجارب الإنسانية كلها رصيدا لرقي البشرية، وتحولت الشعائر والطقوس من رموز في الديانات القديمة وحركات صورية، إلى أفعال للأمة؛ للفرد وللجماعة، إلى إصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها، إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على وحدة الأمة، ومنع للفتن والشقاق والحروب.
ومع ذلك فلم تسلم الحركات الإصلاحية الحديثة من بعض النقائص، بالرغم من تركيزها على دور النبوة في التاريخ كعامل للتطور الإنساني والرقي البشري. فليست النبوة الآن في حاجة إلى إثبات؛ فلا أحد ينكر النبوات، سواء في مراحلها أو في المرحلة الأخيرة، والتحدي الأعظم اليوم هو في تخلف الأمة، التي غاية الوحي فيها هو تحقيق التقدم في مقابل أمم توقفت عند مراحل الوحي السابقة، اليهود والنصارى، وأنكرت خاتم النبوة، ومع ذلك تقدمت اعتمادا على العقل والطبيعة، وممارسة لحرية الإرادة، وإثباتا لحقوق الإنسان والمجتمع. التحدي الآن هو الإجابة على الاعتراض المشهور؛ كيف تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ أو هو الفرق بين الإسلام والمسلمين وكأنهما نقيضان. لقد عرف الغرب الإنسان ووجوده في التاريخ، وهو لب علم أصول الدين في بابيه الرئيسيين؛ العقليات والسمعيات. ما زالت الحركة الإصلاحية الحديثة في حاجة إلى مزيد من الأحكام؛ التركيز على الرسالة دون الشخص، وإعادة اكتشاف الإنسان والتاريخ يتجاوز الأسلوب الأدبي والطرق الخطابية، والتحول الجذري من الأشعرية إلى الاعتزال، ثم من الاعتزال إلى واقع المسلمين؛ حتى لا يظل سوء توزيع ثرواتهم مؤسسا على التفاوت في الرزق بقدر من الله، ولا يبقى للإنسان إلا الإحسان لأخيه الإنسان.
25 (3) النسخ في آخر مرحلة
ويمتد موضوع النسخ من تطور الوحي وعلاقة كل مرحلة سابقة بمرحلة لاحقة، إلى آخر مرحلة وتطورها على مدى ثلاث وعشرين سنة، منذ بداية الوحي حتى آخره. فإذا كان النسخ الأول بين المراحل هو النسخ الخارجي، فإن النسخ داخل آخر مرحلة يكون هو النسخ الداخلي. غاية النسخ بين المراحل هو إحداث تقدم في البشرية، بينما غاية النسخ في آخر مرحلة هو الإسراع في التطور داخل مجتمع واحد، وفي وعي بشري محدد؛ فقد أصبح الإسراع في التطور من أجل اللحاق بالبناء ضروريا، لدرجة أن يحدث النسخ في مرحلة واحدة؛ مما يدل على سرعة التغير والتطور في المرحلة الأخيرة، كالعداء الذي يسرع في آخر الخطى لينال السبق والفوز. والنسخ في المرحلة الأخيرة موضوع رئيسي في علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، في الحديث عن الأدلة الشرعية الأربعة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وفي الحديث عن الدليل الأول خاصة، كما ظهر في موضوع التعادل والتراجيح لحل مشكلة تعارض النصوص، فلربما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، بل إنه يكون موضوعا مستقلا باسم علم الناسخ والمنسوخ في علوم القرآن، أو كباب في علم أصول الفقه فيما يتعلق بالأخبار، إلا أن للفرق الكلامية عدة آراء فيه، ولكن النسخ هنا مستمد من مادة علم أصول الدين وحده نظرا للتمايز بين العلوم.
والنسخ في آخر مرحلة من مراحل تطور النبوة ليس فقط جائزا، بل هو واقع بالفعل. فهو جائز إسراعا في التطور، وتكييفا للشرائع طبقا لها. وهو واقع بالفعل، يرصده علماء النسخ كشرط لاستنباط الأحكام.
26
ومع ذلك فقد يتم إنكار النسخ إلى أنه «البداء»؛ أي إن الله يبدو له شيء ثم يبدو له شيء آخر، فيتغير علمه وتتغير إرادته، وهو ما لا يجوز على الله. وتغير العلم يعني الجهل، وتغير الإرادة تعني الخديعة، وكلاهما ضد الحسن والقبح العقليين، وضد مصالح الناس؛ قلب الحق باطلا والباطل حقا.
27
والحقيقة أن البداء ليس مشكلة موجودة في الواقع، بل هو وضع لمشكلة المعرفة الإنسانية، مشكلة المظهر والحقيقة. هل العلم مطابق للمظهر أم للحقيقة؟ ولما كان العلم مدفوعا إلى حد الإطلاق بدافع عواطف التأليه، فإنه يكون بطبيعة الحال مطابقا للواقع وللحقيقة، سواء عن وعي وهو تطور العلم بناء على اكتشاف واقع جديد، أو عن لا وعي كما يحدث في الإدراك الخاطئ. فإذا ثبت العلم متغيرا تكون الصفات حادثة، والحدوث في الصفات أقل شرفا من القدم. النسخ أمر شرعي يتعلق بأفعال العباد، وليس بصفات الله، مثل العلم أو القدرة؛ لذلك كان موقف أصول الفقه أسلم بالحديث عن النسخ حديثا وضعيا صرفا؛ أي التطور في الأحكام، لا شأن له بالتغير أو الحدوث في صفات الله. البداء ليس مشكلة في الصفات وافتراض حدوث تغير في العلم، بل هو مشكلة إنسانية خالصة تتعلق بصلة الفكر بالواقع ، كما هو معروف في تاريخ العلم، وفي التجارب الإنسانية القائمة على المحاولة والخطأ. فإنكار البداء إنما يبقي في الحقيقة التنزيه، ولا شأن له بالنسخ، أو بآثار هذا الإنكار على النسخ؛ أي على تطور الحياة الإنسانية. إنكار البداء دفاع عن العلم الإلهي ضد الجهل، ودفاع عن الله وعلمه الضروري غير المكتسب أو المستفاد، دفاع عن العلم الاستنباطي، واعتبار العلم الاستقرائي حطة في شأن العلم الإلهي، دفاع عن العلم الثابت؛ لأن العلم المتجدد تغير ونقص.
28
فإذا كان علم الله تابعا لتغير الواقع يكون السؤال: هل علم الله على شرط؟ والإجابة نفيا تثبت العلم المطلق وتنفي التغير منه، وتضع الشرط في المعلوم لا في العالم، ويكون العلم هنا صفة أزلية، علما مطلقا يحتوي على كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، لا يتغير بتغير الحوادث، يحتوي على جميع المعلومات؛ وقائع وممكنات، الظاهر منها والباطن.
29
والإجابة إثباتا تثبت تغير العلم تبعا لتغير الواقع، أو يكون العلم أوسع نطاقا من الواقع حتى يستطيع أن يتقبل كل احتمالاته؛ ومن ثم تكون الأولوية للواقع ولفعل الإنسان؛ وبالتالي يكون العلم الإلهي والفعل الإلهي تابعين لفعل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي يحدد بفعله نتيجة العلم والفعل الإلهيين. الفعل الإنساني هو الشارط والفعل الإلهي هو المشروط. والشرط هنا لا يعني شرط الوجود، بل يعني أولوية الفعل؛ لا يعني الشرط هنا شرطا منطقيا، بل يعني مجرد أولوية الفعل من حيث العمل.
30
والحقيقة أنه لا توجد بداوات، بل تحقق أولا حتى تتم المعرفة التجريبية وتتحقق الغاية من البداء؛ فلا يعني البداء الجهل، أو نفي الحسن والقبح العقليين، أو قلب الحق باطلا والباطل حقا. ليس البداء مجرد تغيير الرأي بلا سبب تعبيرا عن مطلق القدرة وعظمة المشيئة، بل هو درس تعليمي في العلم التجريبي، وقدرة الفكر حسب الواقع بعد نداء الواقع للفكر في «أسباب النزول»، ولا يحدث خارج الوقت، أو في أي وقت اتفق في تطور الزمن والتغير في التاريخ من السابق إلى اللاحق. يشير البداء إلى مشكلة التغير في الزمان، وأن العلم يتغير بتغير الواقع ؛ كلما تغير الواقع تغير العلم طبقا له، وهو معنى النسخ عند الأصوليين. إثبات البداء وجهة نظر إنسانية خالصة تعطي الأولوية للإنسان، وإلى تغير العلم حسب الواقع ودرجة تطوره. فالوحي تجريبي بمعنى أنه لا يكون وحيا نهائيا إلا إذا تطابق مع الواقع. الواقع هو وسيلة تحقيق صدق الوحي؛ ضيقه أو اتساعه. كان الوحي قديما متسعا بالنسبة للواقع، كان يحتاج إلى تطوير وإلى دفعة خارجية له، ثم ترك الواقع لتطوره الطبيعي ومساره التاريخي، وأصبح الوحي بعد ذلك متحدا مع التطور الطبيعي للواقع. والواقع هنا ليس هو الواقع المصمت الخالص، بل هو الواقع التاريخي الذي يشمل البشر وممارسة الشعوب وإرادة الجماعات. وقد تصور البعض أن إثبات البداء فيه خطورة على الفعل الإنساني الذي تحقق بالرأي الأول، ثم عليه الآن أن يتغير طبقا للرأي الجديد؛ لذلك يمكن إثبات البداء فيما لم يعلمه الإنسان، ونفيه عما يعلمه ويطلع عليه؛ خشية أن يفعل الإنسان طبقا للعلم الأول، فيفشل فعله، فيرفض العلم كله. وهي تفرقة أقرب إلى نفي البداء منها إلى إثباته؛ لأن ما لم يطلع عليه الإنسان لا يعلمه، وما دام لا يعلمه فلا يحدد سلوكه بالنسبة إليه.
31
وكما يمكن إنكار البداء لإطلاقية العلم وثبوته وقدمه، يمكن إنكاره أيضا بالتمييز بين صفة العلم وصفة الإرادة، التمييز بين النظر الثابت الذي لا يتغير وبين العمل الذي يتغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، إثباتا للتنزيه وللعلم المطلق الذي لا يتغير.
32
يشير البداء إذن إلى الفرق بين العلم والإرادة؛ فقد يكون هناك علم لا تتبعه إرادة، وقد تكون هناك إرادة تابعة لعلم جديد. وقد عبر القدماء عن هذه الصلة في سؤال: هل يجوز على الله الترك؟ فالإجابة نفيا إثبات لعدم تغير العلم والإرادة معا؛ وبالتالي إثبات قوانين عامة في الطبيعة وفي الحياة الإنسانية، والإجابة إثباتا تعني أن التغير ممكن في العلم والسلوك، إما مما أخبر عنه من ثواب وعقاب قد لا يحدث، ما دامت الغاية منه، التأثير على النفوس وإقامة حياة خلفية كاملة، قد تحققت، وإما أن الرحمة قد تفرض العفو دون العدل، وكلاهما من الصفات.
33
وبالرغم من أن القول بالبداء نشأ في ظرف تاريخي معين، كتبرير لحدوث شيء غير متوقع، وبالتالي يمكن رده إليه، إلا أن رد الأفكار إلى مجرد الوقائع التاريخية وقوع في النزعة التاريخية الخالصة؛ لذلك يظل البداء دلالة نظرية لتجربة شعورية.
34
إن النسخ أمر وضعي يتعلق بالشريعة والقدرة الإنسانية، وليس بالعلم والإرادة الإلهية، فتوالي النصوص في الزمان يجعل بعضها ناسخا وبعضها منسوخا؛ لذلك يكون من عيوب منهج النص استعمال المنسوخ بدل الناسخ، سواء داخل كل مرحلة، أو داخل آخر مرحلة يكتمل فيها الوحي. ويعني النسخ بهذا المعنى تطور الوحي في الزمان وبيان مدة العبادة؛ فالعبادة تتم في الزمان، والزمان وقت، والوقت تطور، والتطور تاريخ، ولا يهم بعد ذلك رفع الحكم أو عدم رفعه؛ فالمهم هو بيان وقته. وسواء كان ذلك رفعا أم غير رفع؛ فذلك خارج عن نطاق الحكم؛ لذلك كان من شروط النسخ انفصال الناسخ عن المنسوخ بمدة من الوقت. فالزمان هو الأساس «الأنطولوجي» للنسخ، وكأن الإنسان يحدث في حياة الإنسان، فهو تطور في الزمان الوجودي وليس في التاريخ، فالغاية من تطور الوحي في التاريخ هو تطور الشعور وارتقاؤه نحو الكمال، وكأن الناسخ أقوى من المنسوخ، وتتحدد قوته بمدى احتوائه العلم والعمل على السواء، ولكن يتم النسخ بالفعل في العمل وليس في النظر. لا يوجد نسخ للعلم النظري، بل في كيفية التطبيق العملي، وإن تغير الأساس النظري للسلوك ليس نسخا، بل تغير له من حيث الامتداد والاحتواء.
35
والنسخ أمر لا يتعلق بالتلاوة، بل يتعلق بالأحكام وبالسلوك البشري؛ فالنص مع أنه عمل أدبي يتذوق بالتلاوة، إلا أن النصوص كلها أدب على هذا النحو، لا فضل لنص على نص من الناحية الجمالية، ولكن نص الوحي جمال وتشريع، تذوق وسلوك، كما لا يعني النسخ تغيير الفكر المسجل في لوح أبدي، فتلك صورة فنية الغاية منها إثبات تدوين العلم؛ فالعلم المدون أكثر حفظا من العلم المروي شفاها، أو المحفوظ في الذاكرة، أو المتصور في الذهن ؛ لذلك قامت المعاملات على التدوين في وثائق، ودونت العهود والمواثيق، وكان حظ الكتب المقدسة التي لم تدون ساعة إعلانها، أقل بكثير من ناحية الصحة التاريخية من الكتب المقدسة الأخرى التي دونت ساعة تبليغها. فأم الكتاب أو اللوح المحفوظ صورتان فنيتان للتدوين، وتشخيصان للوحي، وتشبيهان له.
36
وقد يقع النسخ في حكم كلي أو في حكم جزئي؛ طبقا لحاجة التغير ومقدار التكيف مع الواقع؛ فلو كانت الحاجة جذرية والتكيف أساسيا حدث النسخ الكلي، أما لو كانت الحاجة ضئيلة والتكيف صغيرا كان النسخ جزئيا.
37
فالنسخ رفع، وليس تبديلا، كي يأتي حكم آخر خير من الأول، من حيث النفع أو مثله من حيث الكمال، ولكن هل يجوز النسخ في الأخبار كما هو جائز في الأحكام؟ إذا احتوى الخبر على تصور نظري فالنسخ لا يتعلق بالتصورات، فالمبادئ العامة التي يقوم عليها الوحي ثابتة لا تتغير، وإنما التغير في كيفية تطبيق هذه المبادئ في الزمان والمكان، حسب درجة استعداد الواقع، وطبقا لدرجة تحمل الطاقة الإنسانية، أما إذا احتوى الخبر أحكاما فإن النسخ يقع فيها. والنسخ لا يعني البداء؛ أي تغير العلم الثابت أو وقوع الخطأ فيه، بقدر ما يعني تكييف الحكم حسب الواقع، والوحي حسب التطور؛ من أجل تثبيت الشريعة، والمحافظة على التقدم الذي أحرزه الشعور الإنساني بفعل الوحي ودفعاته الأولى.
38
وإذا كان الوحي نوعين، قرآن وسنة، وهناك دليلان آخران إجماع وقياس، فهل يجوز لكل من الأدلة الأربعة أن يكون ناسخا والآخر منسوخا؟ إن الوحي ثابت لا يتغير بإرادة، حتى ولو كانت إرادة المرسل إليه؛ لذلك لا ينسخ القرآن إلا قرآنا، ولا ينسخ القرآن بالسنة على الإطلاق؛ فذاك بيان وتخصيص وليس نسخا. الوحي كما هو موجود في الكتاب قائم لا يمكن نسخه، إما بنفسه أو بسنة.
39
فالنسخ قضية خاصة بتطور الوحي في التاريخ، وقياس النظم على أساس القدرات الإنسانية واستعدادات الواقع، وقد اكتمل الوحي في آخر مرحلة؛ فالمنسوخ الموجود في الكتاب لا يزال قائما، كواقعة، أو كمثل، أو كنموذج، كقانون رخو مماثل لطبيعة رخوة. المنسوخ والناسخ إذن معا واقعة مثالية، وهي تكيف النظم والتشريعات طبقا لدرجة استعداد الواقع. إذا وقع النسخ فإنما يتم داخل كل درجة، الكتاب داخل بعضه بعضا، أو السنة داخل بعضها بعضا، ولكن السنة لا تنسخ القرآن؛ وكيف ينسخ الفرع الأصل؟ والقرآن لا ينسخ السنة؛ فكيف ينسخ الأصل الفرع؟ كيف ينسخ اللاحق السابق، وكيف ينسخ النظر العمل؟ القرآن لا ينسخ السنة؛ لا لأن السنة أصل عليه، بل لأن السنة توضيح عملي لا تحتاج إلى نسخ، والعمل يتغير بتغير الظروف، والسنة لاحقة على القرآن في الزمان. يكون النسخ هنا بيان تفصيل ووجه عبادة، ولا يمكن للقرآن أن ينسخ السنة فكلاهما وحي، وإن حدث فيكون القرآن تصحيحا للسنة وليس نسخا، ولكن يمكن أن تنسخ السنة السنة، ويمكن اعتبار ذلك بيانا مغايرا للبيان الأول، تغيير النظم بتغيير الواقع، وتظل واقعة التغيير نفسها هي النموذج. ولا ينسخ المتواتر إلا متواتر مثله، ولا ينسخ الواحد إلا متواتر أقوى منه، ولا يمكن نسخ المتواتر بالواحد أو الواحد بالواحد؛ فالواحد قد يكون منسوخا، ولكنه لا يكون ناسخا، في حين أن التواتر قد يكون منسوخا بتواتر، ويكون باستمرار ناسخا.
40
ولا يمكن نسخ شيء من القرآن والسنة بالإجماع أو بالقياس؛ فدليل النص، قرآنا أو سنة، أصل، والإجماع والقياس كل منهما فرع، والفرع لا ينسخ الأصل،
41
ولكن يمكن تخصيص عموم النص بالقياس الجلي.
42
ويستعمل النسخ كحل لمشكلة تعارض النصوص. ومع أن التعارض بين النصوص جزء من مادة علم أصول الفقه فيما يتعلق بالتعارض والتراجيح، إلا أنه يبدو أيضا كأحد مشاكل منهج النص. والتعارض لا يكون بالضرورة نسخا، بل قد يكون مجملا ومبينا، عاما وخاصا، مطلقا ومقيدا، مستثنى منه ومستثنى تأكيدا على البعد الشخصي للنص. فالسلوك منه ما تشترك فيه الجماعة، ومنه ما لا يكون إلا شخصيا فرديا خالصا. وقد ينشأ التعارض من وصف لنفس الفعل الفردي، ولكن في حالتين أو في ظرفين مختلفين؛ وهو ما يدل على أن الوحي ليس نظرا فحسب، بل هو وصف للنظر في مواقف عملية، وهو ليس نصا فحسب ، بل هو نص يتحقق في واقع؛ فإذا كان النظر هو الإنسان والوضوح، فإن العمل هو القدرات الشخصية والمتغيرات الفردية.
43
ومع ذلك فقد كان التعارض بين النصوص في حد ذاته موضوعا كلاميا مستقلا، ولكن من ناحية وحدة الوحي وعدم وقوع التناقض فيه دفعا للخلاف بين الفرق، وتمسك كل منها بنصوص لتأييد مذهبها؛ فانتقل الخلاف بين المذاهب نظرا لاعتمادها على الحجج النقلية، إلى تعارض بين النصوص، وضرب الكتاب بعضه ببعض، وتجزئته والقضاء على وحدته في المعارك الكلامية بين الفرق. والتشابه في الآيات له قصد عملي في السلوك؛ فيئول طبقا لحاجة كل عصر وظروفه، والتعارض إنما هو مسك للأطراف جميعا في بؤرة واحدة، وتجميع لوجهات النظر المختلفة في رؤية شاملة، كدرس تعليمي في الوحدة والتعدد، ما دمنا في إطار الثبات والتغير ومجرى التاريخ.
44
خامسا: اكتمال النبوة
بعد تطور النبوة يكتمل الوحي فتتوقف النبوة؛ فالنبوة لا تستمر إلى ما لا نهاية، وكل تطور ينتهي إلى بناء، وكل بداية لها نهاية، وكل تحقق له كمال. ومع ذلك، نظرا لارتباط الإنسان بالنبوة، وطول إلفه لها، وتعوده عليها، وركونه إليها، فإنه يظن أن حاجته لها دائمة، فيأخذ الوسيلة بلا غاية، ويتمسك بالنبوة دون تحقيق غايتها في استقلال العقل وحرية الإرادة، لا يتصور وقوف الخير، ولا انتهاء العون، طالما أنه مضطهد مهان مغلوب على أمره، في حاجة إلى قوة وغلبة، يتطلع إلى ما هو أقوى من العقل، وهي النبوة، وإلى ما هو أقوى من الإرادة وهو الله. ففي المجتمع النبوي المضطهد لا سبيل إلى مقاومته، أو الخلاص منه في المجتمع المضطهد، إلا باستمرار النبوة بنبوة جديد، أو بتأويل النبوة الأولى بوظيفة جديدة تكشف سر النبوة، كالإمامة أو الولاية أو الرؤية أو الحكمة، وربما أيضا الإلهام والحدس والفراسة والكهانة وكل وسائل الاطلاع على الغيب والمعارف المباشرة. تستمر النبوة إذن في مجتمع الاضطهاد، كما قد تستمر في النخبة والصفوة التي ترث النبوة وتنهل من نفس مصدرها، كولاية الولي ورؤية الصادق وحكمة الفيلسوف وصفاء نفسه، بصرف النظر عن كيفية الاتصال والحكم عليها نبوة أو إلهاما أو درجة من درجاتها. فعلى النقيض من اكتمال الوحي وبداية العقل تستمر النبوة ولا تتوقف، ثم يتوقف عمل العقل على الإطلاق. وبدل أن يستمر الاجتهاد يتوقف الاجتهاد وتستمر النبوة، وتظل الإنسانية في حاجة إلى وصي عليها، أو من يستعمل النبوة للوصاية عليها.
1
وقد يبلغ الأمر في القول باستمرار النبوة إلى حد القول بأن في البهائم رسلا. وما دامت هناك نبوة للجن والشياطين عند فريق أهل السنة، فلماذا لا تكون في غيرهم من الحيوانات والطيور والحشرات عند فريق آخر؟
2
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تستمر أيضا في النباتات وعند كل الكائنات الحية عند أنصار الحشائش والنباتات؟ ولماذا لا تستمر في الجمادات وهي عند الله أيضا كائنات حية تسبح له بلغة لا يفهمها البشر؟ أليس كل حيا ما دام مخلوقا من الله الحي الذي يتصف بصفة الحياة؟ والحقيقة أن القول بإطلاق النبوة على هذا النحو واستمرارها هو أيضا فرض للوصايا على الإنسان، واستعمال لغة النبوة في مجتمع الاضطهاد، ويقابل بها توقف النبوة في مجتمع السيطرة والقهر؛ سلاح بسلاح، ولا يفل الحديد إلا الحديد، استمرار النبوة عند المقهور في مقابل توقفها عند القاهر، وهذا تكليف ما لا يطاق؛ فالتكليف شرطه العقل والإرادة، ولا الحيوان ولا النبات ولا الجماد مكلف؛ لأنها تفتقد شرطي التكليف. يتصرف الحيوان بالطبيعة مثل النمل والعنكبوت، وليس بالعقل والإرادة، والحيوانات كالمجانين والأطفال والصبية تفقد أيضا شرطي التكليف، وإن مخاطبة الجمادات في القرآن تصوير فني؛ فالعالم عالم إنساني خالص. بالتصوير الفني يمكن الحديث مع مظاهر الطبيعة كما يفعل الشعراء، وبالنظرة الإنسانية إلى الكون يمكن الحديث مع الطبيعة. إن الرسالة لا تبلغ إلا للبشر، للكائنات الحية العاقلة الحرة؛ أي لكل ذي وعي ممكن؛ لأن مهمة الوحي تحرير الوعي الإنساني من الأسر الطبيعي أو الاجتماعي؛ كي يصبح وعيا مستقلا عقلا وإرادة. إن الإنسان وحده من سائر مخلوقات الكون هو المحاور لله والطرف المقابل له في الرسالة، وهذا تكريم من الله لبني آدم. والإنسان سيد الكون، وكل ما في الكون مخلوق له بما في ذلك الحيوان لطعامه وركوبه وزينته ومنفعته. الإنسان وحده هو المكلف، تقتصر النبوة عليه، ثم تتوقف حين اكتمال الوحي وتحقيق غايته باستقلال العقل وحرية الإرادة. (1) هل الإمامة استمرار للنبوة؟
قد لا تكتفي الإمامة بوظيفتها العملية في قيادة الأمة وتطبيق شريعتها، ولكنها تأخذ منحنى نظريا وتصبح تشريعية بدورها، ثم يتجاوز دورها إلى أن تصبح استمرارا للنبوة ومفسرا لها وكاشفا عن أسرارها، وقد يصل الأمر أخيرا إلى أن تتجاوز النبوة إلى الألوهية، فيصبح الإمام إلها ويعود العلم إلى التوحيد من جديد.
3
ويظهر ادعاء النبوة في الجماعات المضطهدة من زعمائها؛ إحساسا منهم بالرسالة، ورغبة منهم في تخليص مجتمعاتهم من الاضطهاد، وأن تسهل له قيادها، وأن تدين له بالطاعة والولاء. يشعر الزعيم أنه منادى وأن صوتا داخليا يناديه. وهو إحساس إنساني خالص، وليس له أي وجود واقعي، خاصة إذا كان المجتمع دينيا حديث العهد بالنبوة، يجد فيها الزعيم نفسه قادرا على التأثير إذا هو صاغ هذا الهاتف الباطني في صورة نبوة فعلية، حتى يحدث أثرها في السمع والطاعة. تبدأ النبوة إذن بإحساس صادق من قائد أحس مجتمعه بالظلم والاضطهاد، وأن عليه رسالة يؤديها، وأن هاتف الحق يدعوه للانتصار. النبوة هنا إحساس بالرسالة، وهو إحساس طبيعي في مجتمع مضطهد وفي قيادة مقهورة.
وتستمر النبوة في علي وأولاده حتى الابن السابع أو الثاني عشر، وهو المهدي المنتظر،
4
بل إنها ما كان ألا تكون إلا في علي لولا خطأ في المرسل إليه من الواسطة، أو خديعة من الرسول الذي ادعى الأمر إلى نفسه ولم يكن له. وقد تخطئ الواسطة عن قصد أو عن غير قصد، وقد يدعي الرسول النبوة له بالاتفاق والتواطؤ مع الواسطة أو بدونها،
5
وقد تستمر النبوة في الأئمة جميعا، وتصبح الإمامة نبوة وكل إمام نبيا في وقته،
6
وقد تستمر النبوة في دعاة الأئمة، وليس في الأئمة وحدهم، ويتحول داعي الإمام شيئا فشيئا إلى إمام ثم إلى نبي، وقد يغالي الداعية فينكر النبوة، ويجعل نفسه نبيا أو يجعل غيره من القادة أنبياء. وهنا تكون الدعوة أو الإمامة ضد النبوة وبديلا عنها، وليس فقط استمرارا لها أو مفسرة إياها، بل تكون هي النبوة الوحيدة، وينزل الوحي على الإمام، ويعلم الغيب وأسرار الله، ويكون مؤيدا بالنصر على الأعداء، وهو ما لم يحدث حتى للنبي.
7
وقد يصل الأمر بالإمام أو بالداعية النبي إلى حد الألوهية، فيصبح إلها لا فرق بين المرسل والمرسل إليه. وتتبادل المواقف بين الإله والإمام النبي؛ نظرا لسيطرة النبوة الرأسية على النبوة الأفقية؛ طلبا للقوة في مواجهة الخصوم، وطلبا للطاعة من الناس. فلا تهم الرسالة؛ أي النبوة الأفقية، بل يهم الخروج على مجتمع السيطرة وتجنيد الناس. وقد لا يدعي الإمام النبي بالضرورة الألوهية؛ إذ يفصل بين نفسه كإمام أو كداعية وبين الله، حينئذ قد يكتفي بأن تكون علاقته بالله علاقة حب ومعرفة، وليست علاقة اتحاد أو حلول. وإن رفع الإمام النبي إلى مرتبة الألوهية لتقابل خفض أعدائه إلى مرتبة الشيطانية أو الجنية. كلها حالات نفسية للرفع والخفض، للإيجاب والسلب، للإثبات والنفي.
8
وإذا لم يكن الداعية نبيا فهو على الأقل شريك في النبوة أثناء حياة النبي، ووريثها بعد مماته.
9
وإن لم يكن شريكا فهو على الأقل وصى للنبي، وقد يكون الوصي أحيانا أكثر أهمية من النبي؛ فالنبي أذاع الكلمة وبلغها، ولكن الوصي هو الذي يفسرها ويعطيها معناها ويكشف مخبأها. النبي بلا وصي صوت في الهواء، أو شكل على ورق، بل قد تتجاوز نبوة الداعية النبوة الأصلية، وتعطي علما لم تعطه الأولى.
10
وقد يبز الإمام أو الداعية النبي ذاته في العلم، فيعلم ما لا يعلمه بعد أن ورث علمه من النبي أولا، ثم فاقه وزاد عليه علما وعمقا وفهما، ويتحول الرسول إلى مجرد كاتب يعلم اللغات، في حين أن العلم الحي عند الإمام؛ وبالتالي تكون نسبة الرسول للإمام نسبة الأمي للعالم. وتتجاوز وظيفة الداعية المعرفية المعرفة العادية إلى المعرفة عن طريق الإلهام، وهي في الغالب المعرفة الصوفية. تنبع المعرفة في قلب الإمام وتصدر الحكمة منه، كما يعطي الداعية لنفسه الحق في معرفة الغيب ، وهي المعرفة التي لا يعملها أحد حتى الأنبياء، بل إنه ليس في حاجة إلى نبوة؛ لأنه الله، والله يعلم، وعلمه سابق على النبوة. ويكون الداعية قادرا على فعل المعجزات ما دام مؤيدا بالنبوة؛ نظرا لالتصاق النبوة بالمعجزة، ولشدة التوتر النفسي الذي يجعل الإنسان قادرا على الإتيان بالأفعال غير المتوقعة، حقيقة أو وهما.
11
والحقيقة أن اعتبار الإمام نبيا تعميم للنبوة، في حين أن النبوة واقعة فريدة لا تتكرر. النبي هو وسيلة الاتصال بين نبع الوحي والآخرين، وسيلة واحدة خاصة، في حين أن وظيفة الإمام وظيفة عملية خالصة، وليست نظرية كوظيفة النبوة، تنحصر في تطبيق الوحي، وتحويله إلى نظام للجماعة؛ فإذا كانت وظيفة النبوة نظرية وعملية فإن وظيفة الإمام عملية خالصة، ولا تتجاوز الجانب النظري إلا بالاجتهاد في الفروع. تتمثل خطورة الإمام النبي أو الداعية النبي في فتح الباب لظهور الأدعياء والمتنبين والمجانين، وكل من لديه إحساس بالاضطهاد، أو كل من لديه إحساس بأنه مختار مخلص صاحب رسالة. وكثيرا ما يحدث ذلك في المجتمعات التي تعتقد بالإمامة وبالنبوة، كما تتمثل أيضا في تحويل الإمامة من الوظيفة العملية إلى الوظيفة النظرية، وكثرة التفسيرات الخيالية للوحي، وتصريف الطاقة البشرية في نظريات عن الحياة والكون والإنسان يغلب عليها طابع الإشراق؛ فيضعف العقل، ويعود إلى ما قبل اكتمال النبوة، ناقصا في حاجة إلى عون؛ وتضعف الإرادة، وتعود أيضا إلى ما قبل اكتمال النبوة، ناقصة في حاجة إلى معين. والحقيقة أن ادعاء النبوة يقوم على أسس نفسية في مجتمع الاضطهاد وفي القيادة المضطهدة، سواء ادعاها القائد عن سوء نية حتى تتم له السيطرة على الجماعة، أو بصدق اعتقاد. فادعاء النبوة في كلتا الحالتين وسيلة يصطنعها القائد لإحداث السمع والطاعة، وليس تحولا طبيعيا من الإحساس بالرسالة إلى سماع الهاتف. وقد نشأ الأنبياء الدعاة أو الأئمة الأنبياء في مناطق الكوفة وجوها النفسي؛ جو الاستشهاد، والذي يبعد عن جو البصرة وبغداد الذي يغلب عليه العقل والمنطق. وقد يستعير الإمام أو الداعية المتنبي بعض الصور والأفعال النمطية من النبوات السابقة؛ فقد يتمثل المدعي للنبوة حياة النبي وسيرته، فيكون حرفيا مثله بائع حنطة، أو تبان أسوة بباقي الأنبياء الذين كانوا رعاة ونجارين، وحتى تبدو النبوة في أضعف الناس وأبسطهم وأبعدهم عن الهرج والهالة والأضواء «يوضع سره في أضعف خلقه».
12
كما يدعو أثر تاريخ الأديان في بعض الأساطير التي تحيط بهم، خاصة وأن القائلين بها كانوا على علم بأساطير مشابهة في دياناتهم التي كانوا يعتنقونها قبل دخولهم في الدين الجديد.
13
ولكن ما يهمنا اليوم ليس تكذيب نبوة هذا أو ذاك؛ فهذا أمر لم يعد له دلالة الآن، ولم يعن لهذه الفرق القديمة وجود، ولا ينتج عن ذلك إلا إثارة الأحقاد في وقت تحتاج الأمة فيه إلى وحدتها بين سنة وشيعة، خاصة بعد اندلاع الثورة الإسلامية الكبرى في إيران، والتأكيد على أن ليس المهم في الإمامة عقائدها النظرية، بل آثارها العملية، وهو مقياس أصولي بين الظن النظري واليقين العملي. (2) هل الرؤية أو الحكمة استمرار للنبوة؟
هل تقوم الرؤية مقام الإمامة وتأخذ وظيفتها في استمرار النبوة؟ هل الرؤية الصالحة درجة من درجات النبوة؟ إذا كانت الرؤية قبل ختم النبوة واكتمال الوحي، وقبل المرحلة الأخيرة فهي ممكنة، بل إن النبوة ذاتها ممكنة حتى ولو لم يقصها الوحي؛ فلربما دعا إليها من الأنبياء الذين لم يقصوا علينا، وربما كانوا من حكماء البشر وملهميهم.
14
أما بعد اكتمال الوحي وختم النبوة فالرؤية خيال باطل بالنسبة للنبوة، وإن كان يمكن أن تكون حقا بالنسبة إلى قدرة الإنسان على التنبؤ بمستقبله، مثل قدرته على تذكر الماضي ومعرفة الحاضر؛ فالإنسان ممتد في الزمان، ووعيه متصل من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، وإن هموم الإنسان لتظهر في الأحلام، وتوقعاته للمستقبل تتراءى في الحاضر؛ وبالتالي يسهل تفسيرها وقراءتها وترجيح أحد احتمالاتها على الأخرى. وإن رؤيا النبي ليست جزءا من نبوته؛ لأن النبوة لا تتم إلا في حالة اليقظة؛ حتى يتم استيعاب الوحي وحفظه، أو تبليغه لكتبة الوحي للتدوين؛ فالوحي كلام والرؤية مجرد صور. وليس كلام الوحي من اختيار النبي ليصف به ما يراه من صور، بل هو وحي بالمعنى واللفظ. إن رؤيا النبي، مثل رؤى غيره من البشر، تعبير عن همومه اليومية وتطلعاته المستقبلية.
15
الرؤيا لها تفسير طبيعي في حياة الإنسان، ولا شأن لها باتصال المرسل بالمرسل إليه، وهي مثل ما يخطر للبصر دون حضور موضوع؛ أي الرؤية الباطنية للشعور بعد قلب النظرة. ويتم ذلك في حال اليقظة كما يتم في حال النوم، ومثلها مثل أحلام اليقظة، وهي من فعل الطبائع؛ طبيعة النفس وطبيعة البدن، وليست من فعل الله. وإذا كان صدق الرؤيا لا يتحقق إلا في الواقع، يكون الواقع هو المحك في صدق الرؤية؛ وبالتالي لا تحتوي الرؤيا على صدقها الباطني. هي مجرد أضغاث أحلام تعبر عن مكنونات النفس، ولا شأن لها بالصدق أو الكذب؛ فهي ليست وسيلة للمعرفة، بل استمرار لحياة الشعور دون حالة اليقظة، وإعمال لخيال الإنسان في غياب العقل الواعي؛ فهي تفكير من نوع خاص، وتفسيرها الصادق إنما يتم بعد الوقائع، ثم قراءة هذا الواقع في صور الرؤيا. ولو لم تحدث الوقائع على هذا النحو لما أمكن أن يكون للرؤيا أي معنى.
16
فإن لم تكن الرؤية استمرارا للنبوة، فهل الحكمة استمرار لها؟ هل تستطيع النفس بتصفيتها أن تدرك ما يدركه النبي؟ هل يستطيع الحكيم بعقله أن يدرك الحقائق كما يدركها النبي؟ والحقيقة أن السؤال نفسه إنما يتوجه إلى النبوة الرأسية، لا إلى النبوة الأفقية؛ أي إلى نظرية الاتصال، وليس إلى النقل المتواتر. هو سؤال علوم الحكمة في نظرية الاتصال، وليس سؤالا في علم الأصول بشقيه؛ علم أصول الدين وعلم أصول الفقه الذي يتوجه إلى النبوة في التاريخ وعبر الأجيال كعقائد نظرية وكسلوك عملي. إن تجرد النفس الناطقة بطبيعة الحال يجعلها قادرة على إدراك الحقائق النظرية، كما أن تفاوت النفوس في درجات الصفاء والتجريد تجعلها أيضا متفاوتة في درجات الإدراك. فالوحي بهذا المعنى عام وليس خاصا، يستطيعه الفيلسوف كما يستطيعه النبي.
17
واعتبار الوحي تعبيرا عن الطبيعة الإنسانية ليس إنكارا للنبوة بقدر ما هو إثبات لدوامها عن طريق نزوع الطبيعة ؛ فالطبيعة هي الوحي، والوحي هو الطبيعة، وكل ما يميل الإنسان إليه يطبعه هو الوحي، وكل ما يتوجه به الوحي هو اتجاه في الطبيعة. الوحي والطبيعة شيء واحد. ولما كانت الطبيعة مستمرة فالوحي بهذا المعنى مستمر، والنبوة دائمة، ولكنا أنبياء يوحى إلينا من الطبيعة، وصوت الطبيعة هو صوت الله. والوحي الطبيعي هو أكبر رد فعل على الوحي الرأسي؛ فهو وحي بلا معجزات ولا ملائكة ولا أنبياء، ومع ذلك يقر بالتوحيد وبالبعث وبالجزاء؛ مما يجعل استعمال لفظ الوحي هنا استعمالا مجازيا خالصا، أي إدراك العقل القائم على الطبيعة، وبطبيعة الحال يستمر الوحي بهذا المعنى طالما أن هناك عقلا وأن هناك طبيعة.
18 (3) حفظ الوحي وبقاء الشريعة
وقد يضاف إلى الادعاء بالنبوة والقدرة على إجراء المعجزات القول بنسخ القرآن، وإبطاله كله أو بعضه، وبقدرة الإمام النبي على إحضار قرآن جديد ووحي آخر وشريعة بديلة، فيتوقف الوحي القديم ذاته، وتنسخ شريعته كلية، ويفسح المجال إلى الإمامة؛ النبوة الجديدة. ويكون الإمام الجديد من الصابئة؛ أي من دعاة الدين الطبيعي، ولا يكون من العرب، بل من العجم؛ مما يدل على الدافع السياسي وراء القول باستمرار النبوة ونسخ آخر شرائعها. فإن لم يتم استبدال العرب كلية، فيمكن استبدال فريق بفريق، وظهور الإمام النبي في الجماعة المضطهدة؛ لذلك يجوز البداء والنسخ، ليس فقط داخل آخر مرحلة، بل أيضا بعدها.
19
وقد يشكك في الوحي المدون نفسه، كله أو بعضه؛ فقد انتقل القرآن ورفع، أو أحرقت المصاحف قبل أن تجمع، فالقرآن الأول غير القرآن الثاني، وقد يحدث فيه التبديل زيادة أو نقصانا، مثال ذلك إخراج قصة يوسف من القرآن؛ لأنها قصة عشق، وكأن العشق ليس أحد مظاهر الوجود الإنساني مثل النبوة والعصمة.
20
ولا خفاء في أن الدافع لذلك دافع سياسي خالص؛ من أجل التشكيك لدى العامة في الرسول ودحض شرعيته، إما بزيادة نص أو بنقص آخر كان ينص صراحة على إمام آخر.
وقد يبدو من المتناقض التسليم بأن النبوة في آخر الزمان. والحقيقة أن هذه معتقدات أهل السنة في علامات الساعة من أمور المعاد، ولكن المسيح الدجال لن يأتي بنبوة جديدة؛ فقد توقفت النبوة، وإلا لظلت الإنسانية قاصرة حتى نهاية الزمان تنقصها مرحلة، ابتداء من ختم النبوة حتى المسيح الدجال، معلقة في التاريخ، لا هي ناقصة تتطور، ولا هي كاملة تعتمد على نفسها. ولا يأتي بشريعة جديدة، ولكنه ينزل على شريعة الإسلام، فيطبقها عنوة بعد أن تراخى في تطبيقها الحكام، وتساهل فيها الناس، ويحيي القرآن في قلوب الناس بعد موات.
21
ومعظم الروايات عن آخر الزمان إنما تعبر عن الأمل في المستقبل والثقة بالنصر، تعويضا عن ضعف الحاضر وهزائمه. فإذا ما ظهر في القدس أو حتى داخل العالم الإسلامي، فإنه يحرر الأرض ويقضي على مظاهر القهر، ويعيد توزيع الثروة، ويوحد الأمة، ويقضي على التغريب، ويقاوم التخلف، ويجند الجماهير، كل ذلك تعبيرا عن تطلعات المسلمين اليوم.
سادسا: وقوع النبوة
بعد الحديث عن إمكانية النبوة يأتي وقوع النبوة بالفعل. وما يهمنا هو وقوعها في المرحلة الأخيرة التي تتضمن من قبل وقوعها في المراحل السابقة، فالنهاية تدل على البداية في حين أن البداية لا تدل على النهاية. الحديث الأول مجرد حديث في الإمكانيات النظرية وعدم الاستحالة العقلية، في حين أن الحديث الثاني هو نقل لما وقع بالفعل، وتناول لموضوع تاريخي، بالإضافة إلى صحة نقله، بالرغم من هذا الوقوع إلا أنه يمكن أيضا وجود أدلة عليه، إما الأخبار منها في كتب الأنبياء السابقين، أو أحوال النبي قبل البعثة، أو المعجزات بالمعنى القديم، أو الإعجاز بالمعنى الجديد. (1) أخبار الأنبياء السابقين
إذا كانت كل مرحلة تؤدي إلى المرحلة التالية، فإن هذا التطور يكون مخبرا عنه؛ فالمرحلة السابقة تخبر عن قدوم مرحلة لاحقة؛ فالدليل على خاتم النبوة هو إخبار كل نبي سابق بما سيتلوه من تنبؤات وما يتبعه من أنبياء. والحقيقة أن هذا الدليل ليس حاسما من حيث الواقع وإن كان مقبولا نظرا؛ فدقة الوصف بالمكان والزمان والتعيين والاسم قد لا يكون دليلا على الصدق، بل قد يكون دليلا على الكذب، كما هو الحال في بعض الكتب السابقة، مثل إنجيل يوحنا الذي يكثر من هذه التفصيلات للإيهام بالصحة التاريخية؛ فتفصيلات الإطار حتى ولو طابقت الواقع قد لا تعني صدق الواقعة. وماذا لو كان النص السابق محرفا ومبدلا في نصوص لم تثبت صحتها تاريخيا؟ وماذا لو كان النص موضوعا وكثير من النصوص قد تم وضعها بعد حدوث الواقعة إسقاطا من الحاضر على الماضي؟ وماذا لو كان النص الأصلي محذوفا أو منقوصا من أجل تزييف الوقائع والطعن في شرعيتها؟ وماذا لو كان النص مؤولا بحيث ينطبق على الواقعة بعد حدوثها ولا يشير إليها؟ وماذا لو كان النص بغير ذي دلالة، ثم تحدث الواقعة فتجعل النص دالا، بل وتخلق فيه دلالته قصدا بعد أن كانت الدلالة بالمصادفة؟ وكيف يمكن الاستدلال بالمراحل السابقة وهي منسوخة، خاصة إذا جاز النسخ في الأخبار جوازه في الأمر والنهي، وإذا جاز في العلم جوازه في الإرادة؟ وهل من الضروري أن تعلمه المراحل السابقة وتخبر عن قدوم مرحلة لاحقة، أم أن ذلك يتكشف من الموضوع ذاته من خلال علاقة داخلية؛ علاقة الوسيلة بالغاية، أو العلة بالمعلول، أو المقدمة بالنتيجة، أو الافتراض بالقانون؟ ولا يدخل هذا الإخبار ضمن المعجزات؛ لأنه ليس خرقا لقوانين الطبيعة، ولا نقضا لمجرى العادات.
1
ولن يقنع الإخبار به إلا أصحاب الدين الجديد الذين آمنوا بالمراحل السابقة، وقدروا على تجديد الدين. أما الأمم الأخرى التي لم تبلغها المراحل السابقة، أو التي بلغتها وأصرت على المحافظة على دين الآباء، فيظل الإخبار بالنسبة لهؤلاء بغير ذي دلالة، كما أن مجرد الخبر هو إيمان بالرواية دون العقل، والرواية ظنية طبقا لنظرية العلم؛ ومن ثم يصبح وقوع النبوة معتمدا على إخبار الأنبياء السابقين ظنيا خالصا. (2) أحوال النبي قبل البعثة
هل يمكن اعتبار أحوال النبي قبل البعثة دليلا على وقوعها وإثباتا لها؟ إن معظم ما ينقل عن ذلك إنما يأتي أيضا من الأخبار، وليست السابقة التي تنتهي إليه بتحقق النبوة، بل اللاحقة عليه التي تقص من أخبار الماضي، وهي في غالبها أخبار آحاد لا تفيد إلا الظن، والمتواتر منها أيضا بمفرده لا يفيد إلا الظن، طبقا لنظرية العلم؛ لاحتياج الدليل النقلي إلى دليل عقلي ولو واحد. وكثير من هذه الأخبار قد وضعت بعد البعثة، إسقاطا من الحاضر على الماضي؛ فبعد ظهور العبقرية يتم الحديث عن بوادرها، وبعد وقوع النبوة يتم اكتشاف إرهاصاتها. وغالبا ما كانت في كتب السيرة تبجيلا للرسول، وتعظيما للنبي من أجل جعله فوق مستوى البشر، متفردا بالوقائع، مصطفى بالصفات. وعلم السيرة ليس علم أصول الدين؛ الأول نقلي خالص والثاني نقلي عقلي، تكفي في الأول الحجج النقلية في حين أنها تظل في الثاني ظنية، ولا تتحول إلى يقينية إلا بحجة عقلية ولو واحدة، طبقا لنظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى. ولو كانت معجزات قبل البعثة فإنها لا تدل على البعث؛ لأن هذه المعجزات قد وضعت قبلها. وتكون المعجزة دليلا على صدق النبوة إذا كانت مقارنة لها، لا قبلها ولا بعدها. وإذا كان الرسول لا يكون كذلك قبل البعثة، وهو مجرد إنسان عادي، لا نبيا ولا رسولا قبل البعثة، فكيف تظهر عليه أحوال غريبة؛ كرامات أو معجزات؟ وإذا كانت هذه الأحوال مجرد كرامات قبل البعثة ومعجزات بعد البعثة، فهل ننتظر من الأولياء الذين تظهر عليهم الكرامات أن يتحولوا إلى أنبياء فيما بعد؟ ليست المعجزات قبل البعثة مقدمات لتلك التي تقع بعدها؛ فالمعجزة لا تحتاج تقديما بمعجزة أخرى، أو تصديقا لما سيأتي بعدها من معجزات، وإلا لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وظهرت ضرورة معجزة أولى صادقة بذاتها لا تحتاج إلى معجزة أخرى قبلها. وإن حياة النبي قبل البعثة جزء من حياته الخاصة وليست العامة.
وقد تقسم أحواله قبل البعثة إلى أمور في ذات الرسول، وإلى أمور في صفاته، وإلى أمور خارجة عنه؛ فالأمور التي في ذاته مثل النور الذي كان يتقلب في آبائه إلى أن ولد، وهي حتما صورة مجازية للخير والحق والعدل، والنور صورة إلهية ولغة النبوة في الديانات القديمة. والتقلب في الآباء إحدى صور التناسخ، أو أحد مظاهر حلول الأبوة في البنوة في الديانات القديمة أو الفرق الكلامية . وهو ضد التصور الإسلامي الذي يجعل المسئولية فردية، بما في ذلك النبوة التي لا تورث ولا تورث بنص الوحي.
2
وكيف يتولد النور في آباء النبي ولم يكونوا مهتدين بعد بما في ذلك الجد والعم؛ الأقرباء المباشرون الذين رأوا الرسول قبل البعثة، أو الذين بلغتهم البعثة وهم أحياء. أما إن كان في ولادته مختوما مسرورا، نزل واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سوأته، فذلك تقابل الخير والشر، النور والظلمة، فاليد على العين حماية لها من النور، واليد على السوأة تغطية لها. فالرسول خير وليس به شر، وهو ما يضاد المألوف في الولادة؛ فالجنين لا يتحرك إراديا ولا يعرف مكان عينيه من سوأته، وربما يكون مغمض العينين من دماء الرحم، والسوأة إدراك اجتماعي ينشأ بالتربية، وقد يكون ذلك تغطية لموضع الوطء في مجتمع يسوده الشذوذ الجنسي ووطء الولدان. أما أن يكون خاتم النبوة بين كتفيه، فهو تحويل المعنى إلى شيء؛ فالختم هو النهاية وليس الخاتم، كما هو واضح في «وختامه مسك». وكيف يدخل الخاتم رحم الأم؟ وهل يكون في الأصبع أم بين الكتفين؟ وكيف يقبض الجنين عليه ولا يقع؟ وما حجم الخاتم وشكله ومعدنه؟ وكيف لم يرفض جسد الأم الجسم الغريب منه؟ أما أن تطول قامته عند الطويل وتتوسط عند الوسيط، فذلك يدل على أن رؤيته ذاتية خالصة، وأنه يبدو على أحسن وجه طبقا لتصور الرائي، وأن الذات هي التي تخلق الموضوع، وأن الإنسان يرى العالم على شاكلته، وكما يهوى ويرغب؛ فالمسيح عند الأسود أسود، وعند الأبيض أبيض، والرسول عند الطويل طويل وعند القصير قصير. أما الرجم بالنجوم عند قرب بعثته، وكون ذلك سبب إسلام قوم من الكهنة، فهو إدخال لعنصر الطبيعة في النبوة؛ فالطبيعة أيضا تشعر بالنبي وتتنبأ به وتتهيأ له؛ ولذلك نموذج في الإنجيل بتنبؤ ملك المجوس بولادة المسيح بالنظر إلى النجوم. والنجم في التصور القديم جسم لطيف منير، له روح وعقل ونفس وحياة؛ وبالتالي فهو صادق فيما يخبر به.
3
والنوع الثاني من أحواله قبل البعثة هي أمور في صفاته، مثل الصدق والأمانة والعفاف والشجاعة والفصاحة والسماحة والزهد، وبلوغه النهاية في العلوم والمعارف، وتمهيد المصالح الدينية والدنيوية. وهي صفات عامة لا تميز النبي عن غيره، ولا الرسول عن باقي البشر؛ فقد كان الصحابة كذلك. وهناك شجاعة القادة، وفصاحة الخطباء، وسماحة الأتقياء، وزهد الأولياء، وأمانة الأمناء على بيت المال، وصدق المخلصين، وعفاف المؤمنين، وعلوم الحكماء، ومعارف الصوفية، ودفاع الفقهاء المحتسبين عن المصالح الدينية والدنيوية، وإلا كان الكل أنبياء ورسلا، ولم يتميز عنهم خاتم النبوة بشيء، ولكانت النبوة سمات إنسانية خالصة، وقيما إنسانية رفيعة تستهوي الناس كما تستهويهم سير الأبطال والقادة والعلماء.
4
أما النوع الثالث من أحواله قبل البعثة وهي الأمور الخارجة عنه، فهي تجمع بين الصفات الجسدية العضوية ومظاهر الطبيعة، وذلك مثل شق بطنه وغسل قلبه. والحقيقة أن ذلك لا يتعدى صورة معنوية للطهارة، كما هو الحال في الأمثال العامية. فالقلب ليس في البطن بل في الصدر، والشرور ليست في القلب عالقة به فيغسل منها، ولكنها صفات في الأفعال يدركها العقل وتختارها الإرادة. وإن كان الرسول خيرا محضا دون شر، فقد انتفت حرية إرادته واختياره بين الخير والشر، وامحى منه التكليف وضاع منه الاستحقاق. وهي صورة رمزية للعصمة التي ستصبح إشكالا نظريا فيما بعد عندما يتحول صدق الرسالة إلى عصمة الرسول. أما إظلال الغمامة فوقه فهي صورة للحماية والحفظ والرعاية، ولكن هل الحماية من مظاهر الطبيعة فقط أم الحماية من شرور البشر وضغائن الأعداء؟ وهل الأمراض من حرارة الشمس وحدها؟ وأين الحماية من البرد وسائر الأمراض؟ وكيف توجد الغمامة في الحر القائظ وعدم وجود البخار من البحار؟ وكيف تظلل الغمامة وهي تسير بسرعة الريح إنسانا يسير بسرعة الإبل؟ أما تسليم الحجر والمدر عليه فهو نوع من تعرف الطبيعة وحساسيتها للنبوة في مقابل جحود البشر والتنكر لها. وحديث الطبيعة مع النبي معروف في تاريخ الأديان من قبل، مثل حديث سليمان مع الهدهد والنمل. وحديث الحجر أعجوبة في مجتمع صحراوي فيه الحجارة في وحشة الصحراء، وسلام المدر أيضا أمنية في مجتمع صحراوي يرنو فيه الإنسان للبعيد إذا ما عز القريب.
5 (3) هل له معجزات بالمعنى القديم؟
إذا كانت المعجزة بالمعنى القديم وفي المراحل السابقة على ختم النبوة هي خرق قوانين الطبيعة والجريان على غير المألوف، فإن هذا المعنى لا يكون ساريا في آخر مرحلة من مراحل النبوة عندما يكتمل الوحي وتتحقق غايته، وهو استقلال العقل وحرية الإرادة، وإلا كان ذلك ارتدادا للماضي وعودا إلى التبعية وحاجة الإنسان إلى وصايا خارجية، وذلك إنكار للتقدم والتحقق وقدرة الوحي على تربية الإنسانية وكمالها ورقيها. المعجزة يقين خارجي لا ينفع في مرحلة اكتمال الوحي واستقلال العقل والإرادة، بل إنها تكون مناقضة لهما؛ فالإسلام دين العقل والحرية، ولا تنفع معه خرق قوانين الطبيعة التي تنهدم بها قوانين العقل، ويكون الفعل فيها لقدرة خارجية وليس لقدرة الإنسان؛ فالمعجزة مستحيلة من حيث المبدأ في آخر مرحلة من مراحل النبوة، ولكن هل هي واقعة؟
6 (أ) استحالة نقل المعجزة بالآحاد أو بالتواتر
إذا كانت المعجزة واقعة بالفعل، فليس هناك من سبيل إلى معرفتها إلا بالنقل، ولا يكون النقل إلا بأخبار الآحاد، أو بالأخبار المتواترة. وأخبار الآحاد لا تورث إلا الظن ولا يحدث بها اليقين، وتظل محتملة الصدق والكذب. وكثير من روايات المعجزات أخبار آحاد، وأخبار غير متواترة؛ لذلك كانت كلها في الأحاديث وليست من القرآن؛ لأن القرآن خبر متواتر نقله الكافة عن الكافة، وليس كالحديث الذي به الآحاد والمتواتر. والآحاد لا يورث علما؛ ومن ثم لا يكون الآحاد طريقا إلى العلم بوقوع المعجزة.
أما المتواتر، فليس مجموع آحاد، بل له شروط أربعة في مقدمتها الاتفاق مع الحس والعقل، بالإضافة إلى العدد الكافي الذي يستحيل معه التواطؤ، واستقلال الرواة عن بعضهم البعض، وتجانس انتشار الرواية في الزمان. لا يمكن إذن إثبات المعجزة بالتواتر؛ لأنها تعارض شهادة الحس وبداهات العقل ومجرى العادات، وهي أحد شروط التواتر، والتواتر فيها ليس مثل التواتر على شجاعة علي؛ لأن شجاعة علي تطابق الحس ومجرى العادات، وليس فيها ما يناقض أوليات العقل أو قوانين الطبيعة. وكثير من روايات المعجزات كانت في أصلها آحادا ثم أصبحت متواترة.
7
وقد توفرت الدواعي نظرا لغرابتها وشهرتها على نقلها متواترة، ولكن لم يحدث، وظلت آحادا؛ مما يدل على أنها رؤية أفراد؛ أي إدراك ذاتي لمعجب أو لجمهور أو خطأ حواس لمخدوع. ولا يمكن إثبات المعجزات بالاضطرار أو بالنظر والاستدلال القائم على التواتر؛ فالمعجزات لم تتواتر إلا بعد أن كانت آحادا، وربما كانت بدايات الآحاد وضعا؛ فهي تفقد إذن شروط التواتر. لقد وضعت الأحاديث التي تروي المعجزات في فترة متأخرة، ثم نسبت إلى مبلغ الوحي، ثم اختلقت الشواهد الحسية والوقائع المعينة والتحديدات الزمانية والمكانية؛ للإيحاء بأن الراوي إنما قد روى عن مشاهدة مباشرة ومعاينة للوقائع ومعاصرة للأزمان. وهذا معروف في تاريخ الأديان؛ فقد حدث نفس الشيء في رواية الإنجيل الرابع عندما أعطى الراوي التحديات الزمانية والمكانية ووصف الوقائع المادية؛ ليوحي بالمعاصرة مع أنه موضوع في عصر متأخر. وهناك عدد آخر من الروايات لا تذكر المعجزات وتسكت عن تكذيبها. والسكوت ليس دليلا على التصديق وإن لم يكن دليلا قاطعا على التكذيب، كما أن السكوت ممكن على اختلاف الأحاديث الراوية للمعجزات وفي عصر متأخر، ولو كانت موضوعة في عصر متقدم لأمكن تكذيبها، وإذا كان العصر المتأخر هو الذي وضع الأحاديث فإن ذلك يدل على أنها حاجة اجتماعية شاملة تعم الجميع؛ الرغبة في تعظيم الأشخاص. فالسكوت عليها ليس سكوتا في الحقيقة، بل تعبير عن رضا جماعي، لا عن تواطؤ، بل عن حاجة. وقد كان في كل عصر من يكذب هذه الأحاديث، إن لم يكن بالنقد الخارجي فبالنقد الداخلي اعتمادا على العقل؛ ففي عصر النقل والتفسير بالمأثور كان الغالب هو النقد الخارجي للرواية، ولكن في عصر متأخر ظهر النقد الداخلي القائم على العقل، وبدأ الشك في المعجزات ليس فقط كرواية ولكن أيضا كموضوع، ليس فقط في السند ولكن أيضا في المتن، ليس فقط في الوضع التاريخي بل أيضا في خلق الواقعة. وربما في عصر آخر تصبح رواية المعجزات أكثر ضررا على الأمة من أي شيء آخر، إذا ما كان الجيل يدعو إلى التأكيد على سلطان العقل، ودور العلم، والاعتماد على الحرية والتخطيط، وليس على إجراء المعجزات.
ولا يتعلق الأمر بالسند وحده، بل يتعلق أيضا بالمتن؛ أي بصياغة الخبر؛ فالتواتر وإن كان شرطا في السند إلا أن النقل الحرفي هو شرط المتن، بلا زيادة أو نقصان، أو تقديم وتأخير، أو إظهار أو إضمار. والنقل بالمعنى مثل خبر الآحاد لا يورث المعجزات زيادة أو نقصانا، وفي وصفها إجمالا أو تفصيلا مدعاة للشك فيها؛ وبالتالي في رواياتها، وعادة ما يكون الاتجاه في الرواية نحو الزيادة أكثر مما هو نحو النقصان؛ فكلما زاد التعظيم والإجلال زادت قدرة الخيال الشعبي على خلق الوقائع في السير وتاريخ الأبطال، وكلما حضر المعنى وتوترت النفس به نسج الخيال وقائع دالة عليه؛ فالمعنى هو الذي يخلق الواقعة أكثر مما تدل الواقعة على المعنى. ويحدث ذلك إذا ما كانت هناك واقعة واحدة نمطية تستخدم كأصل في القياس الشعوري، فتختلق طبقا له عدة وقائع أخرى على نفس المنوال، وإذا ما تم ذلك في بيئة ثقافية وسياسية مواتية، مثل الأمية والقهر السياسي، يزداد عمل الخيال من الدعاة والقصاصين والرواة؛ إلهاء للناس عن مشاكلهم اليومية، وإغراقا في الإعجاب بسيد المرسلين. فيسر الحاكم الجالس وراءهم والمستفيد من مدح المداحين مرة لسيد المرسلين وخاتم النبيين، ومرة لأمير المؤمنين ورئيس المجاهدين.
ولا يعني إنكار هذه المعجزات القديمة الظنية إنكار وقوع النبوة؛ فوقوع النبوة لا يثبت حتى بالمعجزات المتواترة بهذا المعنى القديم، ولا يعني وجود قدرة مطلقة، إنها تثبت إطلاقها وسلطانها بالوقوف أمام قدرات أخرى؛ قدرة العقل وقدرة الطبيعة، بل الأقرب أن تكون متفقة مع العقل والطبيعة. وما دام العقل أساس الوحي، وأن بديهيات العقل ومسلماته هي ذاتها حقائق الوحي وتصوراته، فلا يكون هناك أي دور للمعجزة. النبوة طريق لإيصال الوحي، والوحي هو العقل، ولا حاجة إلى دليل لإثبات النبوة أو لصدق النبي إلا اتفاق رسالته مع العقل. ليس الشك في هذه المعجزات القديمة غياب التحدي منها، بل لوقوعها ومعارضتها للعقل والطبيعة ولجوهر الوحي في آخر مراحله. إن إثبات صدق المعجزة بصدق الرواية حتى ولو كانت متواترة، هو إثبات صدق خارجي بصدق داخلي آخر، وابتعاد عن الصدق الداخلي للنبوة مع مزيد من التضحيات بأوليات العقل وقوانين الطبيعة وشعور الجماعة، ورجوع بالوحي إلى الوراء، إلى مراحله الأولى، وكأن الإنسانية لم ترتق، وكأن وعيها لم يكتمل باستقلال العقل وحرية الإرادة. وما الفائدة من جعل النبي هرقلا؟ لقد كان من الصحابة مثل عمر خاصة معجبا بجانبه الإنساني؛ بشخصه وبعدله وبمبادئه وبرعايته لمصالح الناس، وكان العقلاء معجبين برسالته وبشريعته دونما حاجة إلى إجراء المعجزات. وهل حديث الحيوانات وشهادة الإبل بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله شرف للتوحيد؟ وأين البراهين على وجود الله والدلائل على صدق النبوة إمكانا ووقوعا، هل تفهمها الإبل؟ إن هذا الجانب لأضعف أجزاء علم أصول الدين مع أمور المعاد، ولا يوازي الذات والصفات والأفعال. صحيح أنها ضمن السمعيات دون العقليات، ولكن يمكن نقل السمعيات خطوة نحو العقليات، وجعلها كلها عقليات. وقد كانت في الطريق إلى ذلك لولا توقفها في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى. (ب) تصنيف المعجزات
لو كانت المعجزات في كتب موحى بها لطبقت عليها عدة مناهج، مثل تحليل الأشكال الأدبية.
8
ومع ذلك يمكن إجراء ذلك على متون الحديث بالرغم من ظنيتها، ويكون مقدمة نحو نقل السمعيات إلى العقليات، ونحو نقل العلوم النقلية، مثل علوم السير والحديث إلى العلوم العقلية. وسيقتصر التحليل على شيئين: الأول وضع المعجزات في إطار تاريخ الأديان؛ فقد صيغت بناء على أنماط مثالية سابقة معروفة ومروية في الجزيرة العربية، وشكلت خيال الرواة للدين الجديد، وربما وضع كثير منها في نطاق دسائس اليهود والنصارى إرجاعا للإسلام إلى المراحل السابقة، وطمسا لخصائص الدين الجديد؛ لأنه على مستوى المعجزات لا يمكنه الصمود أمام القدر الهائل منها في النبوات السابقة. والدليل على ذلك وضع علماء أصول الدين ما يسمى بالمعجزات الجديدة في إطار المعجزات القديمة، وكيف اجتمع لخاتم الأنبياء كل المعجزات القديمة بعد أن كانت متفرقة في الأنبياء السابقين، وكأنها مباراة ومنافسة في إجراء المعجزات، كما وكيفا.
9
والثاني تصنيف المعجزات في مجموعات متناسقة من حيث مادتها، طبقا للبيئة الجغرافية، وهي بيئة الصحراء التي كانت الإطار المادي للخيال الجديد. فإذا كانت المعجزات المروية في علم أصول الدين وحده تتراوح ما بين الأربعين والخمسين، فإنه يمكن تصنيفها في سبع مجموعات تتعلق بالفلك أو الطبيعة أو الجماد أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو المجتمع. (1)
فبالنسبة للفلك تروى معجزات؛ الأولى شق القمر أو انشقاق القمر أو انفلاق القمر. والاختلاف في الصياغات يدل على عملية التخييل والخلق الفني.
10
فلفظ «شق» فعل متعد يدل على قوة خارجية فاعلة أكثر مما يدل عليه لفظ «انشقاق» وهو فعل لازم يوحي وكأن الفاعلية في داخل الشيء، وهو تصور أقل عظمة من الأول؛ فالقوة الخارجية في الخيال أقدر من القوة الداخلية، وأكثر تشخيصا وجذبا للانتباه من القوة الداخلية التي هي أقرب إلى التفسير العلمي، وإذا ما حدث الشق أو الانشقاق فإنه يحدث بطبيعة الحال الفلق أو الانفلاق، فهما حركتان متضادتان، ولا يمكن أن يظل القمر منشقا إلى ما لا نهاية؛ لأن المعجزة خرق مؤقت لقوانين الطبيعة. وقد تعتمد الصيغة على نص قرآني لواقعة مشابهة مع تغيير وقتها، بدل أن تكون في آخر الزمان كعلامة من علامات الساعة تحدث في وقت النبي. ويضاف إليها التعليل لهذا النقل من الآخر إلى الأول، ومن المستقبل إلى الحاضر، مثل أن يكون ذلك ردا على الأعداء حين السؤال عن وقت الحادثة. ويحدث نقل آخر من الأرض إلى السماء؛ فمعجزات السماء أقوى من معجزات الأرض. وفي حالة الشق كفعل متعد يظهر الفاعل وهو سبابة الرسول يشق بها القمر في السماء، إشارة إلى الطاعة وصورة للسكين، وتوجيها للأمر. وهذا ليس بجديد؛ فقد حدث من قبل لدى أنبياء بني إسرائيل في توقف الظل والشمس. أما وقوف الشمس مدة من الوقت وردها بعد المغيب فواضح أنه نسج على أصل انشقاق القمر مرة بشق الكم، ومرة بتغيير الكيف، بتوقيف الحركة كما وقفت ليوشع بن نون عندما كان مع بني إسرائيل يقاتل الجبارين.
11
وقد يحاول بعض المعاصرين إثبات ذلك علميا، فلا يثبت المعجزات ولا ينكرها، أو ينكرها كحادثة خارقة للعادة، ويثبتها كحادثة طبيعية. وفي هذه الحالة يصبح العلم هو أساس الإثبات أو النفي وليس الرواية، كما يصبح مقياسا لصدق المعجزة؛ وبالتالي لصدق النبوة، ولا تصح المعجزة مباشرة دليلا على صدق النبوة. ولما كان العلم نتاجا للغرب، يصبح التراث الغربي مقياسا لتراثنا القديم؛ وبالتالي يزداد وقوعنا في التغريب بدل تخلصنا منه. والحقيقة أن الشمس والقمر آيتان لله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد بنص الحديث، يخضعان للقانون الطبيعي، ومسخران لنفع الإنسان. وأي اضطراب فيهما يسبب اضطرابا مشابها في حياة الإنسان.
12
وفي مجتمع صحراوي لم يكن للآلهة أو للسحرة فيه أي قدرة على خرق قوانين الطبيعة، ولدى قبائل تجهل قوانين العلم، كان من الطبيعي أن يكون انشقاق القمر وتوقف الشمس في الخيال الشعبي ولدى رواة المدح وكتاب التعظيم أحد وسائل التخييل وطرق الإقناع. (2)
أما ظواهر الطبيعة الأخرى فتأتي هذه المرة من الأرض وليس من السماء. ليس من الشمس والقمر والنجوم وهي قيم في نهار الصحراء وليلها، بل من طبيعة أرضها وحاجاتها، مثل الماء للسقي أو للوضوء. فمن هذا النوع نبع الماء بين أصابعه، وقد يضاف إلى ذلك الغاية أو العلة أو العلة الغائية لذلك، وهو وضوء الجيش، أو سقيه العدد الكبير من الماء اليسير أسوة بمعجزة الطعام، إشباعه الخلق الكثير من الطعام القليل. وقد يضاف شرب الدواب مع شرب البشر، ما دام الكل عطشى، وكائنات حية، ورحمة عامة. ولو استمرت فترة الخلق كما تستمر عند الصوفية لشربت الطير والهوام وكل ذي حياة ونفس، كما يظهر النموذج القديم في تاريخ الأديان مذكورا في صياغة المعجزة، مثل خروج الماء من الحجر لموسى، واعتبار المعجزة الجديدة أعجب من النمط القديم. وقد تذكر شهادة الحاضرين لتوثيق المعجزة والتصديق بها أمام الشهود. وقد تتحول المعجزة من مجرد واقعة وقتية إلى ظاهرة طبيعية دائمة، فيصبح الماء عينين في مكان محدد مثل تبوك، وقائمين إلى الآن أسوة ببئر زمزم الذي يوجد حتى اليوم. فليس محمد أقل من إبراهيم وإسماعيل وهو من نسلهما على أية حال. وبدلا من أن يأتي الماء نبعا من الأرض، قد يأتي نزولا من السماء، فينزل المطر بدعواه حتى ولو في وقت الصحو دونما حاجة إلى غمام، فذاك أعظم حتى لا يكون هناك رابط ضروري بين العلة والمعلول. ونبع الماء ونزول المطر في بيئة صحراوية جافة يعد معجزة في حد ذاته، وفي مجتمع الماء حياته، والجفاف موته.
13 (3)
أما ظواهر الجماد فهي في مقابل الماء في الصحراء، فذلك مثل تسبيح الحصى بين يديه، وتسليم الحجر عليه، وكلام الجماد.
14
وقد يسبح الحصى بين يديه من فعله أو من يديه؛ أي من فعل الرسول، وهو أكثر إغراء؛ نظرا لوجود العلة الخارجية من مجرد التسبيح بعلة داخلية، تسبيح الحصى من ذاته. وقد يكون التسبيح يبن الأصابع أو في الكف، صورتي الحركة أو الثبات؛ بين الأصابع نظرا لوجود صوت الخشخشة، وفي الكف بلا أصوات طبيعية وهو أعظم وأقدر وأبلغ. وقد يسمع الحاضرون التسبيح؛ أي بحضور الشهود والجمع الغفير؛ حتى لا تكون المعجزة ذاتية فردية، وحتى يعطى لها تصديق موضوعي جماعي. فلو كان هناك احتمال الخطأ في واحد فلا يمكن أن يعم هذا الاحتمال الجميع. وقد يسلم الحجر عليه ويتعرف على النبي، مقابلة بجهل الإنسان وتكذيب غير المصدق به؛ فالجماد أكثر تصديقا من الإنسان. وقد يتكلم الجماد من مجرد لمس النبي له، وكأن النبوة كما هو الحال في المثل الشعبي: «تخلي الجماد ينطق». فما بال الإنسان لا ينطق تصديقا بها؟ وفي جو الصحراء حيث يعز الكلام، ولا يجد الأعرابي من يكلمه، فإنه يشعر لا محالة بكلام الحصى والجماد له حتى يأنس في وحدته، وكما هو الحال في الشعر العربي، وفي كل شعر في الخطاب المتبادل بين الشاعر وظواهر الطبيعة. (4)
أما ظواهر النبات فتتمايز فيما بينها؛ بين الصوت، مثل تسبيح العنب والرمان؛ وبين الحركة أي الصورة، مثل حنين الجذع، ومجيء الشجرة في صورة هادئة، أو انقلاعها في صورة عنيفة.
15
فقد يسبح العنب والرمان بمجرد أن يحضره جبريل في طبق أمام الرسول تعرفا عليه. وفي حنين الجذع قد يزداد تفصيل اليابس؛ حتى يظهر التناقض بين الحنين واليبس؛ فالحنين يحتاج إلى رطوبة وحياة وهو طبيعي، في حين أن حنين اليابس إيقاع تناقض بين الحنان واليبس؛ أي بين الحياة والموت. وقد يزداد الحنين بالجذع حتى يلتزم؛ أي يطوي نفسه على الرسول، ويكور نفسه حوله ملتزما بتعرفه على النبي!
وقد يكون الحنين بحضور الجميع؛ أي بحضور الشهود؛ حتى يزداد الأمر تصديقا ويتجاوز نقد خداع الحواس لفرد واحد. وقد يحن الجذع في واقعة خاصة في النبوة، ليس فقط النبوة العامة، بل إحدى لحظاتها في الخطبة؛ فقد كان الجذع منبرا قبل بناء المنبر، ولم يشأ أن يستغيى عن الرسول، فعاود الحنين إليه ومال عليه، ولم يترك الرسول حتى طيب الرسول خاطره، فعاد واستقام الجذع! وقد يضم الصوت إلى الصورة، فيتكلم الجذع، ويئن وهو يحن ويسمع الحاضرون كلامه. أما بالنسبة لحركة النبات فقد تجيء الشجرة بأمره وترجع بأمره إلى مغرسها، على عكس الإنسان العاصي الذي لا يأتمر بأمر الرسول. فللرسول قدرة على تحريك مظاهر الطبيعة وتحريك النبات. قد توصف الحركة فقط في صيغة مختصرة، مثل مجيء الشجرة، وقد تفصل الحركة بالعلة الفاعلة وهو الأمر، كما يفصل مسار الحركة ذهابا وإيابا؛ إلى مغرسها إيابا، ومن مقلعها إيابا. وقد توضع الواقعة كلها في قصة وحوار؛ طلب أعرابي دليلا على النبوة واستجابة النبي لذلك بإجراء الواقعة. وقد حاول المعاصرون تفسير ذلك علميا عن طريق قوانين الهواء، ودفع الريح للجذع، ومن خلال الثقوب، فيتحرك وتحدث الصوت، أو بقانون الميل والعودة إلى المكان الطبيعي، كما يفسر إجابة الشجرة له بقانون الجاذبية. وهذا يحيل المعجزة إلى حوادث طبيعية لا تخرق قوانين الطبيعة، بل تتفق معها، ولكنها تجعل العلم هو الأساس؛ وبالتالي لا تصبح المعجزات دليلا على صدق النبوة أو وقوعها. (5)
أما ظواهر الحيوان فهي أكثر بكثير من ظواهر الفلك أو الطبيعة أو الجماد أو النبات؛ نظرا لأهمية الحيوان في البيئة الصحراوية، طعاما وركوبا ودفاعا. وتتفاوت ظواهر الحياة بين الصوت، أي الكلام والمكالمة والنطق والإنطاق والشكوى والشهادة والخطاب والسلام والتكليم؛ وبين الصورة، أي الحركة كالمجيء والذهاب أو حدوث تغير غير متوقع في وظائف الحيوان. فمن معجزاته إنطاق العجماء أو نطق العجماء أو نطق البهائم؛ فالنطق فعل طبيعي من الشيء في حين أن الإنطاق بعلة فاعلة خارجية، وهي أقوى من الحالة الأولى، والأمر كذلك في مكالمة الأعجم أو كلام الحيوان الأعجم؛ الثانية فعل طبيعي في حين أن الأولى لها علة فاعلية خارجية. وتحت هذا العنوان العام يدخل كثير من الوقائع التفصيلية التي قد تقل أو تكثر، ومثال هذا كلام الذئب أو مكالمة الذئب؛ فالأول للشيء والثاني للفاعل، أو إنطاق الله للذئب للإخبار عن النبوة أو شهادة الذئب له بالنبوة. وقد تأتي الصورة مع الصوت، فتصبح الواقعة كلام الذئب ومجيئه، أو بالحركة فقط، فتصبح مجيء الذئب. وقد تتضح الغاية من الكلام؛ فلا يكون مجرد قول بل شهادة؛ أي قول حق بطريقة علنية أمام الأشهاد. وقد تتغير الواقعة ودلالتها والهدف منها؛ فبدل أن يكون كلام الذئب للشهادة على النبوة تكون للاعتراف بأخذ شاة، في حين أن الخلق لا تعترف بنبوة محمد. وقد يأخذ الكلام صيغة إنشائية بدلا من الصيغة الإخبارية؛ تعبيرا عن الجانب الوجداني في الموقف، فيصبح نموذج كلام الحيوان هي شكاية الناقة، شكوى البعير، شكوى البعير له بالتخصيص. وقد يتحول الأمر من الشكاية إلى شهادة بالبراءة، فتشهد الناقة ببراءة صاحبها من السرقة، أو إلى الكشف عن الشفقة والرحمة بالحيوان من الظبية التي ربطها الأعرابي، فسألت الرسول الإطلاق حتى ترضع وليدها وضمنت الرجوع، فأطلقها ورجعت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أكثر مما يشهد الحكماء ببراهينهم ويثبتون بأدلتهم! وقد تكون صيغة الكلام ليس مع الذئب أو الناقة أو الظبية، بل مع الغزالة التي تسلم وتتعرف عليه. أما تغيير الوظائف العضوية للحيوان فمثل درور الضرع من الشاة اليابسة الجرباء التي لا لبن لها مرارا، ومثل أكل الأرضة كل ما في الصحيفة المكتوبة على الأشخاص؛ بني هاشم وبني عبد المطلب، حاشا أسماء الله؛ أسوة بما كان متبعا في اليهودية المحافظة من تحريم مسح أو رمي أو وطء أو إتلاف أي صحيفة عليها اسم الله، بل يجب حينئذ لفها في باطن الأرض؛ فأسماء الله لا تمحى!
16
كما أن لذلك أنماطا سابقة في تاريخ اليهود عند أنبياء بني إسرائيل في كلام سليمان للهدهد، وحديث المسيح في المهد صبيا. ولقد حاول المعاصرون إيجاد تفسير علمي لذلك استشهادا بالببغاء، ولكن الببغاء لا يفهم كما فهم الذئب والبعير والناقة والغزالة والظبية. (6)
أما ظواهر الطعام والصحة، أي ما يتعلق بالبدن، فيأتي في المقدمة كلام الذراع أو تكليم الذراع؛ الصيغة الأولى تصف الفعل والثانية تصف الفعل مع الفاعل. وأحيانا تتفصل الصيغة ويأتي سبب الكلام، فتصبح كلام الذراع المسمومة. ولما كان هذا الكلام شهادة على النفس فقد تصبح الصيغة شهادة الشاة المسمومة. وقد تتحول الواقعة إلى قصة بها حوار مباشر، مع تعليل لسبب الحديث، وهو خلق الله في الذراع كلاما، وقول الذراع للرسول: «لا تأكلني إني مسمومة.» وقد تنقل بعد صيغ ظواهر الجماد، مثل تسبيح الحصى، فتصبح تسبيح الطعام من أجل تقابل بين الطعام المسموم والطعام الطيب؛ الأول ينبه على الشر والثاني يسبح بالخير. وإذا ما عرفنا أن الدعوة كانت موجهة من يهودي، فإن هذه الواقعة بصيغتها المختلفة إنما تدل على العناية بالنبي وحفظه من عداء اليهود له. أما الواقعة الثانية، تكثير الطعام، فلها صياغات عدة تختلف فيما بينها من البداية أو الوسط أو النهاية؛ فقد تكون البداية مجرد وصف لواقعة مادية وأنها حادثة مثل جعل الطعام كثيرا؛ وقد يقرب الواقعة درجة من الخيال، فتصبح تكثير الطعام القليل؛ وقد يزاد عليها العلة الفاعلة، فتصبح تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه؛ وقد تزاد الدلالة وتتحول من الواقعة المادية إلى الواقعة الإنسانية، وتتحول البداية من الجعل والتكثير إلى الإطعام والإشباع، فتصبح الصيغة إطعام الرسول المئين والعشرات من صاع شعيرة مرة بعد مرة، مع زيادة تحديد كمي للطعام ولعدد الناس ولمدة الزمان؛ تقوية للدلالة وإثارة للانتباه. وكذلك إطعامه النفر الكثير من طعام يسير قرارا بحضرة المجموع حتى يزاد الشهود، وتتحول الواقعة من إدراك فردي قد يقع في خداع الحواس إلى إدراك جماعي ورؤية موضوعية. وتصل الدلالة إلى أقصاها عندما تصبح الصيغة إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، أو إشباع الخلق الكثير من الطعام اليسير. وربما تزداد الصيغة وتتضخم على نحو إنشائي بالترادف؛ لإحداث مزيد من الأثر على الناس، فتصبح إشباع العدد الكبير والجم الغفير من الطعام اليسير. وللواقعة نمط قديم في تاريخ الأديان في تكثير المسيح للطعام، وإطعامه الخلق الكثير من طعام قليل، وشرب الخلق الكثير من الماء القليل ببركته ودعائه مع تحديد كمي للطعام بسمكتين وللشراب بقربتين، وفاض من الطعام والماء ما يكفي لخلق أكثر. ومما لا شك فيه أن حضور جمع غفير بحضرة القائد أو الزعيم يجعل أحوالهم النفسية في غاية التواتر، وعواطفهم في غاية الحدة، بحيث يفقدون الإحساس بالجوع والشبع والعطش والروي من الناحية العضوية. ويكفي أقل القليل من الطعام والماء لسد جوعهم وعطشهم ما دامت النفس في هذه الحالة من التوتر والعواطف في هذه الدرجة من الحدة. وهي تجربة نفسية إنسانية، يشعر بها عامة الناس من لقاء الأمهات للأبناء بعد طول غياب، ولقاء المحبين بعد طول هجران، ولقاء الصوفية بالله بعد مخاطر الطريق. أما الواقعة الثالثة فتتعلق بالأمراض العضوية، مثل إزالة الضر من الأمراض. وقد تزاد على ذلك العلة الفاعلة المادية المباشرة مثل لمس اليد، فتصبح شفاء الأمراض العضال بمجرد لمسة؛ أو العلة المعنوية غير المباشرة مثل الدعاء، فتصبح شفاء الأمراض العضال على يده بمجرد لمسه لأصحابها أو دعائه لهم. وقد يزداد التفصيل باسم الرحمة والمريض وحضور الشهود ومدة الشفاء، فتصبح الواقعة إبراء عيني علي من الرمد بحضرة الجماعات في ساعة. وقد يشتد الخيال بوقائع الصحة والمرض، ويصبح استبدال الأعضاء والأطراف، ابتداء من رد عين أحد أصحابه بعدما قلعت فعادت أحسن مما كانت، حتى إحياء الميت بمجرد دعائه.
17
ولهذه الوقائع أنماط سابقة في تاريخ حياة المسيح من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، مع أن البيئة العربية لم تكن بيئة طب ودواء؛ مما يدل على تغلب النمط القديم أحيانا على البيئة، كما تتغلب البيئة أحيانا فتفرض وقائعها، كما هو الحال في ظواهر الحيوان. ويحاول بعض المعاصرين تفسير ذلك علميا عن طريق الإشارة إلى قوانين الطب وزرع الأعضاء في الأجسام، خاصة إذا كانت من نفس الأجسام. فإذا كان ذلك صحيحا تظل المعجزة خداعا؛ لأنها توهم الناس بأنها خرق لقوانين الطبيعة مع أنها حادثة طبيعية تتم وفق قانون طبيعي نجهله، ولكن بتقدم العلم يمكن فهمه؛ وبالتالي يبقى الناس في الجهل، ويرسى إيمانهم على الخداع. فإذا ما تعلم الناس اهتزت قواعد الإيمان، وتحولوا من الإيمان بالعقائد والأنبياء إلى الإيمان بالعلم والعلماء، ويكون الفضل لاكتشاف الحقائق للعلم، ويصبح العلم ضد الإيمان تضاد الحقيقة للوهم، ويتحول الإيمان بالمطلق إلى إيمان بالنسبي، خاصة إذا ما تغير العلم وتغيرت اكتشافاته، ويصبح الدين مجرد متسلق على العلم مبررا لوجوده من خلاله. وما دام وقع الدين في التبرير فلا فرق بعد ذلك أن يقع في تبرير العلم أو تبرير السياسة، وما دام يستمد وجوده من غيره فلا فرق بعد ذلك أن يستمد وجوده من رجال العلم بعد أن يصبح رجال الدين هم رجال العلم أو من رجال السياسة، وقد يتآزر الفريقان وتتحدد السلطة الدينية مع السلطة السياسية في مواجهة حقائق الإيمان التي هي حقائق المجتمع وأوضاعه الحالية. (7)
أما الظواهر الاجتماعية المتعلقة به فهي مثل الإنذار بالغيب والتنبؤ به، وقدرته على إحداث عاهات بالآخرين المعادين له، أو الكاذبين عليه والمتذرعين لرفض مطالبه، وما يتعلق بنبوته وطريقة الاتصال بمصدر الوحي، أو ببعض شعائره مثل رمي الجمار. ولكن تتجلى هذه الظواهر خاصة في حروبه مع الأعداء وحمايته وهو في مرحلة الضعف، أو انتصاره وهو في مرحلة القوة، سواء كان ذلك ساعة مولده أو بعد مولده وبعثته؛ فإنباؤه بالغيب وإنذاراته كثيرة، منها دعاء اليهود إلى تمني الموت، وإخبارهم بعجزهم عن ذلك، وأنهم لن يتمنوه أبدا. وقد يتأتى ذلك بمعرفة الطباع واستقراء لسلوكهم في التاريخ، دون أن يكون في ذلك بالضرورة تنبؤ بالغيب، ومن ذلك إنذاره بمصارع أهل بدر بحضرة الجيش موضعا موضعا، وقد يكون ذلك نتيجة للمعرفة بقوانين الحرب وإدراكا لموازين القوى. أما إخطاره بالنور الواقع في سوط الطفيل فربما لانعكاس الضوء على السيف في وهج الشمس من كثرة النزال، واستعمال ذلك نفسيا من أجل شحذ الهمم وتقوية الروح المعنوية.
أما دعاؤه على الذي قلد مشيته بأن يكون كذلك، فقد يكون ذلك أثرا نفسيا على المقلد من هول ما فعل، وهو تقليد مشية الرسول، وتحويل الأمر الجاد إلى أمر هزل وارتباكه، فتحول الشيء المصطنع إلى مشي طبيعي. أما دعاؤه على بنت الحارث الذي ادعى أن بها بياضا فبرصت في الحال، فقد يكون هذا البياض الأول بدايات البرص الذي لم يتعرف عليه الحارث. أما عدم تكاثر الجمار بالرغم من رميه أجيالا وأجيالا، فقد يكون ذلك من فعل الريح، أو أنه يؤخذ منه نفسه ليرمي من جديد، أو لأنها من صغرها لا يمكن أن تكون جبالا حتى جيل الرواة؛ فتكوين الجبال يحتاج إلى ملايين السنين ومعاصر لعمر الأرض. أما ظهور جبريل مرتين، مرة في صورة دحية بحضرة الناس، ومرة أخرى في صورة رجل لم يره أحد من قبل؛ فطبيعي ألا يرى الإنسان وظيفة المخاطب؛ أي الطرف الآخر، إلا إذا كان هو الطرف الأول المحاور. أما الباقون فلن يروا فيه إلا مجرد إنسان، سواء كان معروفا من قبل أو لم يكن كذلك. أما وقائع قصة هروبه من مكة واختفائه بغار حراء، فهي تدل كلها على الحماية والرعاية والنصر المرتقب؛ فالرمي بالتراب من أجل إعماء العيون يحدث من جراء إثارة الغبار، كما هو الحال في العواصف والضباب التي يصعب معها الرؤية. وعدم رؤية الأعداء له في الغار ممكن إذا كان الموضوع خارج زاوية الرؤية إذا رأى الإنسان أمامه وكان موضوع الرؤية تحت قدميه أو العكس. أما قصة فتح الباب في حجر صلد في جنب الغار، فهي طويلة الصياغة، القصد منها الإيحاء بالتعجيز؛ فالحجر صلد وليس رخوا، والباب المفتوح في جنب الغار وليس في واجهته؛ مما يدل على الصعوبة في نوع الحجر وفي مكان الفتح. أما كون الباب موجودا من قبل فهذا ما يحتاج إلى علماء الآثار، وليس إلى مجرد رواية الراوي. والدليل العقلي المروي بأنه لو كان موجودا يومئذ لما أمكن الاختفاء فيه، يكشف عن الرغبة في الإقناع العقلي متجاوزا البحث الأثري. وإن تعليل العلة بعلة الإقناع والتحديد الكمي معروف من تاريخ الروايات أنه لا يدل على شيء واقعي، بقدر ما يدل على أكبر قدر من الإيحاء بالصدق في الاختلاق. والتأكيد على الزمان بأنه ما زال ظاهرا حتى اليوم يدل على القدرة على الصمود في وجه عوامل التعرية وهزات الأرض. وشهادة الناس من كافة أرجاء الأرض ضرورية؛ حتى تتحول الرؤية الذاتية للفرد إلى رؤية موضوعية للجماعة. وإن عدم قدرة أهل الأرض فتح الباب الثاني لهو إبراز للتحدي، وهو أحد شروط المعجزة. ويعاد الاستشهاد بجموع الحاضرين من قريش الذين كان بإمكانهم رؤية الباب لو كان هناك. ويزداد الأمر إعجابا عندما توجد آثار رأسه وكتفيه ويديه باقية حتى اليوم في الحجر، مع أن الحجر لا ينطبع بآثار اليد أو الرأس أو الكتفين، ولا يتأثر إلا بعوامل التعرية على مدى مئات السنين. وإن الاهتزازات الأرضية لقادرة على إحداث تغيرات في الصخور ما يتخيله الإنسان على أنه أبواب ومغارات تنفتح وتنغلق، وما يراه الهارب أنه تم لإخفائه عن أعين الأعداء؛ ولكي تكتمل الصورة ترسخ قوائم فرس سراقة في الرمال. وقد يحدث ذلك من شدة الركض حتى الوصول إلى منطقة كثبان رملية، فتغوص فيها القدمان كما تغوص المركبات وتدور العجلات حول نفسها في المكان. هذا في مرحلة الترقب والخوف وقبل انتصار البعثة. أما بعد الإعلان عنها وقوة الشوكة والتمكن من أسباب الغلبة، فتظهر وقائع المقاومة والنزال والوقوف في وجه الأعداء. وقد ترتبط في البداية ببعض الظواهر الأخرى مثل الطعام؛ فكما أمكن تكثير الطعام فكذلك أمكن قضاء غرماء جابر من تمر يسير حشي بجانبه، وتزويد عمر أربعمائة راكب بتمر يسير، وبقي التمر بالجنب، في مكان معين خاف عن الأعين وليس في الأمام. وعلى نمط رمي التراب في وجه الأعداء في حالة الدعوة السرية، يمكن أيضا بعد الدعوة العلنية رميه في وجوه الكفار يوم الحرب، فيصيب عين كل واحد فينهزموا. وليزداد ذلك تأكيدا تأتي الحجة النقلية:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . وقد يغالي بعض المعاصرين في اعتبار ذلك نوعا من الغازات أو الإشعاعات أو الغبار النووي الذي لا يفرق بين الأعداء والأصدقاء، إحساسا بعجزهم عن مجارات العلم، وتحويلهم العلم إلى نوع من المعجزات الجديدة. قد تحدث معجزات أخرى في الحروب، بعضها معلوم وبعضها مجهول، مثل دفاع أربد عنه. وقد تحمى المدن قبل البعثة وأثناء ولادته إكراما له، مثل رمي الله جيش أبرهة صاحب الفيل بالحجار عام غزوه مكة، وتلاوة ذلك في القرآن حتى الآن بركة ودعوة؛ فللبيت رب يحميه. فكما أن شخص الرسول محاط بالرعاية فكذلك مكان مولده، ومركز شعائره، وقدسية مدينته. ولا يمنع ذلك من وجود طير جارح في الصحراء بجموع غفيرة، كما هو الحال في موسم الهجرات، تبحث عن طعامهم في صحراء قاحلة. فلما وجدت الجيش وبقايا طعامه وروائحه، حطت عليه كما يحط الجراد على الزرع فلا يبقى منه شيء.
18
لذلك كانت المعجزات بهذا المعنى القديم طريقا مسدودا، ولم تعد دليلا على وقوع النبوة أو صدقها، وأصبح الدليل نوعا جديدا من التحدي، هو التحدي البشري، عقلا وإرادة، متفقا مع اكتمال الوحي وتحقيق قصده.
سابعا: إعجاز القرآن
إعجاز القرآن هو البديل الجديد في آخر مرحلة من مراحل الوحي عن المعجزات القديمة أثناء تطور الوحي وقبل اكتماله. كانت المعجزة بالمعنى القديم خرقا لقوانين الطبيعة، وجريانا على غير المألوف، وصدما لبداهات العقل، ونقضا لشهادات الحس، لا تسلم من خداع أو وهم، وإن كانت حقيقة فتدل على جهل بقوانين العلم. ومن الناحية العملية لم يؤمن بها إلا البسطاء، وكذب بها الأولون. أما الإعجاز الجديد فهو ظاهرة طبيعية، كلام حسي منظوم يعرفه كل متكلم، سواء كان أميا أم متعلما يتجه إلى العقل والحس والوجدان للتأثير فيها إقناعا ورؤية وتصديقا. وإذا كانت المعجزة من فعل الله في الطبيعة من خلال الرسول، وليس من فعل الرسول مباشرة متوجهة إلى عامة الناس؛ فالإعجاز كلام طبيعي حسي موجه إلى الإنسان مباشرة كفرد مستثيرا قدراته على التحدي؛ وبالتالي ينفصل الكلام عن مصدره الأول وعن واسطته الثانية. وإذا كان شرط التحدي هو تكافؤ الفرص، فكون المعجزة من الله لا يجعل فيها تحديا ولا تكافؤ فرص، في حين أن الإعجاز به تحد وبه تكافؤ فرص؛ فالكلام في متناول الجميع، يقدر عليه الكل. وكيف يجاري الإنسان الله في المعجزة؟ لو كانت من الرسول لكان التحدي قائما. وإذا كانت المعجزة القديمة منقطعة بانتهاء عصرها فإن الإعجاز باق إلى نهاية الزمان، طالما أن هناك إنسانا قابلا للتحدي وقادرا على الدخول فيه. وإذا كان من ضرورات المعجزة القديمة صحة تواترها في الماضي، فإن الإعجاز الجديد يقتضي تحديا مباشرا في الحاضر والمستقبل. الإعجاز إذن تطوير للمعجزة القديمة، التي كانت وسيلة الوحي لتغيير بناء الشعور البشري، وتحريره من سيطرة المادة الطبيعية المستغلقة، أو من سيطرة السلطان البشري القاهر. ولما لم تنجح هذه الوسيلة في كثير من الأحيان، فهي استبدال خرافة بخرافة، كان الشعور يرجع باستمرار إلى طبيعته الأولى بعد أن تغير وكأنه لم يتغير مطلقا؛ لذلك انتهى دور المعجزة بعد استقلال الوعي البشري واكتمال الوحي، وتحولت المعجزة الطبيعية القديمة إلى إعجاز الكلام الجديد وتحدي القدرة البشرية على الخلق الأدبي والتشريعي؛ ومن ثم يكون الإعجاز حافزا مستمرا للشعور على الخلق، ودافعا مستمرا للفكر على التحدي.
1 (1) التحدي والمعارضة
يقوم الإعجاز الجديد على عنصري التحدي والعجز عن المعارضة؛ فالتحدي هو مطالبة الإنسان أن يأتي بمثل هذا القرآن؛ أي استثارة القدرة البشرية على الخلق والإبداع، وعلى هذا النحو يحقق الإعجاز الجديد أحد شروط المعجزة القديمة وهو التحدي، دون الوقوع في مثالبها وهو خرق قوانين الطبيعة، وهدم قوانين العقل، ومحدوديتها في القدرة على الإقناع. ولما كان التحدي يقتضي تكافؤ الفرص فإن اعتبار القرآن من عند الله يجعل الفرص غير متكافئة؛ فكيف يتحدى الإنسان الله ويجاريه في صنعه؟ ولو كان القرآن من عند الرسول لكان التحدي أقرب إلى تكافؤ الفرص، بالرغم أيضا من تأييد الرسول بالاتصال، في حين أن الشاعر المتحدى ليس مؤيدا إلا بقدراته الإبداعية الخاصة. وليس تنزيها لله أن يقف الإنسان متحديا له في صنعه، وليس احتراما للرسول أن يقف الشاعر متحديا له فيما يبلغ به ويعلنه للناس من عند الله. وكيف يكون التحدي ممكنا لو كانت نتائجه معروفة من قبل وإعلان النتيجة مسبقا بفشل الإنسان والحكم عليه بذلك إلى نهاية الزمان بحرف النفي للتأبيد «لن»؟
2
وكيف يكون التحدي ممكنا والتهديد بالعقاب قائم، سواء في حالة النجاح أم في حالة الفشل؟ وهل جزاء قبول المتحدى العقاب؟ ألا يفت ذلك في عضد المتحدى إذا علم النتيجة مسبقا بأنه خاسر، وبأنه سينال العقاب نتيجة على تجرئه على قبول التحدي والقيام به؟ ومن الطبيعي أن يكون موضوع التحدي معلوما، وليس مستورا خفيا لا يعلمه أحد، وإلا ففيم التحدي وفيم الإعجاز؟ لا يكون التحدي إلا لشيء معروف، وإلا لكان إيهاما أو خداعا، بل إن التحدي منصوص عليه، والعلم به من القرآن ذاته.
3
وإن الشرط الأساسي للتحدي لهو القدرة على المعارضة. أما أن يقال إن الله أعجزهم عن المعارضة فذلك ضد مبدأ التحدي وتكافؤ الفرص. فكيف يطالب القاهر المقهور أن يكون حرا؟ وكيف يطالب المصارع المكتوف اليدين أن يكون ندا؟ وأما أن يقال بصرف الدواعي وأن القوة على التحدي مرفوعة، فذلك أيضا نقص في شرط التحدي؛ فللتحدي شروط عديدة، منها توفر الهمم والدواعي، وتجنيد كل الطاقات الإنسانية أفرادا وجماعات، تأليفا وتجميعا، استكمالا لشروط المعارضة حتى لا تكون معارضة محجمة منذ البداية. شرط التحدي إذن توفر الدواعي وعدم وجود الصوارف، وباستحالة المعرفة يستحيل التحدي، وصرف الدواعي يعني تدخل إرادة خارجية تقضي على أساس التحدي المتكافئ الأطراف، سواء كان صرف الدواعي للخلق أو للنقل. وإذا كانت المعرفة تعني ارتفاع القوة ومنع التحدي والحيلولة عن المعارضة، فذلك إعلان للنتيجة مسبقا قبل بداية المباراة؛ لعدم وجود تعادل بين الخصمين، ولغش في التحكيم؛ وبالتالي لا يستحق المتحدى وهو في هذا الوضع أي تبكيت، ولا يكون عليه تثريب. إن التحدي لا يتم آليا بمجرد المواجهة، بل يلزمه التأمل والبحث وشروط الخلق والإبداع؛ فلا يحدث الإعجاز بمجرد سماع الوحي ومقارنته بغيره، بل يحتاج إلى تدبر وروية.
ليس الإعجاز حادثة تقع في التو واللحظة، ويعلن المتحدى التسليم بعدها؛ وبالتالي فلا يمكن القول بأن الله ينسى الحافظ حتى يحفظه من جديد فيتأمله ويتدبره، وإلا كان تدخلا خارجيا في عمل المتحدى؛ وبالتالي يضيع الشرط الأول وهو تكافؤ الفرص،
4
كما أن ذلك ضد العدل، وقد ثبت من قبل أن العدل أصل من أصول العقيدة بعد التوحيد، وكلاهما أصلان عقليان قطعيان لا يخرقان بأحد الموضوعات السمعية مثل النبوة في أحد موضوعاتها. فإذا ما حدثت المعارضة فمن الطبيعي العلم بها ونقلها، وإلا تضيع محاولات السابقين؛ فكما نقل القرآن والحديث تنقل المعارضة أيضا نقلا متواترا، خاصة في مجتمع تظهرت عبقريته في وضع مناهج النقل وتطبيقها على الكتب المقدسة السابقة. وقد كثر أعداء المسلمين بحيث كان من مصلحتهم نقل المعارضة وتحدي القرآن بها، ولا يمكن كتمان ذلك مدة طويلة دون الإعلان عنه، خاصة وقد كان التحدي عظيما وعلى الأشهاد. ولا مكان لصرف الدواعي في النقل فتتم المعارضة وتظل طي الكتمان، أو تنسى ويذهب ذكرها وضبطها؛ لصرف الدواعي وهممهم عن حفظها والتوفر على نقلها؛ فالإحساس بالتحدي يتضمن ضرورة إيصاله؛ لأن الفن تعبير وإيصال. ولا يمكن صرف الدواعي بصرف وسائل الإيصال، وإلا كان التحدي غير متكافئ؛ بتدخل إرادة خارجية قادرة على إيصال النبوة، ثم تمنع إيصال التحدي. وقد تم النقل بالفعل لبضعة نماذج معروفة من المخالفين والموافقين على السواء.
5
فإن قيل: لقد كفت المعارضة حتى لا يذهب إيمان الناس، وترك الناس المعارضة لإعراضهم عن النظر؛ حتى لا يوجب التكذيب. فيقال إن بعض الدوائر كانت أحرص على تكذيب الناس واستخدام الحجة ضد المؤمنين، بل قد نشأ علم الجدل لهذا الغرض؛ دفاعا عن التوحيد ضد منتقديه. كانت هناك مصلحة إذن لدى الأعداء للمعارضة بالنظر؛ حتى يذهب النظر إيمان الناس ويكذبون النبوة.
6
ويستحيل أن تكف المعارضة لدخول شبهة على الناس؛ فالعرب أهل فصاحة وبلاغة ولا تدخل عليهم شبهة في فنهم، واستطاعوا كشف المنتحل من الصحيح، وهم رواة شعر وأقدر على الحكم في حالة وقوع الشبهة من عدمها.
7
ولا يمكن أن تمنع المعارضة خوفا من السيف؛ فالتحدي يتطلب تكافؤ الفرص وحرية الخلق والإبداع. وقد ظهرت المذاهب والنظريات والأفكار والآراء والمعارضة دون خوف، وعرفت الحضارة كلها بأنها حضارة العقل والفكر الحر، ومطالبة البرهان، وقرع الحجة بالحجة. وشجاعة المفكرين لا ترهبها السيوف ولا يهيبها الاضطهاد، والنماذج على ذلك كثيرة في التاريخ. وهل مصير المعارضة باستمرار مواجهتها بالسيف؟ بل إن العكس هو الأصح، عندما عجزوا عن المعارضة بالقلم أو المعارضة بالسيف دون خوف، فلم يكن أمامهم إلا المعارضة بالقلم وقبول التحدي؛ لجئوا إلى المعارضة بالسيف.
8
وإن اشتغال العرب بالمحاربة والقتال ما كان يمنعهم عن المعارضة وقبول التحدي؛ فهم أهل شعر وفصاحة، كما أنهم أهل حرب وقتال. وإن لم تشغلهم الحروب عن العلم والتفقه في الدين، فالأولى ألا تشغلهم عن التحدي والمعارضة لجوهر الإسلام وكتابه ووحيه الذي عليه دعامته. وإن النصر في التحدي لأبلغ من النصر بالسيف، وإن هزيمة الوحي لأمضى على الأمة من هزيمة جيوشها.
9 (2) أوجه الإعجاز
قد يدخل الإعجاز مع صفة الكلام في مبحث الصفات، وهو بهذا المعنى لا يكون دليلا على صدق دعوى النبي؛ لأن الكلام موضوع مستقل بذاته، وليس وسيلة لإثبات شيء آخر، أو تصديق شخص، أو تكذيبه.
10
وبالرغم من الاختلاف في سبب الإعجاز فإن هذا الاختلاف لا يمنع من وجود أوجه متعددة له بالرغم من الاختلاف حولها؛ فالاختلاف في سبب الإعجاز لا يقدح في واقعة الإعجاز.
11 (أ) هل الإعجاز في النظم والبلاغة؟
إذا لم يكن القرآن معجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة، أو هدم مبادئ العقل، فهو إعجاز أدبي بمعنى استحالة التقليد. القرآن إذن عمل أدبي أصيل ليس تقليدا ولا يمكن تقليد مثله. يتم تناول القرآن إذن هذه المرة كعمل شعوري، وليس كموضوع صوري، كما هو الحال في خلق القرآن، أو قدمه وربطه بإرادة خارجية مطلقة، ولا هو موضوع مادي؛ أي القرآن كجسم أو كشيء مقروء أو مسموع مكتوب أو متلو، ينتقل أو لا ينتقل. فهل القرآن معجز بنظمه وفصاحته نظرا لأن الإنسان ناطق، ولقد كرم الله آدم وعلمه الأسماء كلها، واللغة شرف والفصاحة بيان؟ قد يبدو لأول وهلة أن القرآن إعجاز بنظمه وبلاغته؛ فالعرب أهل جزالة وفصاحة ونظم وبلاغة، وقد خير العرب بين السيف والمعارضة، فاختاروا أشد القسمين وهو المعارضة. وإذا كانت كل معجزة قد أتت طبقا لعلم كل قوم ومستوى ثقافتهم؛ الطب عند عيسى والسحر عند موسى؛ فقد أتى القرآن كإعجاز في النظم؛ فالعرب أهم شعر وفصاحة. وإذا كان الرسول أفصح العرب فقد أتى بعمل في مثل فصاحته.
12
والعمل الأدبي لا ينقسم إلى أجزاء بل هو كل واحد. ليس العمل الأدبي كما بل هو كيف، ولا يمكن أخذ جزء منه وتذوقه تذوقا أدبيا دون كله، وقد عرف ذلك من العرب جملة وتفصيلا.
13
وقد يتجاوز النظم إلى البلاغة؛ أي القدرة على التعبير عن المعاني بأدق الألفاظ؛ فقد اشتمل القرآن على معان تعجز العلوم الإنسانية كلها أن تصل إلى دقيقاتها.
14
وقد اعترض بعض القدماء على ذلك بحجج عقائدية ولغوية معا؛ فإذا كان القرآن قديما فلا يمكن للحادث تقليده، وإن أمكن تقليده فلا بد أن يكون القرآن حادثا، وإذا كان الكلام من فعل الله فكيف يتحدى الله نفسه؟ ليس الإعجاز إذن في ترتيب الحروف أو النظم؛ فالكلام إنساني خالص، وليس كلاما إلهيا؛ لأن الكلام الإلهي يبطل التحدي.
15
وإن تطبيق قواعد النظم والبلاغة التي اشتقها الإنسان من اللغة لتجعل كلام الله إنسانيا خالصا تطبق عليه مقاييس لغة البشر وكلامهم.
16
أما حفظ القرآن لدى نقلته ورواته فليس معجزا، فالمهم هو القرآن وليس حفظه أو نقله الذي يخضع لمناهج الرواية، كما أن حافظه وناقله مسلم؛ وبالتالي لن يدعي النبوة، وإن لم يكن مسلما وكان حافظا للقرآن، فليس القرآن هو الدليل الوحيد؛ فهناك التواتر وإجماع الأمة وتحقيق الوحي في التاريخ.
17
كما اعترض بعض القدماء على وجوه البلاغة؛ فإذا كانت البلاغة هي ما قل ودل فإن أبلغ خطبة من خطب العرب وأشعر قصيدة من قصائدهم، توفي بهذا الغرض دون تفاوت كبير بينها وبين بلاغة القرآن، والشواهد على ذلك كثيرة. وقد اختلف الصحابة في بعض القرآن، حتى لقد استبعد البعض منهم بعض سوره؛ لأنها لا تنطبق عليها قواعد البلاغة العربية وأصولها. وقد سبب ذلك مشكلة عند الجمع، ولم توضع الآية في المصحف إلا عن بينة أو يمين. وإذا كان لكل صناعة مراتب فلا ريب أن محمدا كان أفصح أهل عصره ولا ريب. وهذا هو سبب إعجاز القرآن.
18
وقد يقال أيضا إن بالقرآن شعرا بالرغم من نفي القرآن لذلك، وإن فيه لحنا، وإن فيه تكرارا بلا فائدة، وإن فيه كثا من الخطب والقصائد الطويلة، بحيث لو تتبعها البلغاء لوجدوا فيه سقطا وتناقضا، بل وزيادة ونقصانا. وإذا كانت في القرآن ألفاظ فارسية، فكيف يمكن القول بفصاحته وبلاغته؟
19
لذلك اعتبر البعض أن القرآن من جنس كلام العرب، مجرد أعراض لا تدل على الله ولا على الرسول، يقدر العرب على مثله؛ وبالتالي ليس معجزا من حيث النظم والبلاغة، بل يقدر الناس على ما هو أحسن منه. فليس في النظم إعجاز، لا في كلام الله ولا في كلام العباد، بل إن الزنج والترك الخزر قادرون على الإتيان بمثله وبأفصح منه، حتى ولو لم يعلموا قواعد النظم وأصول التأليف. ولا يمكن أن يكون الإعجاز في النظم؛ فقد ضاعت النصوص الأصلية للتوراة والإنجيل، بل لم تحفظ على الإطلاق بلغتها الأصلية، وما زال الناس يتعبدون بها إلى اليوم.
20
إن ما قيل في إعجاز النظم والبلاغة هي أمور متفاوتة في النظم والأشعار، ولا يوجد بين القرآن وبينها إلا اختلاف في الدرجة وليس في النوع؛ فالنظم الغريب أمر سهل بعد سماعه ويمكن تقليده.
21
وكيف يكون الإعجاز لغير العرب من الأمم الداخلة في الإسلام أو المعادية له، والتي يقبل شعراؤها التحدي؟ ليس الإعجاز إذن في النظم والبلاغة فقط، بل يتجاوز ذلك إلى المعنى، وقد يكون المعنى فكرا أو نظاما، عقيدة أو شريعة ، وقد يقع هذا لمن لا يعرف العربية، وقد آمن كثير من غير الناطقين بالعربية بالوحي بعد اقتناعهم بخصائصه ونظمه وإن لم تحدث لهم انطباعات جمالية بأسلوبه، وقد يكون ذلك فيما بعد دافعا إلى التعريب، وتعلم العربية؛ فالإسلام ليس فقط عقيدة نظرية أو شريعة عملية، بل هو حركة تعريب، كما أن كل علم باللغة العربية هي مقدمة للاقتناع بالإسلام؛ لذلك كان كل المسلمين عربا وكل العرب مسلمين. واللغة نفسها، في حالة الإعجاز بالنظم والبلاغة، تحيل إلى المعنى. اللفظ مجرد وسيلة لإيصال المعاني، والوحي ليس فقط بيانا وصياغة، بل هو مضمون ومعنى؛ فالقرآن قبل أن يكون نظما هو معنى، وإلا لما كان دليلا. ولا يمكن الإيمان به دون فهمه، ولا يمكن فهمه دون أن يكون له معنى، والمعنى مستقل عن الله وعن الرسول وعن الإمام وعن المفسر، معنى مستقل في الذهن، يدركه العقل، ويشعر به الوجدان، ويراه الحس متحققا في الأعيان. وإن وجود المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والحقيقة والمجاز، ليدل على ضرورة أحكام المعنى بوضع قواعد مضبوطة لتحديد الصلة بين اللفظ والمعنى. وإن فهم المعنى لهو السبيل إلى الكشف عن ما يسمى بالمتناقضات فيه، بل لقد تحول ذلك في علم أصول الفقه إلى علم بأكمله هو علم التعارض والتراجيح.
22
وفي الحقيقة إن القضية كلها موضوعة وضعا خاطئا في الإعجاز النظمي؛ فإذا كان الإعجاز الأدبي لا يعني حدوث معجزة على يد الرسول، بمعنى حدوث شيء خارق للعادة، وهو تبليغ رسول أمي بهذا العمل الأدبي الفريد، فذاك تصور للإعجاز على أنه معجزة. وإذا كان الإعجاز هو استحالة التقليد والإتيان بمثله، فهو تحد للقدرة الإنسانية على التأليف والخلق. فالمقصود بالإعجاز تحدي قدرة الآخرين، وليس إظهار قدرة النبي أو قدرة خارجية على يد النبي بمعنى المعجزة التقليدي، وهو الخروج على المألوف وخرق قوانين الطبيعة وهدم مبادئ العقل. ليس الإعجاز بهذا المعنى خرقا لقوانين الإبداع الفني من قبل إرادة خارجية لإثبات صدق النبي، فهذا هو معنى المعجزة القديمة، بل تحدي البشر على الإتيان بمثل هذا العمل الأدبي . والحقيقة أن الإعجاز حتى بهذا المعنى الجديد يظل قاصرا.
فإذا كان المعجز هو النظم، أي ترتيب الكلام على نحو فني لا يمكن معه لأي فنان آخر أن يأتي بمثله، يكون الإعجاز هنا إعجازا أدبيا خالصا. وهذا يحدث في كل عمل فني؛ فالعمل الفني الأصيل لا يمكن تقليده أو الإتيان بمثله، بل إن المقلد نفسه لا يكون فنانا. هذا بالإضافة إلى استحالة فصل النظم عن المعنى والمعنى عن الشيء أو القانون؛ نظرا لارتباط الشكل بالمضمون ارتباطا عضويا، كما يقتضي بذلك تعريف البلاغة عند القدماء. فما يقال إذن عن احتمال أن يأتي الناس بمثله احتمال خاطئ فنيا أساسا، فلا يستطيع فنان أن يقلد عملا فنيا آخر، حتى ولو كان في إمكانية ذلك ولديه العلم والمهارة الكافية، فلا يكون عمله في هذه الحالة عملا فنيا أصيلا، بل مجرد عمل مقلد، وتكون مهارته في التقليد وليس في الإبداع، في الصنعة وليس الطبيعة. ولما كان التقليد أصلا ليس أسلوبا فنيا، وبالتالي لا تثبت استحالة التقليد إعجاز القرآن بقدر ما تثبت أن الفنان الذي يقلد ليس فنانا على الإطلاق؛ فالتقليد في نهاية الأمر ليس طريقا إلى الخلق الفني. (ب) هل الإعجاز في الإخبار بالغيب؟
يتجلى الإخبار بالغيب عند القدماء في القصص القرآني وإخبارنا بأخبار الأولين. لم يعرفها العرب ولم يعرفوا أمثالها.
23
والحقيقة أن العرب كانت لديهم أمثال هذه القصص في أقوال الكهان والقصص العربي، وفي الإسرائيليات التي كانت معروفة في الأوساط العربية اليهودية، بل إن أسباب نزول القصص هي معارضته للقصص القائم، قصصا بقصص حتى لا يكون المسلمون أقل قصصا من غيرهم. والماضي ليس غيبا؛ فحوادث الماضي قد وقعت بالفعل ويمكن معرفتها عن طريق علم الآثار ودراسة الوثائق والحفريات؛ فالقصص القرآني بهذا المعنى وذكر أخبار الأولين ليس بمعجز؛ إذ يمكن للوثائق والحفريات وعلوم التاريخ أن تقوم بذلك. وحتى لو حدث ذلك، لو أخبر القصص القرآني بأخبار الأولين كما تفعل الوثائق في علوم التاريخ، فليست المعجزة في أن هذا النبي الأمي يقص هذا القصص ولم يكن مؤرخا ، ولا عالم آثار، أو حتى كاتبا؛ فذلك أيضا تصور للإعجاز الجديد على أنه معجزة قديمة بالمعنى التقليدي؛ أي خرق قوانين الطبيعة، كما أن حجة الأمية لتوحي بأن محمدا هو مؤلفها؛ وبالتالي تؤدي إلى إنكار الوحي، بل إن الإعجاز هو أخبار السامعين بحوادث مضت واندثرت، وتضاربت فيها الآراء، وضاعت الحقائق وسط الظنون والأوهام. الإعجاز هو إمكان التحقق من صدق هذا القصص بنتائج البحوث التاريخية الحالية، والتحقق من صدق روايات القرآن عن عقائد الأمم السابقة وأحكامه عليها بالنتائج الحالية لعلوم النقد التاريخي للكتب المقدسة. والحقيقة أن الغاية من القصص لا هذا ولا ذاك، بل إعطاء الدرس الأخلاقي من التجارب السابقة، والاستفادة من الرصيد التاريخي للإنسانية وخبراتها؛ فهو قصص تعليمي وليس إخباريا، يحتوي على معان ولا يشير إلى حوادث. هو إعادة عرض للمعاني عن طريق الوعي التاريخي وليس الوعي الفردي، وعرضه كقانون للتاريخ وليس كمعنى مستقل. وهذا التحقق التاريخي للمعنى هو أحد براهين صدقه بالإضافة إلى البرهان النظري العقلي.
24
وقد يتمثل الإخبار بالغيب لا في قصص الأولين والإخبار عن الحوادث الماضية، بل في التنبؤ بحوادث المستقبل والإخبار بها، وهو أقرب إلى الغيب من أخبار السابقين؛ لأن المستقبل لم يقع بعد في حين أن حوادث الماضي قد وقعت؛ فعدم العلم بها ليس غيبا إلا بمعنى الجهل بالمعلوم، كما أن وقوع حوادث يعلمها البعض ولا يعلمها البعض الآخر لا تكون غيبا، والإخبار بها لا يكون تنبؤا بالمستقبل.
25
والحقيقة أن الإخبار بحوادث المستقبل ليس إخبارا بالغيب بمعنى معرفة المجهول الذي لا يقع، بل هو قدرة على معرفة مسار الحوادث في المستقبل بناء على تجارب الماضي والمعرفة بتاريخ الأمم والشعوب؛ فالتنبؤ قائم على معرفة بقوانين التاريخ، وليس اكتشاف علم غيبي لا وجود له. هو تحقيق قوانين التاريخ في المستقبل، كما تحققت في الماضي. وحتى لو كان محمد أميا، فإن معرفة قوانين التاريخ لا تحتاج إلى قراءة أو كتابة أو معرفة بالآثار والوثائق، بقدر ما هي معرفة فطرية بحركة الشعوب؛ فالوعي التاريخي أساس الوعي السياسي، ويتمتع القائد السياسي والزعيم المحنك بكليهما، حتى ولو كان أميا، وتاريخ القادة والزعماء شاهد على ذلك. لا تعني النبوة إذن الإخبار عن المستقبل بمعنى الإخبار بالغيوب؛ لأن الإخبار بالمستقبل ممكن باستقراء حوادث التاريخ، ورصد تجارب الأمم، وتحليل الأوضاع الحاضرة، ومعرفة مصير الأمة طبقا لقوانين التاريخ. وهذا علم إنساني، علم التاريخ، أو فلسفة التاريخ، أو علوم المستقبل، وليس علما غيبيا، فلا شيء يحدث في العالم في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، إلا ويمكن للإنسان معرفته. وجعل الإعجاز الجديد إخبارا عن الغيب وتنبؤا بالمستقبل هو رجوع بوظيفة النبوة إلى الوراء، وهي ليست وظيفة الوحي في مرحلته الأخيرة. ليس الإخبار عن الغيوب دليلا على النبوة أو أحد أوجه الإعجاز القرآني؛ فليست وظيفة النبوة الإخبار بالغيب والتنبؤ بالمستقبل، كما كان الحال في مراحل الوحي السابقة، ولكن يمكن معرفة المستقبل باستقراء حوادث التاريخ، وقوانين التطور البشري التي تثبت وجود قوانين لبقاء المجتمعات أو لفنائها، ابتداء من قوانين السلوك البشري الفردي أو الجماعي. يمكن إذن باستقراء السلوك الحاضر لجماعة معينة في الماضي والحاضر معرفة مصيرها في المستقبل، وليس هذا غيبا، بل معرفة للمستقبل بناء على شواهد في الماضي وقرائن في الحاضر. إن تحقيق النبوة ليس تنبؤا بالغيب، بل قراءة للحاضر في الماضي عن طريق استقراء حوادث الماضي ومعرفة قوانين التطور، وقراءة للماضي في الحاضر عن طريق إسقاط الحاضر على الماضي وتحويله إلى ماض نمطي موجه وقرائن الحاضر. فهناك قوانين للصراع الاجتماعي والتاريخي فيما يتعلق بالهزيمة والنصر. فعندما يتعادل الحق والباطل، أي عندما يتصارع باطلان، تكون الغلبة يوما لهذا ويوما لذاك؛ فالأمر يعود إلى القوة المحضة التي لا يساندها حق، وعندما يكون الصراع بين الحق والباطل فالغلبة بالضرورة للحق على الباطل، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل، ولو كانت معظم النبوءات تعبيرا عن الأول في النصر، تخبر بها الجيوش شحذا لعزيمتها وتقوية لمعنوياتها، ثم تتحقق الرؤية ويظن أنها تحقق للنبوءة.
26
ومن قوانين التاريخ الاتفاق على مبادئ عامة تحكم سلوك الشعوب، منها حرية الاعتقاد والسلوك طبقا لمبادئ عامة إنسانية تعترف بها كل الشعوب. وبالرغم من توجيه القدماء بعض الاعتراضات على هذا الوجه من الإعجاز، فالتنبؤ بالغيب قد يكون كرامة وليس معجزة، كما أنه يقع من المنجمين والكهنة، وليس فقط من الأنبياء. وهو إقصار للمعجزة على الغيب، وكأن ما ليس بغيب لا يكون معجزا.
27
إلا أن الحركة الإصلاحية الحديثة تجمع بين إعجاز القدماء وقوانين التاريخ، في أسلوب أدبي خطابي، في وصفها انتشار الإسلام بسرعة لم يشهد مثيلها في التاريخ، وكأن هذا الانتشار نفسه معجزة قديمة أو إعجاز جديد، دون صياغة عقلية لقوانين التطور ومسار التاريخ. والحقيقة أن التنبؤ بالمستقبل، كأحد وظائف النبي، لها أنماطها السابقة لدى بني إسرائيل، وكما هو واضح في نبوءات المسيح. ولماذا يكون محمد وهو آخر الأنبياء وخاتم النبوة أقل قدرة من الأنبياء السابقين؟ أما أمور المعاد فليست غيبية؛ لأنها تخضع لقانون الاستحقاق، وتحقيقا لأصل العدل، كما أن أمور الحلال والحرام ليست أمورا غيبية، بل هي أدخل في علوم التشريع. (ج) الإعجاز التشريعي
ويندرج الإعجاز التشريعي من قانون الاستحقاق وتطبيق أصل العدل، وهي الأسس العقلية التي تقوم عليها أمور المعاد، وفي مقدمتها الوعد والوعيد حتى وضع الشريعة وإقامة الدولة. فأمور المعاد ليست أمورا غيبية، بل يمكن معرفة أسسها العقلية، مثل قانون الاستحقاق بالعقل. أما أمور الحلال والحرام فتدل على قواعد السلوك البشري، وما يجب وما لا يجب؛ الأوامر والنواهي في كل ملة ودين. وقد لاحظ القدماء ذلك على مستوى المعنى؛ أي الحكمة الأخلاقية والفضائل العملية. أما علماء أصول الفقه فهم الذين دققوا في الحكمة التشريعية؛ فبالنبوة تثبت معان كبرى قائمة على كمال العقل والتحقق في التاريخ، ولا تتحقق هذه المعاني فقط في شخص الرسول، ولكنها معاني مستقلة يدركها كل عقل، ويتحقق من صدقها كل إنسان، بلا حاجة إلى معجزات بمعنى خوارق العادات، ولا يحتاج الإنسان لتصديقها إلا إلى استقلال العقل وحرية الإرادة.
28
ولكن المعاني الخلقية والحقائق الإنسانية العامة قد تحولت إلى نظم وشرائع، وتحققت عمليا في حياة الأفراد والجماعات، وأسست دولا، وأصبحت حركات في التاريخ. ولو كانت مجرد حقائق علمية واكتشافات رياضية، لكانت في العلوم الهندسية والرياضية والحسابية وفي العلوم الطبيعية أمثلة لها.
29
فالإعجاز التشريعي يخص آخر مراحل الوحي عند اكتماله، ولا يخص المراحل السابقة. كانت مهمة المراحل السابقة المساهمة في تطوير الوعي الإنساني، بالتركيز على جوانب دون جوانب أخرى؛ مرة على القانون في شريعة موسى، ومرة على الحب في شريعة عيسى، ولكن عند اكتمال الوحي أمكن إعلان استقلال الشعور الإنساني، وأنه لا وجه للتركيز على جانب واحد، وإنما الحاجة إلى نظام تشريعي متكامل، وحقيقة كلية شاملة لكل العصور والأمكنة في مبادئها الأولى، وأن التحدي التشريعي قائم إلى يوم الدين، ليس في الماضي فقط كما هو الحال في المعجزات القديمة، ولا في الحاضر فقط كما هو الحال في الإعجاز البلاغي والتحدي في الخلق. فالتحدي بالنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني، أي التحدي بالمذاهب الفكرية، هو القائم والباقي. وإذا كنا نعيش في عصر الأيديولوجيات، فالتحدي الأيديولوجي هو الوريث لكل التحديات القديمة بمعجزاتها وإعجازها. فالعصر عصر أيديولوجية وليس عصر بلاغة ونظم أو إخبار بالغيب، إلا عن طريق حساب الاحتمالات للمجهول، أو التنبؤ بالمستقبل كما هو الحال في العلوم المستقبلية. ويضم الإعجاز التشريعي جانبين: الأصول العامة التي تقوم على الحكمة البشرية ورصيدها في التاريخ، ثم استنباط أحكام الشريعة وتحقيقها في الزمان والمكان، في فنون وصناعات واجتماعيات وسياسات. وكما تساعد قواعد اللغة على إحكام المتشابهات، تقوم قواعد الاستنباط وطرق البحث عن العلة بتكييف المبادئ طبقا للزمان والمكان، وبتحقيقها في الواقع فيحل التعارض النظري. وما ظنه البعض على أنه تناقض على مستوى المبادئ هو في الحقيقة تكيفات طبقا لظروف كل عصر. فالإعجاز التشريعي في علم أصول الفقه؛ أي في الشق الثاني من علم الأصول.
30
والإعجاز التشريعي ليس فقط على المستوى النظري الاستنباطي في الاجتهاد، بل أيضا على مستوى التحقق الاجتماعي والتاريخي؛ فهو إعجاز في الفكر وفي الواقع، في النظم وفي التاريخ، من حيث القدرة على نشر الدعوة، وتجنيد الجماهير، وتغيير الأبنية الاجتماعية، وبناء دولة جديدة أصبحت وريثة لأكبر إمبراطوريتين قديمتين، الفرس والروم، في أقل وقت ممكن. تحولت قبائل الجزيرة العربية إلى طلائع واعية لحركة تغير اجتماعي وتاريخي، وأعطت مثلا في التنظيم وفي القيادة ما زالت تمثل في وجدان الأمة قدرة على التمثل والاقتداء ورفض الواقع والتطلع إلى عالم أفضل، لدرجة أن أصبح التقدم في التاريخ هو لحاقا بقدوة الصحابة وبسيرة الخلفاء.
31
ثامنا: الشخص أم الرسالة؟
إذا كانت النبوة تحتوي على أربعة أطراف؛ المرسل والمرسل إليه والمرسل إليهم والرسالة، وكان المرسل موضوع التوحيد أول العقليات، فإن المرسل إليه موضوع النبوة أول السمعيات، ويكون السؤال حينئذ في المرسل إليه: هل تتحدد صلته بالمرسل فيكون لدينا البعد الرأسي في النبوة، أم تتحدد صلته بالمرسل إليهم وبالرسالة فيظهر البعد الأفقي في النبوة؟ وبصيغة أخرى: هل ترتكز النبوة على الشخص أم على الرسالة؟ إن المتتبع لتاريخ علم العقائد يجد هناك تشخيصا واضحا للنبوة؛ أي التركيز على النبوة كشخص دون النبوة كرسالة، وتظهر النبوة كشخص في الإسراء والمعراج، وفي العصمة، وفي التفضيل بين الرسل والأنبياء، ثم تتشخص في سيرته الذاتية؛ أولاده ونسبه وأصحابه وزوجاته، مرة في علاقته بالصوري ومرة في علاقته بالمادي، مرة بالنسبة إلى الروح ومرة بالنسبة إلى البدن. فما يجب له من صفات الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة، وما يستحيل عليه من صفات الكذب والخيانة والكتمان والتهور أو البلادة، وهي صفات إن كانت للمرسل إليه إلا أنها شروط لأداء الرسالة. (1) النبوة كشخص
وتظهر النبوة كشخص في حياة الرسول الخاصة وسيرته الذاتية، والتي لا تتعلق في كثير من الأحيان بالرسالة كتبليغ متواتر لها مضمون فعلي يتصل بحياة الناس. ويعطي القدماء نماذج لهذه النبوة المشخصة في الإسراء والمعراج، وفي عصمة النبي، وفي تفضيل الأنبياء، وفي سيرته الذاتية. (أ) الإسراء والمعراج
لم يظهر هذا الموضوع كجزء من العقائد إلا في العقائد المتأخرة في مرحلة انحسار العقل وزيادة النقل؛ ففي العقائد المبكرة يذكر كأحد موضوعات الإيمان في النبوة، ولكنه في العقائد المتأخرة يزداد تفصيلا في وصف السموات السبع، وسدرة المنتهى، والبراق، وجبريل، وميكائيل. وهي مادة مستمدة أحيانا من علوم السيرة، وأحيانا أخرى من الخيال الشعبي والمصنفات فيه.
1
وبتحليل إحدى الروايات الواردة في كتب العقائد المتأخرة يلاحظ أن الخلاف في مكان ووقت وقوعها، قبل الهجرة أو بعدها، في بيت أم هاني أم عائشة، قد يكشف تنافسا بين الزوجتين لنيل شرف الواقعة، أو قد يكشف تنافسا آخر بين المهاجرين والأنصار لنيل الشرف، قبل الهجرة للمهاجرين وبعد الهجرة للأنصار. ولم يبدأ الرسول رحلته إلا بصحبة ملكين؛ جبريل وميكائيل، رسول الوحي ورسول الله. ولا تكون الصحبة إلا باثنين يمينا ويسارا؛ تعبيرا عن مرتبة الصديق ورفعة المنزلة، ثم حملاه إلى المسجد وهو مكان طاهر لشق صدر قلبه وغسله وملئه علما وحكما؛ فالحمل إلى المسجد أفضل من السير به إلى المسجد، كما هو الحال في أفعال الصلاة، ولم يتألم حين شق صدره على نقيض مناظر الصلب التي تألم فيها المسيح، حتى يزداد تحمله لآلام البشر، في حين أن الألم هذه المرة لا وجود له. وهذا يعبر عن تصور الدينين للألم؛ وجود أم عدم، فشل أم نجاح. وقام جبريل، وليس ميكائيل، بالغسل، ووضع فيه العلم والحكمة؛ لأنه ملك الوحي. وللواقعة نمط سابق في كرامات النبي قبل البعثة في شق صدره وغسله، ورفع المضغة السوداء منه، وتخليصه من الشيطان. وكلها أفعال الطهارة من المسجد إلى القلب إلى السماء؛ نقطة البداية ونقطة النهاية والمحمول بينهما. وركب الرسول البراق دون أن تعطي مصنفات العقائد وصفا له كما تعطي كتب السير؛ لأن قدر الخيال الشعبي فيه لا نهاية له. وفي الطريق إلى المسجد الأقصى رأى عجائب لا تذكر، ولكن من الطبيعي أن يركب البراق وينظر حوله وهو يقطع هذه المسافات الشاسعة، أن يرى ما لا يراه غيره من عابري الفيافي والقفار، خاصة من رسول تعود على هذه الرحلة، ويعرف ما فيها من مناظر الطريق قبل البعثة وهو يقود القوافل إلى الشام. وبطبيعة الحال أن يصلي إماما في بيت المقدس التي هي قبلة المسلمين قبل أن تتحول إلى البيت العتيق. وكيف يصلي والصلاة لم تفرض بعد إلا بعد الرجوع من الإسراء والمعراج؛ فقد فرضت الصلاة على المسلمين بعدها؟ وصلى إماما بالأنبياء والرسل؛ لأنه خاتم الأنبياء. ومن الطبيعي أن تكون الغاية مقدمة على الوسيلة، والنهاية على المقدمة. أما صلاته بالملائكة مع الرسل والأنبياء فيتطلب نزول الملائكة من السماء إلى بيت المقدس أولا. وهي أفعل تفضيل على الأنبياء والرسل زيادة في إبراز الإمامة للجميع. ولا يذكر كم من الوقت أخذ الإسراء ولا أية صلاة كانت؟ أما المعراج فمرقاة من ذهب ومرقاة من فضة؛ فلكل مسار معراج، ولكل قطار قضيبان، والذهب والفضة أغلى معدنين يصبو إليهما كل إنسان راغبا في الثروة والغنى ومتع الدنيا. ويبدو أن المعراج ليس روحيا خالصا، بل هو معراج مادي من معدنين ماديين. وهل يحتاج العروج إلى السماء طيرا في الهواء إلى مسار مادي وطريق معدني؟ وحتى يزدان الركب بهاء وجمالا وأبهة تحفه ملائكة يمينا وملائكة يسارا، يحفان بالموكب الملكي صحبة وزينة وتكريما. وعلى كل عتبة سماء يخبر جبريل ملائكته بقدوم الرسول، فيرحبون به ويعظمونه، فيظهر فضله، فيسر قلبه، ويزداد شكره لربه. وفي صياغات أخرى توصف السماء بالياقوت الأحمر والأخرى من الزبرجد الأصفر، وإحدى درجاته من الفضة وأخرى من الذهب مكللة بالدر والياقوت! وهو وصف غني رأى كل هذه الجواهر وعرفها، أو وصف تاجر مجوهرات ربما يعبر عن حرمان الناس؛ حتى يستطيع الخيال أن يؤثر فيهم ويجذبهم إليه. وهل السماء مادية حتى تكون فيها درجات من ذهب وفضة؟ وتلاحظ ثنائية المعدن وتمايز الألوان بين الأحمر والأصفر صراحة، أو الأصفر (الذهب) والأبيض (الفضة) بطريق غير مباشر. وقد يكون ذلك وصفا لألوان الشفق؛ الحمرة والصفرة، أو لألوان الطيف، كما يلاحظ تنوع المعادن من ياقوت وزبرجد، ذهب وفضة، در وياقوت، وتكرار الياقوت مرتين. وكيف بالذي يسرى به ثم يعرج وفي شوق إلى اللقاء، ويلتفت إلى هذا النعيم المادي الحسي كله الذي يبعد النفس عن نعيمها الروحي؟ وقد تكون السموات سبعا وبها سدرة المنتهى لوصف نهاية المطاف. وهنا يتوقف علم أصول الدين ويعتمد على علوم التصوف.
2
والحقيقة أن هذه الرؤية لها نمطها التقليدي في تاريخ الأديان، مثل صعود باروخ ودانيال إلى السماء على عمود أو مركبة من نار؛ رمز القوة عند اليهود. ولها ما يشابهها أيضا في أساطير اليونان، بل إن السماء في ديانات الشرق (كوريا) لتصبح هي المبتغى والمطلب. فهي بهذه الصيغة أقرب إلى الأساطير الشعبية التي يخلقها الرواة للتأثير في النفوس، واللعب بعواطف الإيمان، واستعمال كل الواقع النفسي والاجتماعي للحاضرين من أجل الإقناع والتأثير. هل هو رمز على هزيمة الكفار في غزوة بدر، ورؤية النبي لنفسه وهو سيدخل مكة فاتحا، كما هو الحال في رؤى عديدة من قبل، مثل رؤية يوحنا التي تبشر بانتصار المسيحية على الإمبراطورية الرومانية؟ الحقيقة أن الرواية كلها معارضة لروح الإسلام ومنهجه وطبيعته ورسالته؛ فالإسلام دين واقعي ورسالة إنسانية. اكتمل فيه الوحي واستقل فيه العقل وأصبح للإرادة حرية الاختيار، ولكن الرواية عود إلى الوراء، إلى قصص الأنبياء عند بني إسرائيل؛ حتى لا يكون خاتم الأنبياء أقل من الأنبياء السابقين في مجتمع تصل المنافسة فيه بين الدين الجديد والديانات القديمة، خاصة اليهودية، حد العداء السافر والحرب العلنية. تشير الرواية إلى جوانب غيبية والإسلام ليس دينيا غيبيا. هل هي مشاهدة للعالم على نحو تجريبي بالرؤية الحسية؟ ولكن التجربة هنا فردية صرفة، مثل تجارب الصوفية التي لا يمكن إيصالها إلا رمزا. وماذا رأى وماذا شاهد؟ لقد كان قاب قوسين أو أدنى؛ أي إنه لم ير الموضوعات ذاتها، ولكنه رأى صورا وخيالات لها، كما يفعل الأنبياء بعد البعثة، وكما يحدث للشعراء والأدباء والصوفية. هل أخذ منها علوما يستفيد منها الناس، أم أنها تجارب ذوقية خالصة؟ وما هي هذه العلوم التي أخذها ولم يبلغها للناس؟ وما الفائدة العامة من التجارب الذوقية الفردية؟ هل هي مكافأة للرسول؟ وكيف تعطى المكافأة والرسالة لم تتم بعد؟ هل هي معجزة من معجزاته مثل باقي المعجزات القديمة؟ ولكن المعجزة بهذا المعنى لم يعد لها وجود. وقد أتى الإعجاز الجديد بديلا عنها، وفي إعجاز القرآن الكفاية، وهو التحدي البشري الأدبي والتشريعي، من حيث الشكل ومن حيث المضمون. وإذا كانت الغاية منها تعليمية تجريبية صرفة، وهو ما يطابق منهج الإسلام في النسخ، فإن فرض الصلاة أثناءها، ثم سماع النبي تجارب الأمم السابقة على لسان أنبيائها في قدرات الأفراد والشعوب على تحمل العبادات، وتخفيض عدد الصلوات من الخمسين إلى الخمس صلوات، تكون العبادات كلها قد حققت الهدف منها، وهو فرض الصلوات الخمس على الأمة بناء على تجارب الأمم السابقة وطبقا لخبراتها؛ وبالتالي تصبح الرواية كلها في حاجة إلى تفسير وتأويل.
لذلك يؤثر البعض تصور الإسراء والمعراج روحيا خالصا، فهما صورتان فنيتان لتميز النفس عن البدن، ولصعود الروح إلى الملأ بحثا عن المعرفة وطلبا للسعادة، ورمزان للتعالي والمفارقة يشيران إلى يقظة الشعور، وإلى قدرته على التعالي والمفارقة. وهذا جائز على طريقة الفلاسفة، وما حاولوه من قبل في نظريات الاتصال بين العقل المنفعل والعقل الفعال، أو ما حاولوه من قبل في نظرية النبوة. وقد تمت هذه الرحلة الروحية في النوم لا في اليقظة، وتمت الرؤية بالروح لا بالعين. وعلى أقصى تقدير لم تصل الرواية إلى حد التواتر؛ وبالتالي لا تفيد اليقين. وإذا كان الإسراء من مكة إلى بيت المقدس قطعيا نظرا لإمكانية رؤية النفس عن بعد، فإن المعراج من بيت المقدس إلى السماء ظني.
3
وقد يحاول البعض تفسير ذلك علميا؛ بأن يماثل بانتقال إبليس من مكان إلى مكان، وبحركات الأفلاك السيارة، على قدر عال من السرعة، دون أن نشعر بها، وبصعود الجسم الخفيف إلى السماء؛ بسبب ضغط الهواء، أو حتى برجال الفضاء وهم يسبحون.
4
ومع ذلك تظل من جنس تأويلات الحكماء، ولكنها مرتبطة بنتائج العلم، وإليه يرجع الفضل في فهم السمعيات. ولما كان العلم نسبيا، متغيرا طبقا لتقدم العلم، أصبحت السمعيات كذلك، وغاب عنها طابع الإطلاق واليقين حتى ولو كانت متواترة. والرؤية موجودة في أصل الوحي في عمومها، وهي الإسراء فقط دون الإعراج، وما سوى ذلك من الآيات تؤخذ قياسا كما يفعل الصوفية، ويديرونها حول واقعة الإسراء.
5 (ب) عصمة الأنبياء
والحديث عن عصمة الأنبياء هو من مظاهر الحديث عن النبوة كشخص لا كرسالة، مع أن النبي مثل باقي البشر ينطبق عليه قانون الاستحقاق، وهو بشر معرض للصواب والخطأ، ولكن له ميزة التصحيح لإعطاء الدرس وتعليم الناس؛ فهو على اتصال دائم بالوحي، وسلوكه قدوة. الأنبياء بشر كغيرهم من البشر، ليس لديهم أية ميزة إلا أنهم وسائل تبليغ للرسالة. ولما كانوا هم أول من حققوها وطبقوها، فمن الطبيعي أن يكون سلوكهم هو السلوك الأمثل بالنسبة إلى الجماعة، فسلوكهم بهذا المعنى أكمل سلوك بشري؛ بدليل نجاح رسالاتهم، واتخاذ الجماعات لهم قدوة ومثلا، خاصة في السلوك العام الذي لا يؤثر في الرسالة في شيء.
ولكن هل يصل حد النموذج أو القدوة أو الأسوة إلى حد العصمة؟ وما هي العصمة؟ هل العصمة خلق من الله في النبي، وبالتالي هي هبة له من الله؟ لو كانت كذلك لكان النبي معصوما بالضرورة، ولما استحق أي فضل أو جزاء على عصمته. ولما كان السؤال نفسه ممكنا لغياب احتمال الخطأ أصلا، ولما كان الفعل موجودا للحساب؛ لانعدام حرية الإرادة منذ البداية، ورجوع أصل العدل إلى أصل التوحيد. هل هي ملكة نفسية تمنع من الفجور، وتحصل بالعلم بمثالب العاصي ومناقب الطاعات؛ وبالتالي تكون مكتسبة بجهد النفس وبعد معاناة؛ وبالتالي تستحق الجزاء؟ إذا كانت الملكة أقرب إلى الفضل واللطف والهبة والعون والتيسير، فهي أقرب إلى أفعال الله داخل أفعال الشعور الداخلية؛ وبالتالي لا تكون أفعالا حرة، ولا تستحق جزاء. وإن كانت أفعالا مكتسبة للإنسان بجهده وبناء على حرية إرادته، استحقت الشكر، وأصبح الخطأ فيها ممكنا؛ وبالتالي استحالت العصمة؛ بمعنى عدم الوقوع في الخطأ عمدا أو عن غير عمد.
6
ويعتمد إثبات العصمة على عدة حجج، منها ما يتعلق بالنبوة كنظرية في الاتصال؛ علاقة النبي بالله وهي الأضعف، ومنها ما يتعلق بالنبوة كتبليغ رسالة، وهي الأقوى. فإذا كان الله قد قرن بكل إنسان شيطانا، وأن الله أعان النبي على شيطانه، فأسلم فلا يأمره إلا بالخير، فذاك أيضا قضاء على حرية الفعل الإنساني أصلا؛ وبالتالي يضيع الاستحقاق. ووضع النبي في مرتبة أعلى من سائر البشر، أقرب إلى «الملائكة» منهم إلى سائر الخلق، فيستحيل التكليف؛ وبالتالي يستحيل الثواب والعقاب. ولا يرجع الفضل في العصمة حينئذ إلى الرسول بل إلى الله، وتكون هذه ميزة له وحده دون سائر الأنبياء، مثل داود وسليمان. وتظل حجة الخطأ قائمة طالما أن أفعالا خاطئة قد تمت، سواء صغيرة أم كبيرة، عن عمد أو عن غير عمد. وإذا كان الرسول قد تم شق قلبه من قبل لاستنزاع الشيطان مرة قبل البعثة من كراماته، ومرة بعد البعثة في بداية الإسراء والمعراج؛ فكيف يعود إليه من جديد كي يخطئ النبي، فيعينه الله عليه ويعصمه منه؟ أما الحجج الأخرى المتعلقة بالنبوة كتبليغ رسالة فهي أقرب إلى العقل، ولكن يمكن أيضا ردها. صحيح أنه لو صدر عنهم الذنب لحرم اتباعهم، ولو أذنبوا لردت شهادتهم؛ فلا شهادة لفاسق، ولو صدر عنهم لوجب زجرهم؛ لعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكانوا أسوأ حالا من العصاة، لا يألون عهد الله، ولكانوا غير مخلصين، ولا يكونون أنبياء، ولكانوا من حزب «الشيطان» وليس من «حزب الله» مع أن الله وصفهم بأنهم يسارعون إلى الخيرات، ولكن ذلك كله يقوم على افتراض مسبق، وهو أن النبي أكثر من بشر، ولا يجوز عليه ما يجوز على سائر البشر من خطأ وسهو ونسيان، مع أنه بشر رسول؛ يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وابن امرأة كانت تأكل القديد. صدقه من صدق رسالته، وتصديق الناس له من تصديقهم لها. التوحيد أصل والعدل أصل آخر؛ في التوحيد الله قادر على كل شيء، وفي العدل الإنسان حر الإرادة، مستقل العقل، يخطئ ويصيب، كما يجوز عليه الصحة والمرض، القوة والضعف، الشباب والشيخوخة، الحياة والموت.
7
وقد يخف هذا الموقف المبدئي الإيماني شيئا فشيئا، بالتخلي تدريجيا عن إثبات العصمة حتى نفيها، ابتداء من التفرقة بين ما قبل البعثة وما بعدها. فإن جاز بعض الخطأ قبل البعثة فلا يجوز بعدها؛ فقبل البعثة لم يكن الرسول مكلفا، ولا متعبدا بشريعة، ولا مخاطبا برسالة؛ وبالتالي انتفى موضوع الصواب والخطأ؛ ولكن في نفس الوقت ينفي ذلك وجود الدين الطبيعي وشريعة العقل؛ دين الفطرة، بل ينفي وجود كرامات قبل البعثة، فلا تجوز المعصية والكرامة في نفس الوقت، كما ينفي حجة مكارم الأخلاق التي عرفت عن الرسول قبل البعثة، والتي تستعمل أحيانا كأحد مبررات اختيار الرسول كرسول، كما يناقض بعض عموم الآيات، مثل:
وإنك لعلى خلق عظيم
دون تخصيص لما بعد البعثة أو قبلها.
8
وقد تجوز السهوة والغفلة؛ أي الأخطاء لا عن قصد وعن غير عمد، في حين لا تجوز الأخطاء المقصودة المتعمدة؛ فلا يرتكب النبي خطأ وهو عالم به أو عن عمد، بل يفعله عن سهو وخطأ وسوء تقدير. وهذا يتفق مع المسئولية عن الفعل بوجه عام، ليس عند الرسول فحسب، بل عند باقي المكلفين؛ فشرط الفعل هو القصد، والأفعال غير المقصودة ليست أفعالا تكليفية، وقد يقع الخطأ عن تأويل واجتهاد، وليس عن قصد وعمد.
9
والاجتهاد أصل من أصول التشريع، وللمخطي أجر وللمصيب أجران. وقد تجوز عليهم الصغائر دون الكبائر؛ إذ لا يجوز عليهم الكفر والفسق، وهو ما ينتج عن ارتكاب الكبائر.
10
ولكن ماذا يحدث عند الذي لا يفرق بين الصغيرة والكبيرة؟ وكيف تجوز الصغائر وفي نفس الوقت يكون النبي قدوة، وأفعاله سنة، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق؟ وإن جازت الكبائر مع الصغائر فلا يجوز الكذب في التبليغ؛ لأنه خيانة وكتمان، وهي صفة تمس الرسالة، لا يمكن تجاوزها وإن أمكن التجاوز عن الأخطاء التي تمس الشخص.
11
وقد تقع منهم الأخطاء ويغفرها الله لهم، كما يغفر لباقي البشر، دون زيادة أو نقصان، بعد إعلان التوبة والندم. والحقيقة أن كل ذلك إن وقع فهي دروس تعليمية للناس، وتوجيه للأمة وإرشاد لها، ولا أحد معصوم من الخطأ ما دام بشرا يمارس حريته ويعمل عقله؛ فقد ينسى النبي، كما ينسى البشر، حتى في حفظ الوحي، وقد ينتابه ما ينتاب البشر من أهواء وانفعالات، وقد يرجح مرجوحا، وقد يخطئ في التحليل وفي إدراك موازين القوى، وقد يتسرع أو يهتم، وقد يشك، وقد يعزم ويجزم ويقطع. ويأتي درس التصحيح في حالة النبي كتعليم وتوجيه وإرشاد. وعلى هذا النحو ترى الأجيال بعده التوتر بين الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وقد تكون كثير من الأفعال مشروطة أو محتملة ولم تقع بعد، ولكن التنبيه عليها وذكرها كحالة افتراضية قد تقع فيما بعد، يدخل في إطار هذا الدرس التعليمي، وهو منهج الوحي في التعليم من المحاولة والخطأ، وفي إعادة التكليف طبقا للواقع، وكما هو واضح في النسخ.
12
والحقيقة أن القول بعصمة الأنبياء هو رد فعل على القول بعصمة الأئمة؛ فإذا كانت هناك عصمة كتعبير عن التبجيل والتعظيم للقائد والزعيم، فالنبي أولى بها من الإمام. والقول بعصمة الإمام تستدعي القول بجواز الخطأ على النبي، والقول بعصمة الإمام في الحقيقة إنما هي نتيجة لزعامته لمجتمع الاضطهاد، وضرورة سيطرته على الجماعة وقيادته لها؛ فالعصمة تعطيه قوة معرفية وعملية، وتسمح له بالقيادة والإرشاد أكثر مما يعطيه جواز الخطأ والمراجعة عليه من الناس، وهو نتيجة لاتجاه المجتمع العظيم لتبجيل الزعماء والقادة، ورؤية خلاصه فيهم ومن خلالهم، ورفعهم إلى مستوى الأنبياء بل والآلهة؛ ففي كل المجتمعات المضطهدة تبرز أهمية الإمامة وصفاتها مثل العصمة، وطالما كان الإمام معصوما كان مطاعا، ويبرز ذلك في كل مجتمعات التسلط عندما يدعي الزعيم السياسي أنه هو وحده العالم والقائد والملهم والمرشد والمعلم، وأنه لا تجوز مراجعته أو نقده أو الخروج عليه، وأنه لا يجوز حتى لمس بغلة السلطان أو نقدها بكلمة، بل إن النبي يجوز أن يكفر ويعصي ويرتكب الكبائر، في حين لا يجوز ذلك على الإمام. وإن حاجة الإمام إلى العصمة أكثر من حاجة النبي؛ فإذا كان للنبي وحي يصححه فإن الإمام ليس له إلا العصمة. العصمة إذن سلاح سياسي لزعزعة الثقة في القيادة المعارضة؛ أي النبوة أو الخلافة، ولزرعها في قيادة جديدة هي الإمامة، فكل زعيم يدعي قومه أنه أولى بالعصمة من الآخر؛ وبالتالي أولى بالطاعة لأمره والانتصار له، وبالتالي يتنازع العصمة الخصمان؛ دعاة النبوة ودعاة الإمامة، مجتمع التسلط ومجتمع الاضطهاد. كل منهما يبغيه دفاعا عن ذاته؛ فدخلت العصمة كسلاح سياسي في الصراع من أجل السلطة.
13
ثم يطرح موضوع العصمة من الحاضر إلى الماضي، ومن آخر مراحل النبوة إلى أولها عبر التاريخ، ومن خاتم الأنبياء إلى الأنبياء السابقين، والغرض من ذلك تأصيل موضوع العصمة الحالية تاريخيا إثباتا أم نفيا؛ وبالتالي تستعمل أخطاء الأنبياء السابقين؛ إما لإثبات العصمة أو لنفيها وتأويلها. والحقيقة أن موضوع العصمة لدى الأنبياء السابقين مرتبط بتاريخ النبوة؛ فكان لا يعير النبي السابق أفعال العصيان؛ لأنها مظهر من مظاهر القوة والعظمة، مثل داود وسليمان في علاقاتهم النسائية، ومثل موسى في القوة والتشيع لقومه على حساب الحق وشمول المبادئ وعموم القيم. فكل نبي يعبر عن مرحلة نبوته؛ فهناك أنبياء لهم صفة الملك دون الفضيلة، مثل داود وسليمان، وأنبياء لهم صفة القوة دون الحق، مثل موسى. أما محمد خاتم الأنبياء؛ أي النبوة في مرحلتها الأخيرة، فقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق. ففي المراحل السابقة: النبوة - الملك، أو النبوة - القوة، يجوز فيها العصيان؛ وبالتالي تنتفي العصمة. أما في المرحلة الأخيرة في مرحلة النبوة - القدوة، أو النبوة - فلا يجوز فيها العصيان.
14
كما يطرح السؤال بالنسبة ل «الملائكة» بدافع المبالغة، بمقارنة الأنبياء بالملائكة، وإن كان الاتفاق على عصمة الملائكة أسهل؛ فهم ليسوا مكلفين؛ وبالتالي ليسوا محاسبين، وهم ليسوا بشرا؛ وبالتالي ليسوا أحرارا عاقلين في موقف الاختيار بين الحسن والقيبح. لا يفعلون الخير إلا جبرا، باستثناء إبليس الذي أثار استعمال حريته في الاعتراض والرفض؛ فكان جزاؤه استعمال الحرية إلى أقصى حد، وإمهاله وإعطاءه الزمان كله لتحدي حرية الإنسان ذاتها.
15
ولو أن إبليس عند البعض لم يكن من الملائكة بل كان من الجن، وباستثناء هاروت وماروت، ولو أنهما أيضا عند البعض لم يكونا من الملائكة. وإدراج إبليس مع الجن في اللغة تغليبا. وقد زادت التفاصيل فيه في العقائد المتأخرة إلى حد جعل الجن متعبدين بالإسلام، طعامهم الروث والعظام. وربما لم يسأل إبليس الله النظرة، وربما لم يعص إبليس بتركه السجود لآدم، ولكن لجحده بالله. وكذلك زاد التفصيل في قصة هاروت وماروت، وأنهما ليسا ملكين عصيا الله وشربا الخمر، وحكما بالزور، وقتلا الناس، وزنيا ، وعلما زانية اسم الله الأعظم، فطارت به إلى السماء، فمسخت كوكبا وهي الزهرة، وأنهما عذبا في غار بابل، وأنهما يعلمان الناس السحر. والحقيقة أن إبليس هو رمز الحرية والرفض وتحدي الإنسان. أما هاروت وماروت فإنها قصة في نفس السياق؛ يتلو الشيطان على ملك سليمان، ويعلمان السحر، فيفرقون بين المرء وزوجه، ويضررون بالناس، ولكن الإنسان قادر على الدخول في التحدي ومقاومة الشر والدفاع عن صالحه وكيانه. (ج) تفضيل الأنبياء
فإذا كان الأنبياء يسري عليهم ما يسري على باقي البشر من الأخطاء، فهل يتفاضلون فيما بينهم أو يتفاضلون مع غيرهم؟ يعرض القدماء أولا مسألة التفضيل بين الأنبياء والملائكة؛ أيهما أفضل، قبل أن يعرضوا لتفضيل الأنبياء فيما بينهم، ثم يأتي بعد ذلك التفضيل بين الأنبياء والأئمة ما دام كلاهما يشاركان في العصمة أو في القيادة والزعامة، ويأتي ثالثا التفضيل بين الأنبياء والأولياء ما دامت لكل فريق كرامات ومعارف وسلطة على البشر.
والحقيقة أن تفضيل الأنبياء على الملائكة أو تفضيل الملائكة على الأنبياء لا أساس له؛ لأنه تفضيل بين طرفين غير متساويين، وليسا من نفس النوع. فالأنبياء بشر والملائكة ليسوا من البشر. الأنبياء أشخاص مرئية، لها أفعال في التاريخ، ويمكن الحكم عليهم، في حين أن الملائكة أشخاص معنوية، لا يمكن الحكم عليها إلا ظنا. ولا يمكن مقارنة المادي بالمعنوي، المرئي باللامرئي، فهما ليسا من نفس النوع. الأنبياء معروفون برسالاتهم وأعمالهم، وآثارهم في التاريخ؛ أي تأسيس الدعوات وإقامة الدول وتشكيل عقائد الناس وتوجيه سلوكهم. أما الملائكة فلم يرها أحد، ولم تؤثر في التاريخ، ولم تعرف إلا سمعا من النبوة؛ وبالتالي لا يوجد إلا طرف واحد، هو النبوة أو الأنبياء الذين وجدوا في التاريخ، وأخبروا عن الملائكة. وما هو مقياس التفضيل؟ العصمة؟ درجة الخطأ؟ الرتبة عند الله؟ شرف الوظيفة؟ وإذا أمكن معرفة ذلك في حال الأنبياء، فكيف يمكن التعرف على كل ذلك في حال الملائكة؟ كيف يمكن معرفة عصمتهم أو درجة أخطائهم أو رتبتهم عند الله؟ أما الوظائف فلا تتفاوت فيما بينها شرفا ورتبة، بل هو نوع من تقسيم المهام وتوزيع الأعمال؛ فالنبوة للتبليغ للناس، والملاك للتبليغ للنبي، وليس هذا بأفضل من ذاك. وبطبيعة الحال لا يكون التفضيل بين المادة والروح، بين المرئي واللامرئي، فليست الروح بأفضل من المادة، ولا المادة بأفضل من الروح، ولكن يكفي التفضيل من حيث الفعل والغاية والرسالة. وقد يكون الكائن الحر العاقل مثل الإنسان أفضل من الكائن المجبر مثل الحيوان أو النبات أو الجماد أو الملاك. وما الهدف من التفضيل؟ الاختيار أم الترجيح أو التمثل في السلوك؟ هل الهدف مجرد معرفة نظرية من عقلية تتصور الموضوعات في سلم شرف وترتيب رأسي صاعد أو نازل، أم أنه تفضيل ينتج عنه أثر عملي سلوكي في حياة الناس العملية؟ هل هو نتيجة لعملية التعظيم والتبجيل لرفع الأنبياء درجة أعلى، أو للتقرب إلى الملائكة صعودا إليهم وزلفى؟ وما هي نتيجة التفضيل؟ وكيف يتم الاختيار بين الأنبياء والملائكة في الأفضلية؟ وهل هي أفضلية فعلية أم مجرد حكم قيمة طبقا للهوى والمزاج ودرجة الإحساس بالتعظيم والتبجيل والاغتراب عن الواقع؟
فإذا ما تم تفضيل الملائكة فلأن اللامرئي أفضل من المرئي، والمجرد أفضل من العيني، والروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية في حين تتعلق النفوس بالهياكل السفلية، والروحانيات مبرأة عن الشهوة والغضب ومن الشرور كلها، وهي نورانية لطيفة، على عكس الجسمانيات المركبة، تقوى على الأفعال الشاقة وتعلم المجردات والكليات. وكل هذه الأسباب في الحقيقة إنما تنبع من النظرية الإشراقية، ومن المواقف الصوفية التي تكشف عن اغتراب عن الواقع وبعد عنه، وتطهر فيه، وهروب منه.
16
وقد يتخصص الحكم بتفضيل الملائكة على الأنبياء؛ بأنهم الملائكة الذين لا يعصون ربهم نظرا لواقعة إبليس. وقد يعم الحكم في تفضيل الملائكة ليس فقط على الأنبياء، بل على جميع الناس وعلى عامة الخلق. وقد يتم التخصيص برسل الملائكة؛ فهم أفضل من عامة البشر.
17
وتفضيل الأنبياء على الملائكة أكثر واقعية من التفضيل الأول، وهو أكثر مثالية، ويعتمد هذا التفضيل أيضا على حجج نقلية؛ فقد أمرت الملائكة بالسجود لآدم، كما أن الله علم آدم الأسماء كلها، والذي يعلم أفضل من الذي لا يعلم، وأن عوائق البشر عن العبادة من شهوة وغضب، وقدرته على العبادة وتكليفه، لتجعله أكثر استحقاقا من الملائكة التي لا يوجد لديها مثل هذه العوائق، وأن وجود الإنسان في عالم الاختيار بين الملاك والحيوان يجعله أكثر حرية وحركة وغنى عن الملائكة التي لا توجد إلا في عالم واحد، وليس لها هذا الاختيار؛ وبالتالي فهي مجبرة على الخير وعلى الثبات فيه. وقد يزاد التخصيص في التفضيل، فتصبح رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، وعامة البشر أفضل من عامة الملائكة. لقد كان هاروت وماروت عجلين في بابل وليسا ملائكة، أو كانا ملكين عاصيين. وكيف تكون زبانية النار أفضل من الأنبياء؟ وحين يتم التخصيص بالملائكة السفلية فالأنبياء حتما أفضل منهم، ويظل الخلاف فقط في الملائكة العلوية.
18
الملائكة رسل إلى الأنبياء، لا يؤثرون في العالم كما يفعل الأنبياء، ليست لهم إرادة وعقل ولا موت ولا حياة كما لسائر البشر، بل قد يكون الإنسان العادي أفضل من الملائكة والأنبياء؛ فكلاهما رسول إليه مباشرة أو بتوسط. والإنسان صاحب رسالة وأمانة مثل الملائكة والأنبياء، ولكنه ليس معصوما مثل الملائكة، أو مؤيدا من الله مثل الأنبياء. هو موجود في العالم يعتمد على إرادته الحرة وعقله المستقل؛ وبالتالي كان امتحانه أعظم، وكان جزاؤه ربما أكبر.
ثم يصبح التفضيل داخل كل نوع؛ تفضيل الملائكة على بعضهم البعض، وتفضيل الأنبياء بين بعضهم البعض، فيكون السؤال: من هو أفضل الملائكة ثم من هو أفضل الأنبياء؟ والسؤال بهذا الوضع يكون أكثر اتساقا مع نفسه؛ لأن التفاضل بين كائنات من نفس النوع، فيصح التفضيل من حيث المبدأ وإن ظل خاطئا من حيث الواقع. وكيف يمكن تفضيل الملائكة فيما بينهم؟ وعلى أي مقاس؟ وهل يتم التفضيل وظيفيا بناء على تقسيم الأعمال وتوزيع المهام؟ ولكن الوظائف متكاملة، ولا فضل لإحداها على الأخرى. الفضل فقط في أداء الوظيفة أو في عدم الأداء. ولما كانت الملائكة كلها مطيعة فالكل في الفضل سواء؛ فجبريل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل كلها وظائف لا تفاضل بينها، مثل وظائف الحواس؛ وظيفة العين ووظيفة أذن ... إلخ.
19
وماذا يعني تفاضل الأنبياء فيما بينهم؟ الأنبياء هم مجرد وسائل لتبليغ الوحي، وليس لهم أي فضل بأشخاصهم على غيرهم، وليس بينهم تفاضل؛ إذ إن كل نبي يمثل مرحلة من مراحل تطور الوحي، ولا تفاضل بين المراحل، بل تكامل بينها، بل إن المرحلة المتقدمة لأنها أقل رقيا ليست بأفضل من المرحلة المتأخرة لأنها أكثر رقيا، ولا المرحلة المتأخرة لأنها أكثر رقيا أفضل من المرحلة المتقدمة لأنها أقل رقيا، بل إن المرحلة الأخيرة والتي فيها يتم اكتمال الوحي وتتحقق الغاية منه، ليست بأفضل من المراحل السابقة التي لولاها لما اكتمل الوحي، بل ربما كان الأمر أكثر صعوبة في المراحل السابقة عنه في المرحلة الأخيرة، بعد أن تعودت البشرية على الوحي وارتقت بفضله. وكم لاقى من الأنبياء السابقين من العذاب والهوان والقتل ما لم يلاقه آخر الأنبياء، وكم عوقبت أمم الأنبياء السابقين بالطوفان أو الغرق في البحر أو بالربح أو بالجراد والقمل ما لم تعاقب به آخر الأمم. وعند كل أمة نبيها أفضل من جميع الأنبياء؛ لأنها أفضل من جميع الأمم.
20
وقد يمتد التفاضل فيشمل الملائكة والأنبياء والبشر؛ فيأتي جبريل في المقدمة، وبعده ميكائيل، ثم بقية رؤساء الملائكة، ثم عوام البشر؛ وقد يأتي الأنبياء أولا، كل حسب فضله، وفي مقدمتهم خاتم الأنبياء، ثم الخلفاء الأربعة، ثم التابعون، ثم يقل الفضل قرنا بعد قرن؛ وقد يأخذ الأولياء مكانا عليا بين البشر قبل الصحابة أو بعدهم؛ وقد يتفاضل من صحب الرسول من الجن مع أصحابه من الإنس، أو على الأقل يتساوون فضلا؛ فكلاهما صحابة! ويستمر التاريخ في النزول انحدارا من السماء إلى الأرض، وتلحق النبوة بالإمامة، ويصبح التاريخ تاريخ انهيار وسقوط بعد أن كان تاريخ رفع وعلو.
21
والحقيقة أن موضوع التفضيل إنما يكشف عن عقلية التدرج والمراتب، وتصنيف البشر حسب درجات الكمال والشرف، وهو تصور يقوم على أخطاء عدة؛ منها تصور الناس على درجات رأسية، يتفاضلون فيما بينهم علوا وسفلا، مع أن البشر جميعا متساوون لا يتفاضلون إلا أفقيا أماما أو خلفا؛
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، وتكون المنافسة على أخذ الدرجات العليا، وليس على السبق إلى الأمام وخلق الأفعال، وذلك كله إحساس بالتعويض والعجز. فالمحاصر في الواقع يفك حصاره إلى أعلى، فيتقدم نحو الوهم، ثم يتشخص ذلك كله في موضوع التفاضل بين الملائكة والرسل، وداخل عناصر كل مجموعة فيما بينها.
كما يظهر التفضيل بين الأنبياء والأئمة. والتفضيل من حيث المبدأ ممكن؛ لأنه تفضيل من نفس النوع؛ أي مفاضلة بين البشر. وتشتد المفاضلة خاصة عندما توضع الإمامة كاستمرار للنبوة، وعندما يوضع الإمام وريث النبي. وإن تفضيل الأئمة على الأنبياء هو تفضيل للفرع على الأصل؛ فالأئمة خلفاء الرسل كما أن العلماء ورثة الأنبياء، ولا إمام ثانيا بلا نبي أولا. وإذا ما اشتد التفضيل وأصبحت الأمة أفضل من الملائكة، فلأن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ وبالتالي تكون الأئمة بالضرورة أفضل من الملائكة. وإذا ما تم تفضيل الأنبياء على الأئمة فذلك تفضيل للأصل على الفرع، وللسابق على اللاحق، وللنبوة على تأويلها، ولكن يصبح السؤال نفسه بغير ذي معنى إذا ما كانت نتيجة التفضيل علاقة التساوي بينهما، من حيث إن كليهما بشر لا يألو جهده في تحقيق الرسالة، ولكن يظل للنبي ميزة الاتصال والبداية، في حين أن ليس للإمام هذه الصفة. يوجد النبي في المحورين الرأسي والأفقي معا، في حين يوجد الإمام في المحور الأفقي وحده، ولكن نظرا لظروف المجتمعات المضطهدة فقد يصل الأئمة إلى درجة التأليه؛ فهم قادة الجماعة الذين سيحولون الاضطهاد إلى حرية، ويقلبون الجور إلى عدل، ومن الطبيعي أن تكون الأئمة حركة تصحيح لانحراف مسار النبوة، ولكن في المجتمعات السوية يقتضي التنزيه أن يظل الإمام إنسانا بشرا خالصا؛ تحقيقا لرسالة النبي واستمرارا لها.
22
وكما يظهر التفضيل بين الأنبياء والأئمة تحت أثر الإمامية، فكذلك يظهر التفضيل بين الأنبياء والأولياء تحت أثر الصوفية. وكيف تكون الولاية أفضل من النبوة، والولاية الفرع والنبوة الأصل؟ إن الوضع النفسي والاجتماعي للولي مشابه إلى حد كبير للوضع النفسي والاجتماعي للإمام، إلا أن الولي كان في مجتمع العجز ، وكان الإمام في مجتمع الاضطهاد، وكلاهما مجتمع هزيمة. فإذا كانت النبوة السلاح الرئيسي للنظام القائم والدولة المسيطرة، فقد كان من الطبيعي أن ترتفع درجة الإمام في مجتمع الاضطهاد، وأن يرتفع الولي في مجتمع العجز، فيصبح الإمام والولي أعلى درجة من النبي وأفضل منه. وعلى هذا النحو يمكن للناس اتباع الإمام والولي دون النبي؛ وبالتالي ينضمون إلى المعارضة ضد السلطة، ولكن في المجتمع السوي الأنبياء أفضل من الأولياء لو كان التفضيل يعني الاتصال بالوحي وتبليغ الرسالة، وهذا ما يحدث للنبي دون الولي. وإذا كان الصحابة أفضل من الأولياء، فكيف يكون الأولياء أفضل من الأنبياء؟ النبي كامل ومكمل، في حين أن الولي كامل فقط ولا يكمل أحدا، وليست له رسالة يبلغها للناس. النبي كامل عقيدة وشريعة، تصورا ونظاما؛ فكماله أشمل، في حين أن الولي كامل روحيا فقط، ولكنه ليس قائدا وزعيما ومؤسس دولة كما هو الحال عند النبي. إن موضوع التفضيل لا يتعدى كونه سلاحا سياسيا من أجل الصراع على السلطة، وإن تفضيل القادة إنما يعبر في حقيقة الأمر عن أحقية مجتمع كل منهم في السلطة بقاء أو انقلابا، طاعة أو خروجا.
23 (د) سيرة النبي
وتبلغ ذروة تحويل النبوة إلى شخص وليس إلى رسالة، في تحويل سيرة النبي من علم السيرة إلى علم أصول الدين، وتصبح أحد قواعد العقائد في موضوع النبوة؛ ففي سيرة النبي يتحول الرسول من رسالة إلى شخص وسيرة ذاتية؛ نسبه من جهة أبيه ومن جهة أمه، وأولاده ذكورا وإناثا كجزء من العقائد. وهي معلومات تاريخية خالصة حول شخص الرسول لا دلالة لها، بل وتعارض جوهر الرسالة بأنها ليست وراثة من أب أو جد، ولا توريثا لابن أو حفيد. تحولت الرسالة إلى شخص النبي، وتم الخلط بين الرسالة والرسول. ويسود الخلط حتى الآن، يحفظه الصبية في الكتاتيب، وتغنى في التواشيح في أجهزة الأعلام، وتنشد في الموالد، وتعطى في المصحات والمستوصفات كأسماء للمواليد الجدد، تبركا وتيمنا، كما يدخل في الاعتقاد أسماء الأمكنة، مثل مكة والمدينة، وأزمنة مولده ووفاته، وقد تكون القدس وفلسطين أقرب إلى قلب المسلم وروحه ووجدانه وأدخل في العقائد؛ فالضائع أكثر حضورا في الذهن من الموجود. وما أهمية معرفة أولاده وترتيبهم وأحفاده؟ وهل هذا الترتيب زمانيا حسب تاريخ الولادة، أم شرفيا حسب الشرف وكما يقتضيه الصراع السياسي والأحقية في الإمامة؟ وهل ترتيب الزواج حسب الزمان، أم حسب الفضل، أم حسب درجة قربهن إلى الرسول؟ ويستعمل ذلك اليوم لإضفاء الشرعية على كل حاكم بنسبة نفسه إلى بني هاشم، وأمنيته أن يكون أميرا للمؤمنين وخليفة لهم، حتى ولو كان سفاحا قاتلا، أو فاسقا عاصيا، أو ناهبا لثروات الأمة وقاهرا لعلمائها. إن ذلك جزء من علوم السيرة، وليس جزءا من علم أصول الدين، فمكانه هناك أليق. وما الفائدة من وضع أزواجه كجزء من العقائد دون أصحابه، وقد كان دور أصحابه في الرسالة أكبر بكثير من دور أزواجه؟ ولقد قام القرآن بتقريع بعضهن، والتخفيف على النبي مما أصاب النبي بسببهن، بل لقد حاربت إحداهن خيرة الصحابة وسالت دماء المسلمين، بل لقد وضع أيضا أعمامه وعماته. ولماذا لا تستمر القائمة في وضع أخواله وخالاته، وأبناء وبنات العمومة وأبناء وبنات الأخوال؟ بل ووضعت أيضا مرضعته! لقد دخل هذا الجزء في العقائد المتأخرة بعد أن تشخصت النبوة، واختفت كرسالة في أوضاع سياسية تتشخص فيها المجتمعات والأمم في أشخاص الزعماء والساسة، وتسمى الدول بأسماء سلاطينها، وكلهم إلى رسول الله منتسب! ولولا بقايا من حياء لوضع كل منهم كجزء من التعليم الوطني شجرة النسب، وهو ما يعارض روح الإسلام وأقوال الرسول ذاته في طلبه للناس أن يأتوه بأعمالهم ولا يأتوه بأنسابهم. وقد تكون ذلك آثار جاهلية وانتصارا لنعرات بعض القبائل دون البعض الآخر؛ ولذلك نمط سابق في تاريخ الأديان في مقدمات الإنجيل، في إرجاع نسب المسيح إلى داود أولا، ثم إلى آدم ثانيا؛ لإثبات نسله من تاريخ الملوك والأنبياء، وفي بعض الأنساب توضع أسماء الأنبياء مثل إلياس وخضر، ولولا صعوبة النقل إلى آدم لاكتملت شجرة النسب!
24 (2) النبوة كرسالة
إن ما يهم في النبوة ليس محورها الرأسي؛ نظرية الاتصال وكيفيته وطرقه؛ فهذا أدخل في علوم الحكمة، بل محورها الأفقي؛ أي تبليغ الرسالة للناس من المرسل عبر المرسل إليه إلى المرسل إليهم، وهو الأدخل في علم الأصول. فالنبوة وسيلة لتبليغ الوحي، وتبدأ صلتنا بالوحي بمجرد إعلانه وتبليغه. أما قبل ذلك فليس لدينا وسيلة للتعرف على كيفيتها. وقد دخل المرسل إليه، وهو الله، من قبل في التوحيد، في نظرية الذات والصفات. والحديث عن وسيلة الاتصال، مثل الملائكة والجن والشياطين، كل ذلك لا دخل له في الوحي الذي يبدأ تبليغ الرسول به للناس، وحمل الناس الأمانة، وتحقيقها في التاريخ. إن المرسل إليه ليس فقط هو النبي، بل إن النبي هو مجرد وسيلة إلى المرسل إليهم وهم الناس، والتوقف على الرسول تشخيص للنبوة وإيقاف للتبليغ وقطع للرسالة وكتمان لها. أشخاص الأنبياء لا تكون جزءا من الوحي؛ فالأنبياء مجرد وسائل للتبليغ، وتبقى الرسالات بعد انقضاء الأنبياء، وتبقى الرسالات تترى حتى اكتمال الوحي، واندراجها جميعا في آخر مرحلة.
25
كما أن إثبات النبوة عن طريق إثبات الصانع وقدرته لا تؤدي إلى شيء؛ لأنه لا يمكن نفي الصانع وإثبات النبوة؛ فالنبوة أساسا رسالة، والذي يهم هو مضمونها وليس مصدرها. لا تنشأ بقرار من سلطة مطلقة، ولا تعني وجود معلم لم يتعلم، بل تعني نداء الواقع للفكر، وطلب رسالة أثر وقوع أزمة في التطور الإنساني، والتعثر في ارتقاء الوعي البشري.
26
فإذا لم تكن النبوة شخص الرسول، فهل هي صفة فيه أم صفة خاصة بالرسالة التي يحملها؟ وإن كانت صفة فيه فهل هي فطرية أم مكتسبة؟ والحقيقة أن النبوة ليست صفة في شخص الرسول؛ فذلك أيضا تشخيص للنبوة في صفات النبي، بل هي صفة للرسالة التي يحملها؛ تواترها، ومضمونها، وتحقيقها. فلا تتوقف النبوة عند النبي، بل تستمر في الرسالة إلى نهاية الزمان، طالما أن هناك مكلفا قادرا على الفعل والتمييز. وعلى افتراض أنها صفة للنبي فهي صفة لا فطرية ولا مكتسبة، أو هي فطرية ومكتسبة في آن واحد؛ فالنبوة ليست مجرد اختيار أمر بالتبليغ، بل صفة حالة في النبي؛ فهي في هذه الناحية فطرية وليست مكتسبة، من الداخل أكثر من الخارج؛ ومن ثم فلا احتياج إلى أمر خارجي، بل إلى ظروف الاضطهاد والظلم التي تفجر طاقات النبي الدفينة. تعني فطرية عند القدماء أنها هبة من الله، وهذا أيضا عود إلى المحور الرأسي في النبوة، وإلى إرجاع النبوة إلى المرسل وليس إلى المرسل إليهم ثم إلى الرسالة. النبوة فطرية لأنها تمثل استعدادات خاصة في النبي، وفي نفس الوقت مكتسبة لأنها تنشأ في ظروف القهر والاضطهاد، ويأتي النبي محررا للأمة من التسلط والطغيان.
27
وإذا كان النبي هو قائد الجماعة، وهو المؤهل بصفاته لمهمة القيادة، فهل تكون النبوة جزاء؟ وإذا نجح في رسالته وحقق غايته وانتصرت الجماعة، فهل عليها ثواب؟ النبوة ليست جزاء بل اختيار لأفضل القوم زعيما لهم؛ لصفاته وقدراته وأهليته. وكيف تكون جزاء ولم تتم بعد؟ وعلى أي شيء يكون الجزاء ما لم تتحقق؟ الجزاء، ثوابا وعقابا، لكل فعل، والنبوة باعتبارها فعلا يكون لها الجزاء بهذا المعنى، ولا تكون في الأصل ابتداء؛ لأن الاختيار يكون بناء على الأهلية والقدرة، وإلا كان الاختيار عشوائيا بلا سبب،
28
ولا فرق في ذلك بين رجل وامرأة ما دامت النبوة مركزة على الرسالة وليس على الشخص؛ وبالتالي لا يهم جنس مبلغ الرسالة، ذكرا كان أم أنثى، فالشخص ما هو إلا وسيلة للتبليغ، ولكن الواقع من تاريخ الأديان أن الأنبياء الذكور هم الغالب على الأنبياء الإناث، على مدى تاريخ النبوة، وفي كل مراحل الوحي؛ نظرا لما تتطلب النبوة من مهام الحرب وفنون القتال، ومن واقع التاريخ البشري وإحصاء قادة الحرب فإن الغالبية كانت من الذكور.
29
وقد تحولت الصفات في العقائد المتأخرة في إطار نظرية الوجوب والجواز والاستحالة؛ ما يجب للرسول وما يمتنع عليه وما يجوز له من صفات، وكانت النتيجة أربع صفات للوجوب، وأربعة أضدادها في الاستحالة، وصفة واحدة في الجواز؛ وبالتالي يجب على المسلم كما آمن بواحد وأربعين عقيدة في الله أن يؤمن بتسع عقائد في الرسول. ولما كانت الصفات الأربعة الثانية فيما يستحيل على الرسول مضادة للصفات الأربع الأولى، فيما يجب للرسول، أمكن وضعها في أربع صفات واحدة إثباتا ونفيا، إيجابا وسلبا، فالاستحالة هي قلب للوجوب؛ الأولى يجب عليه الصدق ويستحيل عليه الكذب، فالصدق أول شرط للتبليغ؛ والثانية تجب عليه الأمانة وتستحيل عليه الخيانة، والأمانة في التبليغ مثل الصدق فيه؛ والثالثة يجب عليه التبليغ ويستحيل عليه الكتمان، والتبليغ هو الإعلان، وهو الغاية الرئيسية من النبوة، ووظيفتها الأولى؛ والرابعة تجب عليه الفطانة ويستحيل عليه التهور أو البلادة؛ لذلك نجحوا في قيادة الأمم وفي تأسيس الدول. وتجوز عليهم الأعراض البشرية من موت وفناء ومرض وعجز وشيخوخة وطعام وشراب وجماع ونوم؛ فالنبي ليس إلها، ولا خالدا، ولا يصعد إلى السماء، ولا يسير على الماء، بل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
30
وإذا كان الرسول قدوة في السلوك وأسوة حسنة للناس، فقد رسب في وعينا القومي أضداد الصفات أكثر من استقرار الصفات ذاتها؛ فتوارى الصدق وراء التهور أو البلادة، وجعلنا الأعراض البشرية مستحيلة، ورفعنا الزعماء إلى مصاف الآلهة، فلا تموت ولا تمرض، وأضفينا عليها صفات الوجوب، وقدسناها عن صفات الاستحالة.
وبالرغم من محاولة بعض الحركات الإصلاحية الأخيرة تحويل صفات النبي الأربع إلى خصائص للرسالة العامة، فالتبليغ أساسا هو إبلاغ الناس الخبر وإيصال الرسالة؛ وبالتالي القضاء على تشخيص النبوة، التي قد تكون هي الجذر التاريخي لتشخيص السياسة والمبادئ والرسالات في أشخاص الرؤساء، سرعان ما تحولت من جديد تحت أثر علوم السيرة إلى نبوة مشخصة، بل وامتدت الخصال الأربع وتكاثرت وأصبحت بالعشرات، وتحولت من صفات محددة خاصة بتبليغ الرسالة إلى صفات بدنية وجسمية ومزاجية خاصة، مثل حسن صورته وبياض وجهه المشوب بالحمرة ونور عقله وذكاء لبه وحكمه وعفوه وصبره وجوده وسخائه وسماحته وشجاعته ونجدته، ثم تمتد الصفات الفردية إلى الصفات الاجتماعية، مثل حسن عشرته وأدبه ورحمته ووفائه وتواضعه وعدله وعفته وزهده ووقاره وصحته وهيبته، والاعتقاد بنجاة أبويه نظرا لنجاة أهل الفترة كلها، هكذا بلا أعمال أو استحقاق، أو بعد إحيائهما من جديد وإيمانهما به، وكأن الله مسيح آخر يبعث الموتى من القبور قبل يوم الدين، وهو ما يظهر في المدائح النبوية والتواشيح الدينية التي تسمع في الموالد والأعياد، كما تسمع الأغاني في مدح صفات الزعماء.
31
تاسعا: تواتر الرسالة
إذا كانت النبوة تقوم على أربعة أطراف؛ المرسل والمرسل إليه والرسالة والمرسل إليهم، وكان النبي موضوع التوحيد، والمرسل إليه هو شخص النبي كتشخيص للنبوة بقيت الرسالة والمرسل إليهم. وأهم ما تتطلبه الرسالة بعد التبليغ هو تواترها؛ أي صحتها التاريخية وبقاؤها بلا تزييف أو تبديل أو تحريف، ثم فهمها حتى يمكن أخيرا تطبيقها في الحياة العلمية، وتحويلها إلى شريعة وإلى نظام مجتمع ودولة.
1
وتواتر الرسالة ليس معجزة قديمة، ولا حتى إعجازا جديدا، ولا حفظا إلهيا؛
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، بل هو نتيجة لعمل علمي تاريخي في البحث عن مناهج النقل وطرق الرواية. فصحة الوحي التاريخية ليست معجزة، بل هو عمل المؤرخين والرواة والنقل وعلماء الحديث. ومما ساعد على ذلك كتابة الوحي منذ ساعة الإعلان؛ فلم يمر بمرحلة شفوية قد يحدث فيها التغيير والتحريف والتبديل. حفظت نصوص الوحي كتابة، وانتقلت من يد إلى يد حتى جمعها، ثم جمع الحديث بعد ذلك بمناهج النقل الشفاهي التي وضعها علماء الحديث ومنها التواتر. لقد حفظ الوحي في آخر مراحله ودون كلمة ومعنى، في حين أن الوحي كتابة، وانتقلت من يد إلى يد حتى جمعها، ثم جمع الحديث فقط لعدم تدوين الوحي لحظة الإعلان، ثم جمعه بعد ذلك دون معرفة بمناهج النقل وطرق الرواية، بل طبقا لمقاييس عقائدية صرفة؛ العقيدة الغالية، أو عقيدة السلطة الدينية، أو طبقا لقرارات هذه السلطة ذاتها؛ حصارا للعقائد المعارضة وتطويقا لها.
2
والوحي المكتوب أو الشفاهي قبل التدوين هو نقل أو سمع، وكلاهما خبر، والمخبر ليس جزءا من الخبر؛ لأن الخبر يكون جزءا بوجود السامع، لا بوجود المتكلم، هذا بالإضافة إلى أن المرسل باعتباره مخبرا أولا هو موضوع التوحيد في نظرية الذات والصفات والأفعال، والمرسل إليه باعتباره مخبرا ثانيا مجرد وسيلة؛ فالنبوة ليست شخصا، بل رسالة؛ فلم يبق إلا الرسالة والمرسل إليهم؛ أي الخبر والسامع.
والخبر كلام يحتمل الصدق والكذب؛ أي إنه قول أو خطاب يمكن التحقق من صحته وصدقه؛ لذلك لم تدخل العبارات الإنشائية ضمن الخبر، ولكن هل يعني ذلك أن التمني والتعجب والاستفهام والتساؤل والاستنكار وكل الصيغ الإنشائية لا يمكن إيجاد وسيلة للتحقق من صدقها؟ هل هي مجرد صيغ إنشائية لا تعبر عن واقع على الإطلاق، أي واقع، حتى ولو كان واقعا شعوريا؟ وهل الصيغ الخبرية خبرية تماما دون أن يكون فيها إنشاء، سواء فيما يتعلق بسلامة الإدراك أو خطئه أو بحياد الشعور وميله أو بصحة القضايا وكذبها؟ ألا يعبر الخبر نفسه عن رغبة في وصف الواقع وإصدار أحكام عليه كما هو؟ وهل هناك واقع مجرد دون رؤية إنسانية؟ أليس الواقع نفسه مكونا من مكونات الموقف الإنساني؟ ولماذا يدخل النفي والإثبات والمدح والذم والتعجب عند القدماء في الخبر، ويخرج الاستفهام والأمر والنهي والأسف والتمني والسؤال؟ أليس التعجب صيغة إنشائية مثل السؤال والتمني؟
3
ثم تظهر قسمة الوجود الثلاثية إلى واجب وممكن ومستحيل في تقسيم الخبر، فينقسم الخبر إلى ثلاثة أقسام: خبر عن واجب وهو الخبر الضروري، وخبر عن ممتنع وهو الخبر عن المحال، وخبر عن ممكن، ثم تظهر نظرية العلم في الخبر عن الضروري؛ إذ يشمل الضروري المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة السمعية، وهي القسمة الأصولية أيضا للأخبار. وفي الخبر عن ممكن يتحدد صدقه أو كذبه بالدليل، والدليل قد يكون داخليا بالاتفاق مع الحس والمشاهدة والعادة، أو خارجيا عن طريق التواتر؛ فالتواتر جزء من نظرية الخبر باعتباره دليلا على صدق الخبر الممكن.
4 (1) شروط التواتر
والتواتر يفيد العلم اليقيني، وما سواه من مناهج النقل وطرق الرواية لا يفيد إلا الظن. وإنكار ذلك يؤدي إلى إنكار النبوة، من حيث إمكانية نقلها وصحة النقل تاريخيا، وبوجه خاص إنكار صحة القرآن تاريخيا وانتقاله مدونا، وإنكار صحة الحديث تاريخيا وانتقاله شفاهيا. وفي هذه الحالة لا يبقى لصدق النبوة إلا صدقها النظري بأعمال العقل، وصدقها العملي بتحقيقها في الواقع. ولا يفيد التواتر العلم اليقيني بذاته، بل بشروطه، وهي شروط أربعة تؤدي في مجموعها إلى يقين التواتر، وإذا ما نقص شرط منها يصبح الخبر آحادا لا يفيد إلا الظن؛ فالآحاد ليس هو الخبر المروي عن طريق واحد، ولكنه المتواتر الذي تسقط منه أحد شروطه الأربعة، حتى ولو كان مرويا بأكثر من واحد.
والشرط الأول للتواتر:
هو العدد الكافي من الرواة. ولا يوجد عدد معين كما، بل يوجد عدد محدد كيفا؛ أي العدد الذي بواسطته يحدث اليقين بصحة الخبر دون حد أدنى بأقل الجمع وهو ثلاثة، أو بأكثر الجمع الذي قد يصل إلى المائة أو المائتين إلى ما لا نهاية. فالأخبار المتواترة بمجموعها، وليس بآحادها تعطي اليقين. فالتواتر كل معنوي لا يتجزأ. العدد فيه ليس الكم المنفصل، بل الكيف المتصل؛ أي ما يمكن بواسطته الحصول على اليقين؛ فليست المائة مجموع أرقام آحاد تبلغ المائة، ولكنها عدد معنوي يعطي اليقين لكونه مائة لا تنقسم. وفي التواتر المعنوي لا يكون العلم مصادرة، بل علم بعدي ناشئ من التواتر، ويقين العلم ناشئ من العلم الذي يكتفي بالعدد؛ فإثبات العلم بعد التواتر، وإثبات اليقين بالعدد الكافي. وكلما زاد عدد الرواة زاد اليقين، حتى يحدث اليقين وتتوقف الزيادة في الرواة عن أن يكون لها أية دلالة؛ وبالتالي يحدث التواتر المعنوي، وهو مثل الاستقراء المعنوي الذي هو أحد طرق استنباط في الشريعة.
5
والشرط الثاني:
هو استقلال الرواة عن بعضهم البعض، بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإذا جاز الكذب على واحد فلا يجوز الكذب على الكل؛ فالكل ليس مجموع آحاد، بل له شخصية معنوية جديدة، صفاتها استحالة التواطؤ على الكذب؛ نظرا لانتشار الرواة في جميع أقطار الأرض، وعدم اجتماعهم في مكان واحد أو في زمان واحد، بعد سماع الإعلان بالتبليغ.
6
والشرط الثالث:
هو تجانس انتشار الرواية في الزمان، أو العلم باستواء الطرفين في الرواية، استواء أول الرواية مع وسطها وآخرها من حيث الانتشار؛ فقد يكون أول الرواية غير منتشر في الجيل الأول، ثم يتزايد انتشارها في الأجيال اللاحقة؛ نظرا للمصالح الجديدة التي كانت وراء هذا الانتشار، وقد تكون الرواية في أولها منتشرة في الجيل الأول، ثم تتوارى في الأجيال اللاحقة؛ نظرا لظهور مصالح جديدة معارضة كانت وراء الصمت عنها وكتمانها. الحالة الأولى من الأقل انتشارا إلى الأكثر انتشارا، والحالة الثانية من الأكثر انتشارا إلى الأقل انتشارا. أما تجانس الانتشار عبر الأجيال خاصة في الفترة الشفاهية، فيبين عدم تغير الظروف وتجدد المصالح وحياد الراوي؛ وبالتالي أصبحت الرواية معروفة عند الكافة، ينقلها الكافة عن الكافة، من جيل عن جيل دون ذيوع زائد أو كتمان مريب.
7
والشرط الرابع:
هو الإخبار عن حس؛ فالرواية في أصلها إخبار عن حس ومشاهدة، سمع أو بصر. وشهادة الحس مع أوائل العقول مكونان رئيسيان في نظرية العلم قبل المكون الثالث وهو النقل. فصحة النقل قائمة أولا على شهادة الحس وأوائل العقل وبداهة الوجدان. يقين التواتر إذن ليس خارجيا فحسب؛ أي الاتفاق مع مجرى العادات، بل هو أيضا يقين داخلي بالاتفاق مع ما يحس به الإنسان من نفسه وما يشعر بوجوده، وذلك ما يجعل العلم الناتج عن التواتر علما اضطراريا. يعطي التواتر إذن حقائق بديهية حسية وحدسية ووجدانية ثابتة لا تتغير، يدركها الحس، ويراها العقل، ويشعر بها الوجدان لأول وهلة بعد سماعه.
8
ومن هنا تأتي استحالة المعجزات؛ لأن شرط نقلها هو التواتر، وشرط التواتر الإخبار عن حس، والمعجزة تناقض ضرورات الحس وبداهات العقول. ولا يوجد دليل عقلي على إثبات الكرامة أو المعجزة إلا الخبر. ولما كانت رواياتها كلها ينقصها شروط التواتر، فهي كلها آحاد لا تفيد إلا الظن. وإن غياب الاتفاق مع الحس ليعادل رواية عشرين راويا فيهم واحد من المبشرين بالجنة،
9
وبالإضافة إلى النقد التاريخي للروايات المتضمنة للمعجزات، فإنه يمكن القيام بنقد داخلي؛ فعلى فرض صحة الرواية فإنه يجوز أن تكون المعجزة خطأ في الإدراك، أو جهلا بالواقعة، أو خطأ في التصورات، أو عدم دقة في التعبير، واستعمال الأساليب الإنشائية بدلا عن القضايا الخبرية، خاصة في عصر لم يكن الشعور التاريخي فيه محايدا، بل كان ملتزما انفعاليا بالوقائع المروية، ويميل بطبيعته إلى التفخيم والتضخيم من أجل التأثير على النفوس. فقد كانت الغاية من الرواية نشر الدين والدعاية له، كما هو الحال في معظم الروايات في تاريخ الأديان، خاصة المسيحية وانتشارها في الجماعة الأولى.
النبوة إذن واقعة بيقين التواتر، والتواتر أساس المعرفة التاريخية، يستحيل معه التواطؤ على الكذب، وبه نقلت أعلام الأنبياء. التواتر يفيد اليقين، وهو يقين قائم على العادة وعلى استقراء الوقائع وحكم العادة. ولما كان الخبر وسيلة لإعطاء بداية يقينية أولية يبدأ منها العقل كان لا بد أن يعطي علما ضروريا. فإذا ما أعطى بداية ظنية فإن البناء كله، المعرفي والسلوكي، يكون ظنيا.
فإذا ما أفاد التواتر العلم لشروطه الأربعة، فإن الآحاد لا يفيد إلا الظن. وخبر الواحد ليس هو الخبر الذي يرويه واحد، بل هو الخبر الذي يفقد شرطا من شروط التواتر الأربعة؛ ومن ثم يكون ظنيا في العلم وإن ظل يقينيا في العمل. ولما كان علم التوحيد علما نظريا لا عمليا فخبر الواحد في العقائد لا يكون أساسا لليقين، ولا يقال في العقائد بالظن. ولما كانت معظم روايات السمعيات آحادا، وخبر الواحد لا يعطي إلا الظن في النظريات، استحال تأسيس السمعيات وهي الشق الثاني في علم أصول الدين بعد الشق الأول وهي العقليات؛ التوحيد والعدل. ولما كان لا ينتج عنها عمل أو فرض أو شريعة باستثناء موضوعي النظر والعمل، والإمامة والسياسة، فأهميتها في الحياة العملية أهمية غير مباشرة عن طريق الأثر النفسي للعقائد، وليس عن طريق الواجبات والفروض؛ لذلك يمكن اللجوء إلى البناء الشعوري لخبر الواحد، والبحث عن شروط الراوي الواحد؛ حتى يكون للرواية أكبر قدر ممكن من الصحة التاريخية؛ وبالتالي من اليقين العلمي. وهي أيضا شروط أربعة: الإسلام والعدالة والضبط والبلوغ، وهي صفات موضوعية لشعور الراوي، تضمن سلامة إدراكه وخلوه من الهوى وحياده. فالإسلام شرط الالتزام بالتبليغ والانتساب إلى حضارة والولاء لمبادئها. والعدالة شرط أخلاقي؛ حياد الشعور وسلامته من الهوى. والضبط شرط إدراكي بالنسبة لسلامة الحواس؛ السمع والحفظ والأداء، الأذن والذاكرة واللسان. والبلوغ شرط عقلي حتى يتم الاتفاق بين الحس والعقل والنقل. وما سوى ذلك من شروط خاصة إذا كانت لا تتوافر فيها الموضوعية لا تدخل كعامل في اليقين. أحوال الشعور إذن، وضعه أم حياده، ضرورية لمعرفة صدق الخبر. وتعلم هذه الأحوال بتحليل الشعور وليس بالخبر، وإلا تحول الأمر إلى دور؛ تعرف الأحوال بالخبر، ويعرف الخبر بالأحوال، مثل أن يكون أحد الرواة من العشرة المبشرين بالجنة، أو من أهل الجنة الذين لا يحصى عددهم، والذين ما زالوا في غياب المجهول لم تتم أعمالهم بعد حتى يكون لهم استحقاق.
10
ولا يوجد وسط بين التواتر والآحاد. المشهور الذي هو في الأصل آحاد، ثم أصبح متواترا هو آحاد؛ لأنه تواتر ينقصه شرط التجانس في الزمان. ولما كان الآحاد هو التواتر مع نقص أحد شروطه، فإن الخبر في النهاية لا يكون إلا متواترا حتى يفيد العلم القطعي.
11
فإذا ما استحال يقين التواتر لسند الرواية بضرورة مطابقتها للحس والعقل، فإنه يبقى ضرورة مطابقة متن الرواية أساسا، ليس فقط مع الحس والعقل، بل مع الواقع أيضا. وإن لم يكن تواتر الرسالة دليلا على صدقها تكون مطابقتها لمبادئ العقل وضرورات الواقع أدلة أخرى على صدقها؛ فالمطابقة لا تكون مع التاريخ وحده، بل أيضا مع بداهات العقل ومع مصالح الناس. الوحي إثبات لحقائق العقل والواقع. وقد يدخل الشعور في التعريف، وتكون المطابقة أو عدم المطابقة بعلم أو بغير علم. وقد يدخل بعد ثالث للتعريف في نشأة القضية ذاتها؛ هل هي خبر؛ أي سمع ونقل من وحي، أم هي خبر قائم على الإدراك والتصور ثم الإيصال والمشافهة؟ لا يعلم صدق الخبر أو كذبه إلا بعد التحقق في الواقع لا قبله، وقبل التحقق يكون الخبر مجرد افتراض. مضمون الخبر لا يقل أهمية عن روايته، ومتن الرواية أحد وسائل تحقيق صدقها مثل سندها. والتحقق من صدق المتن لا يقل أهمية عن التحقق من صحة السند.
12 (2) تطبيق شروط التواتر على الكتب المقدسة
وشروط التواتر ليست خاصة برسالة دون رسالة، أو بكتاب دون كتاب، أو بأمة دون أمة؛ فهي شروط واحدة تنطبق على أية رسالة، وعلى أي كتاب، ولدى أية أمة. ولو أنها تخرج من كتاب خاص وحالة خاصة، إلا أنه يمكن تعميمها حتى تستقل كمناهج رواية، وطرق نقل يصح تطبيقها على كل الكتب المقدسة الأخرى في مراحل الوحي السابقة، أو حتى روايات الأدب الشعبي، وروايات الشعر العربي القديم. وتبرز قوة الوحي في آخر مرحلة له، من حيث تواتر الرسالة، وصحتها في التاريخ، ونقده لتحريف الكتب المقدسة الأخرى تاريخيا وعقائديا وسلوكيا، من حيث الصحة التاريخية، وفهم العقائد، وسلوك أهل الكتاب.
13
فإذا ما طبقت شروط التواتر ومناهج النقل وطرق الرواية على الكتب المقدسة السابقة، التوراة والإنجيل؛ فسرعان ما يظهر تحريفها وتبديلها كما وصف القرآن، وكأن الاكتمال يفترض التاريخ، والبناء يكشف عن التطور، وتدوين آخر مرحلة مقياس لما كان يمكن أن يتم في المراحل السابقة. وقد يستقل هذا الموضوع عن النبوة، ويصبح جزءا مستقلا، ويكون موضوعا جديدا أقرب إلى تاريخ الأديان ونقد النصوص، وهو ما تحول بعد ذلك في حضارة أخرى، هي الحضارة الغربية الحديثة، وبفضل الحضارة الإسلامية إلى علم مستقل باسم «النقد التاريخي للكتب المقدسة»، كما استقل من قبل أحد أوصاف الذات الست وهي الوحدانية، لتصبح تاريخا للوحدانية مقلوبا؛ أي عقائد الشرك والوثنية في الفرق غير الإسلامية.
14
وتظهر المناهج الإسلامية، سواء من علم أصول الفقه أو من مصطلح الحديث، والتي استمد منها علم أصول الدين هذا الجزء عن تواتر الرسالة في موضوع النبوة. وترفض النظريات اللاهوتية في النقد مثل رفع الله كلامه من الصحف؛ لإنقاذه من التحريف، وهو مثل حفظ الله كلامه في القرآن؛ فالتوراة الصحيحة والإنجيل الصحيح لم يرفعهما الله، بل ضاعا؛ إما في مرحلة الشفاهي، أو تم تحريفهما وتبديلهما زيادة ونقصانا في مرحلة النقل الكتابي.
ويمكن تصنيف أحكام القدماء على التوراة والإنجيل، وكيف أنهما لم يستوفيا نقلهما شروط التواتر في ثلاث قضايا رئيسية؛ الأولى تحريف النصوص وتبديلها وتغييرها؛ وبالتالي عدم صحتها تاريخيا، وتستعمل لإثبات هذه القضية مناهج تحليل النصوص، وذكر أهمها وأسمائها وضياع النصوص، مع ذكر العوامل الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء النقل، وحال الدولة قبل السقوط وبعده، ودور الأخبار في التزييف. والثانية سوء فهم هذه النصوص المحرفة، وتزييف عقائدها، وضياع التوحيد والعدل، وإنكار النبوات والمعاد، ونهاية العمل الصالح، وسقوط الدولة؛ فأصبح التحريف مضاعفا؛ تحريف النصوص أولا، ثم تحريف العقائد الثانية. والثالثة سوء أفعال أهل الكتاب، وعدم قيام النصوص بدورها الرئيسي في توجيه سلوك الأفراد والجماعات.
فالتوراة التي بين أيدينا اليوم محرفة ومبدلة، وليست منزلة من عند الله، ولم تبق التوراة واحدة لم تتغير ولم تتبدل عبر الأجيال؛ فتاريخ النص يثبت هذا التغيير والتبديل، سواء أثناء قيام الدولة أو بعد انقراضها. وتخالف السبعينية توراة عزرا الأولى وليست مطابقة لها. ولا يوجد اتصال بين الأنبياء والرواة، بل تنقطع سلسلة الرواة ولا تتعدى كونها مشهورة، وهي مملوءة بالأخطاء التاريخية؛ فهناك تواريخ يقص فيها موسى حياته قبل مولده وبعد وفاته، وضعها الأحبار على لسانه؛ فقد كان لهم دور بارز في التحريف والتبديل في النصوص والشرائع، وهي مملوءة بالاضطراب الزماني، وتحتوي على خلط في الأنساب، واضطراب في إحصاء الأجيال، كما أنها مليئة بالوقائع المعارضة لحوادث التاريخ وعلوم الطبيعة والجغرافيا، في وصف أنهار الأرض ومصابها ومنابعها وروافدها، ويناقض بعضها البعض من حيث التحديدات المكانية؛ مما يكشف عن خطأ المترجم ووضع الأحبار؛ فالتوراة مناقضة للواقع التاريخي والجغرافي (النقد الخارجي)، ومتناقضة فيما بينها (النقد الداخلي، ومراجعة الكتاب على نفسه).
15
وبالنسبة للقضية الثانية، سوء فهم العقائد، فهي مملوءة بالتشبيه وهو مضاد للتنزيه، وتوحي بعض عباراتها بتعدد الآلهة. وكيف يصارع يعقوب الله أو الملائكة؟ كيف يعجز الله صراع يعقوب؟ وما الفائدة من صراع نبي وملاك؟ كل ذلك مظاهر للتشبيه. وكيف يجوز البداء على الله؟ وكثيرا ما تبطل النبوات وينكر البعث والجزاء. وفي المعجزات تقوم السحرة كما تقوم الأنبياء بإجراء المعجزات، وكثير من رواياتها تناقض الحس والعقل.
16
أما القضية الثالثة الخاصة بالسلوك فإن كثيرا من أشعارها مثل «شعر الأشعار» (نشيد الإنشاد) كلام أحمق لا يعقل، مضاد للأخلاق ولتنزيه الله. وكثير من مطالبها مضادة للكمال الخلقي، ومحال أن تأتي شريعة الأنبياء بما لا يفهم أو يضاد الأخلاق. وتتناقض التوراة مع القانون الخلقي للاستحقاق ثوابا أو عقابا في إهلاك قوم لوط؛ الصالحين والطالحين. والنبي مضاد للأخلاق كما هو الحال في قصة ضيوف إبراهيم المنتحلة؛ إذ كيف يرتكب الأنبياء المحرمات؟ وكيف يقع أبناؤهم وبناتهم في المحرمات؟ كيف يطيع النبي أهواء قومه؟ وأخيرا لم يتحقق المعاد في التوراة باحتلال العبرانيين من الفرات إلى النيل وإن كانوا قد احتلوا فلسطين وأجزاء من لبنان وسوريا ومصر.
17
أما بالنسبة للإنجيل فتبرز نفس القضايا الثلاث: التحريف في النصوص، سوء فهم العقائد، وأخيرا قضية السلوك الخلقي. فبالنسبة للقضية الأولى يبدأ تاريخ المسيحية بمؤامرة يهودية نفذها بولس، مثل مؤامرة عبد الله بن سبأ، فبولس هو المسئول عن تبديل المسيحية ووضع شرعة جديدة، وهناك عديد من المتناقضات داخل كتب النصارى مع التاريخ والوقائع والحوادث، واختلاف في التواريخ وعمر الأجيال من آدم إلى إبراهيم، وهو خلاف قائم أيضا بين السبعينية وتوراة اليهود. وفي الأناجيل أيضا تناقضات بالنسبة للتوراة، فهل هي نسخ لها؟ والاختلافات في الروايات في الزمان والمكان والرتبة والمال كثيرة، مثل رواية اختيار المسيح للتلاميذ في الأناجيل الأربعة، وروايات جحد التلاميذ له مرة قبل أن يصيح الديك ومرة بعده، وتناقضات في روايات الإيمان عند التلاميذ. وكيف يعطي المسيح للتلاميذ قوة على الأسباط الاثني عشر وفيهم يهوذا؟ وهناك اختلافات كثيرة بين الأناجيل الأربعة، كما أن هناك أناجيل أخرى كثيرة غير الأناجيل الأربعة تحتوي على كثير من أقوال المسيح الصحيحة، ولكن لا تعترف بها الكنيسة؛ لأنها لا تقر بعقيدة التثليث. وهناك تناقضات في دخول المسيح القدس، وتناقضات في نسب المسيح في بدء الخلق وهي فواتح الأناجيل الأربعة، كما أن معجزاته مضطربة ومتناقضة تقوم على الكذب في النقل. ولا توجد تفرقة بين السحر والمعجزة كما هو الحال في التوراة؛ فالأنبياء الكذابون يقومون بإجراء المعجزات. وكثير من أمثال المسيح غير مطابقة للواقع؛ مما يدل على وضعها خاصة في أمثال الزرع، والمسيح غير خبير بالفلاحة مثل الذي وضعها. وتثبت مقدمة إنجيل لوقا بأن الأناجيل مؤلفة باعترافه من نصوص سابقة، وليست رواية متواترة أو شهادة عيان مباشرة.
18
أما بالنسبة لسوء فهم النصوص وتزييف العقائد، فتأتي عقيدة التثليث كنموذج فريد؛ فقد تمت استعارة لغة الأبوة والبنوة من التوراة ومن الديانات القديمة، والتي على أساسها قامت كل العقائد الأخرى الباطلة المناقضة لشهادة الحس وأوائل العقل وبداهة الوجدان. وهي لغة مجازية تم تأويلها حرفيا لتصبح حقيقة، مع أن كثيرا من النصوص من داخل الأناجيل نفسها تؤيد أن المسيح إنسان وليس إلها. ويعترف المسيح نفسه وعلى لسانه بأنه نبي وأنه ابن الإنسان، وقال ذلك مرات عديدة أكثر مما قال إنه إله أو ابن الإله؛ فالألوهية قد أعطيت للمسيح فيما بعد من الأجيال اللاحقة؛ فهي رؤية بعدية، إسقاط من الحاضر على الماضي، وليست رؤية قبلية من الماضي إلى الحاضر، وقد ساهم في ذلك أبناء الكنيسة، وكانوا وراء كل ضلال. وزاد على ذلك أثر اليهودية على النصرانية، بالرغم من تحذيرات سلس، وتأكيده على التمايز والانفصال ضد الخلط والاتصال، وقد اتضح هذا التناقض أيضا في نظرية الكلمة في أول إنجيل يوحنا. وهناك تطاول على القدرة الإلهية وطعن في التوحيد، فليس المسيح إلا نبيا لا شأن له بالأب. وكيف يتوالد الابن عن الأب؟ وهي كلها في الحقيقة معان مجازية تدل على درجة القرب والتعاطف بين البشر، ولكن تحولت ألقاب المسيح، مثل الابن والمعلم والسيد، إلى عقائد فعلية شخصية شيئية، وليس مجرد وصفه بأنه الابن الصالح، كما أن علاقة المسيح بالكون متناقضة؛ إذ إنه بشر وإله وطبيعة في آن واحد، وامتحان الشيطان للمسيح يدل على أنه أقوى منه؛ فكيف يكون الشيطان أقوى من الله؟ وهناك تناقضات عديدة أخرى في رواية الصلب، حول من حمل جثة المسيح، وحول اللصين؛ مرة كلاهما كافر، ومرة واحد كافر والآخر مؤمن، وكذلك في أقوال المسيح على الصليب. وقال المسيح بالرجعة ولم يرجع؛ مما يدل على عدم تحقيق النبوة، كما وعد المسيح أنه أتى ليتكلم بلغة لا يعلمها أحد ولم يتحقق الوعد. وهناك أيضا تناقضات في رواية البعث وفي تصوراته؛ فكيف يجلس المسيح على يمين الله؟ وهناك تناقضات أخرى عديدة بالنسبة للملائكة وأمور المعاد. والروح القدس ليس خاصا بالمسيح وحده، ولكنه عام لكل الأنبياء؛ وبالتالي فلا مجال لتفضيل نبي على بني أو في تفضيل البشر على الأنبياء، وتشويه صور الأنبياء السابقين، مثل التناقضات التي في رواية يحيى المعمدان. وكيف يقوم التلاميذ بمعجزات وفيهم الجبان والخائن؟ وكيف يشك التلاميذ المؤيدون بالروح القدس في المسيح وفي نفس الوقت يجرون المعجزات؟ وهل كانت مريم على دين المسيح والتلاميذ أم على أي دين؟
19
أما بالنسبة لقضايا الأخلاق والسلوك فإن عقائد الخطيئة الأولى والخلاص والفداء تعارض حرية الاختيار والمسئولية الفردية وقانون الاستحقاق. هناك إجبار متبادل من الله على الإنسان ومن الإنسان على الله، وكل ضد العدل كما كان التجسد ضد أصل التوحيد، كما أن كثيرا من الوعود التي أعطاها المسيح بالنسبة إلى مغانم الدنيا لم تتحقق. وكثير من الشرائع المنقولة عنه لا تطابق العقل والواقع، ولا ندري من خلال النصوص؛ هل رسالته رسالة حرب أم سلام؟ والحقيقة أن كل هذه النتائج لها ما يؤيدها في علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، الذي نشأ بعد ذلك في الحضارة الغربية الحديثة بأكثر من ألف عام. اعتمد القدماء فيها على المادة الموجودة في عصرهم، ولم يستعملوا أحكام القرآن على الكتب السماوية الأخرى، إلا كافتراضات يمكن التحقق من صدقها في التاريخ.
20
عاشرا: مضمون الرسالة
تنتهي النبوة في آخر المطاف إلى كونها رسالة متواترة؛ أي صحيحة تاريخيا، وبعد ذلك يأتي الموضوع الأخير وهو مضمون الرسالة وفحوى الخطاب، وهو الموضوع الذي تناوله علم أصول الفقه، ومع ذلك توجد بعض مواده في علم أصول الدين، ويكون السؤال: هل مضمون النبوة غيبي أم حسي؟ نظري أم عملي؟ عقائدي أم تشريعي؟ وإذا كانت موضوعات النبوة غيبية فهل يمكن إثباتها حسيا؟ وإذا كانت حسية، فهل هي أشخاص انقضى نحبها أم كتب ما زالت متواترة؟ وإذا كانت الكتب فهل هي وسيلة أم غاية. هل الكتب مغلقة على نفسها أم تحيل إلى شيء آخر هو قصدها وغايتها وهدفها الذي هو خارج الكتاب؟ كيف يمكن الانتقال من اللغة لفظا ومعنى إلى اللغة باعتبارها إحالة إلى الأشياء في العالم الطبيعي؟ وهل العالم هو عالم الأشياء أساسا أم عالم البشر؟
وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخرة، خاصة في تحديد مضمون الإيمان على أنه إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره.
1
وهي موضوعات متناثرة يدخل البعض منها في العقليات وقد تم عرضه، والبعض الآخر في السمعيات، والنبوة أولى موضوعاتها. فالله هو الأصل الأول في العقليات، وهو التوحيد في نظريات الذات والصفات، والقضاء والقدر هو الأصل الثاني في العقليات، وهو العدل في حرية الاختيار وفي الحسن والقبح؛ أي الإرادة والعقل. أما الكتب والرسل فهي موضوعات النبوة؛ أول السمعيات، واليوم الآخر هو موضوع المعاد؛ الموضوع الثاني في السمعيات، وتبقى الملائكة وحدها التي لم يتم تناولها في موضوع النبوة إلا بصدد عصمة الأنبياء. ويلاحظ في هذا المضمون أنه يشمل الموضوعات الستة؛ أربعة في العقليات، واثنين في السمعيات، ويترك الاثنان الآخران في السمعيات، وهما: الإيمان والعمل، والإمامة والسياسة، وكأن عمل الفرد ونظام الحكم لا يدخلان ضمن قواعد الإيمان. لا حقوق المواطن ولا اختيار الحاكم يدخلان ضمن إيمان المسلم، فيظل إيمان المسلم نظريا لا عمليا، إلهيا لا إنسانيا، أخرويا لا دنيويا. وإذا كان آخر موضوعين في السمعيات هما التاريخ المتعين؛ أي خلق التاريخ، فإنه من البديهي أن الغاية من إسقاطهما هو إخراج المسلم من التاريخ وسلب عمله وإنكار وجوده؛ ومن ثم يكون إيمان المسلم قمة بلا قاعدة، رأسا بلا جسد، خلودا بلا زمان، وعيا بلا تاريخ، وكأنه روح لا جسم له، مجرد طائر شريد في الهواء، لا مستقر له في أرض أو وطن. وهو ما ترسب في وعينا القومي حتى الآن، وكان أحد أسباب ضياع الأرض من تحت الأقدام، وضياع الثروة من بين أيدي الناس. (1) الموضوعات النظرية (الغيبية) (أ) الله والقضاء والقدر والرسل والكتب واليوم الآخر
وضع القدماء الله أول موضوع للإيمان، فهل الله موضوع النبوة؟ إن الله هو في أصل التوحيد أول موضوع في العقليات ، والعقليات سابقة على السمعيات ومستقلة عنها وغير مشروطة بها، ولا يمكن أن يكون الأصل موضوعا للفرع، أو أن يكون السابق متضمنا في اللاحق، بل إن السمعيات يمكن معرفتها من العقليات؛ وبالتالي يمكن الاستدلال على النبوة من صفة الكلام في موضوع الصفات في التوحيد. يمكن معرفة الله وإثبات وجوده عقلا؛ وبالتالي فهو الأول، والنبوة تبني عليه وتستدل منه. وإذا بان أن الله كذات وكصفات هو الإنسان الكامل كان أول مضمون للإيمان هو الإيمان بالإنسان الكامل، وإذا كان لفظ «الله» في القرآن مقرونا بلفظ «الأرض» في «إله السموات والأرض»، «رب السموات والأرض»، «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله»، كأن الإيمان بالله هو في نفس الوقت إيمان بالأرض؛ فقد تعود الأرض تحت الإقدام بعودة الأرض إلى الله في قواعد الإيمان.
2
أما القضاء والقدر فقد دخل من قبل في الأصل الثاني، العدل، في العقليات قبل السمعيات؛ فهو من الموضوعات العقلية لا السمعية، وهو إيمان بخلق الإنسان لأفعاله، وليس بالسعادة والشقاء المكتوبين على الإنسان وهو ما زال في بطن أمه؛ «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.» ولماذا اختيار إحدى النظريات وهي الجبر كأحد قواعد الإيمان، وليس نظرية أخرى مثل الكسب أو الاختيار، أو وضع رأس الموضوع ذاته وهو خلق الأفعال مثل الله، دون اختيار أحد النظريات فيه كالتأليه أو التجسيم أو التشبيه أو التنزيه؟ هل تهدف قواعد الإيمان إلى الترويج إلى نظام سياسي معين يقوم على القهر وعلى سلب حريات الناس؟ وهل يمكن أن يؤمن الإنسان بالقضاء على حريته، فيدمر نفسه بيده؟
3
أما اليوم الآخر فلا يكون موضوعا للإيمان؛ لأنه سيأتي في المعاد ثامن موضوع في السمعيات بعد النبوة، وهو لم يثبت بعد في بناء العلم، فكيف يتم الإيمان بشيء مسبق مفترض دون تأسيس أولا؟ وماذا عن تفصيلات اليوم الآخر ابتداء من الموت وعذاب القبر حتى الجزاء؟ هل يدخل ذلك كله في مضمون الإيمان باليوم الآخر؟ وماذا عن هذا اليوم، وما يحدث في هذا الزمان، وما قبل قدوم اليوم الآخر؟ ماذا عن الدنيا قبل الآخر؟ وماذا عن أفعال العباد قبل الجزاء؟ وهل تأتي النهايات قبل المقدمات، والثمرات قبل الغروس؟
4
أما فيما يتعلق بالرسل فقد بان أن موضوع النبوة ليس هو تشخيص الرسول، بل رسالته؛ وبالتالي فالرسل ليست موضوعا للإيمان. الرسل مجرد وسائل النبوة للإسلام والإخبار والتبليغ وليست موضوعها، ويمكن الاستغناء عنها بالوحي المباشر، كما أن كل النبوات بها أنبياء ورسل، وليس الرسول خاصا بآخر مرحلة من مراحل الوحي. وكيف يتم التمييز بين الأنبياء والرسل الصادقين منهم والكذبة؟ وإثبات الرسول بالمعجزة مجرد إثبات خارجي، وإثباته بالإعجاز يحيلنا إلى الكتاب وليس إلى الرسول، وجعل النبوة رسالة وليس شخصا.
5 (ب) هل الملائكة موضوع للنبوة؟
بقي إذن موضوع الملائكة، وقد ظهر من قبل في المقدمات النظرية الأولى في نظرية الوجود في مبحث الجوهر إجابة على سؤال: هل هناك جواهر مفارقة؟ وكان منها طبقا للحكماء أربعة: الله والنفس والعقل والملاك. فالملاك عند الحكماء صورة مفارقة؛ أي موجودات مجردة نظرا لإمكانية وجود صور بلا مادة، كما ظهر الموضوع من قبل في النبوة، في التفضيل؛ تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة، ثم يظهر الموضوع هذه المرة كأحد قواعد العقائد.
6
والحقيقة أنه لا يظهر إلا في العقائد المتأخرة، بل حتى في الشروح على المتون المتأخرة، ولم تظهر في العقائد الأولى إلا كموضوع وافد من علوم الحكمة، وقد استقاه الشراح المتأخرون من القصص الشعبي وكتب السير والأحاديث الموضوعة؛ لجذب انتباه العامة وتحريك خيالهم؛ حتى ينعموا بهذه العوالم العلوية تعويضا عن مآسيهم السفلية، وحتى ينشغلوا بالآخرة عن دنياهم، وينصرهم المدعم بالملائكة عن هزائمهم، وتحديد المسئولية عنها. والعجيب في الأمر هو الدخول في كل هذه التفصيلات؛ في ماهية الملائكة وأنواعها ووظائفها ومقاماتها، وكأنها موضوعات حسية يمكن إدراكها بالحس، أو عقلية يمكن معرفتها بالعقل، أو نقلية متواترة، أو بها صلاح الناس وقضاء أمور العباد! بل إن كثيرا من الحركات الإصلاحية الحديثة لم تسلم منها.
7
فما هي الملائكة؟ هي أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكل، ولا يراها أحد في أي من صورها، ومثال ذلك في الطبيعة الهواء الأثير الذي يأخذ أشكالا عديدة ولا يراه أحد. والحقيقة أن الضغط يحول الغاز إلى سائل، والسائل يمكن رؤيته، ولكن المتأخرين، ليبينوا استحالة الرؤية، جعلوا الله خالق الرؤية في العين؛ وبالتالي تكون الرؤية مشروطة بقدرته، كما أن تعلق ذرات التراب بالهواء تجعل رؤية الهواء ممكنة في الرياح أو تحت أشعة الشمس. وقد قال القدماء في الأثير مثل هذا القول في تحديده كجسم لطيف. وهو من نور لشفافيته وعلو رتبته؛ فإذا كان النور عاملا مساعدا على الرؤية للأجسام، فإنه يكون هو نفسه موضوع الرؤية في حالة الملائكة، وهو أقرب إلى تفسير الحكماء الذي اعتمده المتكلمون الطبائعيون. وتشكيلاتها جميلة باهية تفرح ولا تحزن، بعكس تشكيلات الجن التي ترهب وتخيف. والنور أشرف من النار؛ النور للملائكة، والنار للشياطين والجن، والطين للإنسان.
8
وهي كلها تشبيهات إنسانية تدل على رغبة الإنسان في المفارقة، وفي الحصول على موجودات مفارقة لا مادة لها، تكون أقرب إلى قلبه من الموجودات المادية. فعندما يئس من العالم المادي ومن إمكان معرفته أو التأثير فيه، فإنه ينقلب إلى العالم الروحاني؛ فلعل به معارف أفضل، ولعله هو يصبح مفعولا فيه بفاعل أشرف وأسمى. وما دام الإنسان موضوعا للأثر وليس مؤثرا، فعلى الأقل يكون المؤثر فيه شريفا؛ فالملائكة إذن نتيجة للإشراقيات، وازدواج الأشعرية بالتصوف في الشروح المتأخرة.
وبعد الحديث عن مادة الملائكة وأجسامهم يطرح موضوع جنسها؛ ذكر أم مؤنث. وإذا كان النص أحيانا ينفي الأنوثة فإنما يتم ذلك استهزاء بقوم يرون الذكر شرفا والأنثى عارا، فأخذوا أفضل القسمين وتركوا لله القسم الآخر، ولقد يكون إبليس وحده هو الذكر وأن له أنثى؛ لأن له ذرية مثله. فإذا ما حدث ذلك بعد الطرد يظل الحكم الأول بنفي الذكورة والأنوثة عن الملائكة قائما. وإذا ما كانت له ذرية قبل الطرد لأصبح الخلاف لغويا نصيا بين النفي والإثبات. وإذا كانت الملائكة بناتا فقد يعني ذلك الستر؛ ستر الله للبنات؛ فهن أحوج للستر من الذكور في مجتمع الذكور. فإذا كان عيسى قد ظهر ولم يكن مستورا، فإن آدم عندما هبط إلى الأرض ظل يخصف عورته من ورق الشجر ليستر نفسه.
9
وهذا كله إسقاط من الإنسان وبيئته على موضوع لا يدركه الحس، ولا يتصوره الذهن.
ولما كان للملائكة هذا القدر من الرتبة العلوية والشفافية الجسمية، فهم يقدرون على ما لا يقدر عليه سائر البشر؛ فيجرون المعجزات، مثل قطع المسافات بين السموات والأرض في مدة قصيرة جدا، وتمر أمامنا ولا نراها، وتفعل أفعالا عظيمة يعجز عنها البشر. وتحاول إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة تفسير ذلك وتبريره بظواهر الطبيعة، وباكتشافات العلم الحديث؛ فالرياح تقلع الأشجار العظيمة وتهدم الأبنية العالية، والكهرباء تجر الأثقال التي يعجز عنها ألوف الرجال، والإنسان قادر بأصبعه وعضلات ساعده القيام بأفعال صعبة، وهي كلها من أوامر مخه، وهو جسم لطيف نحيل يحرك الأعضاء من خلال الأعصاب، بالرغم من فساده بأقل شيء ولو بنقطة دم زائدة فيها. وإمكان ذلك كله يرجع إلى الله القادر على كل شيء!
10
كما أن سرعة قطع المسافات يمكن تبريرها بقانون الجاذبية؛ فالجسم الساقط من الشمس تكون سرعته أكبر بكثير من الجسم الساقط على الأرض في أول ثانية، كما أن سرعة حركة الأفلاك ودوران الأرض أكبر بكثير مما نشعر بها. ولماذا لا تذكر أيضا سرعة الصوت والضوء لتبرير سرعة الملائكة؟
11
واضح من ذلك أنه لا سبيل إلى معرفة الغائب إلا بالقياس على الشاهد، وإذا كان الشاهد هو العلم، فإن موضوعات العقائد لا تفهم حينئذ إلا بالعلم، ويكون العلم هو وسيلة معرفة عقائد الإيمان، إذا ما تغير العلم تغير فهم العقائد. ولما كان العلم باستمرار متغيرا أصبح فهم العقائد متغيرا كذلك؛ وبالتالي تحول نسق العقائد كله من الثبات إلى التغير، وأصبحت مادة العقائد كلها هي مادة العلم، وبدل أن يصبح المتكلمون تابعين للساسة يصبحون هذه المرة تابعين للعلماء؛ الساسة الجدد، أو الذين يعملون أيضا عند الساسة القدماء. وعلى الرغم من هذا التفسير العلمي لقدرة الملائكة إلا أن اللجوء إلى قدرة الله على كل شيء لا يتم التنازل عنه، وكأن تفسير العلم لا يتنافى مع الإيمان بالقدرة، وليس بديلا عنه، فيتجاور العلم مع الإيمان؛ الأول وافد من الآخر، والثاني نابع من الذات، ويصبح المسلم مقلدا للآخر وناقلا عنه، ومطمئنا إلى إيمانه القديم، وكأنه قد جمع بين الحسنيين؛ علم الآخر وإيمان الذات، وهو ما نحن عليه حتى اليوم.
أما من حيث باقي الأوصاف، فقد يكون مكانهم في السماء؛ نظرا لقربهم من عالم الأفلاك، وهو عالم مشابه لها، من حيث الشفافية واللطافة والحياة والحركة.
12
ومن هنا أيضا أتى مقامهم المحمود، وانتظامهم صفا صفا،
13
قد يترقون كما يفعل البشر من أسفل إلى أعلى طبقا لأداء الوظائف، وقد يظل كل منهم في رتبته بلا استحقاق. وهم مأمورون لا يعصون الله في أمرهم؛ وبالتالي فهم معصومون، سواء كان منهم الرسل أو لم يكن.
14
لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغوطون، ولا يلد بعضهم بعضا، ويذكرون الله كثيرا وفي كل وقت، ليس لهم حظ من الجنان، ولا من رؤية الرحمن. وقيل إن جبريل وحده هو الذي ينظر إلى الله مرة واحدة؛ حتى لا ينالهم الجميع الفضل بما في ذلك العاصي المعاقب وتفضيله على الرسل. وهو إسقاط موضوع الرؤية في الصفات من عالم الشهادة إلى عالم الغيب؛ حتى يمكن تفضيل الثاني على الأول.
15
وما المانع أن يرى النور النور، ما دام الأمر كله تشبيها وتعبيرا عن موقف إنساني خالص؟ فإذا ما عوقبوا فليس عقابهم مثل عقاب الملاك على الكفر، فجزاؤه النار مثل إبليس، وإن كان دون ذلك فعليه العقاب مثل هاروت وماروت، ومن استحق الثواب فله لذة الطاعة لله!
16
كل ذلك إسقاطات من الإنسان على ما لا يعلم، وتصور حسي مادي لنعمه، وظلم للمطيع للملائكة بأن تكون له لذة الطاعة، والطاعة فعل، فكيف تكون ثوابا؟ وكيف يكون من أهل الجنة دون أن يكون ذلك ثوابا؟ يبدو أن الصراع بين الرؤية لعالم الملائكة، كالنور والعصمة والطاعة، في صراع مع الرؤية الواقعية لها؛ العصيان والجزاء، وكلاهما رؤيتان إنسانيتان خالصتان. وقد يكون ذلك رد فعل على اليهود، الذين جعلوا عصيان الملائكة بلا حدود، وعقابهم إلى حد مسخ الله لهم.
ولكن الموضوع الغالب في موضوع الملائكة هو تصنيفها طبقا لوظائفها ومهامها وتكليفاتها. فالملائكة على أنواع، وتندرج في مجموعات، لكل مجموعة رئس تسلط عليه الأضواء، له اسم ووصف، وربما يندرج الرؤساء كلهم في مجموعة واحدة تحت رئيس الرؤساء، وهو في العادة جبريل. وعلى المسلم أن يؤمن بالملائكة أولا إجمالا من حيث نوعهم وجنسهم وعصمتهم، ثم تفصيلا من حيث تصنيفهم في مجموعات. قد يكون التفضيل بالشخص بناء على اسم رئيس للمجموعة، وقد يكون بالنوع بناء على الوظيفة العامة اللا مشخصة، فإذا صنفنا بالشخص فالرئيس يكون لدينا جبريل الموكول بالوحي إلى الأنبياء، وميكائيل الخاص بالرزق والأمطار، وعزرائيل الذي يقبض الأرواح، وإسرافيل نافخ الصور يوم البعث، وهؤلاء الأربعة أكبر الملائكة. وهناك تصنيف بالشخص دون أن يكون وراءه نوع، أي رئيس بلا مرءوس، مثل منكر ونكير، فتانا القبر، ورضوان خازن الجنان، ومالك خازن النيران، ورقيب وعتيد على جنبي الإنسان، واحد لتسجيل الحسنات والآخر للسيئات. هناك إذن عشرة ملائكة: أربعة رؤساء مجموعات، وستة رؤساء بلا مجموعات. فإذا ما كان التصنيف بالنوع يكون لدينا: حملة العرش، وأعوان عزرائيل، والحفظة، والكتبة. وقد يضاف إلى حملة العرش الحافون حوله، وملائكة الجنة المعاونون لرضوان. وقد يتم تقسيم الرؤساء والمجموعات معا في أربعة أقسام؛ المتصرفون: جبرائيل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل؛ الحافظون: رقيب وعتيد؛ الفاتنون: منكر ونكير؛ الخازنون: مالك ورضوان.
17
والحقيقة أن تصنيف الملائكة إنما هو تشخيص للوظائف، وتقسيم للعمل والمهام.
فجبريل هو ملاك الوحي الموكل إليه من الله إبلاغ الرسل والأنبياء؛ فهو الواسطة بين الله والنبي، وجبريل أمين الوحي والمأمور بتبليغه، وحامل العلوم، وهو الذي سماه الحكماء العقل الفعال، وما سمته الديانات السابقة الروح القدس، وأحيانا يتناوب العقل الفعال على جبريل واللوح المحفوظ. ونظرا لأهمية كبير الأكابر فقد زادت التفصيلات فيه، من حيث الشكل والمهنة وطريقة الأداء؛ فله ستمائة جناح، ومن ورائها جناحان أخضران ينشران ليلة القدر، واللون الأخضر هو اللون المفضل عند الصوفية والأولياء، مثل العمامة الخضراء والثوب الأخضر والراية الخضراء، وجناحان آخران لا لون لهما وإن كانا إلى السواد أقرب ساعة هلاك القرى؛ تعبيرا عن حالتي الفرح والغضب، والرضا والسخط، أو عن موقفي الخير والشر. وقد يصاغ حوار بين جبريل والمحتضر حول سؤال جبريل أن يموت الميت على الحنيفية السمحة؛ أي الإيمان بالرسالة التي بلغها، وكأنه يزاحم عزرائيل في مهمته، أو يضفي على واقعة الموت دلالة، أو يثبت حرية الإنسان وعقله في آخر لحظة قبل فوات الأوان وانقضاء العمر.
18
وإذا كان جبرائيل هو المعني بالروح فإن ميكائيل هو المعني بالبدن؛ هو ملاك الأمطار والبحار والأنهار، ملاك الأرزاق من المال والبنين، وكل زينات الحياة الدنيا دون أن يكون له فعل في ذلك إلا بمشيئة الله، فكل ما يحدث في الدنيا من رزق هو من مهام ميكائيل، وهو ما يتفق مع الآجال والأرزاق والأسعار بمشيئة الله في آخر أصل العدل. ميكائيل هو أمين الأمطار في بيئة صحراوية تعتمد على المطر وتقوم بصلاة الاستسقاء.
19
أما إسرافيل فموكول باللوح المحفوظ والنفخ في الصور، مع أن اللوح المحفوظ أقرب إلى وظائف جبريل من حيث هو حامل العلوم. أما إذا كان يعني التاريخ ونهاية الزمان، فيدخل في اختصاص إسرافيل، وكيف يكون الصور قرنا من نور به ثقوب، فالنور كيف وليس كما، والنور أشعة، وكيف تكون في الأشعة ثقوب؟ وكيف يكون فيه ثقوب بعدد أرواح من يموت في ذلك اليوم أو منذ بداية الخليقة؟ وهل كل ثقب يخرج صوتا يتجه إلى الميت فيميته أو ينبهه؟ وهل سينفخ في الصور وما زال في الأرض أناس مكلفون؟ ولماذا تنفخ نفختان فقط؟ الأولى يهلك فيها كل شيء، باستثناء سبعة أشياء: العرش، والكرسي، واللوح المحفوظ، والقلم، والجنة والنار، والأرواح؟ والعدد سبعة له مدلوله الرمزي عند القدماء وفي تاريخ الأديان؛ وفي النفخة الثانية تبعث جميع الخلائق؛ من مات من قبل ومن مات في النفخة الأولى. ولماذا يكون بين النفختين أربعون عاما؟ وماذا يكون عليه حال الدنيا في ذلك الوقت المعلوم؟ وفيم الانتظار؟ ولماذا هذا السكون الموحش بين الموت والحياة؟
20
وهل في ذلك نمط قديم عندما كان بين موت المسيح وبعثه أربعين يوما، وفي مصر القديمة بين موت الإنسان وتحلله أربعين يوما، وهو ما هو سائد حتى الآن في مدة الحزن حتى اليوم الأربعين؟ وأخيرا عزرائيل يوكل إليه قبض الأرواح كلها، حتى ولو كانت قملة أو بعوضة أو برغوثا! وهل هي مكلفة حتى تموت وتبعث؟
21
أما باقي الملائكة فهي تشبيه إنساني خالص، وقياس للغائب على الشاهد؛ فلا يوجد مكان به ثروة إلا وله أمين، ولا يوجد مكان مهم إلا وله حارس؛ فرضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار؛ واسم الأول مشتق من الرضا والسرور في حين أن الثاني مشتق من مسك الرقبة وملك الزمام والقبض على الأرواح ولوي الأعناق. أما أنواع الملائكة فهي المرءوسة التي تقوم بوظائف مساعدة للرئيس، مثل حملة العرش، والملتفين حوله في صورة الملك. أما الكتبة فهم الذين يسجلون على الإنسان أفعاله الحسنة أم القبيحة، ولكل نوع ملاك خاص، يسجلون عليه كل قول أو اعتقاد أو فعل، لا يفارقونه إلا في حالات الإنسان في حياته الخاصة، كالجماع والغسل والخلاء، وقد يسمى الأول رقيبا والثاني عتيدا، والاسم الأول أرحم من الثاني، والثاني أقسى من الأول. قد يتغيران كل يوم وليلة مرة كفترة عمل تنتهي لغيرهما، وقد يبقيان معه طول عمره في حياته وحتى مماته، ويجلسان على قبره يستغفران له إن كان مؤمنا! ولكن ماذا يفعلان إن كان كافرا؟ قد توحي ضرورة التغير بالأمانة والنزاهة ومع الأثر عليهما من الإنسان لطول عشرة ومصاحبة، وقد تزداد التفصيلات في الزمان والمكان، فإن تغيرا فإنهما يتعاقبان على الإنسان عند صلاة العصر وصلاة الصبح؛ أي كل اثنتي عشرة ساعة مرة، فترة صباحية، وفترة مسائية. أما من حيث المكان فقد يجلسان على عاتقيه أو بجوار ذقنه أو شفتيه أو عنقه أو ناجذيه، وكلها أجزاء من الرأس أو النصف الأعلى من الإنسان، وأحيانا يكون المكان مزدوجا له جانبان، لكل جانب ملاك مثل العاتقين والناجذين والشفتين، وقد يكون المكانان أفقيين وهو الأفضل كالعاتقين، فيكون الرقيب على اليمين والعتيد على اليسار، وقد يكونان رأسيين، مثل الشفتين والناجذين؛ وبالتالي يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل، وبطبيعة الحال يكون الرقيب إلى أعلى والعتيد إلى أسفل، وقد يكون المكان ذا جهة واحدة كالذقن والعنق، وفي هذه الحالة يصعب التوجه في المكان إلا إذا كان للذقن جانبان من ناحيتي الوجنتين، وكان للعنق أيضا جانبان من ناحيتي الكتفين. أما الحفظة فهم يحفظون المؤمنين من الشر، ويحفظون الكافرين من الجن، وكيف يتم ذلك قبل أن يتحدد المؤمن ويتميز عن الكافر، والحياة ما زالت جارية متقلبة؟ وأين دور حرية الإرادة واستقلال العقل في حفظ الإنسان؟ وكيف يتنازع الكتبة؟ كيف ينازع ملك الحسنات ملك السيئات، ويمنعه عن الكتاب لمدة ست ساعات؛ فلعل الإنسان يتوب؟ وماذا لو تاب الإنسان بعد ست ساعات، والتوبة ممكنة حتى آخر لحظة في حياة الإنسان؟ هل يقوم الملاك بمحوها؟
22
وللملائكة وظائف أخرى في الأرض، في حياة الناس وبين المسلمين ساعة الشدة وفي وقت المعارك، في مقابل دور الشياطين والجن وإبليس، فإذا ما وسوس الشيطان للمسلمين في بدر يفت في عضدهم، ويبين لهم سوء أحوالهم في مواجهة أعدائهم من عطش وجوع؛ أرسل الله للمسلمين مطرا من السماء ليشربوا ويغتسلوا ويملئوا الأسقية ولتنبت الأرض. وإذا ما أشاع إبليس في أحد أن محمدا قد قتل، فقتل من المسلمين عدد كبير بفعل إشاعة إبليس، بعد أن وهن المسلمون وفترت عزائمهم، وكما في الحديبية أن الكفار قد قتلوا عثمان، ورفع صوته به حتى يضعف موقف المسلمين، في مقابل ذلك ولمواجهة عداوة الجن والشياطين وإبليس، حارب الملائكة مع المسلمين في بدر سبعون من الجن وثلاثة آلاف من الملائكة، مردفين، يتبع بعضهم بعضا في موجات، ثم زادوا إلى خمسة آلاف، وتمثلوا في رجال بيض على خيل بلق عمائمهم بيض، أرخوا أطرافهم بين أكتافهم كما هو الحال في المشاهد الفنية للفرسان. ولما كانت الألوان في هذه الصورة غيرة متناسقة، رجال بيض وعمائم بيض، أصبحت العمائم سودا أو صفرا أو حمرا أو خضرا لظهور تضاد الألوان، وكان قتل الملائكة للمشركين يعرف بآثار سيوفهم في الأعناق والبنان؛ أي المفصل نقطا سودا مثل حرق النار تعبيرا عن دقة التصويب في المقتل، نقطة سوداء صغيرة في مفرق العنق. فإذا ما تصدى إبليس للمسلمين، وكان على رأس المشركين تصدى رئيس الملائكة له وهو جبريل، فارسا لفارس، ورئيسا لرئيس، مثل مبارزات الفرسان العرب في القتال قبل بدء المعارك تقوية لحماس الجند ورفعا لمعنوياتهم. وبالرغم من تشكل إبليس في صورة سراقة بن مالك، ورفعه الراية، وندائه على الكفار لقتال المسلمين، ووعدهم بالنصر، وخطب فيهم، إلا أنه هرب بمجرد رؤيته جبريل كبير الملائكة، ثم عاد فخطب ليبرر نكوصه بأنه يرى ما لا يرى المشركون، ومذكرا بأنه من المنظرين، وبأنه متروك حرا في غواية الناس، ولا يعترض عليه أحد، ولا يقف أمامه إلا الإنسان وحده، وكأن الله أراد أن يسلح الإنسان ليس فقط بإرادته الحرة وعقله المستقل تحقيقا لغاية الوحي، ولكن أيضا بملائكته؛ أي بفعل الله المباشر من خلال الملائكة، وهو ما يناقض إتمام الوحي وتحقيق غايته. وأحيانا يستبدل ميكائيل بجبريل، فيظهر ميكائيل وعلى جناحه أثر الغبار من تعقبه القوم الكافرين، ويراه الرسول ويبتسم له، ولا يرى المؤمنون إلا ابتسامة الرسول! ويعود جبريل من جديد بعد ميكائيل على فرس أحمر عليه درعه ومعه رمحه، وقد يكون اللون الأحمر من آثار دماء الكفار، وقد يكون لون النصر وعلامة القتال، ويعرض جبريل على الرسول خدماته حتى يرضى بتكليف من الله فيرضى الرسول. والعجيب في مثل هذه الروايات هو ذكر الحكمة منها؛ أي سبب وضعها وهو تقوية المسلمين وتكثيرهم في أعين الكفار. صحيح أن ملاكا واحدا مثل جبريل قادر على هزيمة الكفار، بل واقتلاع الأرض، ولكن كثرة الملائكة عدة وعددا إرهاب للكفار وتفتيت لعزائمهم أمام المسلمين. قد تقاتل بالفعل كما فعلت يوم بدر، وقد تحضر كل قتال دون أن تقاتل تضخيما وإكثارا لعدد المسلمين في أعين الكفار وإرهابا لهم، وكأن الأمر كله خداع حواس!
23
والملائكة الذين شهدوا بدرا أفضل ممن لم يشهدها منهم، والجن قياسا على ذلك في المؤمنين منهم، ولكن إذا كان اختيار الملائكة والجن في بدر أو عدم اختيارهم لا يرجع إليهم بل إلى الله، فكيف يستحقون الفضل دون غيرهم وليس لهم فضل فيه؟ وقد تم ذلك كله في إطار معجزات الرسول في الحرب، ومنها اشتراك الملائكة والجن إكراما له ورضا عنه. والتنبؤ بمصارع المؤمنين في بدر ومواطنها قد يتم بناء على معرفته بشجاعة الرجال وقلة العدد (ثلاثمائة تقريبا) وضيق المكان وفنون المبارزة. أما رمي الرسول المشركين بكف من حصى، فشاهت وجوههم، وأصاب بها أعين جميعهم وهم بالآلاف، فإنما ذلك تقوية لنفوس المسلمين وشحذا لهممهم. وقد تؤدي كثرة العدد إلى زحام بين الكفار في بحثهم عن المؤمنين القلائل، وفي الزحام يضيع الإنسان ويفقد رؤيته لمن يبحث عنه، خاصة لو كان عدد المشركين بالنسبة للمؤمنين عشرة إلى واحد. أما رمي الرسول كافرا بحجر فكسر رباعيته، فلم يولد من نسله إلا أهتم، ثم دخول حلقتين في وجنته، ونزع أحد المؤمنين لهما بأسنانه فكان أحسن الناس هتما، فهو تقابل عضوي بين الخير والشر، بين أسوأ هتم وأحسن هتم، بين الرسول كفاعل والرسول كمفعول فيه، وكلها صور فنية من سير الأبطال لاسترعاء انتباه السامعين، خاصة لو كانوا يعيشون جو الهزائم وحالات الإحباط.
24
ويقال في الجن ما يقال في الملائكة، من حيث إنها تدخل ضمن عقائد الإيمان عند الشراح المتأخرين؛ فهي مثلها قادرة على التشكل، والاحتجاب عن الأبصار، والقدرة على الإتيان بالأفعال العظيمة، ولكنها تختلف عنها في أنها ليست نورانية، بل نارية، وأنها مكلفة تطيع وتعصي؛ فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون.
25
والحقيقة أنهما معا يعبران عن عالم واحد، وهو عالم التمني والرغبة في تجاوز الحس، وقلب العجز مقدرة، وتحويل التناهي إلى لا تناهي. والفرق بين الملائكة والجن هو مجرد فرق في الدرجة، وليس فرقا في النوع، يتمايزان فيما بينهما فقط في درجة الشرف ومرتبة الكمال؛ فالملائكة أعلى من الجن من حيث الطاعة والإيمان، ولكن الجن أقرب إلى الإنس منهم إلى الملائكة؛ لأنهم مكلفون يعيشون حياة البشر من طعام وشراب وتناسل، ويسترقون السمع، فهم وسط بين كمال الملائكة ونقص البشر.
لذلك تراوح القدماء فيما بينهم في موضوع الملائكة بين الإثبات والإنكار؛
26
فالإثبات يعتمد على النصوص الواردة، وهي في معظمها، باستثناء نصوص أصل الوحي، آحاد أو مشهورة لم تبلغ درجة التواتر، وكلها وضعت في عصور متأخرة، مستمدة من الخيال الشعبي وقصص الأبطال. والحقيقة أن موضوع النبوة هو عالم الإنس وليس عالم الجن، وعالم البشر وليس عالم الملائكة، وعالم الشهادة وليس عالم الغيب. والملائكة من السمعيات الخالصة، في حين أن موضوع النبوة من العقليات؛ أي المصالح العامة. وليس بإثبات الملائكة تقام مصالح الناس، وليس بإنكارها تنهدم وتعطل؛ فهي موضوع نظري خالص أقرب إلى القصص وشحذ الهمم وتقوية المعنويات، والإيمان بها موجود في كل الديانات، وليس منها ما يخص خاتم النبوة وآخر مرحلة تطور الوحي، وهي في النهاية موضوعات ثانوية لوظائف ثانوية، وسائل وطرق وليست موضوعات وغايات. والله قادر على الحديث مع الأنبياء، وعلى قبض الأرواح، وعلى تقدير الأرزاق، وعلى بعث الموتى، بلا واسطة الملائكة، وهو قادر على معرفة أفعال العباد بلا كتبة أو حفظة، كما أنه قادر على تسيير أمور الجنة بلا رضوان، وتدبير شئون النار بلا مالك، ولا يحتاج إلى حملة عرش من تحته أو من حوله، فلا يمكن التضحية بالتنزيه من أجل التشبيه، أو بالعقليات من أجل السمعيات.
والحقيقة أن «الملائكة» في أصل الوحي ليسوا أساسا موضوعا للإيمان، بل وسيلة لرد الإنسان إلى نفسه وإرجاع البشر إلى ذواتهم، ببيان الفرق بين الاستحالة والإمكان، بين اللامعقول والمعقول.
27
وكما أن دورها في أداء الوظائف التي يطلبها الله منها، فإن دورها أيضا في السجود للإنسان؛ لأن الإنسان أعظم منها وأقدر بالتكليف والتمكن منه بحرية الإرادة واستقلال العقل، كما أنها تسجد لله سجودها للإنسان، وكأن الإنسان مع الله في قيمة السجود لله! ولقد أعلم الله الملائكة مسبقا بجعله الإنسان خليفة له في الأرض، كقرار علني من أجل قبول علني؛ حتى تنتفي الأعذار ويستحيل الرفض والإنكار، وكان جزاء الطرد من الجنة والتحول من النقيض إلى النقيض؛ من الملاك إلى الشيطان، ولا شفاعة لها خارج قانون الاستحقاق. (2) الموضوع العملي
إذا كان الإيمان بالله يدخل في العقليات في أصل التوحيد، والقضاء والقدر في أصل العدل، واليوم الآخر في المعاد، والرسل في النبوة، لم يبق إلا الكتب وهي الموضوع الحسي الوحيد المنقول من جيل إلى جيل نقلا متواترا حتى الآن وإلى نهاية الزمان. الإيمان بالكتب إذن هو أقرب الموضوعات إلى الحس وأبعدها عن الغيب؛ كتب الوحي أو كتب التاريخ والآثار. أما الكتب فهي وحدها الباقية، والكتب هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن،
28
وهي الكتب الموجودة لدينا حتى الآن، ولكن أين صحف إبراهيم؟ هناك روايات كثيرة عنها عند أهل الكتاب، وقد تكون لها مصادر عربية مفقودة، خاصة وأن إبراهيم كان معروفا في الجزيرة العربية، وكان دين الحنفاء موضع احترام وتعظيم فيها، وقد وضع القدماء التوراة قبل الزبور، على خلاف الترتيب الزماني؛ ربما لأهميتها ولاحتوائها على الشريعة. وللقرآن أسماء أخرى، مثل الفرقان والكتاب والذكر. وكل كتاب يعبر عن مرحلة من مراحل الوحي السابقة، وتتبع هذه المراحل يؤدي إلى اكتشاف قانون تطور النبوة، منذ الإعلان الأول حتى اكتمال الوحي، والكتاب في متناول الإنسان؛ يمسكه بيده، ويقرؤه بلغته، ويفهمه بعقله، ويحققه بفعله. الكتاب إذن هو مضمون النبوة الحسي العملي، وهو مجرد وسيلة وليس غاية، مجرد أداة وليس هدفا. إنما الهدف هو تحقيق الرسالة المتضمنة فيه. ولكي يتم ذلك هناك ثلاث مراحل؛ الأولى إثبات الصحة التاريخية للنقل منعا للتحريف والتبديل، والثانية الفهم الصحيح منعا لسوء الفهم والتأويل، والثالثة تطبيق الشريعة منعا للإيمان الميت. والكلام النظري غير ممكن الوقوع. يتضمن المضمون العملي للرسالة إثبات صحتها وفهم نصوصها وتطبيق أوامرها، وهنا يتحول علم أصول الدين إلى علم أصول الفقه ويصب فيه، وتعود إلى علم الأصول وحدته المفقودة بين النظر والعمل؛ وعلى هذا النحو لا يصبح موضوع النبوة من الموضوعات المتعالية، بل يكون مسار الرسالة في التاريخ. ولأول مرة يظهر الإسلام كجزء من النبوة، كما اتضح في الحركة الإصلاحية الحديثة، في متناول الرسالة العامة، انتقالا من المجردات والنظريات إلى الوقائع المحسوسة، ومن التوحيد إلى النظم؛ فالإسلام وانتشاره في التاريخ هو معجزة النبوة، ولكنه ظل حديثا عاما عن الإسلام في التاريخ، وانتشاره ومآثره، وتكوين جيل وقادة، وقضاء على إمبراطوريات ودول، ونشأة نظم جديدة، أو تقريظ للإسلام والدفاع عنه إعجابا بالماضي، وربما تعويضا عن هزائم العصر. وظل أيضا مدحا للشريعة الغراء دون تحقيقها علميا، وبيان المسافة بين المثال والواقع ووسائل التنفيذ. وهو حديث خارج الزمان والتاريخ، وبلا أرض أو شعب أو شعب أو وطن، وكأنها مدائح نبوية أو تواشيح دينية أو مدائح سلطانية. ويرتبط بذلك الدفاع عن الإسلام ضد الانتقادات المعاصرة وشبهات الغربيين، مثل دعوى انتشار الإسلام بالسيف تنكرا لمبادئ الإسلام، وتعلم الرسول الشريعة من أسفاره إنكارا للوحي. ومع ذلك هناك جذور عند القدماء إلى العودة بالنبوة إلى التاريخ والدخول فيه؛ وذلك بإظهار الإسلام ذاته وعرض شريعته طبقا لحاجات المسلمين. فينتظم الحديث في ثلاثة أقسام رئيسية؛ العبادات وهي أركان الإسلام الخمس مع الجهاد دون تخصيصه كركن سادس، المعاملات وتشمل الأحوال الشخصية والحدود والمحرمات والمباحات والأموات، الشرعيات وتشمل الأدلة الشرعية والفرق بين العقليات والشرعيات.
29 (أ) الأدلة الأربعة
بعد ضمان تواتر الرسالة في التاريخ وحفظها صحيحة عبر الأجيال، تأتي قضية الاستدلال؛ استدلال الأحكام من الأدلة؛ أي الاستفادة من الرسالة في استنباط الأحكام من أجل تطبيقها؛ وبالتالي تحقيق الرسالة. والأدلة أربعة على ما هو معروف في علم أصول الفقه الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. الكتاب والسنة دليلان نصيان، والإجماع والقياس دليلان عقليان. ولما كان الكتاب والسنة أيضا يعتمدان على العقل، سواء في شروط التواتر، أو في الاعتماد عليه كدليل قطعي، أو في إدراكه للحسن والقبح كصفات موضوعية في الأفعال، وكأبنية فعلية في المجتمع؛ كان العقل أساس الأدلة الشرعية الأربعة، وهي التي انصبت كلها في النهاية في الاجتهاد؛ أي في دليل العقل. فالعقل أساس النقل في الدليلين النقليين؛ الكتاب والسنة، والعقل أساس النقل في دليلي الإجماع والاجتهاد؛ نظرا لأن الإجماع يقوم على نقل وعقل جمعي، ولأن الاجتهاد يقوم على نقل وهو الأصل، وعلى عقل في الفرع، وعلى عقل في استنباط علة الحكم من الأصل، وعلى عقل في تحقيقها في الفرع، وعلى عقل في معرفة تشابهها حتى يمكن تعدية الحكم. فالأدلة الأربعة كلها ترتكز على الدليل الرابع؛ دليل العقل؛ وبالتالي كانت الأولوية الفعلية للدليل العقلي على دليل النقل، وكما هو معروف في نظرية العلم، وفي المقدمات النظرية الأولى.
30
وبالتالي كان ترتيب الأدلة الأربعة: القياس ثم الإجماع ثم السنة ثم الكتاب، ترتيبا تصاعديا يرتكز على القاعدة الطبيعية، وهو القياس أو الاجتهاد، وهو دليل العقل. فعلى الإنسان أن يجتهد رأيه، فإن لم يجد ففي إجماع الأمة، حاضرا أم ماضيا، فإن لم يجد فعليه بالسنة ثم بالكتاب. وهناك اتفاق مبدئي بين الأصل الأول؛ الاجتهاد، والأصل الرابع؛ الكتاب، فالطرفان يلتقيان. ولا خلاف بين العقل والنقل؛ فالعقل أساس النقل، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل؛ نظرا لموافقة العقل الصريح مع النقل الصحيح، كما قال فقهاء الأمة من قبل. وعلى هذا النحو يمكن أن يكون إبداع. أما تصور الأدلة الأربعة قديما فيقوم على أن النقل أساس العقل، فالقرآن والحديث نقل، والإجماع يعتمد على نقل، والقياس يعتمد أصله على نقل؛ فهو إنكار لدور العقل وللصفات الموضوعية للأفعال وللأبنية الاجتماعية. وإن الترتيب التقليدي للأدلة ابتداء من القرآن فالحديث فالإجماع فالقياس، يجعل الهرم قائما على قمته، والمخروط مرتكزا على رأسه، وكأن المعاني والأشياء كلها متضمنة في اللغة، وهذا هو منهج التقليد.
31
ولا يمكن فهم القرآن إلا باللغة وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ فقد دون منذ لحظة الإعلان؛ وبالتالي فليست هناك حاجة إلى تطبيق التواتر فيه كما هو الحال في الحديث. وتعني «أسباب النزول» أولوية الواقع على الفكر، وأن كل آية هي تعبير عن موقف وحل لمشكل، وبنية نظرية ممكنة لوضع اجتماعي قائم. والناسخ والمنسوخ يعني وجود التطور داخل الوحي، وتكييف الشريعة طبقا لقدرات الواقع؛ فاللغة تجمع القرآن والحديث، وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ خاصان بالقرآن وحده.
32
أما السنة فإنها في حاجة إلى نقل متواتر؛ نظرا لأنها انتقلت بمرحلة شفاهية على مدى مائتي عام قبل تدوينها. فالسنة دليل بشرط تواترها كما هو معروف في شروط التواتر في نقل الرسالة ، والتواتر وحده يفيد اليقين. أما الآحاد، وهو ما يفقد أحد شروط التواتر، فلا يورث إلا العلم الظني، ولا سبيل لمعرفة صحته إلا بعدالة الراوي وضبطه وبلوغه وإسلامه؛ أي إلى بنية شعوره التاريخي، وكذلك المشهور الذي كان في أصله آحادا ثم أصبح متواترا في نقله، فهو واحد من حيث المبدأ، متواتر من حيث الواقع لا يفيد إلا الظن. ومعظم السمعيات وأمور المعاد أخبار مشهورة. التواتر يوجب العلم والعمل في حين أن الآحاد يوجب العمل دون العلم.
33
والإجماع حجة غير نصية، وإن كان يعتمد على نص يؤخذ أساسا للعقل. والنص هنا قد يكون متواترا أو آحادا أو مشهورا؛ وبالتالي ترجع قطعية الإجماع أو ظنيته إلى نوع النص الذي يقوم عليه، وفي هذه الحالة يلحق الإجماع بأحد الدليلين النصيين. أما العقل الجمعي فهو نوع من الاستدلال الجماعي يقوم به علماء الأمة. صحيح أن الإجماع هو عمل جماعي للعقل، يعبر عن وعي تاريخي يعطي مزيدا من الاطمئنان، أكثر مما يعطي الاستدلال الفردي، كما أنه يحول النص من ظن إلى يقين؛ لأنه يعطي له فهما في الزمان والمكان ومضمونا في التاريخ، وهذا مما يدعو البعض إلى إثبات حجية الإجماع.
34
ومع ذلك فللإجماع حدود تجعل البعض الآخر أقرب إلى نفيه كحجة في الاستدلال.
35
فالإجماع يرتبط بتفسير جماعة في زمان ومكان معينين. ولما كان نصه أقل عمومية وأكثر خصوصية من نصوص الكتاب، فهو غير ملزم إلا للعصر الذي انعقد فيه دون العصور التالية، وإلا كان ملزما لكل العصور، وكان ذلك عائقا عن التقدم، ومانعا من الإبداع وأقرب إلى التقليد. إن الإجماع خاضع لمصلحة العصر، ولما كانت المصالح متمايزة، ما يكون مصلحة لجماعة قد يكون مضرة لأخرى في عصر آخر، أو لنفس الجماعة في نفس العصر، كان ملزما فقط لعصره. فإلزامه كل عصر يجعله قوة على الإبداع، ودافعا على التقدم، ويقلل التبعية للقدماء، ويخفف من ثقل الماضي، كما أنه يصعب أحيانا التفرقة بين الإجماع والتقليد. فالإجماع إن لم يكن قائما على يقين؛ أي إنه إذا لم تتوافر شروطه ، وغالبا ما لا يحدث ذلك، فإنه يكون تقليدا خفيا. ومن شروطه ضرورة اعتماده على أصل نقلي متواتر، وأن يكون تاما، وألا يعارض إجماعا سابقا؛ فالمصالح تتغير ولكن لا تنقلب، إلى آخر ما هو معروف في علم أصول الفقه من شروط المجتمعين في العلم والفضل، بل هناك صعوبة في الاتفاق على شروط ثابتة للإجماع الصحيح. فما زال الأساس النظري للإجماع خاضعا للرأي والظن والهوى والمصلحة، مثل: هل هو إجماع خاص أم عام؟ هل هو أهل الحل والعقد أم عامة المسلمين؟ كم عدد المجتمعين؟ هل هناك حد أدنى للإجماع؟ هل هو إجماع مطلق أم إجماع بالأغلبية؟ وما هي حدود الأغلبية؟ ما هو هدف المعارضة؟ ماذا لو كانت معارضة واحد فقط؛ هل يبطل الإجماع؟ وفي علم أصول الفقه ما يجعل الأسس النظرية للإجماع أسسا خلافية؛ وبالتالي كيف يكون أساسا للاستدلال ودليلا للعقل الجمعي؟ وتخضع نصوص الإجماع لما تخضع له نصوص الوحي من تفسير وتأويل، وكل تأويل هو اختيار اجتماعي، أو هو إسقاط نفسي من المفسر الذي هو في الحقيقة نتاج اجتماعي؛ وبالتالي يتحول الخلاف في الإجماع إلى خلاف حول تأويل النصوص، ونعود إلى الحجة النصية من جديد، ويزداد الأمر صعوبة إذا ما ظهر الإجماع كحل لمشكلة التعارض بين النصوص في الكتاب أو السنة أو بينهما معا؛ فتعارض نصوص الكتاب ظاهري وله حله؛ إما في النسخ أو في التأويل، في حين أن التعارض بين نصوص الإجماع حقيقي؛ إما لخطأ في النقل، أو لتغاير المصالح من عصر إلى عصر، ومن جماعة إلى جماعة في نفس العصر. وقد يكون هناك إجماع على الشيء وضده في آن واحد في عصرين مختلفين، أو عند جماعتين مختلفتين في عصر واحد. إن نص الإجماع في نهاية الأمر هو حجة سلطة، وليس حجة عقل، وإن كانت حجة السلطة تقبل في نصوص الوحي؛ لأنه غير معرض للخطأ في الفكر أو في الرواية، إلا أنه لا يمكن قبولها في نص الإجماع المعرض للخطأ في الحكم، والمرتبط بمصلحة عصر معين وجماعة معينة، والمعرض لخطأ في الرواية. وإذا كان الإجماع هو إجماع أهل الحل والعقد أو إجماع العامة، فغالبا ما يكون الحكم تعبيرا عن الوضع الطبقي للمجتمعين؛ فاختيار العلماء غير اختيار العامة. صحيح أنه نظرا وشرعا لا فرق بين الاختيارين إذا كان الطرفان يتمثلان الحق، ولكن ما يحدث عملا هو أن أحكام الإجماع إنما تعكس الأوضاع الطبقية للمجتمعين وصلتهم بالسلطة السياسية، أكثر مما تعكس حقيقة أو تصنع يقينا. وهناك فرق بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن ما دمنا مع بشر؛ أي مع أهواء ومصالح. وفوق ذلك كله يجوز الإجماع في اللغة وفي التشريع، ولكنه يصعب في النظريات؛ أي في الاعتقاديات؛ لأن أساس النظر بات يقيني ثابت، في حين أن العمليات تراعي الظروف والمصالح؛ فلا يجوز الاستدلال بالإجماع في موضوعات علم أصول الدين وإن جاز في موضوعات علم أصول الفقه.
36
ولا يوجد خلاف أكثر اتساعا من الخلاف حول الدليل الرابع وهو القياس. ويعتمد إنكار القياس على سببين رئيسيين: الأول إثبات العلم السمعي الضروري وكفايته دونما حاجة إلى علم عقلي مساعد أو مكمل أو مؤسس، والثاني مخاطر العقل والقياس واحتمالات الخطأ فيه. والحقيقة أن الدفاع عن العلم السمعي لا يكون بهدم العقل؛ لأن العقل أساس النقل، بل إن الأدلة الثلاثة الأولى التي هي أقرب إلى السمع، الكتاب والسنة والإجماع، لا تقوم إلا على الدليل الرابع وهو العقل؛ فالعقل أساس النقل، والإجماع عقل جماعي، ولا يفهم الكتاب والسنة بل لا ينقلان إلا بالعقل؛ فالاتفاق مع العقل شرط التواتر. وماذا عن الجهد الفردي في الفهم؟ وماذا عن دور الإنسان في الفهم والنظر؟ ليس العقل هادما للنقل، بل مؤسس له ومؤول له؛ حتى يكون للنقل دعامة يقوم عليها، وحتى يكون له أثر يحدث فيه.
37
أما مخاطر العقل فهي متوهمة لا أساس لها؛ إذ كيف يؤدي العقل إلى الاستبداد بالرأي، العقل هو التنوير، والتنوير ضد الاستبداد بالرأي. القطيعة مضادة للعقل؛ لأن العقل يقوم على البرهان. القطيعة جزم ترفض البراهين المضادة، والعقل حوار يخضع للبراهين المضادة.
38
وحتى على افتراض الجزم في الرأي والقطع فيه، فإن ذلك لا يبرر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد دون رأي تقليد، كما وضح ذلك في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى. والرأي ليس اعتقادا أو تقليدا أعمى، بل هو برهان يقيني، والعقل هو التوسط لا التطرف؛ إذ يستطيع العقل إحكام الأطراف ومعرفة البناء والرؤية المحايدة والتجرد والنزاهة، في حين أن الهوى أحادي الطرف، متميز منحاز.
39
ولا يعني احتمال الخطأ في القياس عدم شرعيته؛ فكل اجتهاد قد يخطئ وقد يصيب، والمجتهد يخطئ ويصيب، وللمخطئ أجر وللمصيب أجران. وقواعد القياس وأشكاله قادرة على أن تضمن صحة القياس، كما أن تعدد الأقيسة لا يعني التشتت والتضارب والاختلاف؛ وبالتالي تكافؤ الأدلة؛ فالأقيسة عامة وشاملة يتفق عليها كل الناس، وتعدد المذاهب والآراء لا يطعن في صحة الرأي، بل يبين تغاير المصالح من جماعة إلى جماعة، ومن فرد إلى فرد، ومن مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان. وفي علم أصول الفقه، الحق متعدد والصواب كثير ما دام يؤدي إلى تحقيق مصالح العباد. والخلاف النظري لا ينفي وحدة العمل، ووحدة العمل لا تتطلب وحدة النظر بالضرورة.
40
ولا يعني العقل أي تفضيل للنظر على العلم أو للتأمل على الفعل؛ فالعقل نظري وعملي، تأملي وفعلي. العقل النظري هو الباحث والسائل والموضح والكاشف، والعقل العملي يوجه نتائج العقل النظري إلى الحياة العملية. وكل مسألة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي فخارجة عن علم الأصول.
العقل ليس شبهة يبدأ بها تاريخ العالم. وكيف يبدأ تاريخ العالم كله بشبهة العقل؟ هل لأن اللعين الأول قاس واستدل؟ وعلى هذا النحو يكون الفكر الإنساني الآن عودا إلى الشبهة الأولى أو تكرارا لها في شبهة ثانية، ويكون العقل الإنساني هو استمرارا لعقل الشيطان! فقد نشأت الشبهات في آخر الخليقة بتحكيم العقل أيضا؛ لأن العقل يخلط بين المستويات منذ أول الخليقة! فهل نشأت الشبهات في أول الخليقة بتحكيم العقل؟ هل تاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ الضياع والضلال؟ إن العقل هو وسيلة درء الشبهات، وتوضيح اللبس، وإحكام المتشابهات، والتمييز بين المستويات.
41
هناك القياس الجلي الذي يكون الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل، وهناك القياس الذي فرعه من معنى أصله دون أن يكون أحدهما أولى من الآخر، وهناك القياس بغلبة الأشباه والترجيحات. هناك قياس العلة، وقياس الدلالة وقياس الشبه. كل ذلك من أجل دقة المعنى والوصف، وليس من أجل الاشتباه. إن قياس إبليس طلب للعلة، وطلب العلة إحكام الظواهر وإدراكها في علاقتها بالمعلول. طلب العلة هو البحث عن السبب من أجل سيطرة الإنسان على قوانين الطبيعة والتنبؤ بمسارها.
42
خطأ إبليس ليس في القياس الصحيح، بل في القياس الخاطئ في خلطه بين الكم والكيف، بين الجبر والحرية؛ فالنار ولو أنها أفضل من الطين إلا أن الطين بفعل الروح بها كيف؛ وبالتالي فهي أغنى وأقدر. وقد يكون الطين أي الأرض أقيم عند شعب محتل، حياته الأرض، وكرامته في الأرض، في حين أن النار في الأرض، والشمس غالبا عليها، ومعروفة ديانات الشرق من قبل. ليس الخطأ في القياس في ذاته؛ أي في صورته، بل في مادته وأهدافه ونواياه واستخداماته وتطبيقاته، ولقد قاس إبراهيم ووصل إلى الحق؛ فالقياس لا يؤدي إلى الباطل ضرورة. ليس القياس محاجة وجدلا بالضرورة، بل قد يكون برهانا ويقينا. ولماذا احتقار الذات، وإدانة النفس، واتهام العقل، واستصغار الإنسان لنفسه؟
43
والحقيقة أن كل مصادر الشريعة الأربعة مرتكزة على المصدر الرابع وهو الاجتهاد، قد يصيب وقد يخطئ؛ لذلك وضعت شروط للاجتهاد حتى يكون احتمال الصواب أرجح من احتمال الخطأ.
44
في دليل العقل يتوحد علم أصول الدين وعلم أصول الفقه؛ الأول في نظرية الحسن والقبح العقليين، والثاني في دليل القياس. يتوحد العلمان في العقل ويجد علم الأصول وحدته في العقل. ومع ذلك تظل القسمة عند القدماء قائمة بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية. فإن كانت العقول تدل على صحة الصحيح واستحالة المحال في التوحيد والعدل والوعد والوعيد، فإنه لا وجوب قبل الشرع، وإذا استدل العاقل على ذلك قبل ورود الشرع لما استحق الثواب، ولو كفر ما استحق العقاب، ولو أنعم الله عليه بعد ذلك بالشرع كان لطفا ونعمة وفضلا، وإن عذب الكافر كان عدلا. فإذا أمكن معرفة الله بالعقل فإن وجوبها بالشرع. وأفعال العقلاء كلها قبل الشرع على الإباحة، لا تحليل فيها ولا تحريم. ليس في الأحكام العقلية ناسخ ومنسوخ كما هو الحال في الأحكام الشرعية. وإذا كانت الأحكام العقلية قد تكون بعينها مثل كون العرض سوادا، وقد تكون بغيرها كما يدل الشيء في العقل بنفسه على غيره، مثل دلالة الفعل على الفاعل، فإن الأحكام الشرعية إما أن تكون اسما أو دليل اسم أو معنى مودعا في الاسم، فالأحكام الشرعية في الوجود والحظر والإباحة تعرف من الخبر، والخبر على لسان الرسول، وأحكام المعاد بالخبر وإن دل العقل على الجور؛ لذلك كان تحليل الخطاب هو منطق الخبر من أجل إحكام لغته، من حيث العموم والخصوص، أو التشابه والإحكام، أو الإجمال والتبيين.
45
والحقيقة أن هذه الثنائية بين حكم العقل وحكم الشرع، تنتفي بمجرد التوحيد بين العقل والنقل، وتأسيس النقل على العقل. يعطي العقل الحكم الكيفي ويفصل النقل الحكم الكمي. يحدد الحكم العقلي الغاية والهدف بينما يحدد الحكم الكمي الوسيلة والطريقة. يكشف الأول العلة الغائية بينما يحدد الثاني العلة المادية. ولما كان العقل والشرع لا بد لهما من خطاب كان الطريق لمعرفة الأحكام هو تحليل الخطاب. (ب) تحليل الخطاب
بعد إثبات الصحة التاريخية للنص تأتي مرحلة فهمه وتفسيره وتأويله إن اقتضى الأمر، ويأتي تحليل الخطاب باعتباره نظرية في التفسير؛ أي في فهم النص. وإذا كان كل خطاب يحتوي على ثلاثة عناصر؛ اللفظ والمعنى والشيء، تضمن تحليل الخطاب هذه العناصر الثلاثة؛ اللفظ المستعمل، والمعنى المستفاد منه، والشيء المشار إليه بهذا اللفظ وله هذا المعنى.
ولكن قبل الشروع في تحليل عناصر الخطاب على نحو علمي صرف، يتأكد أولا أن الخطاب ليس مجرد قول أو كلام، بل هو تكليف وأمر، فهو خطاب موجه نحو الإنسان، نداء إلى الفعل، وتوجيه للسلوك، فهو ليس مجرد لغة بل أمر، ليس مجرد معرفة نظرية بل توجه عملي. والتكليف من الكلفة، أي من المشقة والعمل والجهد،
46
بل إن تحليل الخطاب هو في الواقع تابع للتكليف والأمر وجزء منه؛ فالوحي أولا تكليف وأمر، ثم يأتي بعد ذلك تحليل الخطاب كأحد عناصره. ويتحدد أولا معنى التكليف وأقسامه وشروطه وترتيبه وأوصافه، المكلف والمكلف، وما يصح وروده فيه قبل تحليل أقسام الخطاب في الأمر والنهي والاستخبار، ثم تأتي بعد ذلك مباحث الألفاظ على ما هو معروف في علم أصول الفقه، ولكن على نحو مختصر مثل العموم والخصوص،
47
والمجمل والمفسر، ثم تأتي مباحث المعاني مثل دليل الخطاب أو مفهوم الخطاب؛ من أجل فهم المعنى مباشرة دون المرور بتحليل الألفاظ، كما يمكن فهم الدلالة ليس فقط من اللفظ، بل أيضا من الفعل؛ فعل النبي. فما دام الخطاب تكليفا وأمرا فإنه إذا ما تحقق هذا الأمر في فعل، فإن هذا الفعل يكون خطابا متحققا له نفس الدلالة اللفظية في الخطاب. وقد يدخل موضوع النسخ مقرونا بالخبر، وهو أحد أقسام الخطاب، كأحد وسائل التراجيح حين تعارض الخبرين، ولكنه في الحقيقة أدخل في تطور النبوة.
48
وبالرغم من أن التكليف يكون ابتداء؛ نظرا لحصول الإنسان على حرية الإرادة واستقلال العقل؛ نتيجة لتطور الوحي واكتماله وتحقيق غايته بشرط البلوغ، إلا أنه أيضا يكون لغاية، وهو استمرار تحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم تزدهر فيه الطبيعة من خلال الفعل الإنساني الفردي والجماعي. التكليف ابتداء نابع من طبيعة المكلف، ومع ذلك فيه تحقيق لمصالح الناس، والتكليف من طبيعة الإنسان، ومع ذلك له إرادة لحدوثه وإرادة لكونه وإرادة لفعله.
49
ويظل النظر أول الواجبات على المكلف؛ أي فعل العقل وليس عمل اليد، ويبدأ النظر إما ضرورة أو بداهة أم استدلالا، على ما هو معروف في نظرية العلم وقسمته إلى ضروري ونظري.
50
ويظل السؤال بعد ذلك عن المعارف العقلية التي يتم الحصول عليها بالنظر بنوعيه؛ فهي معارف نظرية أولا، مثل العقائد المعرفة بالله وبصفاته وعدله وحكمته وجواز الرسل والتكليف، ثم تفصيل أركان الشريعة. فتبدأ المعارف من التوحيد إلى العدل إلى النبوة؛ أي من العقليات بأصليها إلى أول موضوع في السمعيات ينتهي إلى تحقيق أحكام الشريعة. وقد تبدأ المعارف بالنفس أولا ثم بالمعارف النظرية ثانيا؛ أصلي التوحيد والعدل، وما دون ذلك من أحكام الشريعة لا يعرف إلا بالخبر. والحقيقة أن هذا الفصل بين المعارف النظرية والتحقيقات العملية يجعل النظر موضوعا مستقلا بذاته؛ موضوعا ومنهجا، ويجعل العمل موضوعا منفصلا عنه؛ موضوعا ومنهجا أيضا، وهو ما يعارض التطور الطبيعي من النظر إلى العمل.
51
ولا يعني التكليف أن هناك مكلفا ومكلفا؛ فذاك تشخيص للتكليف وتصوير له على أنه أمر بين طرفين، من أعلى إلى أدنى، مثل تشخيص النبوة وجعلها علاقة بين طرفين؛ أعلى وأدنى. فالحياة والعلم ليسا صفتين في المكلف، بل هما شرطان للتكليف، والعقل والإرادة ليسا صفتين في المكلف، بل هما شرطان للتكليف، والعقل والإرادة ليسا صفتين للمكلف، بل هما أيضا شرطان للتكليف؛ فلا تكليف لميت جاهل بليد عاجز.
52
وللتكليف أسس موضوعية في صفات الفعل المكلف به، ولا يمكن أن يتحول الأمر إلى نهي، والنهي إلى أمر، بمجرد إرادة المكلف، وإلا كان ذلك إلغاء للطبيعة والعقل، وهدما للحسن والقبح العقليين، وهما من مكتسبات العدل.
53
وبعد التأكيدات على أن الخطاب هو تكليف وأمر، ينقسم الخطاب إلى أربعة أقسام: أمر ونهي وخبر واستخبار. وقد يضم الاستخبار إلى الخبر؛ لأن الاستخبار هو طلب الخبر؛ وبالتالي لا يكون قسما مستقلا؛ وبالتالي تكون قسمة الخطاب ثلاثية؛ أمر ونهي وخبر. ولما كان النهي هو ضد الأمر كان الأمر هو الأساس، خاصة إذا كان الأمر بشيء نهيا عن ضده، والنهي عن كل شيء أمر بضده عند من يجوز القلب العقلي في الأحكام دون البنية الموضوعية والموقف الحياتي لها؛ وبالتالي تكون ثنائية؛ أمر وخبر، ولكن أين باقي الصيغ والتي يمكن جمعها في الصيغة الإنشائية، مثل التمني والتعجب والاستفهام؟ بل لقد أضاف القدماء صيغا أخرى، مثل الوعد والوعيد والطلب والشفاعة والتلهف والاستثناء. وقد تكون القسمة كلها واحدة لما كان الخبر أيضا نوعا من الأمر غير المباشر؛ فالقصص مع أنه إخبار عن أحوال الأمم السابقة إلا أنه درس وعظة وعبرة لتقوية الأمر في بداية القصة أو في نهايتها، فالخبر أمر يتضمن وسيلة الاقتناع به وطرق الإيحاء من أجل تحقيقه، وإلا كان مجرد أمر صوري عسكري غير مشفوع برجاء أو تمن. وصيغ الإنشاء لا تدل على حطة منزلة، بل تدل على رفعة القدر، ومن تواضع للإنسان رفع. أما قسمة الخطاب المفيد إلى اسم وفعل وحرف، فهي قسمة لغوية صرفة، ليس لها دلالة مباشرة في خطاب التكليف، مع أنه يمكن حتى في هذه الحالة رؤية الفعل والفاعل؛ فالاسم هو الفاعل المكلف، والفعل هو التكليف، والحرف هو الرابطة التي تربط الفعل والاسم في الزمان والمكان.
54
ومع ذلك تظل القسمة الثلاثية للخطاب إلى أمر ونهي وخبر هي القسمة الغالبة، ويضم الأمر والنهي معا في مقابل الخبر.
فما هو الأمر والنهي؟ هل هما الإثبات والنفي على مستوى العقل وليسا على مستوى الفعل؛ إذ إن الحكم إما عقلي أو فعلي؟ النفي والإثبات متصلان في العقل، وقد يكونان منفصلين في الوجود؛ فلو أمكن للعقل نفي المعدوم منطقيا إلا أنه في الوجود لا ينفي إلا الموجود. فإذا تداخل الإثبات والنفي في العقل فإنهما قد يتمايزان في الوجود. فإذا كان الإثبات في العقل والنفي حكمين كليين؛ إثبات الشيء هو إثباته من جميع أوجهه، ونفي الشيء هو نفيه من جميع أوجهه، فإنهما في الوجود حكمان جزئيان؛ فإثبات شيء هو إثبات محمول، والمحمول أحد وجوه الموضوع؛ فإثبات صفة لا يعني إثبات كل الصفات، ونفي صفة لا يعني نفي كل الصفات.
55
وإذا كان في حكم العقل أن الأمر بشيء نهي عن ضده، فإنه في الوجود قد لا يكون كذلك؛ فالحكم الشرعي لا ينقلب. الأمر الشرعي قد لا يكون نهيا عن ضده، والنهي عن شيء قد لا يكون أمرا بضده. الحكم الشرعي خاص بالفعل وليس عاما للعقل، والمواقف الإنسانية خاصة وإن تكررت في مواقف أخرى مشابهة، ولكن الإنسان لا يقيس فعلا واحدا على فعل واحد آخر في نفس الموقف.
56
في الأفعال صفات موضوعية وجودية لا يمكن قلبها حضورا وغيابا، وجودا وعدما. وهو أحد مكتسبات الإنسان المتعين في قدرته على التمييز بين الحسن والقبيح العقليين كصفات موضوعية في الأشياء؛ حتى يبدو التوافق والتطابق بين العقل والطبيعة.
57
لذلك انقسمت الأفعال إلى أحكام خمسة كما هو معروف في الأحكام الشرعية في علم أصول الفقه: الوجوب والندب والإباحة، والكراهية والحظر أو التحريم. فالأمر يعني الوجوب، والنهي يعني الحظر عقلا، ولكنهما قد يعنيان درجتيهما الممكنتين؛ أي الندب والكراهة بدلالة، وقد يعني الأمر المباح أيضا بدلالة، بل قد يتوسع البعض ويدخل الصيغ الإنشائية من ترغيب وإرشاد في الأمر، وتهديد ووعيد وإهانة وتأديب في النهي؛
58
لذلك ارتبط الأمر والنهي بموضوع القدرة التي تكون وراء تحديدات درجات الأمر والنهي بين الضروري والممكن. وكما هو الحال في التمييز بين الحكم العقلي والحكم الفعلي، فكذلك الأمر في القدرة؛ فالقدرة على الفعل قد لا تكون قدرة على الترك بالضرورة، والقدرة على الترك قد لا تكون قدرة على الفعل بالضرورة.
59
ويكون الأمر والنهي بالظاهر منعا للتأويل من حيث المبدأ؛ فالتأويل استثناء وليس قاعدة.
60
أما الخبر فقد ورد من قبل في تواتر الرسالة وشروط التواتر، وهو ما يرد أيضا في الدليل الثاني وهو السنة في علم أصول الفقه، ولكنه هنا هو أحد صيغ الخطاب بعد الأمر والنهي، وليس منهجا للنقل وطريقا للرواية.
61
والقول أعم من الخبر؛ فالكلام يشمل الخبر وغيره. القول يشمل القضايا الخبرية والإنشائية على السواء. وأهم شيء في الخبر كصيغة في الخطاب هي نظرية الصدق والتمييز بين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب؛ فلم يعد المطلوب هنا هو الصدق التاريخي؛ أي صحة النقل من حيث السند، بل صدق الخبر ذاته من حيث المتن. وقد يكون الصدق صوريا خالصا بمعنى اتفاق الخبر مع المبادئ الكلية للعقل، وهو الصدق النظري الخالص. وقد يكون صدقا ماديا صرفا بمعنى مطابقة الخبر للواقع طبقا لمبدأ التحقق. والواقع هنا هو الواقع الإنساني وليس الواقع الكوني وعقائد الثنوية في النور والظلام. قد يكون صدقا إنسانيا خالصا بمعنى صدق الفعل ومطابقته للنية والقصد؛ وبالتالي انتفت الجبرية من صدق النية والقصد، فالنية أحد أفعال الحرية، والجبر ليس به حرية قصد أو اختيار نية؛ فالصدق والكذب ليسا ضروريين؛ أي كون الصادق صادقا بالضرورة والكاذب كاذبا بالضرورة، بل الصدق مرهون بالحرية والعقل.
62
الصدق والكذب إذن مرتبطان بالشعور؛ قد يكون الشعور صادقا، ولكن من حيث النية يحدث تطابق بين الخبر والواقع، وقد يكون الشعور كاذبا من حيث النية ويحدث نفس التطابق. فالصدق والكذب ليسا فقط أمرين صوريين أو ماديين لا شأن لهما بقصد الشعور؛ نظرا لضرورة توافر النية في الصدق والكذب. وإن صح الكذب من غير قصد، فالصدق لا يصح من غير قصد، وإن كان الكذب خضوعا للغرور أو غيابا للقيمة، فإن الإخبار بالصدق تعبير عن الواجب وحضور للقيمة في الشعور، وما ينبغي أن يكون.
وسواء كان الخطاب أمرا ونهيا أم خبرا، فإنه في كلتا الحالتين يحتاج إلى فهم لمعناه، ولا يتأتى هذا الفهم إلا بمبادئ اللغة. وقد اقتصر علماء أصول الدين على بعض المبادئ المستعارة من علم أصول الفقه، مثل العام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول. ولم يزيدوا على ذلك مبادئ أخرى، مثل الحقيقة والمجاز، وهو من أوائلها، أو المطلق والمقيد، والمستثنى والمستثنى منه وهي من أواخرها. وبعض المبادئ تتغير أسماؤها، مثل المجمل والمبين الذي يسمى المجمل والمفسر. والبعض لا يكون ظاهرا كمبدأ، بل كحالة ثانية لمبدأ آخر، مثل المحكم والمتشابه الذي يدخل ضمن حالات المجمل والمفسر. وبعض المبادئ تظهر في أحد جوانبه فقط، مثل الظاهر والمؤول الذي لا يظهر إلا في المؤول وهو الأهم؛ لأن الظاهر لا إشكال فيه، ولأن نقد الباطنية أهم من نقد الظاهرية. وقد تظهر بعض المبادئ كحالات خاصة، مثل المجمل والمفسر والمحكم والمتشابه. وقد تظهر كمبادئ عامة، مثل العموم والخصوص والتأويل.
ومع أن العموم والخصوص صيغة لغوية إلا أنها تكشف عن البعد الشخصي للنص؛ الفردي أو الجماعي. فالنص متوجه إلى الشخص، وموجه لسلوك الفرد والجماعة. اللغة للسلوك والصيغة للفعل. فإذا كان النص صورة بلا مضمون، فإن تحديد الخاص والعام فيه تحديد لمضمونه لبيان البعد الشخصي في النص والعامل الفردي في الأمر، بصرف النظر عن التحديد الكمي للعام. وغالبا ما يكون التحديد بأقل الجمع اثنين فما أكثر. والقول بالعموم وحده وإنكار الخصوص هو تحويل للخطاب إلى مبدأ كلي صوري شامل وإنكار للبعد الفردي؛ التزام بالعزيمة دون الرخصة وبالقاعدة دون الاستثناء، كما أن إثبات الخصوص دون العموم هو إنكار أن أفعال الإنسان إنما هي أنماط عامة للسلوك تنطبق على كل إنسان في كل زمان، وليست أسماء أعلام خاصة تطلق على فرد معين أو جماعة معينة، في زمان معين ومكان معين، بل إن الفعل الفردي لا يكون كذلك إلا إذا كان نمطا عاما، قائما على مبدأ عام. العموم والخصوص إذن واجهتان لشيء واحد، يمكن تخصيص العام كما يمكن تعميم الخاص. لا يوجد عام إلا ويمكن تخصيصه، ولا خاص إلا ويمكن تعميمه.
63
وصيغة العموم هي الأصل، ولا يتحول إلى خصوص إلا بمخصص من السنة أو الإجماع أو القياس، ولكن هل يكون العقل مخصصا؟ في هذه الحالة يكون العقل مؤولا لا مخصصا؛ فالتخصيص نص من جنس العموم. وإن لم يكن في الوعد تخصيص ففي الوعيد تخصيص؛ لأن تحقيق الوعد مبدأ عام في حين أن تخصيص الوعيد من رفعة القدر.
64
ومن صفات التخصيص أن يكون العموم ظاهرا، وألا يتأخر عنه وإلا كان نسخا.
65
وبعد العموم والخصوص يأتي المجمل والمفسر، وهما المفهومان اللذان يشملان أساسا المحكم والمتشابه والظاهر والمؤول. فالمجمل هو الذي يحتاج إلى تفسير؛ وبالتالي فتعريف كل مفهوم يتم بالمفهوم الآخر، فهما مفهومان متضايفان أو متقابلان أو متضادان. أما التأويل، خاصة الباطني منه، فهو خروج على قواعد التفسير، والظاهر هو إمساك عنها. ويكون المجمل في عدة مواطن؛ فقد يكون الإجمال في الحكم والمحكوم فيه، وهو أشد أنواع الإجمال؛ فالنص هنا يحتوي على معنى عام لم يتحول بعد إلى حكم في الزمان والمكان، ولا يتوجه إلى محكوم فيه بعينه. وقد يكون الإجمال في الحكم فقط، في حين أن المحكوم فيه معلوم، وهو أقل إجمالا من الأول. فالحكم هو الذي يحتاج إلى أن يتحول من معنى عام إلى حكم خاص طالما أن المحكوم فيه قد تحدد من قبل. وقد يكون الإجمال في المحكوم فيه في حين أن الحكم معلوم، وهو عكس الحالة السابقة؛ لأن الإجمال هذه المرة في الإنسان الذي يتوجه إليه الحكم، في حين أن الحكم قد تحول من قبل من معنى عام إلى حكم خاص. وقد يكون الإجمال في الحكم والمحكوم له، ولكن المحكوم عليه معلوم، وفي هذه الحالة يكون المعنى ما زال عاما ولم يتحول بعد إلى حكم، وفي الإنسان الذي يتوجه إليه الحكم، في حين أن الفعل الخاص وهو المحكوم عليه معروف. يدل إذن المجمل والمفسر، وهو ما سماه الأصوليون في علم أصول الفقه المجمل والمبين، على بعد الإنسان الفردي وفعله الذي يتوجه إليه الحكم، في حين يدل الخاص والعام على بعد الإنسان أيضا من حيث هو فرد أو جماعة. المجمل هو القول والمبين هو الفعل، ولما كان القول أوسع نطاقا من الفعل احتاج المجمل إلى تبيين.
66
ويدخل المحكم والمتشابه أيضا كحالة خاصة في المجمل والمفسر؛ من أجل إحكام الزمان والمكان للفعل الإنساني؛ لذلك كانت مواطن الإجمال الباقية خاصة باللفظ والمعنى؛ فقد يكون الإجمال في اللفظ من جهة صلاحه لمعنيين حتى يتم اختيار أحدهما طبقا للزمان والمكان؛ أي الواقعة التي يتم فيها الفعل، وهذا هو حال المحكم والمتشابه. وقد يكون الإجمال في اللفظ في نفسه معلوما ثم صار مجملا باستثناء مجمل، وهذا هو حال المستثنى والمستثنى منه. وقد يكون الإجمال في اللفظ معقول المعنى لغويا، وضعت الشريعة له شروطا، مثل ألفاظ الصلاة والزكاة، ولكنه في حاجة إلى تأويل آخر؛ أي إخراج اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر؛ لوجود دليل أو إمارة أو قرينة، وهذا هو حال الظاهر والمؤول.
67
والمحكم هو الواضح الذي ليس في حاجة إلى تأويل في حين يحتاج المتشابه، وهو الذي يشير إلى معنى واحد في حين يشير المتشابه إلى معنيين يتم ترجيح أحدهما دون الآخر؛ حتى يمكن الإشارة إلى واقعة واحدة دون الأخرى. ويمكن معرفة المتشابه فهو ليس سرا؛ وبالتالي لا يكون نموذج التشابه الحروف الأولى من السور؛ فهذه تدخل في حساب الأسلوب الجمالي واللغوي كما هو معروف في الأساليب الأدبية. المحكم هو الذي لا تأويل له غير تنزيله على عكس المتشابه الذي له تأويل، وقد يستعمل تعبير الألفاظ المشتركة للمتشابهات، مثل الوجه واليد والعين. وليس نموذج المتشابه هو القصص؛ لأنه لا يحتوي على معنيين، ولو كان متشابها لما أدى وظيفته في ضرب الأمثلة لحقائق التاريخ المستمدة من سلوك الأفراد والجماعات وتاريخ الشعوب. فالقصص ليس متشابها؛ لأن الغرض منه ليس وصف التاريخ وإعطاء أخبار تاريخية، بل وصف التجربة البشرية وإيجاد دلالتها في لحظة اكتمال الوحي واستقلال الشعور الإنساني، كما أن القصص للإيحاء والإقناع وليس لاستنباط الأحكام؛ للترويح على النفس وليس للتشريع. وليس المتشابه هو أمور المعاد وشئون الأخرويات؛ فهذه يمكن تأويلها مجازا تعبيرا عن رغبة الإنسان في عالم تسوده العدالة المطلقة في مقابل هذا العالم الذي يعيش فيه الظالم ويشقى فيه العادل، عالم تنكشف فيه الحقيقة في مقابل هذا العالم الذي تسوده الأقنعة والدوار. وقد يكون المحكم هو الوعد والمتشابه هو الوعيد؛ نظرا لاحتماله معنيين؛ التخويف أو العقاب، توجيه السلوك أو تنفيذ الترهيب، والأول يحقق النفع الفعلي والهدف من الوعيد في حين أن عدم تحقق الثاني يدل على علو القدر ورفعة المنزلة. فإذا كان المحكم عقاب الفاسق، والمتشابه ما خفي عقابه، فقد يكون ذلك أيضا لخطورة الفسق؛ أي خروج العمل على النظر وعدم تطابق الفعل مع القول. والحقيقة أن المحكم والمتشابه دافع على البحث والنظر، وصارف عن الجهل والتقليد، كما أنه يدل أيضا على درجة عالية من الفصاحة وتذوق اللغة، كما هو الحال في الحقيقة والمجاز، وكل جهد هو في النهاية ثواب أعظم.
68
أما الظاهر والمؤول فإنهما يكونان لب تحليل الخطاب خاصة المؤول. فالتأويل سلاح ذو حدين؛ يمكن أن يفيد في ضبط الأحكام والاستدلال عليها؛ وبالتالي إثباتها من أجل تحقيقها، وهذا هو التأويل اللغوي، ويمكن أيضا أن يقضي على الأحكام ويرفعها من أجل نفيها أو إسقاطها، وهذا هو التأويل الباطني. يقوم التأويل اللغوي على طبيعة اللغة وصلتها بالفكر، في حين يقوم التأويل الباطني على صلة اللغة بالشيء. الأول تأويل أولي يبغي الصورة الفنية، بينما الثاني تأويل مادي يبغي الشيء. الأول تأويل نظري يهدف أولا إلى معرفة المبدأ، بينما الثاني تأويل عملي يهدف إلى تغيير الواقع مباشرة. ومع ذلك فإن هدف التأويل اللغوي إحكام المبدأ النظري من أجل تحقيق الفعل، في حين أن التأويل الباطني يهدف إلى إسقاط الشرائع وإبطال الحدود. هدف الأول الخارج والتحقق، وهدف الثاني الداخل والتأمل. وتأويل الشريعة لا يعني رفعهما أو تبديلها أو تجسيمها؛ فالشرائع أفعال، والأفعال تهدف إلى تحقيق أبنية مثالية للعالم.
69
التأويل منهج حق قد يراد به باطل إذا كان الغرض منه هدم الشريعة والقضاء على فاعليتها في العالم. وإذا توجه التأويل اللغوي إلى الأفعال فإن التأويل الباطني يتوجه إلى الطبيعة والكون؛ أي التأويل الباطني للظواهر لتأويل الطبيعة الخارجية واستشراف ظواهرها فيما وراء اللغة. التأويل اللغوي تأويل للنصوص في حين أن التأويل الباطني تأويل للطبيعة، وتأويل الطبيعة هو في الحقيقة إسقاط العواطف والانفعالات الإنسانية على ظواهر الطبيعة، فالطبيعة خالية من المعنى، والإنسان هو الذي يسقط من شعوره المعاني على الطبيعة كما هو الحال في اختبارات الإسقاط. وإذن كان الهدف من التأويل اللغوي تثبيت حقائق الوحي وإزالة الشك فيه، في حين أن التأويل الباطني يهدف إلى هدم حقائق الوحي وتثبيت الشك فيه لأن زعزعة النظر أولى درجات الانسياب في العمل؛ لذلك كان التأويل اللغوي علنيا يذاع، في حين أن التأويل الباطني سر يكتم، وبينما لا يفسر التأويل اللغوي إلا المعاني يفسر التأويل الباطني الرموز. فالنصوص كلمات، والكلمات حروف، والحروف أعداد، والأعداد أسرار.
70
وإذا كان التأويل اللغوي يقوم به فرد واحد، فإن التأويل الباطني يحتاج إلى معلم. الأول يضع حقائق موضوعية لإيصالها للناس، والثاني يستخرج الحقائق من قلوب السامعين وتوليدها منها دون إيصال حقائق له. وإذا كان التأويل اللغوي يهدف إلى معرفة الحقيقة فإن التأويل الباطني يهدف إلى التأثير على الناس. والتأثير ليس فقط منهجا في الفهم، بل أيضا منهج في الإقناع والإيحاء عند الخصوم للتشكيك والتضليل. لا يعتمد على العقل بقدر ما يعتمد على الإيحاء الباطني. فإذا اعتمد التأويل اللغوي على قواعد اللغة فإن التأويل الباطني يعتمد على التحليل النفسي والاجتماعي للسامع لمعرفة كيفية إقناعه والتأثير عليه.
71
وإذا كان التأويل اللغوي لا يتعلق بالأحكام بقدر ما يتعلق بالاعتقادات، فإن التأويل الباطني يهدف إلى العمليات والنظريات معا حتى يفك الارتباط بين الحكم والفعل بتدخل المعاني والنظريات، فيتوه العقل فيها ويفقد توجهاته العملية.
72
وإذا كان التأويل يعني لغويا العودة إلى الأصل، فإن التأويل الباطني يرجع الوحي إلى النبوة، ويرجع النبوة إلى مصدر الوحي. ومع ما في هذا من ميزة في القضاء على تشخيص الوحي في شخص النبي، فإنه مع ذلك يقع في تشخيص مقابل، وهو تشخيص الوحي في شخص الإمام أو في شخص الله.
73
والحقيقة أن التأويل له أسسه الاجتماعية والسياسية المحلية، وليس ناشئا عن مصدر خارجي يوناني أو غيره، كما لم تأت التأويلات الباطنية من مصدر عربي سابق؛ فالنظريات لها نشأتها الاجتماعية والسياسية.
74
التأويل من حيث المبدأ محاولة للبحث عن الحقائق فيما وراء الألفاظ والوقائع التي تشير إليها المعاني، ولكنه من حيث الواقع قراءة مذهب كل إنسان في النص والتعرف على نفسه فيه؛ تدعيما لمواقفه وهدما لمواقف الخصوم في مجتمع النص فيه سلاح وسلطة؛ فالتأويل هو منهج جبر النص للدفاع عن المذهب ثم تكييف النص حسبه؛ فالمذهب هو الأساس والنص هو الفرع.
75
ولما كان خلاف المذاهب هو في الحقيقة التعبير الأيديولوجي للصراع على السلطة، كان التأويل الباطني أحد وسائل زعزعة السلطة القائمة. والمعارضة التي تبنت التأويل الباطني إما الشعوبية التي كانت تريد إرجاع الملك إلى العجم دون العرب، أو قبائل العرب التي لم تخرج النبوة منها. وهذه هي صفوة المعارضة أو قيادتها بالإضافة إلى العامة التي لا تقتدر على مناهج النظر وطرق الاستدلال.
76
وفي مقابل الباطنية تخرج الظاهرية تتمسك بظاهر النصوص.
77
قد يكون ذلك دفاعا عن السلطة القائمة، ومنعا لإيجاد مضمون جديد للنص غير مضمون السلطة، ودافعا جديدا له غير واقعة السلطة؛ وبالتالي تم «قفل» النص وتثبيته وعدم تحريكه؛ حتى لا يقوم بتوجيه الواقع وتغيير النظام القائم. وقد يصل الأمر إلى حد تكفير المتأولين مثل باقي فرق المعارضة باعتبارها فرقا هالكة؛ فكل فرقة تكفر الفرق المخالفة. ولما كانت الفرقة التي تكفر المتأول في السلطة، والتي تقوم بالتأويل في المعارضة، كفرت السلطة المعارضة تحت ستار التأويل، وتحت شعار المحافظة على ظاهر النص.
78
وقد تعطي شرعية الإمساك عن التأويل بتأويل بعض النصوص، كما تعطي شرعية التأويل بتأويل نفس النص؛ فسواء كان الأمر نهيا عن التأويل أو أمرا بالتأويل ففي كلتا الحالتين يحتاج إلى تأويل.
79
والحقيقة أن التأويل ضرورة ولا يكفر من يقوم به. وحتى لا ينتج عن التأويل قول خاطئ يؤدي إلى فعل خاطئ، كانت هناك قواعد للتأويل وشروط للمفسر، مثل العلم باللغة العربية وبأسباب النزول والوعي بالمبادئ النظرية؛ التوحيد والعدل، والحاجات العملية لجماهير المسلمين.
80
وبالإضافة إلى هذه المبادئ اللغوية: العام والخاص، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، هناك أيضا أدلة تتجاوز اللغة إلى المعنى مباشرة سماها الأصوليون في علم الأصول دليل الخطاب أو لحن الخطاب أو فحوى الخطاب. ويعني المفهوم أو دليل الخطاب الذهاب إلى المعنى الشامل الكلي داخل الألفاظ. ويسمى أيضا مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة؛ أي إدخال كل معنى يتفق مع اللفظ فيه، وإخراج كل معنى يخالف اللفظ منه. ويدخل في ذلك السياق؛ أي المعنى الكلي للجملة الذي قد لا تفيده الألفاظ المفردة. فإذا لم تفد الألفاظ في مفرداتها فإنها تفيد بسياقها، فلا يوجد خطاب إلا وله متعلق، وقد يكون متعلق الخطاب فيما بين السطور.
81
ولما كانت الدلالة ليست فقط لغوية بل أيضا فعلية، فإن تحليل الخطاب ليس هو الطريق الوحيد للدلالة، بل أيضا أفعال النبي؛ فدلالة فعل النبي مثل دلالة الخطاب، ورؤية الدلالة مثل فهمها، وإدراك الدلالة مثل تصورها. وما دام الرسول قدوة وفعل نموذج فإن دلالته تصبح عامة للناس جميعا؛ فأفعاله تنفيذ لأوامر وتمثل لها. وإنما يكون الخلاف في وجه الدلالة؛ هل هو الوجوب أو الندب أو الإباحة؟ ومن ثم كانت دلالة الأفعال لا تستقل بذاتها، بل هي دلالات مساعدة لدليل الخطاب حامل الدلالات الأولى. فالوحي خطاب قبل أن يكون فعلا، ورسالة قبل أن يكون رسولا.
82
وعلى هذا النحو تصب مباحث علم أصول الدين في علم أصول الفقه، ويجد النظر تحقيقه في العمل، وتهبط النبوة من الإيمان بالملائكة والغيب إلى فهم الرسالة من أجل قضاء المصالح والسعي بين الناس. (ج) تحقيق الرسالة
وكما صب علم أصول الدين في علم أصول الفقه في الأدلة الأربعة وفي تحليل الخطاب، فإنه يصب هذه المرة في علم الفقه تأكيدا على الانتقال من المضمون النظري للنبوة إلى المضمون العملي. وتتحقق الرسالة في العبادات وفي المعاملات، في الشقين الرئيسيين لعلم الفقه. وتتركز العبادات في أركان الإسلام الخمسة، وليس المهم فيها هو إعادة تكرار المادة الفقهية، بل معرفة دلالتها على أصلي العدل والتوحيد. ليس المهم ممارستها كما، بل دلالته كيفا، بل إن الأهم من ذلك كله هو الانتقال من أصولها النظرية في علم التوحيد إلى دلالتها العملية في العبادات في علم الفقه، إلى الممارسة العملية في المجتمعات. فالشهادتان لم يتم التركيز عليهما بالرغم من أنهما أساس باقي العملية في المجتمعات، في عمليتي النفي والإثبات، في حركتي الرفض والقبول، والعصيان والطاعة. وقد يكون السبب هو دخولهما في باب الأسماء والأحكام؛ أي في النظر والعمل باعتبارهما صيغة القول والإقرار. فالشهادتان ليستا باللسان والقول فقط، بل بالتصديق والفعل. ليستا في الداخل فقط في الذهن والقلب، وهو أضعف الإيمان، بل في الخارج أيضا بالكلمة والفعل، باللسان واليد. والشهادة ضد الكتمان والصمت «ومن يكتم الشهادة فإنه آثم قلبه». والصلاة إحساس بالزمان وبأداء الفعل فيه، واقتراب من الأفعال الخلقية واجتماع وتعارف، وتباحث في أحوال المسلمين. النية شرطها حتى لا تكون نفاقا وكسبا للمال أو الشهرة أو الجاه أو تعمية على السرقة والنهب والاحتيال. ليست طاعة لأمير المؤمنين إماما، بل تأدية لواجب الأمة انتسابا. تتلوها الزكاة؛ أي حق الجماعة على الفرد في أمواله، وسيولة للمال في المجتمع ضد اكتناز الثروات بلا استعمال. والصوم تهذيب للنفس وشحذ للإرادة وإعلان على تجاوز الإنسان لنفسه ولعالمه، وعيش على مستوى الجماعة، وإحساس بحاجات الفقراء، وبأحوال المساكين. والحج اجتماع للمسلمين في زمان ومكان معين لبحث أمور الأمة ووحدتها، والممارسة العملية للوحدانية في العمل. وفوق ذلك كله يأتي ركن الجهاد الذي يتصل بالركن الأول؛ الشهادتين، فالطرفان يلتقيان، فالشهادة والشهيد من نفس المصدر «شهد»، فالشاهد والشهيد صنوان. ويكون الجهاد من أجل فكرة قبولا ورفضا، ويكون بالعقل والمحاجة، ويكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون بالنصيحة، ويكون جهادا فعليا؛ جهاد الأعداء في حالة الظلم والعدوان والاعتداء واحتلال الأراضي والإخراج من الديار ونهب الثروات واستباحة الحرمات وامتهان الكرامات. فإذا ما تم تحرير أراضي المسلمين ووحدتهم وأصبحوا في مثل قوة الأعداء وأقوى منهم، وتطاحن أعداؤهم فيما بينهم وانقسموا إلى معسكرين كبيرين وقوتين عظميين يدمر بعضهم بعضا، في هذه اللحظة التاريخية، يمكن للأمة أن تقوم بدورة جديدة في التاريخ، تدعو إلى الإسلام. ولا تعني «الجزية» أكثر من استعلاء المسلمين ووصولهم إلى درجة أخذ زمام المبادرة في التاريخ، ولا يجوز الصلح مع العدو المحتل أو الاعتراف به وإنهاء الحرب معه، وواجب الإمام سد الثغور وبناء الجيوش وإعداد الأمة لرد الظلم والعدوان. وفي هذه الحالة يكون الجهاد فرض عين لا فرض كفاية، لا يسقط عن أحد لأن الآخرين يقومون به وإلا كان من المتخلفين القاعدين. الجهاد تتويج للنبوة في الأرض وتحقيق للرسالة في التاريخ.
83
أما المعاملات فإنها تنقسم إلى الأحوال الشخصية أي أحكام الفروج، والأحوال العامة أي أحكام العاملات، والقانون الجنائي أي أحكام الحدود، والقانون المدني أي المحرمات والمباحات، ثم أحكام الأموات. وليس المهم في هذه الأحكام ذكر الأنماط المثالية لها، يقرأ الإنسان فيها أمانيه ويجد فيها تعويضا عن مآسيه. يجد فيها الحاكم فرصة للمزايدة على الإيمان، ووسيلة لتغطية نظام حكمه والتستر عليه بستار الإسلام، بل المهم هو ذكر أحوال الناس، وكيف أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو السبيل لإعطاء الناس حقوقهم قبل مطالبتهم بأداء واجباتهم. ليس المهم عرض أحكام النكاح والرجعة والطلاق والخلع والظهار والإيلاء والعدة واللعان والرضاع والمهر ونفقات الأزواج ، بل المهم معرفة أوضاع الأزواج ومشاكل طالبي الزواج من مسكن وقوت وأوضاع المطلقات أو الموقوفات، فلا هن متزوجات ولا مطلقات، وأوضاع دور الحضانة، وارتفاع المهور. وهناك فرق بين الشريعة، المبادئ العامة المنصوص عليها والتي لا تتغير، والفقه الذي هو اجتهاد الفقهاء والمشرعين في كل عصر. الأول ثابت، والثاني متغير. فإذا تغيرت الظروف اليوم فمهمة المجتهد تجديد الفقه في ضوء الشريعة، خاصة فيما يتعلق بقوانين الطلاق وتعدد الزوجات، طالما نقص التعليم وقتل الوعي الديني، كما أن الخلاف بين الفرق القديمة حول أحكام الفروج خلاف تاريخي صرف؛ فلا الفرق موجودة ولا أحكامها مطبقة. وتغيب الفرق الجديدة بالرغم من حضور المشاكل المعاصرة.
84
أما أحكام المعاملات فقد غلبت عليها أحكام التجارة أولا فالزراعة ثانيا. وبطبيعة الحال أن تقل منها أحكام الصناعة والتعدين. وقد كثرت مشاكل المال والتجارة وتعقدت النظم البنكية والنقدية، وأصبحت عملات المسلمين، أو على الأقل فريق منهم، لا قيمة لها بين عملات الفريق الآخر القوية في البنوك الأجنبية يستثمرها أعداء المسلمين. وعظمت مشاكل الزراعة، ومات فريق من الأمة جوعا وقحطا، بينما يموت الفريق الآخر بطنة وشبعا. واتسعت الأراضي القاحلة، وقلت الأراضي الزراعية، وزاد عدد الفلاحين حتى لقد احتاج الأمر إلى إعادة نظر في الملكية الزراعية. فكما أن الأرض لمن يصلحها، فالأرض لمن يفلحها، ولا نصيب للملاك الغائبين في الأرض. وإن أخذ جزء من عمل الفلاح الأجير من جراء كرائه الأرض لهو سلب لعمله من مالك لم يعمل وله مصدر رزق آخر في المدينة. وإذا كان القدماء قد عرفوا الذهب والفضة والنحاس والحديد، فقد عرفنا نحن النفط الذي تنطبق عليه نظرية الركاز؛ أي إن كل ما في باطن الأرض ملك للأمة، وليس لأمير أو قبيلة أو نظام. وقد تفاوتت الدخول بين الأغنياء والفقراء لدرجة التفاوت بين السماء والأرض؛ مما تطلب إعادة توزيع الدخول بين المسلمين.
85
أما أحكام الحدود فليس القصد منها تخويف المسلمين وإرهابهم من الشريعة الإسلامية، أو حماية الأغنياء من غضب الفقراء، أو تطبيقها عليهم وحدهم دون الشرفاء، وليس صلبها حد الزاني وشارب الخمر، بل حد السارق والقاهر والظالم؛ فقد أتت الشريعة لاسترداد حقوق الضعفاء من الأقوياء. وإن الهدف من الحد هو البحث الاجتماعي أولا قبل تطبيقه لمعرفة السبب؛ فقد يكون هناك مانع من تطبيقه.
86
أما المحرمات والمباحات فليس المقصود منها تكبيل الطبيعة بالأغلال، بل العودة إلى البراءة الأصلية في المباحات، والتعبير عن مقتضيات الطبيعة في الواجبات.
87
وإن أحكام الأحياء في النهاية من مأكل ومسكن وملبس لأولى من أحكام الأموات من غسل وكفن ودفن.
88
الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية (المعاد)
أولا: وضع المشكلة
مستقبل الإنسانية هو الشق الثاني من التاريخ العام بعد الشق الأول؛ النبوة. وإذا كانت النبوة تعني ماضي الإنسانية، فإن المعاد يشير إلى مستقبل الإنسانية. والماضي والمستقبل، البداية والنهاية، كلاهما جانبان للتاريخ العام؛ إذا كان ماضي الإنسانية يمثل حركة الذهاب، فإن مستقبل الإنسانية يمثل حركة الإياب؛ وإذا كانت النبوة تمثل فعل الله في التاريخ من خلال الأنبياء، فإن المعاد يمثل فعل الله في التاريخ من خلال الشهداء؛ وإذا كان ماضي الإنسانية يتحدد في الزمان، فإن مستقبلها يكون أقرب إلى أن يتحدد في الخلود. الدنيا بداية الآخرة، والآخرة نهاية الدنيا، والانتقال من أحدهما إلى الآخر هو الانتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأخروية، وما الموت إلا لحظة الانتقال من الحياة الأولى إلى الحياة الثانية. (1) هل هو أصل مستقل؟
مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوع يتلو طبيعيا موضوع النبوة؛ فالنبوة تتعلق بماضي الإنسانية وتاريخ وعيها تطورا واكتمالا، في حين يتعلق المعاد بمستقبل الإنسانية ونتائج أفعالها المستقلة؛ الحرة العاقلة. كلاهما تاريخ عام؛ الأول تاريخ الماضي والثاني تاريخ المستقبل. الأول تاريخ تحقق في حين أن الثاني تاريخ لم يتحقق بعد، ولكنه في سبيل التحقق. فالمعاد نهاية النبوة ومستقبلها، والنبوة بداية المعاد وماضيه. موضوع مستقبل الإنسانية أو نهاية العالم، أي المعاد، يأتي بطبيعة الحال بعد تطور الوحي وتاريخ الإنسانية الماضي كدرس ثان فيها؛ الأول بفعل الأنبياء والثاني بفعل الشهداء، وكأن النبوة لها معنيان: الأول تحققها كنظر، والثاني تحققها كعمل. التحقق الأول في الماضي قام به الأنبياء، والثاني في المستقبل يقوم به الشهداء. التاريخ إذن متصل من الماضي إلى المستقبل، متحقق بالفعل وممكن التحقق من جديد. وفي هذه الحالة لا يكون مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوعا مستقلا عن ماضي الإنسانية أي النبوة، فتدخل أمور المعاد على أنها جزء من النبوة، فكلاهما من السمعيات.
1
وقد يكون الموضوع مع موضوع آخر، وهو النظر والعمل؛ أي مع الأسماء والأحكام نظرا لارتباطهما معها، فأفعال الاستحقاق هي أفعال الإيمان والعمل، أفعال الإقرار والتصديق، وأمور المعاد ما هي إلا نتيجة لها. وفي هذه الحالة يكون مستقبل الإنسانية مشروطا بحاضرها، ويكون التاريخ العام تحققا للتاريخ المتعين ابتداء من أفعال الاستحقاق للفرد. ولما كانت أفعال الفرد هي أفعال الاستحقاق؛ أي الأفعال الحرة العاقلة، ارتبط الموضوع أيضا بأفعال الشعور الداخلية مثل الإيمان والكفر، والتوفيق والهداية والخذلان والضلال.
2
وقد يعود الموضوع إلى الحسن والقبح العقليين والعقل الغائي والصلة بين العقليات والسمعيات والفرق بين الوجوب والإمكان؛ أي إلى أصل العدل في العقليات؛ فقانون الاستحقاق الذي ينبني عليه مستقبل الإنسانية نتيجة للحسن والقبح العقليين وتوليد الأفعال لنتائجها توليدا طبيعيا؛ فإذا كانت الأفعال حسنة أو قبيحة في ذاتها، فإن إثابة المطيع وعقاب العاصي شيء حسن في ذاته، كما أن عقاب المطيع وإثابة العاصي شيء قبيح في ذاته. والموضوع مرتبط بالغائية والغرض؛ لأن نفي الاستحقاق يقوم على نفي الغاية والغرض، في حين أن إثبات الاستحقاق يقوم على إثبات الغاية والغرض. وهو مرتبط أيضا بمسألة السمع والعقل؛ فكثيرا ما توضع مسائل الثواب والعقاب مع السمعيات، وإذا ما ألحق قانون الاستحقاق بالسمعيات لم يعد قائما على العقل؛ وبالتالي ينتفي القانون ذاته. وقد يرتبط الموضوع بالوجوب والجواز؛ تدخل أمور المعاد ضمن الواجبات؛ فالله لا يجوز عليه الكذب، والخلف كذب، وهو الكذب النظري؛ أي الإخبار بشيء غير واقع، وهو الكذب العملي أيضا؛ أي الإخبار بشيء على أنه سيفعله في المستقبل ثم لا يفعله، سواء كان هذا الواجب شرعيا أم عقليا. وعند المتأخرين يدخل في الجواز؛ إذ يجوز على الله الترك والفعل، ويجوز عليه عقاب المطيع وثواب العاصي؛ فالاستحقاق يدخل في الجواز لا في الواجبات، مثل ثواب المطيع وعقاب العاصي، ولا في المستحيلات، مثل عقاب المطيع وثواب العاصي.
3
وقد يرتبط موضوع المعاد بصفة الكلام في التوحيد؛ أي في الأصل الأول من العقليات؛ فالمعاد خبر، والخبر قول أو خطاب، وكلاهما كلام. ويتأرجح الحديث في الكلام بين الكلام كصنعة أزلية، أو الكلام للخطاب مثل الأمر والنهي والخبر والاستخبار. الأول موضوع ديني عقائدي في التوحيد، والثاني موضوع علمي لغوي في النبوة كرسالة.
4
وقد يبدو الموضوع كأصل مستقل هو «الوعد والوعيد»، أحد الأصول الخمسة بعد التوحيد والعدل؛ فإذا كان الأصل الأول للتوحيد قد ضم موضوعي الذات والصفات، وكان الأصل الثاني العدل قد احتوى على موضوعي خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين، يكون الأصل الثالث وهو الوعد والوعيد يشير إلى أمور المعاد؛ نظرا لأنهما يتعلقان بأحكام الأفعال من حيث نتائجها في التاريخ واستمرارها فيه بعد الموت؛ لذلك ارتبط موضوع الوعد والوعيد كأصل من الأصول الخمسة بالمعتزلة،
5
في حين ارتبط موضوع المعاد بالأشاعرة. ويتداخل مع أصل العدل سواء في خلق الأفعال أو في الصلاح والأصلح؛ فالإرادة المطلقة لا تمنع من اختراق الحرية الإنسانية لها. وإذا كان الوعد والوعيد نتيجة للتكليف، فإن التكليف قائم على العقل وحرية الاختيار. وقد تسمى «علوم» الوعد والوعيد لأنها تشمل عدة موضوعات تتناول الأصلين العقليين؛ التوحيد والعدل، وباقي الموضوعات السمعية كالنبوة والأسماء والأحكام. وقد يتركز الوعد والوعيد على أحد موضوعاته، مثل الاستحقاق لو أنه في العقائد المتأخرة يرتكز على السمعيات؛ أي على تشخيص الاستحقاق بعد نفيه كمبدأ عقلي.
6
ويقوم تحديد الوعد والوعيد على النفع والضرر، وهما مقياسان للتشريع بالإضافة إلى مفهوم المستقبل كمكان للحدوث؛ فهما لا يعنيان الثواب والعقاب في الحال، بل في المآل، وليسا مجرد مكافأة أو عقاب، بل استمرار لمقياس النفع والضرر في الشريعة. فأفعال الاستحقاق هي أفعال وردود أفعال؛ أفعال مباشرة وأفعال متولدة، مقدمات ونتائج، علل ومعلولات. فإذا كانت أفعال الدنيا هي الأفعال المباشرة، فإن الوعد والوعيد يمثلان الأفعال المتولدة أو ردود الأفعال أو نتائج الأفعال أو معلولات الأفعال الأولى باعتبارها عللا لها. لا يوجد فعل إلا وله رد فعل، ليس فقط في الحال، وهو موضوع الشريعة أو علم أصول الفقه، بل أيضا في المآل، وهو موضوع العقيدة؛ أي علم أصول الدين.
7
ويشتمل موضوع المعاد على قسمين رئيسيين: الأول كل ما يتعلق بقانون الاستحقاق نفيا أو إثباتا، وهل يجوز فيه الخصوص أو الاستثناء أو الشفاعة أو الولاية والعداوة أو الموافاة البشارة وشروط التوبة. والثاني تطبيق هذا المبدأ في الحياة بعد الموت؛ وبالتالي كل ما يتعلق بالمعاد الجسماني أو الروحاني وحياة القبر وعلامات الساعة، واليوم الآخر وما فيه من حساب وميزان وصحف وكتبة وإنطاق للجوارح وصراط وحوض، وجنة ونار، إلخ. فالقسم الأول هو قانون الاستحقاق الذي طبقا له سيتم الحساب، الجزء الثاني عملية الحساب ذاتها. الأول هو القانون، والثاني هو الاتهام والمرافعة والحكم والتنفيذ. ولا يأتي الثاني قبل الأول؛ لأن العلم بالقانون شرط المساءلة.
8 (2) أفعال الاستحقاق
وأفعال الاستحقاق هي أفعال الشعور الخارجية الحرة العاقلة، وليست أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الاضطرار التي لا تتوافر فيها الحرية أو العقل كأفعال الصبية والمجانين وأفعال النائم والساهي. وقد كانت حرية الإرادة وكمال العقل من مكتسبات العدل الذي تولد من التوحيد، وكان استقلال الوعي الإنساني الفردي من مكتسبات النبوة؛ أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال كل فرد حر وعاقل ومسئول. القادر على النظر والعمل هو الإنسان الواعي الحر العاقل، وليس الطفل أو الصبي أو المجنون أو الذي ينتسب إلى آبائه أو قومه أو عشيرته؛ فيكون مثلهم إيمانا أو كفرا، طفلا أو بالغا. كل نفس بما كسبت رهينة، وكل إنسان قد ألزم طائره في عنقه، ولا تزر وازرة وزر أخرى. أفعال الأطفال والصبية ليست أفعال استحقاق؛ وبالتالي لا يستحقون العقاب في النار أو في غيرها. فليس أطفال المشركين في النار مثل آبائهم؛ لأنهم لم يبلغوا بعد مرحلة البلوغ وسن التكليف. وكيف يتحول الطفل من الكفر إلى الإيمان حتى يصح له الثواب، أو من الإيمان إلى الكفر حتى يستحق العقاب؟ وهل يتحمل الطفل جريرة أبيه ؟ وما ذنب طفل كفر أبوه فيدخل النار مثله، في مقابل طفل آخر آمن أبوه فيدخل الجنة مثله؟ إذا كان الأبوان مسئولين عن إيمانهما وكفرهما، فأين تقع مسئولية الطفلين؟ وأين تكافؤ الفرص بالنسبة لهما؟ وماذا لو شب الطفل وبلغ وأدرك وأنكر دين آبائه وارتد عنه وآمن بعد كفر ولكنه اخترم قبل أن يبلغ أشده؟ وماذا لو شب الطفل من أب مؤمن ثم كفر بعد البلوغ وكمال العقل ولكنه اخترم وهو صغير؟ هنا يظهر ارتباط إيمان الأطفال بالصلاح والأصلح من جديد؛ مما يدل على استحالة تأسيس السمعيات دون العقليات. وكيف يظل أطفال المؤمنين مؤمنين أطفالا بالغين حتى يكفروا، ويظل أطفال الكفار كفارا أطفالا وبالغين حتى يؤمنوا، وليس لديهم الوعي الحر العاقل المسئول الذي به يمكنهم أن يتحولوا من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان؟ فإذا ما تحول أطفال المؤمنين بعد البلوغ وكمال العقل والإدراك من الإيمان إلى الكفر، وإذا ما تحول أطفال الكافرين بعد البلوغ وكمال الإدراك والعقل من الكفر إلى الإيمان، فإن هذا التحدي الأخير هو فعل الاستحقاق؛ لأنه الفعل الحر العاقل وليس الفعل السابق. وإن ممارسة الأطفال الشرائع مثل أبويهم قبل مرحلة البلوغ وكمال العقل إنما تتم تقليدا وتبعية، وإيمان المقلد لا يجوز، والتقليد ليس طريقا إلى المعرفة كما وضح ذلك في نظرية العلم. وكما يدان الكافر المقلد
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، كذلك لا يؤخذ بإيمان المؤمن المقلد؛ فالنظر أول الواجبات كما وضح ذلك أيضا في نظرية العلم. وماذا لو تحول الأبوان وهما عاقلان بالغان من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر؛ هل يتحول أطفالهما معهما من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر، وهم لا يعرفون ما الإيمان وما الكفر؟ ألا يكون ذلك أخذ فرد بجريرة آخر، وتحميل غير العاقل البالغ مسئولية العاقل البالغ؟
9
وإذا كان من الطبيعي أن يدعى الأطفال إلى الإسلام بعد البلوغ وكمال العقل، فمن غير المعقول أن يصدر حكم عليهم بالبراءة منهم قبل البلوغ وهم غير مدركين وغير عاقلين وغير بالغين. والأقرب إلى العقل الحكم ببراءتهم وليس بالبراءة منهم، الحكم بموالاتهم وليس بعداوتهم، وإلا ففيم كان الحكم الشرعي في حالة الحرب بتحريم قتل الأطفال والنساء؟ فالأطفال لم يبلغوا بعد ولم يصلوا إلى كمال العقل، والنساء يطعن أزواجهن في الغالب إيمانا وكفرا. ولا يكفي البلوغ وحده، بل لا بد من كمال العقل؛ فالبلوغ العضوي قد لا يصاحبه كمال العقل، وقد يأتي كمال العقل قبل البلوغ العضوي.
10
وكيف يحكم على الأطفال بأنهم مؤمنون أطفالا وبالغين طبقا لإيمان آبائهم، أو بأنهم كافرون أطفالا وبالغين طبقا لكفر آبائهم، وتتم التسوية بين الطفولة والبلوغ، بين اللاعقل والعقل؟ وما دور البلوغ والعقل إذا صدر حكم بعدهما؟ وبناء عليهما فكيف يصدر حكم مخالف قبلهما وطبقا لأي مقياس سوى التقليد؟
11
إن وعي الإنسان لا يحدث بالتقليد أو بالوراثة، بل بالإدراك والتمثل والاختيار العاقل. ويزداد الأمر خطورة في الفقه المترتب على الحكم على الأطفال بالإيمان والكفر فيما يتعلق بالدية والميراث؛ فقتل الطفل الكافر لا دية له ولا يرث ولا يورث؛ وبالتالي تستباح دماء الأطفال وأموالهم وممتلكاتهم أخذا بجريرة الآباء. والحقيقة أن الوصول في الحكم على الأطفال إلى حد استباحة دمائهم وأموالهم إنما يرجع في حقيقة الأمر إلى أطفال المخالفين الذين استباحوا دماء أطفال مخالفيهم؛ واحدة بواحدة، وطفلا بطفل. إن قتل غير البالغ العاقل جريمة يحرمها الشرع؛ لأن أفعاله خارجة عن الاستحقاق.
12
والحقيقة أن الاعتماد على الحجج النقلية لا يبرر الحكم بأخذ الأطفال بجريرة الآباء؛ فالحجة النقلية لا تعطي الظن لخضوعها للتأويل ولقواعد التفسير ولمنطق اللغة من محكم ومتشابه، ومجمل ومبين، وخاص وعام، وظاهر ومؤول، وحقيقة ومجاز، ولشتى صيغ الخطاب؛ فالخبر غير الأمر أو النهي، والقصص غير التشريع. إن الحكم بالإيمان والكفر لا يكون إلا على العقلاء البالغين، والأطفال ليسوا كذلك؛ فلا سبيل إذن إلى التفرقة بين أطفال المؤمنين وأطفال المشركين في الدنيا أو في الآخرة، ولا ضير أن يرث الأطفال فيما بينهم في الدنيا أو أن يوجدوا معا في الآخرة، لا فرق بين مؤمن وكافر؛ لأنهما حكمان لا ينطبقان عليهم. وإن كثيرا من هذه الحجج النقلية معارضة بأخرى تؤكد المسئولية الفردية، مثل:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ، وغيرها من الآيات المماثلة.
13
ونظرا لصعوبة الحكم بعذاب الأطفال وبأخذهم بجريرة آبائهم، فقد يترك الأمر اختيارا لله، إن شاء عذب وإن شاء غفر، لا عن طريق الاستحقاق ولا عن طريق الانتقام، بل لأنه صاحب المشيئة والإرادة. وهذا تخل عن قانون الاستحقاق وعن أصل العدل وإرجاع المسألة إلى التوحيد، إلى صفة الإرادة. وإذا ما كان أطفال المؤمنين في الجنة، فليس لأن آبائهم مؤمنون، بل لأنهم أطفال لم يبلغوا ولم يصلوا بعد إلى الأمر والتكليف.
14
وكيف يؤجج الله نارا فيأمر الأطفال باقتحامها، فإن فعلوا استحقوا الجنة وإن لم يفعلوا استحقوا النار؟ وكيف يدخل الأطفال النار ثم يخرجون منها إلى الجنة؟ هل هو عقاب أم ثواب؟ ولماذا يعاقب من لا يقحم نفسه في النار ويلقي بنفسه إلى التهلكة وهو غير مكلف؟ وعلى أي أساس تتم التفرقة بين الأطفال؛ بين من يرمي نفسه في النار ومن يحجم عنها؟ وأين الخوف الطبيعي؟ وأي طفل سيلقي نفسه في النار؟ وهل للطفل إرادة عاقلة واختيار حر يختار بهما بين الإقدام والإحجام؟ وهل يمتحن الله الأطفال بعد الاخترام وقبل التكليف وبعد انقضاء الزمان؟ إن ذلك الامتحان لا يحدث للبالغين ولا للذين لم تبلغهم دعوة الإسلام؛ فامتحان البالغ المكلف في الدنيا وليس في الآخرة، والذي لم تبلغه دعوة الإسلام غير مكلف، وأفعاله خارج الاستحقاق بالرغم من إمكانية العاقل الوصول إلى أصلي التوحيد والعدل.
15
وقد يغالي البعض الآخر في قدرات الطفل على المعرفة والتمييز، ويجعله قادرا على إعمال عقله وعلى الوصول إلى أصلي التوحيد والعقل، فإن استطاع نال الثواب وإن عجز نال العقاب!
16
وكرد فعل على تكفير الأطفال وعقابهم على كفرهم بناء على كفر آبائهم، قد يجعل البعض إيمان الأطفال وراثيا من عهد الذر الأول! فيولد الأطفال مؤمنين، سواء ولدوا من مؤمنين أو كفار منذ قولهم «بلى» الأولى، ومن مات منهم قبل البلوغ دخل الجنة، وفي هذه الحالة أيضا تنتفي المسئولية الفردية؛ لأن الإيمان وراثة حدث قبل سن البلوغ وكمال العقل. وماذا يحدث لو بلغ الطفل وكفر وأبواه مؤمنان، أو إذا آمن وأبواه كافران؟ كيف يتحول البالغ العاقل من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر وقد كان الإيمان ضرورة أولى وواقعة كونية لا يمكن التحول عنه بفعل إرادي حر؟
17
وقد يحاول البعض التخلص من المأزق كلية بتحريم دخول الأطفال مؤمنين أو مشركين الجنة أو النار، بل يصيرون ترابا؛ لأنهم أقرب إلى الكائنات الطبيعية غير المكلفة، وهو أقرب إلى العقل، إلا أنه ينكر قيمة الحياة التي تظهر في براءة الطفل وضحكته وحب الناس له وتضحية الوالدين في سبيله.
18
والأقرب إلى العقل في هذا كله أن الأطفال ما داموا غير مكلفين، فإنهم لا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ولما كان العقاب أقسى وأخطر، فالعقاب خطأ أشد من الثواب خطأ؛ فإن الأطفال لا يكونون في النار حتى يبلغوا ويصلوا إلى كمال العقل والقدرة على التمييز، وتصبح أفعالهم أفعال استحقاق. ليس المهم في أي مكان يذهبون في الآخرة، ولكن المهم هو أنهم ليسوا في النار. وإذا تساوى الثواب والعقاب فالله إلى الثواب أقرب، وإن تساوى الاستحقاق بين الجنة والنار فالإنسان إلى الجنة أقرب. لا يستحق الطفل موالاة أو عداوة قبل البلوغ وكمال العقل، ولكن نظرا لأنه طبيعة فإنه يكون قبل البلوغ إلى الموالاة أقرب.
19
لذلك كان الأقرب إلى العقل والطبيعة أن يكون الأطفال في الجنة، لا ثوابا ولا تفضلا، بل لأن ذلك أقرب إلى الخير، والطبيعة خيرة والعقل فياض معطاء، ولا فرق في ذلك بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين؛ فكلاهما لم يبلغا ولم يحدث لهما كمال العقل وهو شرط التكليف، خاصة إذا كانت المعارف كسبية نظرية استدلالية، والنظر ليس مشروطا بالبلوغ؛ النظر بلوغ عقلي في حين أن البلوغ كمال جسدي. وأهم ما يصل إليه النظر هو العقليات؛ أي أصلا التوحيد والعدل، إثبات الذات والصفات، وإثبات الحرية والعقل، ولا يهم بعد ذلك تفريعاتها ودقيقاتها. وقد يكون النظر بخاطر وقد لا يكون، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى.
20
وقد يضاف أصل الوعد والوعيد، والحقيقة أنه من السمعيات وليس من العقليات، مثل النبوة والإيمان والإمامة عند القدماء. وهذا لا يمنع من تصور الأفعال حسنة في ذاتها أو قبيحة في ذاتها، أو أن لكل فعل نتيجة واستمرارا، وأن نتائج الأفعال من جنسها، وتلخيص ذلك كله في قانون الاستحقاق أو في الواجب العقلي؛ فلا يحسن الفعل لأجل الثواب ولا يقبح العقاب، بل لأجل الوجوب العقلي. وإن كانت الموضوعات سمعية فالنظر فيها ضروري في الحالة الثانية أو في الحالة الثالثة بمجرد سماعها في الحالة الأولى،
21
ولكن يظل أصل المعارف معرفة النفس؛ أي معرفة الذات ثم معرفة أصلي التوحيد والعدل. ولا تعارض بين كون الأطفال في الجنة، لا فرق بين مؤمنين وكافرين، وبين استحقاقهم للثواب والعقاب طبقا للإيمان والكفر بعد تمام العقل؛ فالعقل شرط التكليف. فإذا كان عاقلا ولم يصل إلى التوحيد والعدل؛ أي إلى أصلي العقليات، استحق العقاب، بل ودوام العقاب؛ فكمال الإنسان في تمام العقل، وليس بالضرورة في وقت البلوغ؛ فقد يكون العقل تاما قبل البلوغ، وقد يقع البلوغ ولا يحصل تمام العقل.
22
بل إن الكمال العقلي شرط البلوغ الجسدي في الشرع، ولا تقبل صلاة المجنون أو الساهي أو النائم حتى ولو بلغ الحلم، ولا تختلف الفرق في كون العقل شرط التكليف، أو في القول بالمعارف العقلية وبأصلي التوحيد والعدل، إنما الخلاف فقط في كون هذه الأصول عقلية أم شرعية؛ لذلك يبطل عذاب الأطفال أخذا بجريرة الآباء بطلانا شرعيا؛ لمعارضته نصوص الوحي الجلية، وعلى هذا إجماع الأمة؛ فالإنسان مؤاخذ بعد الفعل وليس قبل الفعل، وإذا كان مؤاخذا بعد الفعل، فكيف يكون مؤاخذا قبله والفعل لم يتم بعد؟ وإذا كان الإنسان يولد على الفطرة، وكانت الفطرة دين العقل والطبيعة وهو دين الحنفاء، فإن الصبي والمجنون كليهما يموتان عليه؛ وبالتالي يموتان مؤمنين، ويكون مكانهما الجنة، ولا ينطبق ذلك إلا على البشر، دون غيرهم من الموجودات الحية الأخرى؛ الملائكة أو الجن أو الشياطين. فالملائكة لا يتوالدون ولا أطفال لهم، والجن والشياطين إن كانوا يتوالدون فإنهم غير مكلفين مثلنا برسلنا ووحينا وشريعتنا، ولا ينفي ذلك كون الجنة دار جزاء على الأعمال؛ لأنها أيضا دار تفضل لما كان الخير أقرب إلى العقل والطبيعة، ولا يهم ماذا يفعل الأطفال في الجنة؛ هل خدامها أم سادتها؟ بل دلالة ذلك على العدل وتطبيق لأصله طبقا لقانون الاستحقاق.
23
وينتج عن ذلك فقه عملي في الدنيا؛ إذ يدفن المؤمنون من أطفال المشركين في مقابر المسلمين، ويحال بينهم وبين أبويهم، ومع ذلك يجعل لهم من أموالهم. ولو بلغوا وكانوا على دين آبائهم لم يكونوا مرتدين. ولو كانوا من آباء مسلمين ثم ارتدوا بعدما بلغوا فلم يكونوا مرتدين لبقائهم على الأصل. ولو أسلم أحد أبويهم كانوا على دينه؛ فدين الطفولة إلى إسلام البالغين أقرب.
24
وكما تتطلب أفعال الاستحقاق البلوغ وكمال العقل، فإنها أيضا تتطلب القصد والنية. والطاعة التي لا يراد الله بها ليست فعل استحقاق؛ فالأعمال بالنيات، والعمل غير المشروط بالنية لا يكون استحقاقا، فإن أتى صاحب الهوى والزنديق بأفعال حسنة دون قصد منه وهو في كفره، فهي لا تعتبر كذلك؛ لأن النية هي شرط استحقاق الفعل. وإذا ما أتى صاحب الهوى أو الزنديق بفعل حسن لأنه حسن في ذاته فتلك نية وقصد، وتكون فعل استحقاق بالرغم من الكفر النظري، وذلك مثل أفعال أهل الكتاب الحسنة التي يؤجرون عليها ويستحقون عليها الثواب، بالرغم من اضطرابهم في أصلي التوحيد والعدل، وقولهم بالتثليث والتجسد في التوحيد، وبالخطيئة والخلاص في العدل. وإن كفر المجوسي لإيمان المجوسي بمجوسيته لا يعني طاعته لله لكفره بسائر الديانات الأخرى، فتلك الطاعة بالمصادفة والتبعية وليست بالقصد والنية. ولا حتى النظر والاستدلال الأول يكون طاعة لله إن لم يكن الهدف منه معرفته والقصد إليه. النظر والتوجه إلى الموضوع من شروط صحة النظر، وإن إعلاء قيمة النظر لا يكون بالتعرف على موضوعه بالمصادفة، بل بالقصد إليه وجعله أول الواجبات.
25
كما لا تدخل في أفعال الاستحقاق أفعال الخطأ والسهو؛ لأنه ينتفي منها القصد والنية، في حين أن الإصرار على أي ذنب كفر. فعل الاستحقاق إذن هو الفعل القائم على الإرادة والقصد مع سبق الإصرار وعقد العزم.
26
ولا تلزم أفعال الاستحقاق إلا من بلغته الدعوة، ومن لم تبلغه الدعوة فإنه معذور غير مسئول؛ لذلك كان أحد واجبات الرسول التبليغ، وكان اسمه مشتقا من الرسالة؛ أي حامل البلاغ والإعلان. فكل من بلغته الرسالة أصبحت أفعاله أفعال استحقاق في أي ركن من الأرض كان وأصبح مكلفا، ومن لم تبلغه الدعوة كان معذورا بجهله وغياب معرفته، وإذا كانت أفعال الأطفال خارج الاستحقاق فإن بلوغهم الدعوة وعدم فهمها يعادل عدم بلوغها، بالرغم من القدرة على فهمها.
27
أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال البالغين كاملي العقول، أفعال القصد والنية بعد التبليغ، وليست أفعال الصبية والمجانين وأفعال السهو والخطأ والنسيان أو من لم تبلغه الدعوة، هذه الأفعال وحدها هي التي ينطبق عليها قانون الاستحقاق. الأفعال القابلة للحكم هي الأفعال المؤثرة المقصودة، القائمة على التدبر والروية، وتتوافر فيها النية الحسنة أو السيئة. وصاحب الفعل هو المكلف الحر العاقل البالغ. وهي الأفعال المستحقة المدح والذم وما يتبعهما من الثواب والعقاب؛ فالفعل قد يقبل المدح فقط دون أن يترتب عليه ثواب، وقد يقبل الذم فقط دون أن يترتب عليه عقاب؛ فالاستحقاق إذن على درجتين؛ الأولى استحقاق عند الناس وهو المدح والذم، والثاني استحقاق عند الله وهو الثواب والعقاب.
28
والاستحقاق يكون على الفعل وعلى الترك؛ فالترك فعل سلبي لأن عدم الفعل فعل، والإمساك عن الفعل إتيان لفعل، وإن منع الفعل عن التحقق هو تحويل له من الخارج إلى الداخل، ومن الواقع إلى الإمكان؛ فعدم الفعل ليس فعلا عدما، بل هو فعل شعور داخلي أو فعل إرادة تحيط بالشعور وتمنعه من التخارج. فالثواب والعقاب على الفعل وعلى عدم الفعل لأنهما فعلان مختلفان؛ أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ فالمندوب فعل والمكروه عدم فعل، والأول له ثواب، ثواب الفعل؛ والثاني له أيضا ثواب مثل الأول، ثواب عدم الفعل. فإذا كان الفعل حركة فإن عدم الفعل معنى؛ أي امتناع الإرادة عن التحقق. فالإنسان غير الجماد في حالة عدم الفعل؛ لأن عدم الفعل عند الإنسان فعل إرادي، في حين أنه في الجماد سكون طبيعي. ولا يتشابه عدم الأفعال؛ فعدم الإيمان ليس مثل عدم الكفر؛ الأول قبيح والثاني حسن. فإن تشابها في الفعل الإرادي فإنهما متمايزان في الصفة؛ فصفات الحسن والقبح موضوعية في الأفعال.
29
ثانيا: قانون الاستحقاق
ويعني قانون الاستحقاق ثواب المطيع وعقاب المسيء، أو أن الجزاء من جنس الأعمال. وهو قانون يشمل العقليات والسمعيات معا؛ فالله لا يكذب ومن صفاته العلم لا الجهل؛ فالقانون تعبير عن الذات والصفات؛ أي عن أصل التوحيد. كما أن الله عادل لا يظلم؛ وبالتالي يكون القانون أيضا تعبيرا عن العدل ومن مقتضيات العقول استنادا إلى الحسن والقبح العقليين. كما يشمل السمعيات؛ فهو جزء من رسالة الأنبياء، وعليه سيتم الجزاء في المعاد. كما أنه يقوم على ربط الإيمان بالأعمال، سواء في الفرد أو في الحاكم؛ وبالتالي فإنه يشمل أيضا موضوع الأسماء والأحكام وموضوع الإمامة آخر موضوعين في السمعيات. (1) هل يمكن نفي الاستحقاق؟
إن نفي قانون الاستحقاق هو في واقع الأمر نفي للارتباط الضروري بين الفعل ونتائجه، بين العلة والمعلول، وهو ما ينافي الأمور العامة في نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى.
1
فكل فعل يؤدي إلى نتيجة، كما أن كل علة تؤدي إلى معلولها. وتكون نتائج الأفعال المقصودة من نوع الأفعال ذاتها، كما تكون المعلولات من جنس عللها. الثواب إذن نتيجة طبيعية للطاعة، والعقاب نتيجة طبيعية للمعصية، كما أن الاحتراق نتيجة طبيعية للنار، والتجمد نتيجة طبيعية للبرودة، لا فرق في ذلك بين قانون العقل وقانون الطبيعة. قانون الاستحقاق إذن قانون عقلي، وهو في نفس الوقت قانون طبيعي، ولا يمكن قلب القانون أو عكسه أو خرقه أو إيقافه أو إبطاله، طالما أن هناك عقلا وطبيعة. ولا يعني ذلك حتمية في السلوك الإنساني؛ فحرية الاختيار وخلق الأفعال أحد مكتسبات العدل وهو من العقليات، ولا يمكن هدم العقليات بالسمعيات، بل تتأسس السمعيات بالعقليات.
2
هدم قانون الاستحقاق إذن هو تدمير للطبيعة وقضاء على السلوك الإنساني وإيقاع الاضطراب والعشوائية فيه، وتأسيس الحياة الإنسانية على عدم الثقة والضياع ونقص التوجيه وغياب التطلع إلى المستقبل. فكيف يعاقب المطيع ويثاب العاصي؟ وكيف يوثق بالعقل وبالقانون إذا ما تم تدميره في المستقبل؟ كيف يوثق بأي شيء؟ كيف يقضى على كل ضمان وينزع كل اطمئنان؟ ليس المهم هو الإثابة أو العقاب، بل أثر ذلك على الحاضر، وضياع ثقة المطيع بطاعته فيعصي، واعتزاز المسيء بإساءته فيستمر فيها. وما دام الحال في النهاية سواء بين المطيع والمسيء، وما دام الأمر سيقلب فينال المثيب عقابه والمسيء ثوابه، ففيم الاستمرار في الطاعة أو ترك العصيان؟ أليس ذلك استخفافا بالعقل وهدما للحكمة الإلهية وقضاء على الشرائع؟ كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم لا يحكمه قانون؟ كيف يعيش الإنسان حياته وهو لا يضمن نتائج أعماله؟
3
كيف يترك مصير الإنسان لمطلق المشيئة والإرادة؟ كيف تترك الأفعال أمام احتمال تطبيق قوانين متعارضة ومتناقضة، لو طبق أحدها كان ظلما ولو طبق الآخر كان عدلا؟ صحيح أن الله حر الإرادة، ولكن الإنسان أيضا قد فعل واجتهد ويريد أن يعرف مصيره طبقا لعالم يحكمه قانون ثابت وعدل. وإذا كان ذلك معروفا في الدنيا فيما يتعلق بالديات والكفارات، فالأولى أن يكون معروفا في الآخرة حيث لا خطأ هناك ولا جور. وهل علاقة الله بالإنسان علاقة المالك بالعبد؟ ألا توجد خطورة في أن تتحول هذه العلاقة من المستوى الديني إلى المستوى السياسي والاجتماعي، ويتحول كل مالك أو حاكم إلى إله وكل إنسان إلى عبد مملوك يتصرف فيه المالك أو الحاكم كما يشاء؟ أليس التصور، تصور السيد والعبد، تصورا إقطاعيا خالصا، يفعل السيد مع العبد ما يشاء وليس للعبد أي حق، حتى حق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية؟ وأين حق الثورة؛ ثورة العبيد على الأسياد أو على الأقل حق حرية العبيد وحق المساواة بين الناس؟ وكيف تكون العلاقة بين القوي والضعيف مجرد إرادة القوي دون حقوق الضعيف؟
4
وكيف يكون الثواب فضلا وليس استحقاقا، في حين يكون العقاب عدلا واستحقاقا ؟ ولماذا يتم التفضل على الإنسان إذا ما أعطي حقه أداء لواجبه، في حين يعطى إليه استحقاقه من العقاب إذا ما تهاون فيه؟ وهل من شيمة الإله التصدق بالثواب وفرض العقاب؟ ولماذا يجوز الابتداء بالثواب دون الاستحقاق، في حين يكون الاستحقاق للعقاب فقط؟ بهذا التصور يكون الله أقرب إلى الانتقام منه إلى العفو، وأكثر رغبة في العقاب منه في الثواب، وكأن الله يتضجر بالطاعة فيعطي الثواب تفضلا، ولكنه يتنعم بالمعصية فيعطي العقاب استحقاقا وتشفيا! لماذا يكون الثواب فضلا والعقاب عدلا؟ هذا تصور سوداوي وقاس لله. فلماذا لا يكون كلاهما عدلا واستحقاقا؟ لماذا يقتر الله في الثواب ويكون كريما في العقاب؟ أو لماذا يكون الثواب طبقا للكرم والجود والإرادة، والعقاب طبقا لقانون الاستحقاق؟ إن الأقرب إلى الألوهية هو العكس؛ أن يكون الثواب عن استحقاق، أما العقاب فيتنازل الله عنه بالعفو. والعجيب أن يعرف الأشاعرة بأنهم أهل الرحمة لا أهل العدل، في حين أنهم أخذوا العدل فيما وجبت فيه الرحمة، وجعلوا الرحمة فيما وجب فيه العدل. ولو أدخلنا الجنة من غير عمل لا نكون مستحقين لها. والذي لا عمل له ولكن له كرامة لا يقبل ثوابا تفضلا على شيء لم يفعله، كما يأخذ الجائزة الأولى في سباق وهو آخر الفائزين! إن الثواب لا يكون تفضلا أو إنعاما أو إحسانا، بل يكون استحقاقا، وإلا أصبح الإنسان عبيد إحسانات الآخرين، ولأصبح الناس عبيد إحسانات الحاكم «وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»! إن نتائج أفعال الإنسان لا تأتي من أعلى هبة ومنة، بل تأتي من أسفل كسبا واستحقاقا، وإن حقوق الشعوب لا تكون منة وهبة من الحكام، بل تكون استخلاصا لها منهم عنوة وقسرا بعد نضال لأجله يطول لعدة أجيال وفي أعمار لعدة حضارات. هناك ارتباط ضروري بين الطاعة والثواب لا يمكن فصله، وإلا لما كانت هناك طاعة، ولما وجد الثواب طريقا إلى شيء يكون جزاء له. ليس العقاب انتقاما من الله، بل مجرد نتيجة للفعل تحدث في الدنيا، سواء قبل الموت أو بعده، لما كانت الحياة مستمرة. وما الموت إلا نقطة بداية جديدة، وانتقال من فعل الفرد إلى فعل الجماعة من خلال السنة والقدوة، والأثر والفكر. ومع أن العقوبة إيلام إلا أنها زجر في الحاضر ورعاية مصلحة في المستقبل، مع أنها إيلام للجاني إلا أنها تخفيف عن آلام أخرى؛ إرشاد وإصلاح. فالعقاب من أجل العقاب إيلام وتشف وغيظ. إنه ليصعب الخروج على تصور العدل، بأن يعاقب الله بغير ذنب؛ فالواقعة لا تخرج من المبدأ ولا تعتمد عليه. ولما كانت الواقعة لم تحدث بعد يظل المبدأ قائما معلنا عنه في الخطاب. إن الفضل والعدل مبدآن متعارضان؛ الفضل كرم، والعدل استحقاق.
5
وكيف لا يكون العمل علة الاستحقاق؟ وما البديل؟ الكرم والجود؟ النسب والحسب؟ الإيمان الذي لا يتحقق في عمل؟ لا يوجد مقياس آخر للاستحقاق أكثر عدلا من العمل. وإن كل الحجج التي تقال لنفي العمل كمقياس للاستحقاق إنما تصور قدرة الله فوق عدله، وإرادته فوق حكمته؛ فكيف تكون قدرة الله على الترك مقياسا للعظمة والقدرة؟ كيف تغلب الإرادة والقدرة على العدل؟ كيف يقضي التوحيد على العدل، والعدل أحد مكتسباته؟ وإذا كانت الطاعة شكرا على النعم، فإن الشكر فعل يستلزم الثواب. وليس الشكر بالفم وحده، بل يكون بالفعل والطاعة والتمتع بالنعم دون الإضرار بالنفس، ويكون الجحود فعلا يستوجب العقاب؛ فشكر الله على النعم إذن لا ينفي العمل كأساس للاستحقاق بل يؤكده؛ لأنه فعل يستحق الثواب كما أن الجحود فعل يستحق العقاب. ولا يكون شكر الله مكافأة على النعم؛ إذ لا يمكن مكافأة الله؛ فالله لا ينتظر مكافأة من أحد، وهي مكافأة ضئيلة بالنسبة لعظم النعم، كما أن حياة الإنسان ووجوده ليسا هبة من أحد عليه. إن الإنسان لا يعمل من أجل النعم السابقة واستبقاء لها؛ فمهما عمل الإنسان فإنه لن يوفي نعمة الحياة والوعي والعقل والإبداع حقها. وهذان مستويان مختلفان بين المتناهي في الكبر وهو النعم، والمتناهي في الصغر وهو شكر الإنسان. ونعم الحياة ليست معطاة بل موجودة، ليست في مقولة الملكية بل في مقولة الوجود؛ فهي أضخم بكثير من أن يمتلكها إنسان أو يهبها أحد. ويخشى من التصور التجاري المحض: ما دام الإنسان قد استلم البضاعة فعليه دفع الثمن، حتى ولو كان ثمنا بخسا لا يتفق مع عظمة المشتريات. وهل الله في حاجة إلى شكر النعم؟ وهل أفعال الإنسان شكر على النعم أم أداء للرسالة وتحقيق للأمانة؟ إن فعل الإنسان لا يكون فرضا على الله، بل هو احترام الله لفعل الإنسان واكتساب الإنسان لفعله من الله، وهو أحد مكتسبات العدل من التوحيد. الإنسان حبيب الله ومعشوقه، وخليله وصفيه، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وخلق الكون له، وجعله سيدا له، وتكريمه إياه في البر والبحر، وتسخير المخلوقات لأجله.
6
إن وضع الإنسان في الحياة في حالة الثقة بالنفس وضع من ذاته وليس كرما أو جودا من أحد، نتائج عمله تأدية لواجباته ولا شكر على واجب. إن قانون الاستحقاق لا يجوز إلا بين متكافئين، أما نعم الله والثواب عليها فغير متكافئين؛ هذا شكر المنعم وليس الاستحقاق. لا يعني الاستحقاق أن الثواب والعقاب يعودان على الله بنفع أو ضرر، ولكن تزداد ثقة الإنسان بفعله وبنتائجه وبقوانين الطبيعة وسنن الكون، فالله غني عن العالمين، وإنما أتى الوحي لمصلحة الإنسان.
7
إن التكليف لا يتطلب بالضرورة القضاء على صفات الأفعال الذاتية وموضوعية القيم، بل قد يكون التكليف تأكيدا وإثباتا لها؛ مما يدل على ارتباط الأصول بعضها ببعض. ولا تقضي موضوعية القيم على الحرية، بل على العكس هي شرط لها؛ فموضوعية القيم تعطي الحرية ثباتا عمليا واستقلالا نظريا، وتجعلها مباشرة في مواجهة موضوعها. ولماذا يضيع جهد الإنسان ومشقته وتعبه بلا جزاء؟ ولماذا تقع النتائج ابتداء دون مقدمات، كرما دون استحقاق، هبة ومنة لا كسبا وتحصيلا؟ والعجيب أن يتجه إلى ذلك أنصار الكسب، وإثبات الكسب هنا أولى من أجل الاستحقاق، وليس لسلب الإنسان حريته وخلقه لأفعاله. كيف يحصل الإنسان على نتائج فعله من غير تعب ولا نصب؟ ليست المشكلة هي القدرة على العطاء، بل استحقاق العطاء. ليس الأمر من وجهة نظر الله، بل من وجهة نظر الإنسان. وما فائدة العطاء لو كان جبرا ومنة؟ وما قيمته لو كان من السيد إلى العبد؟
8
لذلك ارتبط الاستحقاق بحرية الأفعال؛ ومن ثم فثواب الملائكة ليس كثواب البشر، فالملائكة ليسوا أحرارا وليسوا مكلفين مأمورين وطائعين، في حين أن البشر مكلفون مأمورون ومنهيون بناء على تمتعهم بشروط التكليف؛ حرية الأفعال وكمال العقل. فالإنسان وحده هو الموجود الحر العاقل الذي اختار الرسالة لحملها، والأمانة لتبليغها، والكلمة لتحقيقها.
9
وقد تؤخذ حلول وسط؛ إما باستحقاق العقاب والتفضل بالثواب، أو باستحقاق الثواب والتنازل عن العقاب! والأول انتقام وسوداوية وحقد وتشف وغضب، وكأن قانون العقل هو قانون العقاب وحده، والثواب تفضل وتنازل وعطاء ومنة لا يعرف إلا بالسمع. قد يكون ذلك في حق الغير ممكنا؛ فالغير المسيء لي عقابه واجب عقلي لا تسامح فيه، في حين أن ثوابه على فعل الطاعة لا يؤثر كثيرا فيها؛ لأن الطاعة حسنة لذاتها وليس لثوابها، ولا يعفو الإنسان عن المسيء له إلا بسمع، ولكن ألا يجعل ذلك السمع معارضا للعقل ومناقضا له، بل وهادما إياه؟ وهل يكون أساس العقاب وحده في العقل في حين أساس العفو أو الثواب بالسمع؟ وإذا كان الأمر بالنسبة إلى النفس، فهل تود النفس توقيع العقاب عليها عقلا وإرجاء الثواب إلى السمع؟ ألا يكون ذلك تعذيبا للنفس إيلاما للذات؟ ولماذا لا يتنازل العقل عن العقاب في حين يتنازل عن الثواب وكأن حق الآخر لا تنازل فيه ولا يكون التنازل إلا في حق الذات؟ إذا كان العقل لا يقبل الإساءة، فإنه قد يقبل التنازل عن الثواب إذا ما جاء السمع به. هل هذه تضحية بالذات في سبيل الغير، أم أنه تعذيب للذات بالإبقاء على عقابها والتنازل عن ثوابها؟
10
أما الثاني وهو استحقاق الثواب والتنازل عن العقاب فهو أقرب إلى الطبيعة الخيرة، وهو من شيم القدرة على العفو، فالعفو عند المقدرة. والعقاب في النهاية ليس غاية في ذاته بل وسيلة للإصلاح، وإذا ما تم صلاح الناس يصبح العقل بلا داع أو هدف. فإذا ثبت الثواب بالعقل فالعقاب ينظر فيه بالعفو؛ نظرا لإمكانيات الندم والتوبة، وإن لم يتم الصلاح فالعقاب لا فائدة منه، وغرض التكليف هو النفع، فإن لم ينتفع المكلف وعصى فقد فوت على نفسه النفع وهو أكبر عقاب له، وتتوقف الغاية من العقاب الأول. والله منزه عن إنزال العقاب بالناس إن فوتوا صلاحهم في الدنيا، ولن يعود عليه شيء بالنفع إذا ما تم العقاب. التعذيب في حد ذاته ضرر خال من المنفعة، والله منزه عنه أو حتى عن النفع، بل العقاب والنفع إنما هما لصالح الإنسان، وليس الدافع لتوقف العقاب هو خلق الله للأفعال، فذاك ضد مكتسبات العدل؛ الحرية والعقل؛ فالعقاب من نتائج التكليف. وقد يكون التنازل عن العقاب فضلا أو تعبيرا عن الرحمة والقدرة.
11
ولكن في هذه الحالة تظهر عدة اعتراضات رئيسية، منها افتراض الكذب في الخبر، أو تأويله بحيث يتبدل القول، وتجويز عدم خلود الكفار في النار. وهي اعتراضات عقائدية صرفة، جدلية دينية.
12
ولكن المهم هو الاعتراضات في التجربة الإنسانية؛ فإذا كان إبقاء الثواب وإيقاف العقاب يعبران عن نزعة إنسانية، وهي تجربة التسامح والعفو، فإنه أيضا يكشف عن جانب آخر فيها، وهو رفض الإنسان العفو عن الظالم والقاهر والمعتدي والقاتل، فذلك كله ضد العدل؛ فبقدر ما يتضمن شعور المطيع العفو عن العاصي يتضمن أيضا الفرح لعقابه، وبقدر ما في نفسه من رحمة وعطف بالناس بقدر ما يحز في نفسه أيضا مرور الظالم بلا عقاب، والقاتل بلا قصاص. صحيح أن المطيع أخذ ثوابه في الدنيا من تقدير الناس واحترامه له، كما أخذ العاصي عقابه في الدنيا من تصغير الناس له واحتقاره إياه، ولكن ماذا عن المؤمن المصاب والعاصي الذي خلا من العقاب؟ (2) إثبات الاستحقاق
الاستحقاق إذن قانون عقلي ثابت مثل القانون الطبيعي، يثبته العقل وتؤكده التجربة البشرية، ولا تهم جهة الوجوب هل هو وجوب شرعي أو وجوب عقلي؛ فالشرع يقوم على العقل، والعقل أساس النقل.
13
وثبوت الاستحقاق شرعا من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع تأكيد على ثبوته عقلا وهو القياس؛ فالاستحقاق ثابت نصا، وخطاب الله صادق لا كذب فيه، بل تبدو الذات نفسها متحققة بصفاتها ومنها الرحمة؛
كتب على نفسه الرحمة ؛ ومن ثم لا خوف من وجوب الاستحقاق على أنه إيجاب على الله وفرض عليه. وإن إثبات الوجوب السمعي وحده يقضي على الغاية من التكليف، وهو إلحاق النفع بالإنسان ودفع الضرر عنه، ويجعل التكليف بلا غاية ولا غرض. ولا يقال لو أبقانا الله على العدم لاسترحنا، فالإنسان بمحض حريته اختار الأمانة وحمل الرسالة، فهو أفضل من السموات والأرض والجبال التي استراحت من عبء الرسالة ومشاق التكليف. إن استحقاق العقاب يدل عليه السمع والعقل معا. ولما كان العقل أساس السمع فوجوب الاستحقاق وجوب عقلي، والوعد والوعيد قانون عقلي ثابت. وليس الوجوب الشرعي والعقلي مجرد عادة أو تجربة بشرية متكررة، فالعادة تأكيد لوجوب الشرع والعقل وليست بديلا عنهما. الشرع والعقل تأكيد للطبيعة، والطبيعة تأكيد للشرع والعقل.
14
ولكن يظل العقل هو الأساس الذي ينبني عليه العقل، والذي تؤكده الطبيعة.
15
فالاستحقاق لنفع الإنسان، إثابة المطيع وعقابا للعاصي، به صلاح الإنسان، والله لا يفعل إلا الصلاح، وهو منزه عن جلب النفع لنفسه ودفع الضرر عن ذاته. وإذا كان الإنسان قادرا على إدراك الحسن والقبح في الأفعال، وقادرا على الاختيار بينها، فالاستحقاق واجب عقلي نتيجة لحرية الاختيار وللحسن والقبح العقليين. وتجتمع الحرية والعقل في الطبيعة؛ فقد خلق الله فيها شهوة الحسن ونفرة القبح من أجل وجوب الاستحقاق.
16
إن منع المطيع من الثواب والمسيء من العقاب ظلم، والظلم ضد العدل، والعدل أصل عقلي مثل أصل التوحيد.
17
وإذا كان التكليف مع القدرة فترك الثواب قبيح، وإذا كلف الإنسان الأفعال الشاقة فإنه يستحق عليها الثواب، ولا يجوز التفضل بالثواب ابتداء، وإلا لما تمت الأفعال الشاقة، ولما حسن التكليف بها. ولا يكفي المدح كثواب، بل لا بد من نفع فيه، وكل مدح إنما يخفي وراءه طلب نفع أو دفع مضرة. وإذا كان المدح يتم في الدنيا فإن الثواب يتم في الآخرة؛ وبالتالي ثبتت ضرورة إعادة الأموات واستمرار الحياة بعد الموت لوقوع الثواب، كما يثبت الثواب برجعة الأموات وثبوت حياة بعد الموت، حتى الأفعال النظرية، مثل معرفة الله، بها مشقة الفكر ومعاناة النظر وجهد القريحة، كما أن الخير بطبعه الذي يطيع طبقا لطبيعته يستحق الثواب، ثواب الطبيعة وازدهارها وكمالها والحرص على استقامتها؛ فالطبيعة حرة، والحرية إدراك وجهد. وليس التكليف بالأفعال الشاقة من النعم العظيمة فحسب، بل أيضا لأجل الإثابة عليها استحقاقا ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فالإنسان لم يكلف عبثا، وحياته امتحان واختبار له بفعله وجهده. إن جهد الفعل يؤدي إلى تقوية الذات وتحقيق إمكانياتها بفعل الإنسان؛ فهو خلق أفعال، وإبداع وجوب يثاب عليه.
18
والاستحقاق أيضا تعبير عن الأصلح، وإن لم يكن تعبيرا عن الأصلح فإنه يكون تعبيرا عن اللطف.
19
والحقيقة أن نتائج الأفعال قد تكون مباشرة في الحال وغير مباشرة في المآل. قد تظهر في الدنيا وقد تتولد بعد انقضاء العمر. قد لا تكون نتائج الأفعال بالضرورة بعد الموت وعلى نحو مادي، بل قد تكون في هذه الدنيا على نحو معنوي. وإن كانت نتائج مادية فقد لا تكون نفعا ماديا مباشرا للفاعل، بقدر ما تكون تحقيقا لمصلحة الجماعة وخلودا في ذكراها. وقد لا يكون الثواب بالضرورة هو الجنة أو العقاب حتما هو النار، ولكن تكون نتائج الأفعال من جنسها دون تحديد أشخاصها. وإذا كانت الأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها، وكانت أفعال الإنسان تتم بلا إلزام ولا جزاء، فعليه أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح. وكل استباق للمستقبل خارج بنية الفعل ذاته، فإنه يكون رجما بالغيب، وتجديفا على الله، ودخولا للإنسان فيما لا يخصه، وقد يكون المستقبل أكثر غنى وثراء من رؤية الحاضر له.
ثالثا: دوام الاستحقاق
فإذا ما ثبت قانون الاستحقاق من حيث المبدأ، فإنه يكون في حاجة إلى إثبات آخر من حيث الدوام حتى يتضمن الاستحقاق دوام الثواب والعقاب. وهل ينقطع الثواب والعقاب؟ هل الاستحقاق على التخليد أم على العفو؟ وقد طرح السؤال بمناسبة عقاب مرتكب الكبيرة. فالكبيرة هي الفعل الذي يكون عقابه أكثر من ثوابه، على عكس الصغيرة ؛ هي الفعل الذي يكون ثوابه أكبر من عقابه. تبين الكبيرة قلة الاكتراث بالفعل وحطة العدالة، في حين تبقى الصغيرة على حسن الظن ولا تحط بالعدالة. الكبيرة ما قرن بها حد أو لعن أو وعيد بنص الكتاب والسنة، ما توعد به الله والرسول، وما دون ذلك فهو صغير.
1
يدخل في تعريف الكبيرة إذن الوعد والوعيد لما كانت الكبيرة ما قرن بها الوعيد؛ لذلك كان دوام الاستحقاق هو لب الكلام في الوعد والوعيد، وهي المسألة المعروفة باسم «بيان أجل الوعيد»، كما يدخل في تعريفها العمد والإصرار، ويتحدد العمل الكبير الخارج على النظر بمقدار الأثر السيئ الذي يحدث منه بعد تحققه، والحكم السيئ التابع له. وهذا هو معنى الفسق؛ فالفسق في اللغة هو الخروج، وفي الشرع الخروج عن الاستقامة؛ أي عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة، باشتراط عدم التأويل. ولا يهم معرفة الكبائر؛ فذاك موضوع علم الفقه. وقد يوضع الموضوع أيضا في الأسماء والأحكام؛ أي المنزلة بين المنزلتين، ولكنه هنا يكون بالنسبة لاستحقاق الثواب والعقاب، وليس لمعرفة الإيمان والعمل والدرجة المتوسطة بينهما. والتمييز بين الكبيرة والصغيرة وارد في تحليل الأفعال الإنسانية، ولكن السؤال الأهم هو: هل تصبح الصغائر بانضمام بعضها إلى البعض من الكبائر؟ هل يتحول التراكم الكمي إلى تغير كيفي؟ إن خروج الفعل من النظر مرات عدة لا يتراكم فيصبح فعلا واحدا أكبر؛ فكل فعل له وجوده الخاص القائم على بناء شعوري خاص؛ فاجتماع عدة أفعال عملية حساب عقلي، وليست عملية تحقق شعوري، كما أن اجتماع أفعال كبيرة لا تجعل صاحبها كافرا؛ لأن تكرار الكبائر كأفعال لا يقضي على صحة النظر.
2
ولا تعرف الصغائر بأعيانها، بل بمبادئها؛ فالصغائر لا متناهية من حيث الكم، في حين يمكن إدراك معانيها من حيث الكيف. (1) دوام الاستحقاق وشرطه
ويعرف الدوام والانقطاع في الاستحقاق بالعقل قبل ورود السمع، وقد يعرفان بالسمع أيضا تأكيدا لوجوب العقل؛ فالتوحيد والعدل أصلان عقليان تستحق معرفتهما الثواب. أما إذا عرفا بالسمع وحده فاحتمال نقضه بسمع آخر وارد؛ وبالتالي ينقطع الاستحقاق. إذا كان العقل أساسا للنقل فإن الوحي يتحول إلى وحي إنساني خالص، وقانون عقلي دائم يستحيل فيه الانقطاع، فيدوم الاستحقاق، ثوابا وعقابا. أما إذا كان النقل أساس العقل، فاحتمال التأويل وارد؛ وبالتالي التخصيص والاستثناء في الوعيد. بالعقل تكون أحكام الأفعال عامة شاملة على التخليد، وبالنقل تكون خاصة مستثناة على العفو. ولا فرق في العقل بين الأفعال؛ أفعال الجوارح أم أفعال القلوب، أفعال الحسن والقبح أم أفعال الإيمان والكفر. وقد تستثنى أفعال الشعور الداخلية، ولا تبقى إلا أفعال الشعور الخارجية موضوعا للاستحقاق. ولا يهم في الاستحقاق كم العذاب، بل المهم هو وقوعه كنتيجة للأفعال القبيحة. ويستوي في المعرفة العقلية الثواب والعقاب خشية أن تكون معرفة الثواب بالعقل وحده، في حين أن معرفة العقاب وهي الأخطر لا تتم إلا بالسمع. وقد يصاغ السؤال بطريقة أخرى، وذلك بالتمييز بين التنزيل والتأويل؛ فالتنزيل حكم العقل والتأويل حكم السمع.
3
دوام الاستحقاق إذن عقلي ونقلي معا، والعقل أساس النقل؛ فكل فعل له رد فعل، وكل فعل له نتائجه من نوعه. وقد أخبر الله بدوام الاستحقاق، فإن انقطع كان خبرا كاذبا وهو محال. وإذا علم المستحق بانقطاع الاستحقاق ثوابا أم عقابا، فقد يكون ذلك تثبيطا لعزيمة المطيع، وتشجيعا للعاصي على العصيان وإغراء له به، وهو قبيح مناقض لقصد الدعوة وهدف الرسالة. وإذا كان استحقاق الثواب منفعة، واستحقاق العقاب مضرة، فإنه يستحيل الجمع بينهما في فعل واحد. وينطبق الحكم على الأفعال وحدها، وليس على أسسها النظرية (الإيمان والكفر)؛ فالاستحقاق للأفعال وليس للتصورات، والنيات تدخل مع الأفعال وليست مع التصورات؛ فالأفعال لها صفاتها الموضوعية في ذاتها، بصرف النظر عن التصورات التي تقوم عليها، والحكم على التصورات هو مزايدة في الاستحقاق، بل وإنكار للأفعال المستحقة إذا ما قامت على تصورات نظرية مخالفة، وقد تصاغ حجج عقلية جدلية تقوم على القسمة، واستحالة وجود قسمة لانقطاع الاستحقاق. فإما أن يعفى عن العاصي أم لا؛ فإن لم يعف عنه دخل النار أبدا، وإن عفي عنه؛ فإما أن يدخل الجنة أم لا، ولا يصح أن يدخل الجنة لأنه ليس مطيعا، ولا وسط بين الجنة والنار، ولأن دخول الجنة لا يكون إلا عن استحقاق، ولو لم يستحق العقاب على الدوام لما قبح عذاب الفساق وخلودهم في النار. والعقاب كالذم يثبتان معا في الاستحقاق، ويزولان معا، ولا يجوز إثبات أحدهما دون الآخر. ولما كان الذم يستحق على الدوام، فكذلك يكون العقاب مستحقا على الدوام. وقد تصاغ حجج لغوية مستمدة من عموميات الوعيد.
4
والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بحجج عقلية جدلية، بل يعتمد أساسا على التجربة البشرية، وإنما أتت الحجج العقلية لتعقيل الموقف الإنساني؛ فهناك تجارب إنسانية تجعل الاستحقاق أقرب إلى الدوام والتخليد منه إلى الانقطاع والعفو، مثل ضرورة عقاب الظالم والطاغي، وضرورة القصاص من القاتل، وضرورة عقاب الناهب لثروات الناس والقاضي على وحدة الأمة. وليس ذلك فقط ردعا للمسيء أو إيجابا على الله، بل هو شعور إنساني دفين، خاصة لو كان الإنسان قد وقع تحت الإساءة، وناله منها الأذى. ويأتي السمع مؤيدا لهذه التجربة الإنسانية.
5
وشرط الدوام هو العناد والإصرار، وإتيان الأفعال عمدا عن روية وتدبر، وبنية وقصد، بل إن العمد والإصرار هما أحد معاني الكبيرة. وليست العبرة بكم الأفعال وتكرارها، بل بالفعل الواحد دون التكرار، ولكن التكرار يفيد أكثر معاني العمد والإصرار.
6
وإن صاحب الكبيرة إن مات مصرا عليها فإنه مخلد في النار؛ تطبيقا لقانون الاستحقاق، ومن مات ولا كبيرة له فإنه لا يدخل النار أصلا، ويخلد في الجنة. الاستحقاق هنا يقتضي الدوام؛ دوام الثواب والعقاب، وشرط الدوام الإصرار والعناد؛ أي دوام القصد والنية والإرادة. أما صاحب الكبيرة عن اجتهاد فيسقط منه دوام العقاب؛ لسقوط شرط العناد والقصد. ولا ينقطع دوام الاستحقاق إلا بالتوبة؛ فالتوبة روية وقصد، وفعل ونية؛ وبالتالي تكون فعلا. ولا عفو ولا مغفرة قبل التوبة، وإلا وقعنا في العفو غير المشروط بالاستحقاق، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية القديمة.
7 (2) هل ينقطع الاستحقاق؟
إذا كان الاستحقاق دائما على التخليد، فهل ينقطع بالعفو أو بغيره؟ الحقيقة أنه قد ينقطع الاستحقاق، ولكن الإشكال كيف ومتى؟ هل ينقطع الاستحقاق لوجود فرق نوعي بين الطاعة والمعصية؛ أي بين الوعد والوعيد، وذلك بتحقيق الوعد وإرجاء الوعيد؟ فالثواب نتيجة حتمية للطاعة، في حين أن العقاب نتيجة محتملة للعصيان، والمطيع يود جزاءه ثوابا، ولكن العاصي لا يود جزاءه عقابا. وهي نظرة إنسانية خالصة تقوم على الرحمة، وليست نظرة قانونية تقوم على العدل. تعتمد على روايات ظنية، أخبار آحاد، أكثر من اعتمادها على العقل، ومعارضة بروايات أخرى تتفق مع دوام الاستحقاق، وتطابق قانون العقل. وإن تعلق آيات العقاب بدوام السموات والأرض، وهما منقطعتان، ينطبق على العقاب والثواب معا، كما أن مغفرة الله لكل شيء إلا التوحيد كلها آيات مجملة في حاجة إلى بيان؛ فالعدل منبثق من التوحيد ونابع منه، وكلاهما من العقليات. وقد يعني ذلك تأكيدا للإرادة المطلقة وإثباتا للصفات، وقد يكون ذلك للصغائر دون الكبائر أو للبعض دون البعض، وقد يغفر الله الذنوب جميعا للمؤمنين وحدهم دون الكافرين. والمغفرة مشروطة بالتوبة، وليست مجانية بلا مقابل، وإلا كانت إغراء على المعصية، وتساوى فيها المطيع والعاصي.
8
وقد تعطى روايات أخرى تتحول إلى حجج عقلية نقلية، مثل انقطاع العقاب لصاحب الأفعال العظيمة، كالسبق في الإيمان، والشهادة في أول المعارك. والحقيقة أن السبق في الإيمان فعل استحقاق، وليس مجرد استحقاق بلا فعل، بما في ذلك الأنبياء. أما الأطفال والسقط فهم خارج أفعال التكليف. وأما الشفاعة فضد الاستحقاق وخرق له، وإعطاء فعل إنسان لآخر بغير استحقاق. ويزداد الأمر صعوبة بمعرفة أصحاب الشفاعة بالاسم، وكأنها تزكية دنيوية لهم وقبول لأفعالهم مهما كانت، ما داموا من المبشرين بالجنة. أما أصحاب اليمين؛ أي الذي تفوق حسناتهم سيئاتهم، فإن انقطاع العقاب عندهم مشروط بأفعال الطاعة، وموافاتها أفعال المعصية؛ فانقطاع العقاب هنا دوام للثواب. وعلى النقيض من ذلك يكون أصحاب الشمال الذين تفوق سيئاتهم حسناتهم، فينقطع الثواب ويدوم العقاب. إن الأعمال العظيمة أفعال استحقاق تطوي الصغائر في داخلها وتصبح من اللمم؛ إقالة لذوي العثرات، واعترافا بالضعف الإنساني.
9
ولكن هل يكون التصور وحده سببا للدوام، حتى ولو كانت هناك أفعال سببا للانقطاع؟ هل لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة؟ وأيهما أكثر استحقاقا من حيث الدوام والانقطاع؛ التخليد أو العفو، المؤمن العاصي أم الكافر المطيع؟ أيهما أكثر استحقاقا، نظر بلا عمل أم عمل بلا نظر؟ إن كثيرا من المسلمين قد لا يدخلون الجنة؛ لأنهم لا يستحقونها نظرا لمعاصيهم، وإن كثيرا من الكفار ليدخلون الجنة نظرا لطاعاتهم. وإن جعل الخلود للكفرة وحدهم دون المؤمنين تعذيب للآخرين، وإنقاذ للذات، وجعل مقياس الاستحقاق النظر دون العمل. إن التصور وحده ليس فعلا للاستحقاق؛ فالتصور هو أساس للسلوك وموجه له، وما دام السلوك قد خرج عن التصور يصبح التصور فارغا من غير مضمون. وإن تعدد الأطر النظرية شرعي ما دام يؤدي إلى وحدة العمل؛ لذلك كان خبر الآحاد يورث الظن في النظر، واليقين في العمل. ليس النظر وحده مقياس الاستحقاق دون العمل. والقول بأن المؤمن العاصي لن يذوق النار، وأن الكافر المطيع لن يذوق الجنة، قسوة وأنانية وغرور، مثل قول اليهود بأنهم أبناء الله وأحباؤه، ينكر العمل الصالح، ويخلط بين الظن النظري واليقين العملي. ولا يمكن أن تكون الحجة في ذلك نفي الاستحقاق، وإلا عدنا على بدء؛ فالاستحقاق ثابت عقلا وسمعا. ولا تكون الحجة إثبات الاستحقاق في الثواب دون العقاب، قبل التوبة والتخلي عن شرط استحقاق العقاب، وهو العناد والإصرار. أما التفضل فهو إلغاء للاستحقاق وإنكار للفعل. إن أقصى ما يمكن عمله هو دوام الاستحقاق ثوابا إذا كان الترجيح للحسنات على السيئات، أو عقابا إذا كان الترجيح للسيئات على الحسنات. وقد تقام حجج جدلية لإثبات انقطاع عقاب المؤمنين ودوام عقاب الكافر، مثل الحجة التي تعطي احتمالات ثلاثة: دخول صاحب الكبيرة الجنة بإيمانه وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته ثم الجنة بإيمانه وهو الحق. فالفعل هو المنقطع، والتصور هو الدائم. العمل هو الجزء، والنظر هو الكل. وكذلك حجة إثبات انقطاع العقاب على الفعل بدوام الثواب على التصور. وهذا كله يجعل الدوام والانقطاع خاضعين لقوانين فرعية، مثل الإحباط والتكفير والموازنة وغيرها، وهي كلها تقوم على حساب الأفعال، وليس على مجرد التصورات.
10
وقد يترك الأمر كله جوازا عند الله دون فرض للدوام أو الانقطاع، وهو إرجاع للسمعيات إلى العقليات، وعود بالعدل إلى التوحيد. وقد تخفف النار ويخفف العذاب إيثارا لانقطاع العقاب ودوام الثواب، وقد يصل حد تخفيف العذاب إلى أن يكون العصاة المؤمنون في النار دون عذاب ودون استمتاع بالجنة. وقد يتقرر مبدأ الانقطاع للعقاب كمبدأ لا لأشخاص معينة.
11
وقد ينقطع العقاب ويدوم الثواب عن طريق التخصيص والاستثناء، واعتبار آيات الوعد من المحكمات، وآيات الوعيد من المتشابهات بها عموم وخصوص. صحيح أن ذلك أقرب إلى التفسير الإنساني؛ فالغاية من الوحي مصلحة الإنسان لا عقابه، ومع ذلك فالخطورة هو التأويل بالتخصيص والاستثناء لحساب فئة دون فئة، ويكون سلاحا ذا حدين، توجهه كل فئة إلى خصومها. وإن تعميم النصوص أو تخصيصها إنما يخضع في حقيقة الأمر إلى البواعث والأفكار وإلى المصالح والأهواء أكثر من خضوعه لقواعد اللغة. تأتي قواعد اللغة لتأييد الباعث والفكرة، وليس لطردها؛ لذلك يستحيل أن يكون في العموم استثناء أو تخصيص؛ لأن ذلك يقضي على قانون الاستحقاق؛ فالاستثناء أو التخصيص يدل على الأثرة والأنانية، أخذ الثواب وترك العقاب، دوام الثواب وانقطاع العقاب، ثواب الأنا وعقاب الغير. ولماذا لا يكون في الثواب أيضا تخصيص واستثناء، وأن يكون الهدف من ذلك التشجيع على الخير وتقوية الباعث عليه؟ ولو كان الوعيد منقطعا أو غير واقع، لكان ذلك دافعا للناس إلى الإثم، وتشجيعا لهم عليه. وما هي أنواع الأفعال التي يكون فيها التخصيص؛ حقوق الله أم حقوق العباد؟ لو جاز في حق الله، فهل يجوز في حق العباد؟ وأي نوع من أفعال العباد يجوز فيها الاستثناء؛ القتل، أكل أموال الناس بالباطل، والظلم والطغيان؟ وهل أهل الصلاة كلهم مستثنون بصرف النظر عن أعمالهم؟ وهل القرآن أساس على الخصوص ثم بعد ذلك يحمل على العموم، أو إنه على العموم ثم يحمل بعد ذلك على الخصوص؟
12
وقد يعني الخصوص الاستثناء والمحاباة والتحيز، وهو نقض لقانون الاستحقاق؛ فإذا غفر الله لواحد غفر للجميع، وإذا عوقب واحد عوقب الجميع، فلا مجال للاختصاص ما دام الكل في المقياس النظري واحدا، إلا إذا تصورنا اختلافا في درجات المعرفة والفهم. وهنا يكون الحساب على أعمال الشعور الخالصة، وليس على أعمال الجوارح؛ أي الأفعال في العالم. وكيف يغفر للجميع، فيستوي صاحب الذنوب الكثيرة مع صاحب الذنوب القليلة؟ على أقصى تقدير يغفر للأكثر ثوابا والأقل عقابا، وهو أقرب إلى العقل. وإن إرجاع الموضوع إلى مشيئة الله لهو وقوع في الإرجاء دون حل للإشكال العقلي، وعود بالعدل إلى التوحيد، بل ناقض التخصيص والاستثناء التوحيد؛ لجعلهما المشيئة خاصة بفرد دون فرد، في حين أنها عامة لكل الأفراد. والعدل يقتضي معاملة الأفراد جميعا تحت قانون واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار المواقف الخاصة لكل فرد، المراعاة ضمن القانون العام، والتي تكون فيها الأولوية أيضا للفعل الإنساني في التوبة.
13
والحقيقة أنه لا يمكن رد كل شيء إلى المشيئة الإلهية كما هو الحال في الإرجاء، وفي الوقت نفسه إصدار أحكام على منع التخليد للكفرة وعدم تخليد المؤمنين في النار، كما أن الإرجاء وقوع في مقياس مزدوج بالنسبة للكافرين وللمؤمنين، إثباتا لدوام العقاب للكافرين، وبانقطاعه عن المؤمنين. ولما كان الإرجاء يعتمد أساسا على روايات، وليس على براهين عقلية، فقد ظهر عدم اتساق بين إدخال الجنة للمؤمنين العصاة في النهاية وبين تعذيبهم؛ بين دوام الثواب وانقطاع العقاب، بين التخفيف والتخليد، بين القول بانقطاع العقاب ورفض الإحباط والتكفير، والموازنة التي تحاول فهم الانقطاع من داخل الدوام حتى ينقطع العقاب ويدوم الثواب؛
14
لذلك كان الأقرب إلى العقل هو إثبات الدوام للاستحقاق ثوابا كان أم عقابا؛ إيثارا للعدل حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بالعفو.
15
كما أن اعتبار الآيات للترغيب والترهيب قضاء على موضوعية الوعيد وشموله واستقلاله، وإن كان يدل على أن الهدف منها هو التأثير في النفوس وتوجيه السلوك، وليس الاستحقاق المادي ثوابا كان أم عقابا. وليس القصد من العقاب منفعة الله أو الإضرار بالإنسان والإجحاف به؛ لأنه ليس مسئولا عن أفعاله، بل القصد منه التأكيد على نتائج الأفعال كجزء من الأفعال ذاتها ومسئولية الإنسان عنها. فلو وقع الضرر بالإنسان من أفعال الغير فإن الغير يتحمل مسئولية هذا الضرر، ولا يرضى الإنسان إلا بأن يوقع العقاب على من أساء إليه.
16
قد يكون التخليد في النار يأسا وتشاؤما وقسوة، خاصة إذا كان رفض التخليد للمؤمنين والكفار على السواء، ولكنه يكون استحقاقا، ودوام الاستحقاق أكثر دفعا للإنسان وحثا له على تجدد الفعل عن طريق التوبة؛ أي قطع العقاب ودوام الثواب.
17
وهل من الصالح العام التشكك في عقاب مرتكب الكبيرة، وما أكثر القتلة وسفاكي الدماء، وناهبي أموال اليتامى ظلما، والمستعبدين رقاب الناس؟ إن العقاب على الكبائر نتيجة للفعل وليس حقا للمالك؛ فالإنسان لا يملكه أحد، بل هو فعله، وإلا ضاعت العلاقة الضرورية بين الفعل والأثر، أو بين العلة والمعلول. إن إبطال عقاب فاعل الكبيرة يناقض العقل والعدل، ويثبت اللامعقول والظلم. وهو مناقض أيضا للعادة ولحكمة الشعوب ولطبائع الأشياء كما بدت في الأمثال العامية وخبرات البشر، وهو مناقض للشرع؛ لأن الشرع يستلزم التوبة قبل العفو، والندم قبل المغفرة. وإن العفو قبل التوبة والمغفرة قبل الندم ليس مظهرا من مظاهر الكرم والمروءة، بل هو جور وظلم وعطاء لمن لا يستحق. إن الغاية من عقاب المسيء هي التربية والإعداد، وإن إبطال العقاب ينقض التربية، ويجعل الإساءة طبيعة. صحيح أن العفو أقرب إلى الطبيعة الخيرة من العقاب، ولكن ليس قبل تربية الشعور. إن العفو عن المسيء قبل إدراكه معنى الإساءة قد يلجئه إلى الإساءة من جديد؛ لأنها لم تكلفه شيئا من ضرر أو عقاب ما دام العفو قائما، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية التي تجعل بني إسرائيل أبناء الله وأحباءه؛ وبالتالي لن يعاقبهم الله مهما بلغت إساءاتهم ومعاصيهم. إن إثبات دوام العقاب للمسيء ليس موجها ضد الخصوم؛ ضد الكافرين من المؤمنين، وضد الفرق الهالكة من الفرق الناجية؛ وبالتالي ليس سلاحا دينيا في خصومات سياسية، بل هو إقرار للعدل وإثبات للاستحقاق.
18 (3) متى يسقط الاستحقاق؟
لا يسقط الاستحقاق إلا في حالتين؛ الأولى طبقا لقانون الموازنة بشقيه، الإحباط والتكفير؛ والثانية في حالة التوبة.
19
ولا يكون الإسقاط للثواب على الإطلاق حرصا على منفعة العباد، لكن يكون الإسقاط للعقاب وحده، بل إن الإحباط والتكفير ليسا إسقاطا للثواب، بل هو إسقاط للعقاب برفع ما يعادله من الثواب. العفو إذن بهذا المعنى وفي هاتين الحالتين ممكن بعد الموازنة والتوبة، وليس قبلهما؛ وبالتالي يكون مشروطا بالحسنات التي توافي السيئات في حالة التكفير، أو في حالة عقد العزم والنية في حالة التوبة. وما فائدة التوبة إذا تمت المغفرة دونها؟ لا يحدث العفو قبل الندم، ولا تقع المغفرة قبل التوبة؛ لأن فعل الله مشروط بفعل الإنسان وتال له. وإذا جاز العفو عن الصغائر بلا توبة، فإنه لا يجوز العفو عن الكبائر دونها.
20
ولا يكون العفو بإطلاق، بل بتخصيص كل حالة على حدة. وإذا جاز العفو في ذنب في حق الله فهذا حق الله في العفو عنه. أما الذنب في حق العباد فالعفو عنه لا يكون بلا تعويض.
21
وهل يستوي العفو عن الحاكم والمحكوم، وعن الغني والفقير، وعن القوي والضعيف، وعن الظالم والمظلوم، وعن القاهر والمقهور؟ (أ) الموازنة (الإحباط والتكفير)
ويعتمد القول بالموازنة على ربط آيات الوعيد بآيات العفو،
22
وتعني وضع الحسنات والسيئات، الطاعات والمعاصي، في ميزان واحد؛ فإذا رجحت الحسنات والطاعات يخصم منها السيئات والمعاصي، وهذا هو التكفير؛ وبالتالي يسقط العقاب ويدوم الثواب. أما إذا رجحت السيئات والمعاصي فإنه يخصم منها الثواب، فينقطع الثواب ويدوم العقاب، وهذا هو الإحباط. وقد تدخل التوبة مع الموازنة في التكفير الشامل. والإحباط والتكفير هما أساس مغفرة أهل الكبائر، وهما للأعمال وليسا للتصورات؛ فالإيمان لا يكفر السيئات، والكفر لا يحبط الأعمال. وكلاهما يحدثان في حياة الإنسان وليس بعد الموت، في الدنيا وليس في الآخرة؛ فالدنيا دار استحقاق. وكلاهما يحدث بالنسبة لاستحقاق الثواب والعقاب في الآخرة وليس في الحدود الدنيوية، وإلا لتعطلت الحدود.
23
ويثبت الإحباط والتكفير نتيجة للتخليد والدوام؛ فالمكلف إما أن يستحق الثواب فيثاب، أو يستحق العقاب فيعاقب، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب، فلا يثاب ولا يعاقب، وهذا محال، وقد يستحق الثواب والعقاب، فيثاب ويعاقب دفعة واحدة، وهو محال أيضا؛ وبالتالي لم يبق إلا أن يؤثر الأكثر في الأقل، وهو المطلوب.
24
ويتداخل قانون الموازنة مع قانون العوض في العقاب؛ فالتكفير عوض عن العقاب، والإحباط عوض عن الثواب.
25
وللإحباط والتكفير عدة موازين طبقا للكم والكيف؛ إذ لا يمكن إحباط الطاعات كلها بمعصية واحدة، ولا يمكن التكفير عن المعاصي كلها بطاعة واحدة. هناك مقاييس عدة للموازنة طبقا للعدد؛ أي الكم المنفصل، وطبقا للمقدار؛ أي الكم المتصل، وطبقا للشدة والتوتر والعمق؛ أي الكيف، وربما أيضا طبقا للجهة؛ أي الضرر والنفع المادي والمعنوي، وطبقا للإضافة؛ أي مقدار الضرر والنفع بالنسبة للفرد والجماعة.
26
وتدخل التوبة والشفاعة كعنصرين في الموازنة؛ فالتوبة من الكبائر تغفر كل السيئات مهما بلغت، ويكون صاحبها من أهل الجنة، فالكبير يجبر الصغير. وإذا لم تتم التوبة من الكبائر فالموازنة، ومن رجحت حسناته على سيئاته وكبائره فإنها تسقط، وهو من أهل الجنة لا يدخل النار؛ وإن استوت حسناته على كبائره وسيئاته فهؤلاء أهل الأعراف، وقفة أمام النار ولا يدخلونها ثم يدخلون الجنة؛ ومن رجحت كبائره وسيئاته حسناته فهم مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب من لفحة واحدة إلى خمسين ألف سنة في النار، ثم يخرجون إلى الجنة بالشفاعة للرسول وبرحمة الله! وكلهم يجازون بالجنة بما فضل لهم من الحسنات، ومن لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فدونهم، وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله فهو سواء في الجنة مما رجحت له حسنة فصاعدا. فالشفاعة هنا بعد الاستحقاق وليس قبله، وتغليب للخير على الشر، وللعفو على العقاب، وللرحمة على العدل.
27
ولا يعني القول بالإحباط أنه لو جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي أن يكون مثابا معاقبا في حالة واحدة؛ وذلك لأن كل واحد منهما يسقط الآخر، فإذا سقط الأقل بالأكثر لم يجب ذلك؛ فالقانون هو إسقاط الأقل بالأكثر، ولكن ما العمل إذا استوى الطرفان؟ هؤلاء هم أهل الأعراف، لهم وقفة أمام النار ولا يدخلونها، بل يدخلون الجنة. ومن رجحت كبائره وسيئاته بحسناته فهم مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب من لفحة واحدة إلى بقاء 50000 سنة في النار، ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة الرسول ورحمة الله بقدر ما بقي لهم من حسنات! وما لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم. وكل من خرج بالنار بالشفاعة وبرحمة الله فهم كلهم سواء في الجنة، حسنة فصاعدا! فهل هذه الحالة واردة؛ حالة تساوي الحسنات والسيئات، أم إنه إذا حدث ذلك فالإنسان بطبيعته إلى الخير أقرب لما كان الشر طارئا عليه؟ وماذا تعني الوقفة أمام النار دون دخولها؟ هل ذلك جزاء لاستواء الطرفين؟ وقد تحرق الوقفة ثم يكون المسار إلى الجنة بلا استحقاق.
28
وفي روايات أخرى يترك الأمر للمصادفة المحضة بعد أن يسير الإنسان على خيط رفيع أحد من السيف وأدق من الشعرة، إن وقع يمينا ففي الجنة وإن وقع يسارا ففي النار! وكأن جهد الإنسان وعمله ونيته ينتهي به الأمر إلى المصادفة العشوائية! وكيف يسير الإنسان على هذا الخيط الرفيع الأحد من السيف والأدق من الشعرة؟ وكيف يسير البشر كلهم عليه الذين وقعوا في هذا التساوي، وكأنه اختيار آخر ومحنة أخرى، وقد انتهت دار التكليف وهم في دار الجزاء؟ وكيف يكون الترجيح طبقا لشفاعة الرسول بلا مبرر عقلي من قانون الاستحقاق؟ وهل سيشفع الرسول لكل أهل الأعراف؟ وإذا كان هناك مقياس للشفاعة فلماذا لا يكون منذ البداية مقياسا للترجيح بزيادة الثواب؛ وبالتالي دخول الجنة عن استحقاق؟ كما أن الترجيح طبقا لرحمة الله أيضا بلا مبرر عقلي، وكسر لقانون الاستحقاق بالتفضل، وقضاء على العدل بالرحمة. وكيف توضع شفاعة الرسول مع رحمة الله كعلة مرجحة على المستوى نفسه، وكأن الله أصبح رسولا أو الرسول إلها؟
ومهما يكن من شيء، فإن الإحباط والتكفير لا يكونان إلا في الصغائر. أما الكبائر فإن عقابها لا يزول بكثرة الطاعات، ولا ينقطع إلا بالتوبة. وإن تراكم الصغائر لا يجعلها كبيرة، وكأن التراكم الكمي لا يؤدي إلى تغير كيفي. ومن عمل الكبائر ومات عليها قبل التوبة وله حسنات رجحت كبائره عند الموازنة. أما من هم بسيئة ثم تركها مختارا فتكتب له حسنة، فإن تركها مغلوبا لم تكتب حسنة ولا سيئة تفضلا من الله، ولو عملها كتبت له سيئة واحدة؛ ولو هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات. كل ذلك لأن الأعمال بالنيات، وأن الأفعال مرهونة بمقاصدها؛
29
فأفعال الشعور أقرب إلى الخير، فإذا ما تحققت إلى أفعال خارجية تضاعف الخير. أما النوايا السيئة إذا لم تتحول إلى أفعال خارجية عن طريق حرية الإرادة، فإنها تظل أقرب إلى الخير بفضل ممارسة الحرية. إن المهم في ذلك كله هو تطبيق العدل بعد ممارسة الحرية. ولا يهم في ذلك قياس الأفعال إيجابا وسلبا على نحو كمي متخارج، بل دلالتها على الأفعال على نحو متداخل؛ فقد يكون في عمل واحد نية وصدق، وفي أعمال كثيرة ضعف وتكاسل. لا يعني الإحباط والتكفير إذن مجرد إلغاء الأكثر للأقل إلغاء كميا، بل يعني احتواء النفع للضرر، والحسن للقبيح، والإحسان للإساءة، والخير للشر. ليس المهم في ذلك وقائعها الأخروية، بل آثارها ونتائجها الدنيوية في دفع الناس نحو الخير تطابقا مع الطبيعة، وحرصا عليها من الزيف، وتأكيدا على تجدد الأفعال، والقدرة على تجاوز الأفعال السيئة طالما وجد الزمان واستمر التكليف. (ب) التوبة
والتوبة هي الحالة الثانية التي يسقط فيها الاستحقاق؛ فإن لم يسقط العقاب بالإحباط والتكفير فإنه يسقط بالتوبة. ولا تزول آثار الأفعال السلبية إلا بعقد العزم والإصرار على التغيير، وليس بمجرد تداخل الأفعال، وإلغاء النفع للضرر، والإحسان للإساءة. ومن لقي الله مسلما تائبا من كل كبيرة، أو لم يكن عمل كبيرة قط، فسيئاته كلها مغفورة، وهو من أهل الجنة، ولو بلغت سيئاته ما شاء الله لها أن تبلغ. التوبة من الكبيرة عامل مرجح في الموازنة.
30
وقد تكون التوبة بالقول إذا كان الفعل قولا، وقد تكون بالفعل إذا ما تحول الفعل السيئ إلى بناء واقعي دائم. التوبة هنا هدم للبناء القبيح، ومعاودة لبناء جديد أفضل؛ لذلك تأتي التوبة آخر فصل في الكتاب؛ كي تكون خاتمة الأعمال التوبة؛ أي تجدد الفعل إلى ما لا نهاية، والبداية المستمرة من جديد على البراءة الأصلية.
31
والتوبة لغة تعني الرجوع والإنابة؛ أي الإبطال؛ واصطلاحا التراجع عن الزلات. ويتضمن تعريف التوبة ثلاثة أشياء: ترك الزلة في الحال، والندم على ما فات، وعقد العزم في المستقبل على عدم العودة إليها. فهي فعل من أفعال الشعور الداخلة، أفعال القلب، قبل أن تكون فعلا من أفعال الشعور الخارجية، أفعال الجوارح. التوبة إذن معرفة درجات الفعل ومراتبه بين الأعلى والأدنى، وترك الأدنى إلى الأعلى طبيعة واختيارا.
32
لذلك كانت للتوبة شروط ثلاثة: الأول ترك المعصية في الحال، على الفور دون تأخير، وفي اللحظة وليس في الديمومة، كفعل حر طبيعي دونما مقارنة أو انتظار أو تدبر أو حساب، وإلا كان الأمر مجرد إعادة حساب وليس توبة؛ فهي أقرب إلى الفعل الحدسي منه إلى الفعل الاستدلالي. ولا يهم أن يكون عيب التأخير هو تراكم الذنوب، وزيادة الذنب الأول ذنبا ثانيا، بل المهم هو عدم تحول الإدراك إلى فعل فوري؛ وبالتالي عدم تجدد الفعل في الحال. كما يتضمن التغير الفوري رد المظالم، وإعادة الحق إلى أصحابه؛ فالتوبة ليست فقط فعل نقاء للضمير، بل هو فعل اجتماعي؛ تصحيح للواقع الفعلي، وإلا كانت التوبة فعل شعور فارغ لا مضمون له؛ مجرد ستار على الظلم وتبرئة للذمة أمام النفس.
33
لذلك انقسمت التوبة إلى حق الله وهو الجانب المعنوي، وإلى حق البشر وهو الجانب المادي الذي ترد فيه المظالم.
34
والثاني الندم على ما فات. والندم فعل شعور يتعلق بفعل واقع خرج على مبدأ عقلي وعلى بناء واقعي، ويتضمن جانبي الفعل المعنوي والمادي، ويكون مصاحبا بالتألم والأسى والحزن على ما وقع من معاص؛ لذلك كانت التوبة تقع من فعل مضى، وليس من فعل مستقبل؛ فالمعصية لا يعقد العزم على إتيانها في المستقبل مقرونة بالتوبة منها؛ فذاك سوء نية. ويمكن للندم أن يتجدد كالتوبة، وكلما تجدد زالت آثار المعصية من النفس، وانتزعت من جذورها وآثارها.
35
وهو فعل عاقل يتم به إدراك وجه القبح في الفعل الماضي، ووجه الحسن في الفعل الحاضر والمستقبل، في الفعل الجديد. وقد يظهر الندم في صورة الاعتذار كفعل من أفعال اللسان أو الشعور. والاعتذار هو إصدار حكم خلقي على النفس أمام الآخر مع رد المظالم، وإرجاع الحق إلى أصحابه، وهو فعل فردي في حق من وقعت الإساءة في حقه؛ من فرد إلى فرد، ومن فعل لفعل. وإن وقع للجماعة فالاعتذار يكون لها، وهو فعل طبيعي ناتج عن الندم، يسقط بموت المساء إليه؛ وبالتالي يخالف البدل والعوض العجلين في الدنيا.
36
والثالث العزم على عدم العودة إلى الفعل المسيء في المستقبل. والعزم من أفعال القلوب والجوارح، نية وفعلا، وهو آخر فعل في التوبة؛ فترك الزلة في الحال والندم وحدهما لا يكفيان لإتمام فعل التوبة دون التزام شعوري وفعلي في الزمان؛ فترك الزلة في الحال وحدها كفعل وقتي غير ممتد في الزمان لا يكون توبة، والندم وحده دون أن يكون مصاحبا للعزم على أمثال ما ندم عليه في المستقبل لا يكون توبة.
37
وتتجدد التوبة أكثر من مرة، حتى ولو عاد الفعل بعد عقد العزم، بشرط توافر الشروط الثلاثة في التوبة الأولى. التوبة فعل متجدد بتجدد الأفعال وتغير المواقف وتوتر الإنسان، في موقف يجمع بين الحرية والضرورة؛ بين الاختيار والحتمية. وإن الخوف من التوبة الثانية هو فقدان التوبة لمضمونها، فتصبح فعلا آليا يضمن به الإنسان تجاوز المعصية. أما إذا توافر حسن النية فتجديد التوبة نتيجة طبيعية لتجديد الفعل. وقد تكون التوبة عن ذنب بعينه، في أضعف الأحوال، وهي التوبة الجزئية، وقد تكون عن كل الذنوب، وهي التوبة الشاملة، وهي أحسن الأحوال. التوبة الجزئية ينقصها خلوص النية، ولا تسد كل ثغرات تسرب الطاقة على الأفعال، في حين تكون التوبة الشاملة أكثر قدرة على تجديد الشعور كله، وليس فعلا واحدا بعينه، بحيث يعاد بناء الوجود الإنساني كله من جديد، نظرا وعملا، تصورا وسلوكا.
38
لذلك، التوبة واجبة ليس فقط كفرض شرعي، بل كضرورة وجودية وواقعة طبيعية؛ تعبيرا عن رغبة الإنسان في التجدد المستمر. وسبب الوجوب دفع الضرر عن النفس. ولما كانت الأضرار في الكبائر وجبت التوبة عنها؛ لأن الأضرار من الصغائر لا تأثير لها إلا تقليل الثواب. وتجب التوبة لأن المكلف لا يخلو حاله من أمور ثلاثة: أن تكون طاعاته أكثر من معاصيه، فالمعاصي صغيرة لا يجب التوبة عنها عقلا بل سمعا. أن تكون معاصيه أكثر من طاعاته، وهنا تجب التوبة؛ لأنه صاحب كبيرة، فتسقط العقوبة. أن تكون طاعاته مساوية لمعاصيه، وهو محال. التوبة إذن هي الطريق إلى التجدد المستمر، والتقدم الدائم نحو الأفضل.
39
ولا يهم في التوبة قبولها؛ لأنها من أفعال الشعور؛ تطهيرا للنفس وتجديدا للروح. فقبولها ليس من طرف خارجي، بل من حدوث التجدد نفسه؛ وبالتالي فإن السؤال عن غفران الكبائر بالتوبة هل هو استحقاق أم تفضيل يفترض الإجابة في طرف آخر يقبل التوبة أم رفضها دون أن يقصرها على أفعال الشعور. ولا يهم أيضا إذا كانت التوبة تسقط العقوبة أم لا؛ فالتوبة كتجديد للفعل في الزمان من طرف الشعور التائب، وليست من طرف شعور آخر مستقبل للتوبة أو للاعتذار.
40
ومع أن التوبة فعل فردي لا يتعدى فعل الغير، إلا أن لها أحكاما عامة تحض الفرد والجماعة، وتتعلق بالجانبين الشعوري والمادي؛ فالتوبة واجبة من جميع الذنوب، لا خلاف بين ذنب وآخر. لا تجوز التوبة من ذنب دون ذنب، بل تصح التوبة من جميع الذنوب دون نوعية للأفعال. وإن تنوع أفعال الشعور لا حدود لها، وإذا كانت التوبة من الصغائر فالتوبة عن الكبائر أولى. وتكون صحة التوبة من المعاصي إجمالا من غير تعيين للذنب المتوب عنه؛ فالتوبة فعل كيفي، وليست فعلا كميا، فعل نوعي للشعور، وليست فعلا خاصا له. ولا تصح التوبة مؤجلة حتى آخر الزمان في البعد وعلى الأمد الطويل حتى لا يبقى زمان للعزم، وإلا لأجل الإنسان التوبة إلى وقت الاحتضار. أما لو حدث ذلك عن حسن نية وقصد فهي فعل، وإن كان يفتقد إلى الشرطين الأول والثالث؛ ترك الزلة في الحال؛ لأنه لم يعد في القوس منزع؛ وعقد العزم على عدم العودة إلى مثله في المستقبل، فقد انقضى الزمان. ولم يبق من التوبة إلا الندم. وتصح التوبة من كل الناس، مؤمنين وكفارا، مطبوعين ومهديين. وإيمان الكافر توبة وندم، إن لم يكن على مستوى الفعل فعلى الأقل على مستوى النظر؛ ففعل الإدراك في نهاية الأمر أحد أفعال الشعور، والتائب يعلم بما يلزمه أن يتوب عنه، ببعضه أو كله، وإلا لما تحقق تجدد الفعل في الزمان، وتطهير الشعور، وصفاء السريرة، وخلوص النية. وما دامت التوبة فعلا من أفعال الشعور فهي فعل عاقل حر. ولا تجوز التوبة من القول القبيح إن لم يكن مولدا. أما الأفعال المولدة فالتوبة منها تحدث بإبطال التوليد نفسه. ولا يكفي هنا الترك والندم والعزم؛ إذ تكون التوبة من الأفعال الواقعة المسببة القصدية، وإبطال التوليد يحتاج إلى علم بقبح الأفعال المتولدة من الفعل القبيح الأول، وذلك يتم إما بسكون النفس أو بدليل العقل. لا تصح التوبة من فعل مع استمرار قيام سببه المولد؛ ومن ثم يكون القضاء على السبب هو شرط التوبة. ولا يمنع التراخي بين السبب والمسبب من وقوع التوبة، بل تقع على قدر الوسع، وعلى قدر احتواء الزمان. كما تلزم التوبة أيضا عن فعل صدر من فعل آخر عن طريق العادة، وليس عن طريق التولد؛ فالعادة فعل جبري في حاجة إلى ضمه إلى نسيج الأفعال الحرة. وأخيرا لما كانت التوبة فعلا متعديا إلى الخارج، كما أنها فعل لازم إلى الداخل، استلزمت أحكام التعويض. وهنا يتحول علم التوحيد إلى علم الفقه لمعرفة هذه الأحكام؛ فالتوحيد أساس الشرع، وتختلف الأحكام الفقهية طبقا للأحكام العقلية في التوبة. والقاعدة العامة أنه لا تقبل التوبة إلا بعد رد مظالم العباد، ثم يفعل الله ما يشاء في حقه؛ فالمهم هو حياة الناس في الدنيا، وليس حياتهم في الآخرة. إذا كانت التوبة من فعل واقعي أدى إلى وضع اليد والاستحواذ، فيجب رفع اليد والتخلي عنه حتى تصح التوبة. وتكون توبة السماسرة والمضاربين بإرجاع الأموال العامة، وردها إلى أصحابها. وصحة الملكية في النفع العام لا في الإضرار العام، ورد الحقوق جزء من أداء الواجبات.
41
رابعا: شمول الاستحقاق
كما أن الاستحقاق ثابت ودائم، فهو أيضا شامل لا يفرق بين مكلف ومكلف، ويظل العمل وحده هو مقياس الاستحقاق دون موافاة الله لأحد؛ أي دون موالاة للبعض أو عداوة للبعض الآخر. فالموافاة تحيز لو كانت قبل الفعل، وهي لا تتجاوز كونها استحقاقا بعد الفعل، والبشارة هي استباق للحوادث، وحكم مسبق بالاستحقاق ثوابا لبعض الأفراد دون البعض الآخر، والاستحقاق عام وليس خاصا. أما الشفاعة فإنها نقص للاستحقاق، وانقطاع للعقاب للعاصين دون المؤمنين؛ فشمول الاستحقاق إذن موجه ضد الموافاة، ولاية وعداوة، وضد البشارة وضد الشفاعة. (1) الموافاة (الولاية والعداوة)
لما كان الاستحقاق أساسا أخرويا محضا، فإنه لا يمكن أن تحدث موافاة فيه بعد أن تتم الأعمال، وينقضي العمر، وينتهي التكليف؛ فالثواب والعقاب لا يكونان استحقاقا إلا في الآخرة؛ فإذا ما حدث توفيق أو خذلان في الدنيا، أي ولاية وعداوة من الله، فإن ذلك يكون تدخلا في حرية أفعال الشعور الداخلية قاضيا عليها؛ وبالتالي نرجع إلى أصل العدل من جديد. والفعل الحسن يولد طاقاته من ذاته، ويصبح أكثر قدرة على التحقيق، في حين أن الفعل القبيح يفرغ الطاقات، ويقضي على الذات، ويؤدي إلى الخذلان؛ لذلك قد يدخل موضوع الموافاة، أي الولاية والعداوة، في حرية الأفعال مع أفعال الشعور الداخلية.
1
الموافاة في الدنيا ولاية أو عداوة، سواء قبل الفعل أو مع الفعل أو بعد الفعل، ليست فقط تدخلا في حرية الأفعال، بل هي أيضا قضاء على التوبة، وسلب الإنسان قدرته على الفعل المتجدد. وسواء كان هذا التدخل بالعلم أو بالقدرة، فإنه في كلتا الحالتين قضاء على شمول الاستحقاق بتخصيص وقتي؛ الإيمان والكفر، وهما لحظتان متجددتان طبقا لاستمرار التكليف. وإن التبرئة المسبقة أو الإدانة المسبقة لقضاء على الاستحقاق كنتيجة لم تتحقق بعد، وكمسار للفعل لم تتحدد وجهته بعد؛ نظرا لحرية الأفعال. وإن الولاية من الله للبعض والعداوة للبعض الآخر لقضاء على شمول الله؛ وبالتالي على شمول الاستحقاق، كما أن الرضا من الله على البعض بصرف النظر عن كفرهم مثل سحرة فرعون، وسخطه على البعض الآخر بصرف النظر عن إيمانهم مثل المنافقين، لهو اهتزاز لكل شيء للاستحقاق على الفعل، ولكن الفعل وحده مناط الاستحقاق. إن رضا الله عن المؤمنين مهما عصوا، وسخطه على الكافرين مهما أطاعوا، لهو نقض أساسا لقانون الاستحقاق، وتصور الثبات في الله مهما تغيرت الأفعال، بل إن هذا الثبات يدل على محاباة وتحيز؛ محاباة المؤمنين لإيمانهم به بصرف النظر عن العصيان، والتحيز ضد الكافرين لعدم إيمانهم به مهما كانت طاعاتهم، وكأن الله لا يراعي إلا ذاته؛ الإيمان به من دونه بصرف النظر عن أفعال الخير أو الشر للعباد.
2
وقد يقال بالموافاة نظرا لعلم الله الشامل الذي يعلم المآل، فيرى الحال من خلال المآل، ويرى الحاضر والماضي من خلال المستقبل. وفي هذه الحال يرد أصل العدل إلى أصل التوحيد، ويضحى بالفعل الإنساني من أجل العلم الإلهي، ولا فرق في ذلك بين الإرادة عند الأشاعرة والعلم عند المعتزلة.
3
وقد ينشأ القول بالموافاة، ليس من تغليب الإرادة والعلم الإلهيين على الفعل الإنساني في فرقة السلطة، ولكن من الظروف النفسية لفرق المعارضة؛ فالموافاة تعطي المعارضة العلنية الجهرية تأييدا لها من الله ضد السلطة، تقوية للمقاومة، وتبريرا نظريا لها من العقيدة. وسرعان ما يوجد المبرر في العلم المطلق والإرادة الشاملة، وكأن أفعال المقاومة وقراراتها مصير محتوم مقدر من قبل، بل إن أفعال الشعور نفسها من اعتقاد وإيمان قدر مسبق يأخذ الله فيه بيد الإنسان، يدبر أمره، وينسج له مصيره، ويقوده إلى غايته مهما كانت أفعال الإنسان. فالموافاة إذن هي هذا الجبر الفعال الذي يوجه أفعال الإنسان إلى غايتها، ينصر بها المظلومين وهم أولياء الله على الظالمين وهم أعداء الله.
4
وقد تتحول الولاية والعداوة من مجرد فعلين لله تعبيرا عن الإرادة والعلم إلى صفتين له في ذاته؛ فالحق الإنساني مؤيد بالولاية الإلهية، والباطل الإنساني مهدد بالعداوة الإلهية. الولاية أخذ الإنسان لله في صفه، والعداوة أخذ الإنسان لله ضد أعدائه. وماذا لو فعل العدو ذلك أيضا، وجعل الولاية من جانبه، والعداوة ضد عدوه؟ يكون الإنسان في كلتا الحالتين قد أخذ المؤله من جانبه ضد أعدائه، سواء كان هو نفسه أم خصمه؛ وبالتالي يتحول الله كسلاح في معارك الخصوم. وأن إثبات الولاية والعداوة كصفات ذات أو حتى كصفات فعل يؤدي إلى القضاء على الحرية الإنسانية؛ إذ تحدد الصفات مصائر الناس فيما يتعلق بأفعال الشعور.
5
وفي جماعة مضطهدة أخرى ولكن سرية تتحول الولاية والعداوة أيضا إلى سلاح لتقوية الجماعة؛ فالولاية للإمام والعداوة لأعدائه؛ فالولاية للذات والعداوة للغير؛ وبالتالي يتحول الله إلى سلاح لتقوية الفرد ضد الخصوم. ولما كثر المتخاصمون أصبح الله سلاحا ضد الكل يضرب في كل اتجاه.
6
إن الولاية والعداوة على هذا النحو ضد الشرع والعقل معا؛ فكثيرا ما يتغير حكم الشرع طبقا لأفعال الناس وانتقالهم من الإيمان إلى الكفر، أو من الكفر إلى الإيمان، كما أن الرضا والسخط من الله تابعان لأفعال الإنسان ومتغيران بتغيرها. ولا ينال ذلك من شمول العلم الإلهي؛ لأن تغير الأحكام الشرعية طبقا للأفعال موجود في العلم الإلهي، فهو علم ثابت بالتغير.
7
إن الولاية والعداوة ممكنان بعد حال الإيمان والكفر، وبعد أفعال الحسن والقبح، كنتيجة وليس كمقدمة، كنهاية وليس كبداية. وإن كل وضع للولاية والعداوة في البداية لهو إنكار لقيمة الفعل ولقانون الاستحقاق؛ تبريرا لأفعال الحاكم اللامشروطة، والذي يرعاه الله بولايته، ويحفظه بالعداوة لأعدائه.
8 (2) البشارة
كما أن الموافاة لا تحدث في الدنيا قبل الأفعال وإلا كانت قضاء على الحرية، ولا في الآخرة وإلا كانت خرقا للاستحقاق، فكذلك البشارة؛ فالبشارة حكم مسبق على الأفعال قبل اكتمالها، وقبل انقضاء العمر، وقبل نهاية الزمان؛ هي تثبيت للحكم بالرغم من سريان الفعل. والحقيقة أن الأحكام تالية للأفعال، وليست سابقة عليها. وإذا كانت البشارة نوعا من إثبات التخصيص والاستثناء، فكيف يمكن إثباتها وفي الوقت نفسه رفض التخصيص في الوعيد؟
9
الفرق بينهما في الإغراء؛ فالتخصيص في الوعيد إغراء على فعل القبائح، لكن البشارة ليست كذلك، ولا أيضا إغراء على فعل الحسنات؛ لأن المبشرين معلومون بأسمائهم وصفاتهم في بدايتهم، وإن كانوا في النهاية يصلون إلى عامة الناس. يبدءون بالعشرة، ثم يصبحون أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية، ثم سبعين ألفا من الأمة يتسع كل منهم في سبعين آلفا آخرين، وفيهم أشخاص بعينهم إن لم يكن واحدا بعينه، وكأنه يساويهم كلهم! وربما يتسع الأمر، فيبلغ كل من بلغته دعوة الإسلام؛ وبالتالي تذهب الأمة كلها إلى الجنة، بشرى للجميع، ويضيع الاستحقاق. وبعد أن يعين الرسول ضمن العشرة الأوائل وهو الذي بشر بهم، قد يدخل في ذلك أيضا آل البيت نساء ورجالا، ممن ظلموا قهرا وعنوة، وممن استشهدوا مقاومة للظلم ودفاعا عن الحق؛ وقد يدخل في ذلك زوجات الرسول، بالرغم من نقد الوحي لهن، واشتراك إحداهن في الحرب وسفك الدماء، خاصة وأن الفريق المختار لم يكن هو أصوب الفرقاء. وماذا لو كان في العشرة المبشرين بالجنة أغنياء القوم في مجتمع أغلبيته من الفقراء؟ وماذا لو كان فيهم من اعتزل الفتنة حتى لا يزاد من سفك الدماء، لا نصرة للظالم، ولا دفاعا عن المظلوم؟ وهل يمكن تعيين المبشرين بالجنة بالاسم، سواء كانوا عشرة، أم ثلاثمائة، أم سبعين ألفا؟ وماذا لو تغير فعلهم بعد البشرى؟ هل تظل البشارة حكما؟ أليس في ذلك أيضا حكر على الإرادة الإلهية؟ ألا يعطي ذلك نوعا من الرخصة في فعل أي شيء حلالا كان أم حراما ما دام الحكم قد صدر؟ ربما يكون الهدف من ذلك هو الإعلاء من شأن الأعمال العظيمة، مثل الشهادة والتضحية بالنفس والوجود في الطلائع والتصدي للمخاطر ونصرة الحق والمحافظة على وحدة الجماعة. ومع ذلك فهي كلها أفعال استحقاق، وليست أفعالا ضد الاستحقاق، بل إن الأنبياء أنفسهم أيضا يخضعون لقانون الاستحقاق، إنما يدخلون الجنة بأفعالهم. وفي النهاية لا يمكن للرواية بنفسها أن تستقل في تأصيل النظر؛ فالمبشرون بالجنة رواية تصطدم بقانون الاستحقاق دواما وشمولا، وطبقا لنظرية العلم الرواية ظن والعقل يقين.
10
كما يتضح أن المبشرين بالجنة هم عادة أهل السلطة ودعاة السلطان، في حين أن المبشرين بالنار هم أهل المعارضة ودعاة الثورة الذين سموا أهل الأهواء، ومعظمهم من الفرق المعارضة. وما أسهل من قيادة العامة من المبشرين بالجنة، ومن حصار المعارضة باتهامها بأنها من أهل النار تنفيرا للعامة منهم، خاصة وأن العامة من أهل الجنة ومن المبشرين بها مع أهل السلطان سواء بسواء. فإن لم تكن هناك بشارة، فهناك على الأقل القطع بإيمان البعض مثل الملائكة أو الأنبياء؛ لأنهم مختوم لهم بالإيمان، ومشهود لهم بالعصمة. والحقيقة أن الاستحقاق لا يكون إلا للمكلفين من البشر، لا ينطبق إلا على الإنسان الذي حمل أمانة التكليف، والنبي كذلك. أما غير البشر من الملائكة والجن فلا ندري عنهم بالعقل شيئا.
11
قد يكون المؤمن المقطوع بإيمان هو ما سماه القدماء «شاهد الحال»، الذي يعذب في معتقده، ويتحمل الأذى لأجله، هو المؤمن قطعا. هنا يكون الإيمان هو التضحية بالذات في سبيل المعتقد، بصرف النظر عن مضمونه. أما إذا كان المضمون عاقلا مستمدا من أصلي التوحيد والعدل، فيكون «شاهد الحال» هو صاحب الاستحقاق.
12 (3) الشفاعة
الشفاعة أيضا، وربما أكثر من الموازنة والبشارة، تنال من شمول قانون الاستحقاق. وقد ارتبطت الشفاعة بالعفو؛ فكلاهما يعطيان مغفرة عن غير استحقاق لأصحاب الكبائر. وكما أن العفو والإحباط نقيضان، فالشفاعة والتوبة أيضا نقيضان، ومن جوز المغفرة بلا توبة جوز الشفاعة، ومن منعها منع الشفاعة. كما ترتبط الشفاعة بالوعد والوعيد؛ نظرا لأنها أحد شبه المرجئة في تخصيص الوعيد والاستثناء منه فيما يتعلق بدوام عقاب الفساق. وهي موضوع سمعي خالص لا يعتمد على الحسن والقبح العقليين، بل على النقل وحده، وعلى مطلق المشيئة. وقد زاد الموضوع أهمية في العقائد المتأخرة، مثل حال كل الموضوعات السمعية كفرصة لإظهار الغيبيات، وكل ما هو ما مضاد للعقل، حتى في الحركة الإصلاحية الحديثة. وكانت أهميتها قد زادت منذ البداية بعد ظهور البدع والحاجة إلى العفو كغطاء من الإيمان على قبح الأفعال.
13
والشفاعة من الشفع، وهو ضد الوتر؛ أي الثاني مع الأول، الآخر في مصاحبة الذات. فالشفاعة تدل على الجماعة والصحبة والتعاون واتجاه الفرد نحو الآخر والآخر نحو الفرد، كما تدل على حاجة الإنسان إلى الغير، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع صار شفعا. وفي الاصطلاح مسألة الغير أن ينفع غيره أو يدفع عنه مضرة. فالشفاعة بهذا المعنى هي اختيار الأصلح من أجل الإنقاذ، وموضوعها وصول المشفوع له إلى حاجته، وهي إما طلب نفع أو دفع ضرر.
14
ولكن يظل السؤال: هل هو اعتماد كلي على الغير، وتشفع به، وتسلق عليه؛ أم اعتماد أساسي على الذات، وثقة أولى بالنفس، ثم بعد ذلك توسع الفعل وامتداده نحو الآخرين؟
وتنقسم الشفاعة أربعة أركان: المشفوع إليه وهو الله، الشفيع وهو الرسول، المشفوع له وهو المؤمن، المشفوع فيه وهو الكبيرة. وتتضمن الشفاعة علو رتبة المشفوع إليه والشفيع عن المشفوع له، وهذا أيضا في طلب الحاجة؛ لذلك كانت فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع، والدلالة على منزلة المشفوع إليه، والمشفوع إليه يكرم الشفيع.
15
ولما كان المشفوع إليه هو الله، فإنه يدخل في العقليات في أصل التوحيد. بقي إذن المشفوع فيه وهو الكبيرة، والمشفوع له وهو المؤمن، والشفيع وهو الرسول.
فالمشفوع فيه هو الكبيرة؛ فالشفاعة أحد حلول قضية التخليد والدوام في النار لصاحب الكبيرة؛ إذ إنه يكون في النار استحقاقا، ثم يخرج منها بشفاعة الرسول.
16
ولما كانت الكبيرة عصيانا وفسقا وفجورا، فالشفاعة تكون أيضا للعصاة وللفساق وللفجار، ولكن لماذا الشفاعة لأهل الكبائر وهناك التوبة؟ وهل تجب الشفاعة التوبة؟ وإذا كانت الشفاعة قادرة على إخراج مرتكب الكبيرة من النار وقطع العقاب، فإن التوبة قادرة على عدم إدخاله النار أصلا. وقد تكون الشفاعة لأهل الأعراف الذين تساوت حسناتهم مع سيئاتهم ويمرون أمام النار، فإذا رجحت حسناتهم سيئاتهم فإنهم يدخلون النار ولا يخرجون إلا بشفاعة الرسول ورحمة الله. فالشفاعة هنا تدخل في الموازنة، وتبطل الإحباط والتكفير، وتكون حاملا مرجحا في حالة الاستواء بين الطرفين. وهي حالة افتراضية أساسا؛ نظرا للطبيعة الخيرة كعامل مرجح فيها. ولماذا تتقدم الشفاعة على رحمة الله أو تساويها وتعادلها؟ أليست رحمة الله كافية كعامل مرجح دون شفاعة؟
17
وقد تكون الشفاعة للكفار لتعجيل فصل القضاء، وتخفيف أهوال يوم القيامة!
18
لذلك كان مكانها يوم الإراحة من الوقف. فهل الله بطيء في العقاب، متباطئ في الحساب، فرح بإطالة الانتظار له ليزيد عذابا نفسيا حاضرا على العذاب البدني المتوقع؟ ولماذا يخفف الله عنهم الأهوال إذا كانت جزءا من العذاب؟ ولماذا يستعجل الرسول، والعجلة في القضاء ضد العدل، كما أن العجلة من الشيطان؟ وقد تكون الشفاعة في الجن والإنس! وماذا فعل الجن؟ هل له رسل وتكليف؟ وهل قبل الأمانة طوعا واختيارا كما قبلها الإنسان؟
19
فإذا كانت الكبيرة أساسا هو المشفوع فيه، فمن المشفوع له؛ المؤمن أم الموحد أم التائب؟ ولماذا الشفاعة؟ هل لرفع الدرجات في الجنة، أو لعدم دخول النار، أو لدخول الجنة بغير حساب؟ هل هي لهذه الأمة أم لكل الأمم بلا استثناء؟ قد تكون الشفاعة لمن استحق دخول النار كي لا يدخلها، وهذا في الحقيقة قضاء على الاستحقاق وعلى دوامه، وقول بانقطاع العذاب أو بعدم وقوعه دون شرط التوبة. وماذا يكون رد فعل من دخل النار عن استحقاق؟ أليس ذلك عدم مساواة في العقاب؟ أليس ذلك إثارة ضغائن في الجنة وثورة في النار لمن لم ينالوا الشفاعة؟ وماذا يكون رد فعل أهل الجنة الذين عملوا الحسنات، ودخلوا الجنة بعد دخول النار، وغيرهم لم يدخل النار شفاعة؟ وأين يذهبون إن لم يدخلوا النار؟ هل يدخلون الجنة أم يبقون في الأعراف؟ وقد تكون الشفاعة لإخراج الموحدين من النار، لمن له ذرة إيمان في قلبه. وهذا أيضا تفضيل للنظر على العمل، مع أن الاستحقاق يقوم على العمل، وليس على النظر، وهو أيضا ظلم الكفار الذين لهم أعمال صالحة. وهو مناقض لقانون الموازنة، الإحباط والتكفير، كما أنه ضد التوبة، وإلغاء لوظيفتها، وقضاء على الهدف منها. وإذا كانت الشفاعة تخفيفا عن بعض الكفار في أوقات مخصوصة، فهذا تخصيص بلا استحقاق، واستثناء دون حق، وتحيز ومجاملة تناقض العدل.
20
وإذا كانت الشفاعة لأطفال المشركين، فهل الأطفال عقلاء بالغون أحرار حتى يكونوا مكلفين؟ وإذا كانت الشفاعة للمؤمنين المطيعين، فإن في توبتهم كفاية لانقطاع العقاب ودوام الثواب.
21
وإذا كانت الشفاعة لصلحاء الأمة ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات، فإن الأعمال العظيمة تجب المعاصي، والتضحية بالعمر وبالنفس تجب اللمم. أما إذا كان المقصود من الشفاعة رفع الدرجات، وبلوغ مراتب أعلى في الجنان، فإن ذلك طمع، ورغبة في المزيد أسوة بما كان يحدث في الدنيا من زيادة غنى الغني، ورفاهية المترف، ويسر الموسر، بمزيد من الطاعات والعبادات. فالدرجات العليا في الدنيا لا بد وأن يقابلها رفيع الدرجات في الآخرة؛ حتى تستمر مزايا الدنيا بدعوى دوام الثواب! كما يؤدي ذلك إلى إثارة الأحقاد والضغائن والمنافسة في الجنة عند من لم تنلهم الشفاعة. وهل في الجنة رغبات وأطماع وهي دار السلام والصفاء؟
22
وتتم الشفاعة لدفع العذاب ولرفع الدرجات ضد قانون الاستحقاق. لا يرفع العذاب إلا بالموازنة أو التوبة؛ لأن الشفاعة دونهما، إعطاء نفع لمن لا يستحق. والدعاء لا يرفع العذاب؛ فالدعاء قول والتوبة عمل، وما أكثر القول وأقل العمل! ولماذا تتم الشفاعة لعدد معين 70000 كل واحد منهم يشفع في 70000 ألفا مثلهم؟
23
فيكون مجموع المشفع لهم 4900000000؛ أي أقل من خمسة مليارات بقليل، وهم أقل من عدد سكان الأرض حاليا بمليار واحد! ولماذا هذا العدد بالذات؟ هل عدد رمزي به الرقم 7، وبه الأصفار والآلاف زيادة في التعظيم والمبالغة؟ أليس هذا العدد أكثر من مسلمي الأرض؛ وبالتالي يتطلب ذلك الشفاعة لغيرهم؟ وهل الرسول على علم مسبق بأفعال العباد المستقبلة، أم هو قانون عام للتاريخ يمكن التنبؤ به؟ وإذا كانت الشفاعة لأهل الجنة من هذه الأمة، فهم ليسوا بحاجة إليها ما داموا في الجنة. وإذا كانت للناس جميعا بصرف النظر عن الأمة تصبح عامة للكل؛ وبالتالي تفقد خصوصيتها للبعض، وفي عموميتها يكون إثباتها مساويا لنفيها.
24
إن إدخال قوم الجنة بغير حساب ضد قانون الاستحقاق، وعدم مساواة بين من دخلها بحق وبين من دخلها بغير حق. وما فائدة العمل لمن دخلها بحق؟ وفيم كان الجهد والتعب والنصب؟ وهل لم يعد العمل هو مقياس الجزاء؟ على الأقل لا بد من وجود مراتب في الجنة لمن دخلها بجهد عرقه، ولمن دخلها شفاعة. وقد يثار خلاف حول أيهما يكون في مرتبة أعلى من الآخر؟ ويلاحظ في المشفوع لهم التضاد في المجموعات بين إدخال قوم الجنة بغير حساب، وبين عدم إدخال قوم النار استحقوا دخولها؛ أو بين إدخال المؤمنين المذنبين الجنة، وبين إخراج العصاة الموحدين من النار. أما باقي الشفاعات فلا حد لها، إنما صاغتها أحاديث من نسج الخيال الشعبي حول البطل والبطولة الفردية، وحاجة الدهماء إلى مخلص. وهنا يبدو الرسول زعيما لأمة، وشيخا لقبيلة، ورئيسا لجماعة.
أما فيما يتعلق بالشفيع وهو الرسول، فإن شفاعته تأتي بطلب الناس بعدما يتقاعس الجميع، ويرفض باقي الرسل؛ إذ يسأل الناس الرسل، فيعتذرون ولا يتقدم إلا سيد الخلق، فيقول أنا لها، ويسجد ويشفع؛ فهو الذي يتصدر الجمع، ويسبق الرسل، ويشهد على جميع الشهداء.
25
وللرسول شفاعتان: شفاعة خاصة وشفاعة عامة. الأولى لمن يستحق من مرتكبي الكبائر، والثانية مقام محمود للناس جميعا. إذا كانت الأولى نوعا من الاستحقاق، فالثانية نوع من التفضل، لا يبدأ الرسول في طلبها إلا بعد أن يسجد، فإذا أذن له الله شفع من أسعد الناس بها، ولا تكون لمن أشرك بالله.
26
فإذا كانت الشفاعة الصغرى خاصة لأهل الكبائر، فإن الشفاعة الكبرى تكون لكل من دخل في قلبه ذرة إيمان، بل لكل مخلوق من البشر إنقاذا له من هول الموقف. فإذا كانت الصغرى زيادة على التوبة، فإن الكبرى قضاء على الاستحقاق كلية، وتغليب للنظر على العمل. وكيف تكون الشفاعة من هول الموقف والحساب لم يتم بعد، وكأن الشفاعة هنا ضد الحساب؛ أي مناقضة لتطبيق قانون الاستحقاق؟ وقد تكون للنبي شفاعات أخرى غير هاتين الشفاعتين، يكثر من ذكرها الخيال الشعبي الذي ينطلق لتحديد زمانها ومكانها وأشخاصها كلما زاد الإحساس بالبطولة الفردية، واشتدت حاجة الإنسان إلى مخلص بعيدا عن فعلهم وخارج أنفسهم.
27
وكيف يشفع الرسول لغيره وهو نفسه بشر ينطبق عليه قانون الاستحقاق، وهو نفسه محاسب مثل غيره من البشر؟ كيف يكون له هذا القدر من الشفاعة وهو أيضا محكوم عليه وليس حاكما، وهو متهم وليس قاضيا؟
والأخطر من ذلك كله هو تعميم الشفاعة لغير الرسول؛ وبالتالي لا تصبح خاصة به وحده وميزة له باعتباره آخر الأنبياء والمرسلين، وتصبح عامة للملائكة والأبناء والرسل والأولياء والصحابة والشهداء والعلماء وصلحاء الأمة والمؤمنين ولكل الناس على قدر منازلهم والفقراء وأطفال المؤمنين. إن تعميم شفاعة النبي له ولغيره يقضي على الخاص فيصبح عاما؛ وبالتالي يضيع كلية قانون الاستحقاق، ووقوع الجزاء طبقا للأعمال، كما أنه يسقط شفاعة النبي كخصوصية له، وهو القصد من الشفاعة، بل إنه ينفي الشفاعة كلية طالما غاب القصد منها، وتوقف معناها الأول، كما أن تعميم الأوقات والأماكن والأشخاص هو قضاء على وقت الحساب وخصوصية المكان وأصحاب الكبائر. وإن إثبات الشفاعة في الدنيا ولكل الناس ليجر إلى الوساطة والمحاباة والتحيز، ويقضي على العمل، وهو أساس الاستحقاق في الدنيا. وكيف تكون الشفاعة لملك والملك غير مكلف أساسا، والإنسان أعظم منه؟ وطبقا لأي مقياس سيشفع الملك؟ كيف نشفع الملائكة في البشر؟ أليس الإنسان أفضل منها بتقبله الأمانة؟ ألم تسجد الملائكة لآدم؟ ألم تعارض الملائكة إرادة الله كما فعل إبليس؟ وهل الملائكة لها رسل وتكليف، خاطبها الله ونادى عقلها واستثار حريتها كما فعل مع الإنسان؟ لا يشفع للإنسان إلا عمله؛ فالاستحقاق أحد مظاهر التكريم. وهل يشفع نبي لنبي آخر مثله؟ وإذا كانت الشفاعة لصاحب الكبيرة، فهل من الأنبياء من ارتكب الكبائر؟ وإذا كان قد حدث فلماذا يشفع للنبي ولا ينال استحقاقه ثوابا بحسناته وعقابا بسيئاته، وهو بشر، أسوة بباقي البشر؟ أليس محمد سيد المرسلين وخاتم الأنبياء والشفاعة خاصة به وتكريم له؟ كيف يشفع له نبي آخر وهو شاهد الشهداء، «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا»؟ وكيف يشفع موسى وهو الغاضب الكاره؟ كيف يشفع نوح وهو اللاعن المدمر؟ كيف يشفع عيسى وهو الحنون القابل لكل الشرور والآثام عن رضا وطيب خاطر؟ كيف يشفع يحيي وهو المقطوع الرأس؟ كيف يشفع النبي وهو يستسلم للقضاء، ويرى أن كل ما يقع من شرور في العالم إنما يتم بإذن الله وبكامل إرادته ومشيئته؟ وهل يشفع الأولياء؟ ألا يضع ذلك الأولياء في مصاف الأنبياء والرسل والملائكة؟ وما مقياس صدق الولاية؟ لقد فرق الفقهاء من قبل بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن؛ من أجل التفرقة بين الكذب والادعاء والسحر والشعوذة، وبين الولاية الحقة. وهل هناك ولاية أساسا؟ أليس ذلك إدخالا لعلوم التصوف في علم أصول الدين؟ إن الاعتماد على شفاعة الأولياء هو تدمير للعقل وللفعل، وهما دعامتا قانون الاستحقاق. وهل تشفع الصحابة وهم أولى بالشفاعة؟ وهل الصحابة في مكانة الملائكة والأنبياء والرسل كشفعاء؟ ألا يخطئ الصحابة ويصيبون؟ الصحابة محاسبون مشفوع لهم مثل غيرهم. كيف يكون المشفوع له شفيعا؟ وهل يشفع عمر إن شفع عثمان؟ ومن يشفع لأبي سفيان؟ وهل يشفع عمر لخالد بن الوليد أو خالد بن الوليد لعمر؟ وهل يشفع الشهداء؟ إن الطليعة قد ضحت بنفسها، وطالما حاولت تجنيد الجماهير معها. فبعد ذلك هل تشفع الطليعة في الخانعين والهابطين والمثبطين والقاعدين والمخلفين الذين اثاقلوا إلى الأرض؟ هل يشفع الشهداء فيمن أعطاهم الشهادة؛ القتلة والظلمة والحكام والسلاطين؟ صحيح أن منزلة الشهادة في منزلة النبوة، ولكن الشهادة عمل، فكيف يشفع العامل فيمن لا عمل له؟ وهل يشفع العلماء؟ والعلماء عكس الشهداء؛ هم أصحاب نظر، والشهداء أصحاب فعل. ألا يعطي ذلك أولوية للنظر على العمل، أو على الأقل يكون النظر مساويا للعمل؟ صحيح أن النظر قيمة، ولكن العمل قيمة أعظم. كيف يشفع العلم للجهل، والمعرفة للشك، واليقين للظن؟ ألم يخش العلماء غير الله، فباعوا علمهم على موائد الحكام؟ وهل يعمل كل العلماء بعلمهم، أم إنهم هم العاملون وحدهم؟ وهل يشفع اجتماع النظر والعمل في أحد أجزائه؛ أي النظر وحده أو العمل وحده؟ وهل يشفع صلحاء الأمة وأتقياء القوم؟ وهل يشفع الأصل في الأقل صلاحا؟ ألا يمنع ذلك الصالح أن يكون أصلح ما دام الأصلح سيشفع له، وما فقده الإنسان في الدنيا يجده في الآخرة، وما لم يحصل عليه في البداية يحصل عليه في النهاية؟ وهل يشفع المؤمنون بعضهم لبعض وكأن الأمر مجاملة، أو بتعبير شعبي «شيلني وشيلك»؟ وكيف يشفع مؤمن لنبي، ويشفع الأقل درجة للأعلى درجة؟ هل المؤمن أعلى درجة من النبي؟ هل يشفع أحد من الصحابة وهم في ذروة الإيمان لمحمد؟ هل يتشفع مؤمن منهم في باقي الأنبياء والرسل في إبراهيم وموسى وعيسى؟ وكيف يتشفع مؤمن لمؤمن آخر؟ في هذه الحالة لن تكون الشفاعة كرامة للأنبياء، وخاصة لخاتم المرسلين، بل تكون عامة لجميع المؤمنين؛ وبالتالي تضيع الشفاعة باعتبارها كرامة للأنبياء. وإن الشفاعة بهذا المعنى لتعطي الإنسان المؤمن أكثر مما يستحق، ويعطى المشفوع له أقل ما يستحق، وتحيل البشر إلى قسمين؛ يدا عليا تعطي ويدا سفلى تأخذ. وكيف يشفع الناس قدر منازلهم؛ وبالتالي تصبح الشفاعة عامة للكل، وتفقد خصوصيتها لواحد بعينه؟ وإذا كانت المنزلة هي التي تحدد قدر الشفاعة، فالعمل أساس المنزلة والشفاعة معا. وهنا تسقط الشفاعة باعتبارها بديلا للفعل. وكيف يشفع الفقراء؟ ولماذا لا يأخذ الفقراء حقهم في الدنيا بدل أن يكونوا وسيلة لدفع العقاب عمن سلبوهم حق الحياة ونهبوا ثرواتهم؟ أليس ذلك إرضاء للفقراء في الآخرة عن طريق الإيهام، وتحويل عبوديتهم إلى سيادة، وضعفهم إلى قوة، وعجزهم إلى إرادة، فينسوا فقر الدنيا أمام غنى الآخرة؟ بعد أن كان الفقير محكوما أصبح حاكما، وبعد أن كان عبدا أصبح سيدا، وبعد أن كان مشفوعا له أصبح شفيعا! وكيف يشفع أطفال المؤمنين الصابرين على البلاء؟ وأي بلاء يصيب الأطفال في الجنان؟ وكيف يرفع الظلم عن الأطفال المذبوحين المعذبين المبتوري الأطراف المبقوري البطون بإيهام الشفاعة لهم، وبأنهم شفعاء لجلاديهم؟
28
لذلك كله كانت الشفاعة مستحيلة؛ بناء على عدم جواز العفو والمغفرة قبل التوبة.
29
وإذا كانت التوبة واجبة فلم الشفاعة؟ وإذا كانت الشفاعة واجبة فلم التوبة؟ الشفاعة على عكس التوبة؛ فالشفاعة لا تحدث تغييرا في القلوب أو الجوارح، في الأفعال الداخلية أو الأفعال الخارجية، في حين أن التوبة تحقق الهدف منها، وهو إحداث التغير الفعلي في حياة الإنسان، والاعتماد على النفس، والتعليم، وتغير الرؤية، وتحسين السلوك. الشفاعة كسب بلا جهد، وثمرة بلا غرس، وجني بلا زرع، ومعلول بلا علة، ونتيجة بلا مقدمات. تقضي الشفاعة إذن على التوبة وقدرة الإنسان على إنقاذ نفسه بنفسه، بفعله المتجدد، وتعلمه عن طريق المحاولة والخطأ. قد يركن الإنسان إلى الشفاعة ما دام يعرف النتيجة مسبقا، أو يهدف إليها قصدا، أو يتاجر بها، ويترك الجهد والتدبير والإرادة والعقل. وقد يصاغ ذلك في حجة جدلية مؤداها أن الرسول إما أن يشفع لصاحب الكبيرة وهو ما لا يجوز؛ لأنه إثابة من لا يستحق، وإما لا يشفع وهو ما يجوز؛ لأنه يقدح بإكرامه. ولما كان المكلف لا يدخل الجنة تفضلا، بل عن استحقاق، وكانت العقوبة على الدوام، فكيف يدخل المطيع الجنة أو يخرج المسيء من النار بشفاعة الرسول مع تأكيد الوحي أنه لا شفيع للظالمين؟ ففي حالة استواء الطرفين بين جواز الشفاعة وعدمها يبرز الاستحقاق ليرجع نفي الشفاعة.
30
إن الشفاعة تثير عدة إشكالات حتى لمثبتيها؛ فإذا لم يشفع الرسول لم تكن له كرامة، وإن شفع فإنه ينقض قانون الاستحقاق، خاصة إن لم تسبقها توبة. وهل الشفاعة أعلى من قانون الاستحقاق؟ أليست الشفاعة نقضا للاستحقاق؟ أليس الله قادرا على الرحمة بلا شفاعة؟ أليست الشفاعة إعطاء النبي أكثر مما يستحق من حيث كونه بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق:
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ ألا تجعل الشفاعة واسطة بين العبد والرب؛ وبالتالي يقضي على أهم خصائص الإسلام؟ إن الشفاعة تقضي على الفعل وعلى الجهد الذاتي، وتجعل الاستحقاق مجرد تفضل. وإذا كانت الشفاعة للحصول على المراتب العليا، فإنها تقوم حينئذ على الطمع من جانب المشفوع لهم، بل وعلى الدنية في الدين وعلى الشحاذة، واليد العليا خير من اليد السفلى. إن الشفاعة أقرب إلى الأخلاق اليهودية، نظرية البقية الصالحة التي لأجلها يغفر الله خطايا باقي الأمة، والتي سمحت لها بفعل ما تشاء وعصيان القانون بفضل شفاعتها لها. وهي أقرب أيضا إلى نظرية
نحن أبناء الله وأحباؤه . والعلاقة الخاصة بين العبد والرب التي لا تقوم على أساس الاستحقاق. وتشبه أيضا عقيدة حمل المسيح لآثام البشر، والتي تسمح للمؤمن أن يفعل ما يشاء ما دام المسيح سيحمل وزر أخطائه بدلا عنه، ويكفر عنه بدمه، ولا يمحوها فقط بشفاعته. وقد تصبح الشفاعة مجرد موضوع شخصي صرف، طلب الشفاعة للنفس وإنكارها على الخصوم. وإن دعاء المرجئة أن يكونوا من أهل الشفاعة هو سماح لهم بأن يكونوا من العصاة أصحاب الكبائر. ومن حق من لم يشفع لهم الغضب والتمرد ما دامت الشفاعة لا تقوم على استحقاق. ولا يمكن اتهام من ينكر الشفاعة بأنه يفعل ذلك لأنه ليس له حظ منها؛ فهذا إسقاط إثبات الشفاعة لسبب شخصي، وهو العفو عن الأخطاء والمعاصي بلا توبة وعن غير استحقاق على من يقوم بإنكارها حرصا على تجدد الفعل في الدنيا بالتوبة، وعلى نتائج الفعل في الآخرة بالاستحقاق،
31
بل إنه في إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة لا يستشفع بالله على خلقه. فما بال الاستشفاع بالرسول على الله؟
32
وهناك أدلة نقلية معارضة على عدم جواز الشفاعة عند القدماء، أو على تعميمها في الرسول وفي غيره، في وقت الحساب وفي غيره من الأوقات؛ فدلالتها على العموم من حيث الأشخاص والأزمان، وليست على الخصوص. ولم يبق عند المعتزلة إلا العفو عن الصغائر مطلقا، وعن الكبائر بعد التوبة، والشفاعة لزيادة الثواب.
33
وهناك شبهات أخرى ضد الشفاعة يذكرها القدماء تجمع بين النقل والعقل، ويصعب تفنيدها؛ فروايات الشفاعة معارضة بمثلها، وتضعيفها لا يزيد على تضعيف روايات الشفاعة ذاتها، خاصة وأنها وردت في روايات أخرى تمنع الشفاعة عن قاتل النفس ومدمن الخمر وعاق الوالدين، وهي أمهات الكبائر التي تقضي على الحياة. وتعارض هذه الروايات أخبارا أخرى تسقط الفعل من الحساب، مثل: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.» أو: «وإن زنى، وإن سرق.» أو «وإن قتل وشرب الخمر رغم أنف أبي ذر.» وهو ما يعارض أيضا روح الوحي وأصل العدل. وإذا كان العمل جزءا من الإيمان، فكيف تتم الشفاعة فيمن لا عمل له؛ أي لا إيمان له؟ وكيف تكون الشفاعة لكل مؤمن وإن لم يكن له عمل؟ إن فصل الإيمان عن العمل، وإخراج العمل عن الإيمان، إغراء على إتيان المعاصي، ودافع على ارتكاب الذنوب. ليس الظلم هو الشرك والكفر النظري، بل هو الظلم العملي؛ ظلم الأفعال:
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . ولا شفاعة تنفع الكافر لأجل أعماله، وليس لأجل نظره. وإن إخراج العذاب من أصل الإيمان والتوحيد وجعله في الكفار وحدهم مجرد نرجسية؛ حبا للذات وعداوة للآخر.
34
والحقيقة أن آيات الشفاعة تشير إلى النفي أكثر مما تشير إلى الإثبات؛
35
فالشفاعة لله وحده، وليس لدونه أية شفاعة.
36
وفي حال الإثبات لغيره تكون مشروطة برضاء الله وبإذنه، أو بعهد اتخذه الله مع الشفيع، أو لمن يشهد بالحق.
37
وتنكر الشفاعة بأسلوب السخرية والتساؤل، وكأن إنكار الشفاعة أمر بديهي لا يحتاج إلى إنكار.
38
وإن وجدت بصرف النظر عن الشفيع، فإنها لا تنفع في شيء، إما لفوات الأوان، أو لعدم استحقاقها.
39
وهي لا تكون على الإطلاق للظالمين أو للتابعين أو للمشركين الذين أشركوا في فعلهم آخرين معتمدين عليهم، تابعين لهم.
40
أما الشفاعة في الدنيا أهي خير أم شر، فذلك أمر إنساني خالص؛ أي من عمل خيرا أو شرا فجزاؤه من جنس ما عمل.
41
خامسا: الموت
بعد إثبات قانون الاستحقاق ودوامه وشموله يبدأ القسم الثاني من المعاد، وهو تحقيق المعاد أو تنفيذه بالفعل في مكان المعاد، وطبقا لإجراءات المعاد. وهي السمعيات بالمعنى الدقيق؛ إذ قد يدخل الاستحقاق كقانون عقلي، إما في موضوع خلق الأفعال، أو في موضوع الأسماء والأحكام (الإيمان والعمل).
1
وقد تدخل السمعيات أيضا كأحد ملحقات النبوة، والنبوة في آخر مراحلها، وقد تتضخم فتصبح هي والنبوة نصف العقائد، كما كان التوحيد من قبل النصف الأول.
2
ولما كانت أحكام المعاد مبلغة من الرسول، فإنه يدخل كأحد جوانب السمعيات مع النبوات والأسماء والإمامة.
3
وفي العقائد المتأخرة وتحت أثر علوم الحكمة، تضمحل السمعيات كلها، ولا يظهر إلا المعاد، وهو ما سبقت إليه الفلسفة.
4
وأحيانا تختفي السمعيات في العقائد المتأخرة، كما أنها لم تكن قد ظهرت بعد في إحدى العقائد المتقدمة.
5
وكما تختفي السمعيات من إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة تتضخم أحيانا في العقائد المتأخرة، وتمتلئ بالأحاديث الغيبية وبالتاريخ والتصوف .
6
وتبدأ المصنفات القديمة عادة بالسمعيات، ثم بقانون الاستحقاق على أساس أنه هو مقياس الحكم وأساس الحساب، في حين أن قانون الاستحقاق هو الأساس العقلي للسمعيات، وما السمعيات إلا تشخيص وتخييل وتمثيل له. وقد يتأرجح موضوع الشفاعة بين الاستحقاق العقلي والسمعيات التخييلية. ومع ذلك يبرز سؤال: هل يمكن وضع السمعيات في بناء عقلي؟ كيف يمكن أن توجد سمعيات في بناء عقلي؟ ونظرا لاعتماد السمعيات على الأخبار؛ أي على صدق النبي، ارتبطت بموضوع النبوة، في حين ارتبط الاستحقاق بموضوع العدل وهو من العقليات. فأمور المعاد كجزء من السمعيات مضادة لأصول التوحيد؛ فالجهل مضاد للمعرفة، والقبول مضاد للتأصيل.
7
ومعظم هذه السمعيات آتية من السنة وليست من القرآن؛ مما يوحي بأنها فرعية لا أصلية، نقلية لا عقلية؛ وبالتالي يمكن الاستغناء عنها، باعتبارها ظنا خالصا تخضع لصدق الرواية ومدى الحاجة لها. فلو كانت مهمة في الدين تعم بها البلوى، لوجدت في القرآن. يقين السمعيات إذن يقين خارجي خالص، وليس له إلا برهان خارجي، وهو صدق الرواية وصحتها تاريخيا. ولما كان هذا اليقين الخارجي لا يصل إلى حد التواتر؛ وبالتالي فإنه يكون ظنيا مرتين؛ مرة لأنه رواية، وأخرى لأنه خبر آحاد. لا تعطي السمعيات يقينا نظريا، خاصة إذا كانت أخبار آحاد، وإنما تعطي يقينا عمليا فقط، وتظل ظنية من حيث النظر. فالغاية من السمعيات إذن ليست إعطاء حقائق نظرية، بل إعطاء توجيهات عملية. لا تهدف إلى يقين العقل، بل إلى احتمال الممارسة. كما أن الحقائق النظرية التي تعطيها ليست ضرورية، أي فطرية طبيعية، ولكنها حقائق مكتسبة تتم عن طريق التعلم والتلقين؛ فهي حقائق لا تنبع من النفس، بل تأتي من المجتمع؛ وبالتالي لا تكون حقائق ثابتة وعامة وشاملة، بل تتغير تبعا لتغير المجتمعات، وتكون مشروطة بمستوى العلم في كل مجتمع وبدرجة رقيه فيما يتعلق بالقدرة على التنظير، والانتقال من مستوى الحس والتمثيل والتخييل إلى مستوى العقل والنظر والبرهان. (1) الانتقال من الحياة إلى الموت
تبدأ رحلة الحياة الأخرى بالموت. فماذا تعني الحياة وماذا يعني الموت؟ وكيف يقع الموت طبعا أم قسرا؟ وإذا تم قسرا، فهل يكون بالقتل أم بالشهادة؟ بفعل الآخر أم بفعل الذات؟ وتتراوح الإجابات على هذه التساؤلات بين ثلاثة مستويات: المستوى الإلهي والمستوى الطبيعي والمستوى الإنساني. فالموت على المستوى الإلهي هو عود إلى موضوع الآجال والأرزاق والأسعار، فالموت هو نهاية الأجل وانقضاء العمر، فلكل أجل كتاب؛
8
فالإيمان بوجوب الموت أحد مظاهر السمعيات. أما المستوى الطبيعي فإنه يجعل الموت موضوعا للعلم. ولما كانت الطبيعيات إلهيات مقلوبة، وكانت الإلهيات أيضا موجهة أساسا ضد الطبيعيات، كان الموت كموضوع طبيعي بين الطبيعيات والإلهيات؛ فإذا كانت الحياة حركة، فالموت سكون؛ وإذا كان الجسم الحي لا يتحرك إلا بدافع، فالموت نهاية للدوافع والبواعث. وما الفائدة من تحريك الله لجسم ميت بلا دافع، وكأن الله يعمل خارج قوانين الطبيعة، بل وضدها؟ أما المستوى الإنساني فإنه متعدد الاتجاهات بين الوصف الصوري والوصف المادي والوصف الشعوري الخالص؛ فالموت مضاد للحياة، والضدان لا يجتمعان. والموت ليس عدما محضا ولا فناء محضا، بل انقطاع تعلق الروح بالبدن؛ مما يتطلب فيما بعد تحديد معنى الروح، وكيفية تعلقها بالبدن. والموت انتقال من حال إلى حال، ومن دار إلى دار؛ فالموت تحول، واستمرار للحياة بشكل آخر، وهو ما يتطلب إثبات المعاد وكيفيته.
9
فإن لم يحدث الموت طباعا فإنه يقع إما بالقتل أو بالشهادة. فما هو القتل وما هي الشهادة؟ لقد عرف القدماء القتل عن طريق تحديد مكانه في القاتل أو في المقتول، في العلة أو في المعلول؛ فقد يكون القتل من الضارب الذي يسبب خروج الروح. وإن حركة الضارب دون خروج الروح لا تكون قتلا؛ فالقتل هنا من العلة أولا قبل أن تكون من المعلول. وقد يكون القتل هو حركة خروج الروح أولا مع كون القتل من القاتل، فيكون القتل في هذه الحالة من المعلول أولا قبل أن يكون من العلة. والمسئولية في الحالة الأولى تعزى إلى القاتل كلية؛ فهو العلة الفاعلة، في حين أنها تعزى إليه في الحالة الثانية جزئيا؛ لأن القتل أولا هو حركة في المقتول بمناسبة القاتل وليست منه. قد يموت المقتول خشية السيف قبل أن يهبط السيف عليه، وفي هذه الحالة يكون القتل من المقتول أكثر من القاتل، ويتأكد ذلك المعنى بجعل القتل في المقتول حينما يخرج الروح منه بسبب القاتل، على عكس الموت عندما يخرج الروح بلا سبب. وقد يكون القتل في القاتل والمقتول معا؛ في المقتول حال وقوع القتل به، وفي القاتل حال فعل القتل؛ فيكون القتل حينئذ في العلة والمعلول في آن واحد. وقد يتحدد القتل في المقتول وحده، لا عن سبب، أو عن كونه معلولا، بل عن طريق إبطال البنية، ومنع الحياة من الجسم، مثل قطع الرأس. فالقتل تغيير في البنية، وحدوث خلل فيها، واضطراب في نظامها.
10
ولما كان تحديد القتل بهذا المعنى يحيل إلى الروح جاز التساؤل عن الروح؛ حتى لا يتم تعريف شيء وهو القتل، بشيء آخر أغمض منه وهو خروج الروح؛ فالروح عند البعض جوهر وإلا لم تقبض، جسم لطيف تشتبك بالبدن كاشتباك الماء بالعود الأخضر. وهي عند البعض الآخر ليست جسما ولا عرضا، بل جوهر مجرد متعلق بالبدن للتدبير، غير داخل منه ولا خارج عنه. هناك إذن تصوران للروح، مادي وصوري، وكلاهما ظن. قد توجد بالأمر والخلق، وقد توجد تدرجيا، وكلاهما أيضا ظن.
11
أما الشهادة فإنها تأتي من التفرقة بين المقتول والميت. فهل كل مقتول ميت؟ فالمقتول ليس بميت من أجل إفساح المجال لحياة الشهداء، فإذا كان كل مقتول ميتا عند البعض، وذلك لأن كل نفس ذائقة الموت، فإنه عند البعض الآخر المقتول ليس بميت. وإذا كان التصديق بالموت يقع عند البعض بالحس والمشاهدة دونما حاجة إلى نص، فإنه عند البعض الآخر هو فراغ الآجال كما هو في النص. فإذا كان الموت عند البعض مجرد اختلال في نظام الطبيعة، كما كان القتل، أو هو مسار كوني، أرحام تدفع وأرض تبلع، دورة مستمرة من الحياة إلى الموت، فإنه عند البعض الآخر مجرد صفة للميت، كما أن الحياة صفة للحي. ولكن يظل السؤال: هل الموت وجودي أم عدمي؟ إذا كان وجوديا عند البعض فهو كيفية؛ أي صفة وجودية تضاد الحياة، ويكون عند البعض الآخر عدمي؛ أي عدم الحياة، ويكون التقابل بينهما مثل التقابل بين الملكة والعدم.
12
ولكن في الشهيد يمحى التقابل؛ إذ إنه ميت حي؛ مما يدعو إلى سؤال: هل الموتى أحياء تتصل أرواحهم بأجسادهم؟ إن لم يحدث ذلك عند الميت، فإنه يحدث بالضرورة عند الشهيد؛ فالشهداء أكمل حياة من الموتى. وهذا هو معنى أن أرواحهم في حواصيل طيور خضر؛ أي إن الأرواح متصلة بالأجساد. فالشهيد حي، وجسده حي، وروحه في جسده.
13
وقد يفسر ذلك في الدنيا بعد آثار الروح في الجسد في قدرة الجسد في الحياة على ازدياد القدرات الحسية فيه (الرؤية والشم عن بعد)، أو في الموت في مقاومة الجسد لمظاهر التحلل. فإذا كان الشهداء أكمل حياة من الموتى، فهل الأنبياء أكمل حياة من الشهداء؟ ولا يقتصر الأمر فقط على الأنبياء الشهداء، مثل يحيى وعيسى، بل على الأنبياء الذين كانت حياتهم شهادة من خلال أعمالهم وإخلاصهم وتفانيهم في أداء الرسالة وتبليغ الأمانة.
14
والحقيقة أن الشهادة تتحدد بأهدافها؛ فليست الشهادة لذة في أبدان الشهداء، سواء لحاجة أم لغير حاجة، وإلا وقعنا في نظرة حسية للأمر، بل تتحدد بالغاية أو الهدف الذي مات الشهيد لأجله. فهناك شهيد الدنيا الذي قاتل من أجل الغنيمة، وهي ليست شهادة، بل طمعا في الرزق وحبا في الدنيا وإيثارا للمال، خاصة وأنه ليس ماله، بل مال الآخرين. وهناك شهيد الآخرة، كالمطعون والمبطون؛ فهو مثل الأول في الثواب، ولكن دونه في الحياة والرزق، ولا تجري عليه أحكام الشهداء في الدنيا؛ فإنه يغسل ويصلى عليه؛ فهو شهيد لأنه مات مقتولا دون توقع، ودون إعداد للموت، اختطفه الموت اختطافا، وانتزعت منه الحياة انتزاعا، يضاف إلى ذلك قدر الآلام. وهناك شهيد الدنيا والآخرة؛ شهيد الحرب الذي قاتل لإعلاء كلمة الله، وهو أعلى الشهداء منزلة، وأرفعهم درجة، وهو الذي يضحي بحياته في سبيل المبدأ والعقيدة.
15
وقد يكون كل من قتل ظلما فهو شهيد، وقد يكون كل من صبر على الألم والقتال في الحروب هو الشهيد، وقد يكون الشهيد هو من جعل حياته شهادة على عصره، مثل الشاهد العدل؛ فالشهيد هو الشاهد، والشهادة تكون على العصر كما تكون بالنفس. الشهادة هي الصبر على البلاء وألم الجراح والمعاناة، وليس مجرد القتل. الشهادة في الحياة، وليست في الموت، وشهادة الموت هي أعلى درجة من شهادة الحياة. ولكن هل تكون الشهادة أحيانا طمعا في الدنيا وتعويضا عن الحرمان فيها؟ فالشهداء في الغالب من الفقراء، وغالبا ما لا يستشهد الغني حرصا على ما لديه في الدنيا، وعدم حاجته إلى التعويض. الشهادة التضحية بالأقل وإيثار للأكثر، التخلي عن العارض بالإبقاء على الجوهر. ومع ذلك فالشهادة في أعلى درجاتها هي من أجل تحويل العرض إلى جوهر، والطارئ إلى دائم؛ وذلك بمقاومة الظلم والطغيان من أجل تحقيق المثال في الواقع، لا هروبا من الواقع، أو تعويضا عن مآسيه، ولا رغبة في المثال وهجر الواقع، والتخلي عن المسئولية عنه. فالشهادة ليست حكما من الله على الإنسان، بل هي الهدف الذي من أجله يضحي الإنسان بحياته تحقيقا له ونصرة لمبدئه. وما دام الشهيد قد ضحى بكل شيء بحياته كلها، فإن ذنوبه في هذه الحالة تستدرك؛ فإن الشهادة أعلى درجة من درجات التوبة. تمتص الأفعال الجزئية داخل الفعل الكلي، ويصبح الفعل الكلي حاويا لكل الأفعال الجزئية، وربما دونما حاجة إلى قانون الموازنة والتكفير عن الجزء بالكل. (2) أحكام الأموات
وأحكام الأموات أقرب إلى علم الفقه منه إلى علم أصول الدين؛ أي إلى علوم الفروع منها إلى علوم الأصول. وتشمل حكم الكفن والمؤنة والغسل والدفن، ومنها حكم الديون والوصايا التي تقضي منهم، ومنها أيضا حكم الميراث. أما الكفن والمؤنة، فمن رأس مال الميت كجزء من تصرفه الأخير، وقبل الديون والوصايا والميراث. وإن تطوع أجنبي بذلك إبقاء لتركته لديونه، فإنه يتم بموافقة ورثته. والتطوع خير وتعاون وبر بالآخرين. وللمقطوع قضاء بعض الديون إرضاء للطرفين؛ للميت وللحي على السواء، أفضل من الكفن والمؤنة. فإن لم يكن له مال فكفنه ومؤنه على من كان ينفق عليه في حياته، كرد للجميل وحسن للصنيع. فإن لم يكن ففي بيت المال؛ مال المسلمين ما يغني عن الجميع، فالأمة كفيلة بأبنائها في الموت إن تناستهم في الحياة. وكفن المرأة ومؤنها على الزوج، أو عند ذوي الأنساب منها. وإن لم يكن لها ذا ولا ذاك، أو كانوا ولكن عن عجز، ففي بيت المال غنى عن الجميع.
16
فمواراة الجسد التراب بكل مظاهر الاحترام والتكريم حق للإنسان يقوم به الآخرون عنه؛ ذوو القربى أو من ينوب عن الأمة. واحترام الجسد امتداد لاحترام الإنسان، واحترام الإنسان حيا كجسد وحقه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن حق ممتد منذ لحظة الموت في الغسل والكفن والمؤنة، فلا تأكله السباع، ولا يترك جيفة، ولا يحرق فتذروه الرياح، أو يلقى به في البحر، أو يحنط حفاظا عليه من البلى، أو يوضع رفاته في حائط. إنما نشأ الجسد من الطين وإلى الطين يعود، وخرج من الأرض وإلى الأرض يعود.
أما حقوق الآخرين فيتم ردها بالبينة، وبشهادة الميت وقت الصحة، ثم وقت المرض، ثم بإقرار الورثة بعد الموت.
17
وتقسم حقوق الآخرين طبقا لنسبة الديون؛ إقرارا للعدل، وأداء للحقوق. فإن كانت التركة تفي بالديون، ولا يفيض منها شيء، قضيت؛ وإن كانت تقصر عن الديون، وكان صاحب الدين واحدا، قضي إليه بعد الكفن والمؤنة؛ وإن كانوا جماعة، وكان بعضهم أولى من بعض، كالمرتهن والمجني عليه وراد السلعة بالعيب ونحوهم، فهو مقدم فيما أولى به على غيره؛ فالحقوق أولويات، ورد الحاجة إلى المرتهن أولى من تعويض المجني عليه، وتعويض المجني عليه أولى من رد السلعة المعابة. وإن كانت ديونهم في الذمة، ولم يكن بعضهم أولى من بعض، قسمت التركة بينهم طبقا لمقادير ديونهم، فإن لم تكن كافية قسمت التركة بينهم طبقا لنسب ديونهم، فإن فضل شيء قضي كما أقر به الوارث؛ فحقوق الآخرين دين في رقبة الورثة، والورثة هم امتداد للميت، وللوفاء بحقوق الآخرين.
أما الوصايا والعطايا فإنها تقلل من حدة الميراث؛ فالمال للغير بصرف النظر عن الأنساب والأرحام وصلة الدم والقرابة. فالوصايا الثلث، وللورثة رد ما زاد منها على ثلثي الباقي من التركة بعد المؤنة والديون.
18
أما العطايا في المرض فقد تكون من الثلث، وقد تكون من رأس المال، إلا العتق في المرض؛ فإنه من الثلث.
19
وتقدم العطايا في المرض على الوصايا، وتقدم من كل واحدة منها ما قدمه إذا عجز الثلث عن الكل؛ فإرادة المحتضر وقرار آخر لحظة في حياته في النهاية له الأولوية على نسب التوزيع للتركة، وكأن الإنسان حتى آخر لحظة قادر على الفعل الإرادي الخاص قبل القانون الصوري العام.
أما الميراث، أي ما تبقى من التركة، فليس هناك إلا القانون الصوري العام طبقا لنسق القرابة. ولا تعني القرابة هنا مجرد النسب والعصب والدم، بل تعني درجة الارتباط بالميت والشعور به؛ الفرح بحياته والحزن بموته، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، بين الآباء والأجداد، بين الأبناء والأحفاد (النسب الطولي)، ولا فرق في ذلك بين أبناء الأعمام أو العمات (النسب العرضي)، ولا فرق في ذلك بين الزوج والزوجة بحكم العشرة المشتركة التي تعادل حكم القرابة والرحم، ولا فرق في ذلك بين العصبة والحلف، بين الحر والمولى المعتق.
20
أما الصدقة والدعاء والصلاة على الميت، فإن كل ذلك يدل على إمكانية استمرار فعل الإنسان حتى بعد الموت، من خلال فعل الآخرين فيه وأثرهم عليه، كما أن الإنسان بعد وفاته يكون له أثره على الآخرين من خلال أفعاله وسننه وأعماله وأفكاره، فكذلك للآخرين أثر عليه من خلال صدقاتهم ودعائهم وصلاتهم له، وهو حق الإنسان مردود إليه؛ فكما أدى الإنسان خيرا في حياته للآخرين، فإنهم يردون له الخير في مماته. فالصدقة تقع من الحي إلى الميت، وواجب الأنا تجاه الغير، واستمرار لفعل الميت وكأنه حي عن طريق الصدقة، بصرف النظر عمن يقوم بها كحركة جسدية. والدعاء، دعاء الحي للميت، يعني استمرار حياة الميت، وإعطاءه فرصة أخرى للفعل، هذا إذا كان دعاء للأحياء فعلا. أما إذا كان مجرد التعبير عن أمان بصدق، والتركيز على الأهداف بالقلب مما يخلق موضوعه الشعوري كشرط لإيجاد بالفعل، فالدعاء للآخر يكون من هذا النوع، استمرارا لأمانيه، وتركيزا لقلب الآخر عليها من أجل إيجادها. أما الصلاة على الميت فهي أيضا استمرار لحياة الميت وأثره في الآخرين، وكأن الميت ما زال يعيش في مجتمع المؤمنين ودائرة الأصدقاء. كل ذلك يعني التواصل لا الانقطاع. وبالرغم من أن الموت نهاية لفعل الفرد المباشر بالجسم، إلا أنه بداية لفعل الآخرين بالجسم امتدادا لفعل الميت واستمرارا لقصده. وقد يحدث التواصل بين الآخرين بصرف النظر عن المعتقدات النظرية؛ لذلك تجاب دعوة المظلوم حتى ينتصر من الظالم؛ ففي مقاومة الظلم وإقامة العدل يتساوى كل الناس.
21 (3) هل هناك ملاك للموت؟
وعلى الضد من اعتماد علم أصول الدين على علم الفروع والوفاء بحقوق الميت، يظهر علم أصول الدين على نحو غيبي خالص بالنسبة لملاك الموت. فنظرا لعظمة الموت وجلاله وهيبته كان الموت أصل نشأة الدين كله، ثم أصبح له ملاك، كما أن لله ملائكة نظرا لعظمته وجلاله، وكما أن للملوك أعوانا ووزراء. لما كان الموت حدثا ضخما في حياة الأفراد والجماعات، أصبح له ملك، وتم تشخيصه بالخيال. وملاك الموت عزرائيل، أي عبد الجبار،
22
عظيم الهيبة ضخم البنيان، رأسه في السماء العليا، ورجلاه في تخوم الأرض السفلى، ووجهه مقابل للوح المحفوظ، والخلق بين عينيه، وله أعوان بعدد من يموت، يرفق بالمؤمن ويعنف بالكافر. يظهر للمؤمن بصورة حسنة، وللكافر بصورة بشعة. يقبض أرواح البشر، الإنس والجن، ويقبض أعوانه أرواح البهائم والحشرات! وهو من رؤساء الملائكة، لا يجوز سبه، بل إن سبه كفر. كان يأتي لقبض الروح جهارا. ولما تصور في صورة شخص لقبض روح موسى، فقأ موسى عينه، فلم يظهر منذ ذلك الوقت. ولا يحكم على موسى؛ لأن موسى من الأنبياء الحكام! ثم أعاد الله عينه له. كان يقبض الروح بغير مرض، فكثر سب الناس له، فشكا إلى الله، فجعل الله الأمراض قبل الموت وعلة له يشغل الناس عنه. وهو آخر الملائكة موتا، الملائكة يموتون بعد النفخة الأولى ويحيون قبل الثانية! إذا جاء والعبد على عمل صالح يسهل الموت عليه، وإذا جاءه وهو على السواك يسهل أيضا عليه، وكأن العمل الصالح يعادل السواك في الفم! ومما يسهل الموت وما بعده من الأهوال صلاة ركعتين ليلة الجمعة بعد المغرب، وقراءة سورة الزلزلة بعد الفاتحة خمس عشرة مرة؛ فهي تعادل نصف القرآن. ويتضح من هذا كله أنها صور فنية للتعبير عن العظمة والهيبة والخشية والفزع والرغبة في الاطمئنان والتخفيف من آلام الموت. فاسمه يعني العظمة والجبروت؛ مما يتفق مع هيبة الموت. منظره مفزع؛ تعبيرا عن خشية الإنسان منه. جدار رأسه في السماء العليا، ورجلاه في تخوم الأرض، تعبيرا عن الضخامة، وأنه يملأ الأرض بجسده، ومحيط بكل شيء، بصرف النظر عن إمكانية الحركة لمثل هذه الضخامة، وعدم التناسب بين ملاك الموت وبين الإنسان من حيث الحجم، والتناقض بين المتناهي في الكبر والمتناهي في الصغر، وعدم الاقتصاد في الحجم، وعدم التناسب بين الوسيلة والغاية، بين الفيل والنملة. وإن وجود وجهه في مقابل اللوح المحفوظ تعبير أيضا عن الضخامة وعن العدالة؛ فاللوح المحفوظ به كل شيء، وكأن عزرائيل يقرأ منه آجال الناس، وينفذ ما فيها من انقضاء للأعمار. وإن أضواء الخلق بين عينيه يدل على أنه لا كم بعده؛ فالخلق عدد كبير، ولكنه قادر على احتوائهم بين عينيه والإحاطة بهم، حتى دون ذراعين، وكأنه قادر على الإطاحة بهم إذا ما حرك الجفنين أو الرمش الواحد! وهو بهذا الوصف رئيس الملائكة؛ فالموت له الكلمة النهائية في الحياة. وكيف يكون رئيسا على جبريل وهو حامل الوحي ومبلغ الرسالة؟ وهل الموت أعلى قدرا من الوحي؟ وكيف يكون الموت أعلى قدرا من الحياة لما كانت المحافظة على الحياة من ضمن مقاصد الوحي؟ وهو آخر الملائكة موتا تعظيما وإجلالا؛ فالقابض على الأرواح قادر على أن يكون أطول حياة من الآخرين. ومن الذي سيقبض روحه؟ هل سيقبض روح نفسه؟ هل سيميته الله؟ ولا يجوز سبه احتراما للموت؛ فالجليل والعظيم لا يسب، ولكن الإنسان القوي قادر على الوقوف أمامه وتحديه، بل ومنازلته وفقء عينه كما فعل موسى القوي. وإذا كان صاحب حكم فلا تثريب عليه ولا عقاب؛ فالإنسان يقهر الموت لو كان قادرا عليه. وإن إعادة الله لعينه من جديد لعود إلى الهيبة والاحترام له؛ حتى تخشع له النفوس. والناس أكثر احتراما للمبصر من الأعور. ويتضح صراع الفكر العلمي مع الفكر الغيبي الأسطوري في جعل الأمراض سببا متوسطا بين الإنسان وملك الموت؛ حتى لا يسبه الإنسان، ويجعله مسئولا عن إنهاء حياته، فينشغل الإنسان بالمرض عن ملاك الموت؛ أي بالعلم عن الدين! ويتضح الأساس الإنساني في نشأة الأسطورة في سب الإنسان لملك الموت، ثم شكاية هذا الأخير لله، ثم عقد المصالحة بين الاثنين عن طريق طرف ثالث وهو العلية. ولما كان للموت خشية ورهبة، فإن ملاك الموت يظهر بصورة حسنة للمؤمن، وبصورة كريهة للكافر، كما أن ملك الموت يرق مع المؤمن في قبض روحه، بينما يعنف مع الكافر، وكأن الحساب قد بدأ من قبل، وكأن الحكم بالثواب والعقاب قد صدر قبل الاتهام، وقبل الدفاع، وقبل الشهود، وقبل المحاكمة! وإذا كان العمل الصالح طريقا لتخفيف أهوال الموت، بما في ذلك قراءة القرآن، فلماذا سورة بعينها في وقت معين، وكأن الأمر مجرد حجاب أو أحجية أو تعويذة تقي الإنسان من الشر؟ وكيف يكون السواك على مستوى العمل الصالح وقراءة القرآن، وهو أقل تقوى وصلاحا، ومجرد اقتداء شكلي بعادات الرسول، أو تمسك بنظافة الفم والجسد، وطهارة الروح أولى؟ وإذا كان ملك الموت قابضا لأرواح البشر تكريما لهم، بالرغم من صعوبة أن يتم ذلك كله في وقت واحد وفي مكان واحد لعديد من الناس يموتون في وقت واحد في أماكن مختلفة، فإن أعوانه يقبضون أرواح البهائم والحشرات مع أنها غير مكلفة، لا تفرح لثواب، ولا تخشى من عقاب.
23
ملك الموت إذن صورة فنية تعبر عن هموم الإنسان نحو الموت، وهي أبلغ في التعبير والتأثير من مجرد الوصف العلمي أو التنظير العقلي لواقعة الموت.
سادسا: حياة القبر
بعد الموت تظهر أمور المعاد أو الأخرويات بالمعنى الدقيق ابتداء من حياة القبر؛ فبمجرد دفن الميت ومواراة الجثة التراب، هل ينتهي كل شيء انتظارا ليوم البعث والنشور، ابتداء من علامات الساعة حتى يوم الحساب واستحقاق الإنسان الثواب والعقاب، الجنة أو النار؟ إن حياة القبر فيما يبدو هي حياة متوسطة بين الموت الأول والحياة الثانية، استمرار للحياة الأولى في القبر قبل أن يموت الإنسان ميتة ثانية هي الميتة الدائمة حتى يوم البعث ويوم الحساب، وتسمى حياة البرزخ؛ أي الانتقال من الحياة إلى الموت عن طريق حياة ثانية مؤقتة. ومع أنه لفظ قرآني، إلا أن استعماله كثر عند الصوفية في وصفهم لعوالم الروح. حياة القبر إذن من الأمور المتوسطة بين الدنيا والآخرة، وقد كثرت الإشارة إليها في العقائد المتأخرة، أو في الشروح المتأخرة على العقائد المتقدمة، ثم تحول بعد ذلك إلى موضوع مستقل يعمل فيه الخيال الشعبي بحرية تامة، بصرف النظر عن علم أصول الدين.
1
البرزخ إذن هو الحياة المتوسطة بين الموت والبعث، تتراءى فيه أحوال القيامة قبل البعث، تعرض النار على الكفار. ولكن لماذا لا تعرض الجنة أيضا على المؤمنين؛ لينعموا بريحها، ويتنشقوا نسيمها، كما يتألم الكفار من لهيب النار؟ وهل في القبر زمان، فيعرض فيه الموتى على النار صباحا ومساء؟ وكيف تعرض النار على الكفار والجنة على المؤمنين، والحساب لم يتم بعد، ولم يحدث دفاع، ولم ينطق حكم، ولم يوقع جزاء؟ ربما هي بقايا العقائد القديمة في حياة القبر، كما هو الحال في تاريخ البشرية عند بناة الأهرام، كسكن للموتى وتحنيط الأجساد ووضع الطعام والشراب والحلي معه؛ حتى تنعم الروح حين تعود إلى الجسد. وربما هي رغبة في قهر الموت واستمرار الحياة؛ تخفيفا لآلام القبر، وحرصا على راحة الميت، وما زالت ذكراه حية في الأذهان، والدموع في الأجفان، رغبة في الاتصال؛ إذ لا تعقل هذه الفجوة بين الموت والبعث، بين الفناء والخلود. (1) هل تعود الروح؟
ولكن افتراض حياة في القبر يتطلب عودة الروح إلى الجسد، فهل تعود الروح إلى الجسد بعد مفارقته؟ وماذا تفعل الروح إذا عادت ولم تجد جسدا موارى في التراب، كما هو الحال في الغريق الذي طواه اليم، أو الجسد الذي أكله السبع، أو الذي مزقته السيوف إربا إربا، أو الذي حرقته النار فصار رمادا؟ أين تعود الحياة؟ هل تعود الأجزاء إلى الجسد حتى يكتمل ثم يعود إليه الروح، أم تعود الروح إلى الأجزاء المتبقية؟ وماذا لو كان الجزء المتبقي هو اليد أو الأصبع دون القلب أو الرأس أو اللسان؟
2
لقد رأى القدماء أن الحياة ترد إلى «عجب الذنب»، وهو آخر سلسلة في العمود الفقري من أسفل، والتي منها يخرج ذيل الحيوان، فهو الجزء من الجسد الذي لا يفنى ولا يأكله التراب، ومنه بدأ الخلق الثاني والبعث، وهو المكان الذي يجمع بين الصلب والترائب، والذي فيه يتكون المني ويحفظ، وهو ماء الحياة الذي منه يبدأ الخلق والتكوين في الأرحام. وكيف يعذب أو ينعم «عجب الذنب» دون أن ترد فيه الحياة؟ وكيف ترد الحياة إلى العظم قبل أن يكسوها اللحم وتسري فيه الدماء؟ وقد يؤجل رد الحياة إلى «عجب الذنب» إلى البعث والنشور قبل الخروج من القبور ليوم الحساب. وهل يظل النخاع في «عجب الذنب»، ولا يجف حتى تبدأ منه الحياة من جديد؟
3
وكيف ينعم أو يتألم «عجب الذنب» وهي عظام نخرة، ليس بها جهاز عصبي للآلام والإحساس إن لم ترد إليها الحياة؟ وهل تتألم العظام الحية ونخاعها بها طري لم يجف بعد؟ وهل اللذة والألم يحدثان في العظام، ويتحولان إلى إدراك يتم المقصود بهما في عبرة الإنسان وجزائه على الأعمال، أم مجرد لذة وألم لموضوع طبيعي غير مدرك لا اعتبار له، ولم يفعل شيئا بمفرده، بل كان مجرد آلة لإنسان عاقل ومريد باختيار؟ وإذا ما تحلل البدن، فأين تعود الروح قبل أن يحيي الله العظام وهي رميم يوم البعث والنشور؟ ومتى تعود الروح إلى الجسد؟ هل تعود بمجرد مواراته ووضعه في اللحم وطيه في القبر؛ أي بعد الموت مباشرة والجسد ما زال طريا حيا، به لحم ودم وعظم، وقبل أن يتساقط الجلد ويتشقق الرأس، وما زال بالجسم بعد مظاهر الحياة، أم بعد أن يتحلل ويبلى وتأكله الديدان؟ وهل ستنتظر الروح قبل أن تعود تحول الجسد وفناءه حتى تعود إليه وتحييه؟ وكم من الوقت تظل حياة القبر قبل أن يبدأ الموت الثاني انتظارا للبعث والنشور؟ وهل تحفظ الروح الجسد من البلا إذا ما عادت إليه؟ وهل تحرك الروح الجسد، وتجعله قادرا على الكلام؟ يبدو أن عودة الروح إلى الجسد الغرض منها الرد على الأسئلة التي يلقيها الملكان؛ فتانا القبر، وكأن دور الإنسان في الإجابة فحسب دون إلقاء أي سؤال أو اعتراض!
4
وما الفائدة من جواب المؤمن أو الكافر وقد انتهى العمر، وانقطع التكليف؟ وقد سجل كل شيء من قبل، ولا داعي لإجابات نظرية إضافية، وأعمال الإنسان في دنياه خير إجابة على نظره. وهل النظريات أفعال؟ وكيف يصر الكافر على كفره وقد علم أن الأمر جد، والمعاد حق، ولا يأخذه فرصة للتوبة؟ وهل المقصود من السؤال الامتحان والاختبار لوجود فرصة للاختيار ومراجعة المواقف؟ وكيف يتكلم المؤمن وينطق بالشهادتين؟ وما الفائدة من ذلك وأعماله في الدنيا خير شاهد على إيمانه من قبل؟ وماذا لو أخطأ في الإجابة من هول الموقف، ومن الظروف غير العادية التي هو فيها؟ وماذا عن الكافر صاحب الأعمال الحسنة، ولكن في إطار نظري مخالف؟ وماذا يقول المؤمن العاصي الذي يجيب صوابا نظرا، ولكن أعماله مخالفة لإجاباته؟ وماذا يقول الحكيم المتأول صاحب العمل الصالح؟ وماذا يقول اليهودي والنصراني الذي اهتزت تصوراته في التوحيد والعدل؟ وماذا يقول اللاأدري أو الشاك أو الملحد؟ وكيف يتحدث الأبكم؟ ولا يتضح الهدف من إعادة الروح إلى الجسد؛ أهو المعرفة النظرية أم التعذيب والتنعيم؟ هل مجرد الإجابة على سؤال الملكين أم الجزاء، ثوابا كان أم عقابا؟ يبدو أن الهدف من إعادة الحياة إلى المادة يكون بالقدر الذي يمكن به سؤال الملكين وعذاب القبر أكثر من نعيمه، وليس لباقي الأفعال الاختيارية. ويظل الميت في قبره دفينا بلا حرية في أسئلته أو في أفعاله، وقد كان من قبل سجينا حيا، وهو الآن سجين ميت؛ شقاء في الحياة وعذاب في الممات! لذلك قد يكون من الأسلم عند البعض الآخر أن تكون حياة القبر بالروح لا بالبدن، وأن يكون السؤال والعذاب بالروح لا بالبدن. ويخلق ذلك إشكالا آخر وهو مستقر الأرواح. أين كانت الأرواح قبل أن تأتي إلى القبر؟ وهل للروح مكان تنتقل منه أو إليه؟ ولماذا تعود الروح إلى القبر بالذات حيث يرقد الجسد، وهي ليست في حاجة إليه، وقد كان يمكن للمساءلة والعذاب أن تتما خارج القبر؟ قد يكون الأمر كله مجرد خيال شعبي يقوم على شدة الارتباط بالموتى الأعزاء، وكما ظهر في تاريخ الفكر البشري، ابتداء من عبادة الموتى وأرواح الأسلاف وإعادتها وزيارتها، ثم بناء الأهرام وتحنيط الجثث والإعداد للحياة الأخرى باعتبارها استمرارا للحياة الدنيا. وقد تكون حياة القبر المرحلة الثالثة في تاريخ البشرية؛ مرحلة متوسطة بين الموت والحياة، حتى تأتي مرحلة رابعة وأخيرة تكون الكلمة فيها للعلم.
5 (2) أين مستقر الأرواح؟
إذا كانت الأرواح تعود إلى الجسد، فهي تنتقل من مكان إلى مكان؛ وبالتالي يبرز سؤال: وأين مستقر الأرواح؟ وهل هناك تصور مكاني لها؟ وإذا كانت الأجساد مطمورة في القبور، فالأرواح لا بد وأن تكون في مكان ما. وتتراوح التصورات لمستقر الأرواح بين التصورات المكانية الحسية الفجة، وبين التصورات المكانية الروحية التي تتناسب مع موضوعها؛ فقد تكون الأرواح في بئر أو في صناجة الجابية؛ فإذا كانت أرواح الكفار فهي في بئر، وإن كانت أرواح المؤمنين فهي في الجابية؛ أي في مكان أفضل. روح الكافر في مكان عميق مغلق مظلم، في حين أن روح المؤمن في مكان مسطح مفتوح منير. وهو أقرب إلى التصورات القديمة عند شعوب المنطقة (اليونان والرومان)، ودياناتها (اليهودية والنصرانية). وقد تكون الأرواح على أفنية قبورها تحوم حولها وتدور فيها، سواء كان الفناء مفتوحا أو مغلقا، عاريا أم مستورا. وهو تصور أقرب إلى طبيعة الروح الطائر الذي يحتاج إلى مكان فسيح مفتوح حتى تسهل الحركة فيه. وفي هذه الحالة ألا تخطئ الأرواح قبورها، أو تكون أقرب إلى الحمام الزاجل الذي يخطئ منطلقه وهدفه؟ وهل تظل الأرواح طائرة فوق أفنية قبورها ليل نهار، أم تهدأ أحيانا وتستقر في مكان ألصق إلى الأرض؟ فإذا ما عادت الحياة إلى القبر، هل تهبط الأرواح من الأفنية إلى أقبية، ثم إذا ما انتهى السؤال والعذاب تصعد من جديد إلى الأفنية، وتظل هكذا إلى يوم البعث والنشور؟
6
وقد تكون الأرواح في مكان روحي متسق مع طبيعتها، وهو أقرب إلى الزمان منه إلى المكان، وهو البرزخ الذي تم فيه «عهد الذر»؛ فقد خلق الله الأرواح جملة، وهي نفس الأنفس العاقلة الحاسة، وأخذ عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجسام والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء، وهو البرزخ، والذي ترجع إليه بعد الموت. ولا يزال يبعث منها إلى الأجساد المتولدة من المني المنحدر من أصلاب الرجال في أرحام النساء، ثم يتم امتحان الناس واختيارهم في الدنيا. وبعد الوفاة تعود الأرواح إلى البرزخ الذي منه أتت. رآها الرسول ليلة الإسراء والمعراج عند السماء الدنيا؛ أرواح أهل السعادة على يمين آدم، وأرواح أهل الشقاء على يساره عند «منقطع العناصر». وهنا يتم الخلط بين الزمان والمكان؛ فالبرزخ زمان، ومنقطع العناصر والسماء الدنيا مكان. وتعود الأرواح من جديد إلى الأجساد من البرزخ إلى القبور يوم البعث والنشور وحين قيام الساعة، وهي الحياة الثانية. فالحياة الثانية ليست في القبر، بل استعداد لليوم الآخر. وتنقسم الأرواح فريقين: السعداء على يمين آدم، والأشقياء على يساره. وهو تصور مكاني. كما تعجل أرواح الأنبياء والشهداء والسعداء إلى الجنة، وتتباطأ أرواح الأشقياء إلى النار، وهو تصور زماني. وإن تصور البداية بالعهد قبل الأجسام يجعل من الصعب تصور إمكانية الخطأ، وإلا كانت الأجساد أقوى من الأرواح، مصدرا للنسيان؛ نسيان العهد، وإنكارا للشهادة.
7
إن الحكمة من الإسراء هي التدليل على إمكانية تحويل عالم الغيب إلى عالم شهادة يمكن رؤيته؛ أي إدراكه بالحواس، ومعايشته بالتجربة. ولا يمكن تأويل «عهد الذر» على أنه عهد التزام بالطاعة، وإلا كان حجة للبشر لا عليهم، وإسقاطا للأمر، وإلا لما وجد على الأرض إلا مؤمن؛
8
لذلك يأتي التصور الآخر للروح على أنه عرض في مقابل هذا التصور الماهوي على أنه جوهر؛ فالروح عرض لا يبقى وقتين، يعود ثم يفنى آلاف المرات في الثانية الواحدة. هو روح متجدد، صيرورة الحياة والموت، انتقال من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود.
9
وهو تصور أقرب إلى التصور العلمي القائم على التوحيد بين الروح والمادة؛ فإذا كان التصور الأول يقوم على ثنائية الروح والبدن والتمييز بينهما ومفارقة أحدهما للآخر، فإن التصور الثاني يقوم على التوحيد بين الروح والبدن، وعلى أحادية النظرة للإنسان. وما الروح والبدن أو الحياة والموت إلا حالتان يتبدل عليهما الإنسان، وينتقل من إحداهما إلى الأخرى. وفي مقابل هذين التصورين الميتافيزيقيين تركز إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة على تحريم زيارة قبور الصالحين والأولياء دون الدخول في المتاهات القديمة؛ إما لقصورها الفكري، أو لتركيزها على السلوك العملي للمسلمين؛ فالموت ظاهرة اجتماعية، والتبرك بالقبور وزيارتها تخل عن الاعتماد على النفس، وشرك بالتوحيد، وإنكار للعدل؛ أي لقدرة الإنسان النظرية والعملية.
10 (3) هل هناك سؤال للملكين؟
وسؤال الملكين أو جوابهما نيابة عن الإنسان نتيجة عودة الروح إلى الجسد؛ فلا حساب ولا سؤال أو جواب بدون حياة. وقد يكون الهدف من إعادة الروح إلى الجسد هو سؤال الملكين للميت في قبره، وامتحانه فيه، واستنطاقه مكنون نفسه قبل يوم الحساب. وقد يكون الهدف من السؤال هو إعادة الروح إلى الجسد، وإثبات حياة القبر؛ وبالتالي يتردد الإنسان؛ أيهما علة وأيهما معلول؟ هل إعادة الحياة إلى الجسد من أجل السؤال، أم إن السؤال من أجل إعادة الحياة إلى الجسد؟ وقد تعود الروح إلى الجسد دون أن يحيا الإنسان من جديد حياة اليقظة، بل يكون أشبه بحلم النائم؛ فإذا ما تيقظ الإنسان كلية فقد يعارض، وقد يفعل، وقد يختار. والنوم موتة صغرى، والموت نومة كبرى. وإذا ما عادت الروح إلى أجزاء الجسد وليس إلى جله، فكيف تتكلم أجزاء الجسد التي دفع الله بالحياة فيها؟ كيف يتكلم القلب وحده بلا لسان وشفتين؟ هل هناك لغة غير منطوقة بلا لسان وصوت وفم ، وبلا عقل وذهن وإدراك؟ وقد ترد الحياة إلى النصف الأعلى؛ لأن بها الرأس والفهم ومعظم الحواس، دون النصف الأسفل. وكيف يمكن إحياء جزء وترك الباقي؟ أليس الوعي كيفا خالصا دون كم؟ وهل يتجزأ الوعي الخالص أو يوجد في مكان؟ فإن استعصى السؤال للبدن، فإنه يكون للروح. فالسؤال في هذه الحالة لا يتطلب عودة الروح إلى الجسد، بل مجرد عودة الروح. والسؤال للروح الخالص أفضل من سؤال الجسد الميت. والأمثل هو سؤال الروح في البدن بشرط عودة الروح وحضور البدن. ومن أين تأتي الروح؟ وإلى أين تعود؟ هل تأتي من البرزخ، وتعود إلى القبر؟ وأين مستقر الأرواح؟
11
والآن، لماذا يسأل الملكان والميت الحي يجيب؟ وهل يقتصر دور الإنسان وهو في هذه الظروف غير العادية على الإجابة؟ إن السؤال أقوى من الجواب، والجواب مشروط بالسؤال. السؤال يدل على قوة السائل، في حين أن الإجابة تدل على ضعف المجيب؛ لذلك كان السؤال والجواب أقرب إلى الاستجواب، كما يتم في أقسام الشرطة لتحرير المحاضر، أو في أجهزة المخابرات للتعرف على الجناة. وهل هناك اعتراضات وشهود؟ هل هناك تسجيل وتدوين؟ هل هناك تسجيل للحساب؛ مناقشة وردود واعتراضات؟ وما الهدف من السؤال وكل الإجابات معروفة سلفا، قد تم تدوينها في صحائف الأعمال في الدنيا، وتعرض على الإنسان في الآخرة، فيأتيها المؤمن بيمينه والكافر بشماله؟ فإذا كان حساب المناقشة وطلب العلية أهم من حساب العرض الإخباري الخالص، يكون سؤال الملكين في القبر أهم من الحساب الختامي. ولماذا حساب المناقشة المبدئي والله وملائكته يعلمون الرد، وكل شيء لديهم في لوح محفوظ؟ لماذا السؤال والإجابة عليه معروفة سلفا، ومدونة في صحائف الأعمال؟ ألا يعرف الملكان الإجابة قبل السؤال؟ إذن يكون السؤال في هذه الحالة أقرب إلى الامتحان الكاذب أو الاختبار الخادع؛ لأنه لا توجد فرصة للمراجعة أو التعلم أو التوبة. وإذا كانت الحكمة من السؤال إظهار المؤمنين من بين العصاة، أليس ذلك معروفا من قبل؟ وهل يحتاج الله إلى أن يتباهى أمام الملائكة بالمؤمنين؟ وهل من صفات الله أن يفضح الكافرين أمام الملائكة أم ستر عيوبهم؟ وكيف يفضح الله الكافرين أو يشمت فيهم أمام الملائكة والزمان ما زال، والميت في القبر، والصلاة على الميت والدعاء له مستمر من الآخر، ويوم البعث لم يحن بعد؟ ألا يصيب ذلك المؤمن بالغرور والكافر بالحسرة؟ وماذا عن دفاع الكافر بأنه ما زال في القوس منزع؟ وكيف يصدر الحكم عليه قبل الدفاع، ويدان قبل المرافعة؟ إن هذا لأشبه بالحساب قبل يوم الحساب أو بحساب صغير قبل الحساب الكبيبر، بتدريب على الحساب وتمرين عليه، بتمثيل حساب قبل الحساب النهائي الفاصل، وإلا فكيف يبدأ الحساب قبل قيام الساعة؟ هذا هو هم الساعة قبل الأوان. يتراءى المستقبل في الحاضر كما يتراءى الحاضر في الماضي. والعجيب أنها كلها أسئلة نظرية خالصة عن التصورات والمعارف، وليس أسئلة عملية عن النظم والأفعال، وكأن الإيمان له أولوية على الأفعال، وكأن النظر له وجود مستقل عن العمل؛ فالأسئلة كلها عقائدية حول الله والرسول والدين، وليست أسئلة عملية حول تطبيق الشريعة أو حقوق الإيمان وواجبات المكلف. والأعجب من ذلك كله عدم تساوي الأسئلة من حيث الصعوبة بين المؤمن والكافر. فتعطى الأسئلة السهلة للمؤمنين والصعبة للكافرين؛ حتى تسهل إجابة الفريق الأول، وتصعب إجابة الفريق الثاني محاباة وتحيزا، وهو ما يناقض أبسط قواعد العدل وتكافؤ الفرص. وكيف تختلف أحوال السائلين في الضعف والشدة، في الرفق أو الغلظة، في المساعدة وعدم المساعدة، في السهولة والصعوبة، في طول المدة أو قصرها، في وضوح الموضوع وغموضه، في تكرار السؤال وعدم تكراره، وفي عدد السائلين؟ وهل من العدل أن يعطى المؤمنون أسهلة سهلة في موضوعات واضحة في مدة طويلة مع مساعدة الملكين لهم ومعاملتهم الرقيقة معهم، في حين يعطى الكافرون أسئلة صعبة في موضوعات غامضة وفي مدة قصيرة ودون مساعدة وفي معاملة غليظة؟ وكيف لا تكون الأسئلة واحدة لكل من الفريقين، المؤمنين والكافرين، فيسأل البعض في أجزاء، بينما يسأل الآخر في الكل؟ كما تكون الأسئلة عامة للبعض وخاصة للبعض الآخر. وتكون الأسئلة عن الأشخاص بلا تعظيم لهم؛ حتى يكون للإنسان جرأة على الحكم بلا خوف من العظماء، وبلا تبجيل لهم، كما هو الحال في الدنيا. ويدل ذلك على إسقاط أمور الدنيا على بدايات الآخرة عن طريق النفي والسلب، وكأن قياس الغائب على الشاهد ليس فقط هو أساس العقليات في أصلي التوحيد والعدل؛ مما يؤدي إلى التجسيم والتشبيه، بل والتنزيه، بل أيضا هو أساس السمعيات في أمور المعاد. والأعجب من ذلك كله هو حدوث غش في الامتحان عندما يساعد الملكان المؤمن في الإجابة، ولا يساعدان الكافر، بل إن الأمر يصل بالملكين إلى حد التدليس على الكافر؛ حتى يوقعاه في الخطأ عنوة، ثم بعد ذلك يعذب في القبر وفي الآخرة بعد الحساب النهائي؛ جزاء له على خطئه! وكيف يكون الملكان معصومين من الخطأ طبقا لعصمة الملائكة، ثم بعد ذلك يقومان بالتدليس على الكافر، فيزيدا شقاءه شقاء، وعذابه عذابا، وهو ما يناقض الرحمة الإلهية، خاصة إذا كان الغرض من سؤال الملكين هو إعطاء فرصة للعصاة من أجل النجاة؟ وهل لا بد أن ينجح المؤمن بالضرورة وأن يرسب الكافر بالضرورة؟ وقد يكون لدى الكافر جواب سديد صريح، ولا يكون لدى المؤمن إلا النفاق والرياء. قد يكون عند الكافر إبداع أصيل، ويكون عند المؤمن تقليد مميت. يبدو أن ظروف السؤال كامتحان تناقض العدل؛ وبالتالي تناقض السمعيات العقليات. وفي هذه الحالة تبقى العقليات، ويعاد تأويل السمعيات؛ حتى تتفق مع العقليات، وتفهم أمور المعاد طبقا لأصل العدل.
12
ويتجاوز الأمر الامتحان إلى توقيع العقاب، فيضرب الكافر بالمرزبة عقابا له على جهله أو خطئه، وكأن الإجابة بعدم المعرفة خطأ، في حين أنه يخطئ من يفتي بغير علم. والحقيقة أن الإنسان ما دام عقله معه فهو قادر على الإجابة، بل قادر على أن يتحول من المسئول إلى السائل، وأن يأخذ بتلابيب الملكين ويسألهما بدوره عن ربهما ودينهما ورسولهما، فتنقلب الآية، ويصبح المسئول سائلا والسائل مسئولا. هذا السؤال هو فتنة القبرة، والملكان السائلان هما فتانا القبر، وكأن الإنسان لم تكفه فتن الحياة حتى تلاحقه الفتن حتى القبر! ولماذا يكون في القبر فتنة وهو مظلم، والميت قد انتقل من الدنيا إليه، وهو عالم جديد لم يألفه؟ ولماذا لا يكون هناك نوع من تخفيف العقاب، عذاب الوحدة والوحشة والظلمة والقبضة والضغطة والصمت؟
ولمن يكون سؤال الملكين في القبر؟ أللجن والملائكة؟ وهل عاشت الجن والملائكة في الدنيا وماتت ثم دفنت أجسادها وواراها التراب؟ وهل هي مكلفة ومحاسبة في الدنيا، وفي حاجة إلى فتنة في الآخرة؟ قد يكون السؤال للجميع باستثناء الملائكة والجن. وفي هذه الحالة، لماذا لا يسأل الملائكة؟ هل لأنهم غير مكلفين؟ ولماذا لا يسأل الجن؟ هل هم مكلفون مثل الإنس ما دامت لهم رسل مثلنا، وما داموا أمما مثلنا؟ وهل للملائكة والجن قبور يتم السؤال فيها؟ وهل تموت الملائكة والجن كما نموت نحن؟ وكيف يمنع الجن طاعة الإنسان في شهر رمضان؟ أيكون هو المسئول عن معاصي الإنسان فيه؛ وبالتالي يصطدم عمل الجن مع أصل العدل وخلق الإنسان لأفعاله؟ وكيف يسجن الجن في شهر رمضان؟ ومن الذي يطلق سراحه فيما بعد؟ ومن هم سجانوه؟ وكيف؟ وأين؟ وقد يستثنى الأنبياء من السؤال وأطفال المسلمين والصبية والعشرة المبشرون بالجنة والصديقون والشهداء وقراء القرآن، وقد تتوالى الاستثناءات حسب الاختصاص والإعجاب! فما الفرق بين قراء القرآن وحملة العلم؟ وما الفرق بين الأطفال وبسطاء الناس وحسني النية وأصفياء القلوب؟ ألا يكون ذلك ضد قانون الاستحقاق، والحكم سلفا قبل أن يصدر الحكم طبقا للأعمال؟ أم إن هؤلاء جميعا أحكامهم بديهية معروفة مسبقا، ليست في حاجة إلى إصدار بعد مداولة؟ وماذا عن معاصي الأنبياء وذنوبهم في حالة عدم العصمة؟ هل لأن الحسنة الكبيرة تحجب السيئة الصغيرة طبقا لقانون الإحباط والتكفير؟ وفي حالة عدم السؤال، كيف يسأل الأنبياء عن عقائد نظرية هم رسلها وحملتها والمبلغون بها والمؤتمنون عليها؟ وكيف يسأل الأنبياء عن جبريل والوحي، خاصة وكأن هناك شكا في علمهم أو إيمانهم بها؟ وكيف يسأل الصبية والأطفال عن عقائد نظرية وهم قبل سن التكليف؟ وكيف يساوى في السؤال أو عدم السؤال الأنبياء والأطفال أو الصبية والرسل؟ وكيف يسأل محمد خاتم الأنبياء والمرسلين والشاهد على الرسل والأمم؟ ولماذا لا يسأل ملازم سورة تبارك، أو من قرأ سورة الإخلاص في مرضه ثلاثا، أو من مات يوم الجمعة أو ليلتها؟ هل في القرآن إنقاذ؟ وهل تتفاضل سور القرآن؟ وهل يتفاضل الموت في أيام الأسبوع والإنسان لا حيلة له في تحديده، فلكل أجل كتاب؟ أليس من يقرأ القرآن في مرضه أخوف ممن يقرؤه في صحته؟ وهل هناك تفاضل في أسباب الموت؟ ومن مات بالطاعون فقد مات غيلة، ولم تعط له فرصة النجاة والتوبة. والطاعون هنا أشبه بحوادث الطريق، والسكتات القلبية، والموت الفجائي دون إعداد. قد يكون كل ذلك أقرب إلى الخيال الشعبي الذي يعبر عن تقديس الأبطال والقديسين واحترام العلماء وتقديس القرآن ويوم الجمعة، وتفضيل سورة على أخرى نظرا للسهولة العملية والمقتضيات الإجرائية، أو الموضوعات المطابقة للمواقف، مثل قراءة سورة «يس» على المقابر.
وإذا كان السؤال للكفار دون المؤمنين، فكيف يتم ذلك والإجابة معروفة سلفا؟ وهل الكفر نظري أم عملي؟ وإذا كان السؤال للمؤمنين أيضا مع الكافرين، فالجواب أيضا معروف سلفا، وإلا لما كانوا مؤمنين، ولما أمكن تمييزهم عن الكافرين. وكيف يلهم المؤمن الجواب وكأنه لا يعرفه، وكأن إيمانه أعمى، بالإضافة إلى أنه غش في الامتحان؟ وهل المؤمن عاجز عن الاعتماد على النفس والإجابة من علمه وإيمانه وتصديقه؟ ولماذا يضرب الكافر ولا يساعد مثل المؤمن في شيء، ويسرع إليه العذاب وكأن وقته قد حان، وساعة الحساب قد حلت؟ وإذا كان السؤال للمسلمين وحدهم، فهل يكون على المسائل النظرية، والحساب ليس على النظريات، بل على الأفعال؟ وما فائدة السؤال عنها والإجابة يعرفها المسلم مسبقا وإلا لما كان مسلما؟ وإذا كان السؤال للأمة كلها، فمن المسئول في الأمة؟ وإذا كان السؤال للأمم كلها، فالناس كلهم مسلمون مكلفون، حتى الذين لم تصلهم رسالة الأنبياء. وكيف يسأل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، لنا منهم أعمالهم دون تصوراتهم؟ وهل يكون السؤال عن عقائدهم الخاصة ورسلهم، أم عن أعمالهم التي يتساوى فيها الجميع؟ وكيف يحاسب الملكان كل الأموات، ولدى كل الأمم في كل أطراف الأرض؟
13
وهل هناك فرق بين حساب المناقشة القائم على طلب العلة في سؤال: لم فعلت هذا؟ وحساب العرض القائم على الإخبار في سؤال: فعلت هذا وغفرته لك؟ والتعليل أساس الشرع، وهو السؤال الحق، في حين أن الإخبار ليس سؤالا. وكيف يسأل عن التعليل وكل شيء معلوم، خاصة في عقيدة الجبر ونظرية الكسب، ما دام الله فاعلا لكل شيء. وأهداف الإنسان ودوافعه معلومة أيضا في خلق الأفعال. وما الفائدة من حساب العرض إذا كانت المغفرة قد أعطيت من قبل؛ وبالتالي لا يكون المسئول فيها في وضع المساءلة الفعلية وهو يعلم الإجابة سلفا، وكأنها مساءلة شكلية في أوضاع متميزة لمسئولين من العلية؟ ومتى يقع ذلك؟ إذا كان السؤال بين النفختين في الصور، فذلك يكون قبيل البعث، وليس بعد الدفن مباشرة والجسد ما زال طريا قادرا على تقبل عودة الروح والإحساس بالعذاب. هل هو إذن استباق للمستقبل ورؤياه في الحاضر؟ وما الفائدة منه إذا كان الحساب سيتم وسيعرف الإنسان النتيجة؟ وكيف يتم سؤال الملكين بين النفختين والملائكة تموت في الحال؟ كيف يصح السؤال من ملائكة تموت؟ وقد لا يبدأ السؤال بمجرد الموت قبل الدفن، ولكن بعد أن يدفن؛ فقبل الدفن ما زالت الميت بين أهله، وحوله حياة الصراخ والعويل، اليأس والأمل، الحب للفقيد والترحم عليه. فالفقيد ما زال في الذاكرة لم يطوه النسيان. وما إن يطويه ظلام القبر تبدأ الحياة المتصلة، ويبدأ السؤال بعد التفرغ، وكأن لحظة السؤال تتفاوت بين الآخرة والدنيا، بين آخر الزمان قبيل البعث وبين أول الزمان بعيد الدفن.
14
فإذا سهل حل الزمان فإنه يصعب حل المكان. فماذا يحدث لو لم يدفن الميت، ولم يعرف له قبر، مثل الذي أكله السبع، أو الذي طواه اليم، أو الذي تحول إلى رماد في الحريق؟ وماذا لو انتقل الميت من قبر إلى آخر؟ وماذا لو اختلطت عظامه بعظام غيره في المدافن الجماعية إثر الكوارث والحروب، أو في مقابر عامة المسلمين؟ وبأي لسان يتم السؤال؟ بالعربية؟ وماذا عن غير الناطقين بالعربية؟ أم بالسريانية؟ أم يسأل كل واحد بلسانه؛ مما يتطلب معرفة الملكين بكل اللغات؟ وهل يسأل الملكان أم يكفي واحد منهما؟ وهل من العدل التخفيف على البعض بسؤال ملاك واحد، والتصعيب على البعض الآخر بسؤال الملكين معا؟ وهل من العدل أن يجتاز إنسان امتحانا واحدا، وأن يجتاز غيره امتحانين؟ وهل من العدل أن يسأل واحد سؤالا واحدا أو ثلاثة أسئلة أو ثلاث مرات، وأن يسأل الآخر أكثر من سؤال وأكثر من مرة؟ وهل من العدل أن يسأل واحد يوما واحدا أو سبعة أيام، وأن يسأل آخر أربعين صباحا؟ إن كثرة الأسئلة وطول مدة الامتحان تدل على أن الطالب صعب المراس، قادر على الصعود والحوار والجدل أكثر من صاحب الأجوبة الجاهزة على الأسئلة القليلة في المدة الوجيزة. الأول امتحان للكبار، والثاني امتحان للصغار. الأول امتحان يقوم على الرأي والمقال، والثاني يقوم على مجرد وضع علامات صواب أو خطأ على أجوبة معروفة سلفا.
15
وهل من العدل أن يسأل بعضهم عن بعض اعتقاداته، والآخر يسأل عنها كلها؟ هل من العدل إقامة امتحان لمتسابقين خصمين؛ الأول في جزء من المقرر، والثاني في المقرر كله؟ وهل موضوعات الامتحان نظرية خالصة ولسانية قولية مثل الشهادتين وأمر التوحيد؟ صحيح أن الأسئلة الشخصية مثل الإيمان بمحمد: ماذا تقول في هذا الرجل؟ وإنما القصد منها عدم التعظيم للأشخاص؛ ليتميز الصادق في الإيمان عن المرتاب، وحتى تنزع هالة التقديس عن موضوعات السؤال. ولكن الإجابة بنعم من واحد قد لا تدل على الصدق الفعلي، كما أن الإجابة بلا أدري من آخر لا تستدعي الشقاء إلى الأبد؛ فالشك بداية اليقين، وعلم ببرهان خير من إيمان بتقليد، ومن أفتى بغير علم فقد جهل، ومن لا يعلم فإنه يقول الله أعلم. وهل يليق بالملائكة تعذيب البشر إلى هذا الحد، وهو ما يعارض صورة الملاك ووصفه في الخيال الشعبي وفي التجربة البشرية؟ وهل تصبح صورة الملكين دائما هي صورة عزرائيل، ملك الموت؟ كما أنه يصعب تحديد مكان وقوف الملكين حين السؤال. قد يقف واحد منهما عند الرأس، والآخر عند القدمين؛ للإحاطة بالميت من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. وهل يجوز وقوف الملاك عند القدمين أم إن رتبته في الشرف تتطلب الوقوف عند الرأس، فالرأس أشرف من القدم؟ الأول على يمين الرأس، والثاني على يساره من على الكتفين، وكأنهما محمولان على الإنسان، قريبان من الأذنين والشفتين واللسان. وهل يصل حجم الملكين إلى هذا الحد القليل بحيث يدخلان القبر الذي لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار، ويقفان على رأس الإنسان في مساحة لا تتجاوز شبرا واحدا؟ والخيال الشعبي والروائيات تجعل الملاك من حيث الحجم أكبر بكثير من حجم الإنسان، يصل حجم البعض إلى ما بين السموات والأرض! وقد تزداد التفصيلات في وصف الملكين والمعاونين لهما، وكلما تزداد التفصيلات يزداد الشك في الرواية، كما تزداد نسبة الخيال الشعبي؛ فيدخل عنصر اللون في العيون، فتكون إحدى العينين سوداء والأخرى زرقاء، وهما لونان أحدهما داكن والآخر فاتح، لونا الخير والشر، الإيمان والكفر، مثل الأسود والأبيض، وزرقة السماء مثل بياض القلب. وقد يكون كلاهما أسودي العينين؛ فالسواد لون البشاعة والقبح. وقد تعني زرقة العين مجرد تقليب البصر والتحديق إلى القبور؛ حتى يظهر بياضها، ثم تحول المعنى اللغوي إلى وصف شيئي. وقد يحمل أحدهما بيده مطرقة من حديد يضرب بها رأس الكافر عندما يعبر عن لاأدريته وشكه، فيصيح من وجع الضربة، بينما يتراءى للمؤمن مقعده من الجنة بعد أن أبدل الله مقعده من النار بعد اجتيازه الامتحان والإجابة على السؤال!
16
وقد تظهر ملائكة أخرى مساعدة، مثل ناكور ورومان، يقومان بدور المراقب العام! يعلن رومان الامتحان، أو يفتح محضر السؤال والجواب! وقد يسمى الملكان «رقيب وعتيد»، الثاني أعنف من الأول، كما هو الحال في منكر ونكير، ولكن قد يسبقهما رومان الذي يطلب من الميت أن يجتاز الامتحان كتابيا، وأن يكتب ما عمله في الدنيا. ولا مجال لاعتراض الميت بأنه لا قلم له ولا مداد ولا قرطاس؛ إذ يخبره رومان بأن القلم أصبعه، وبأن المداد ريقه، وبأن الكفن قرطاسه! وهل يكتب الأصبع؟ وهل يترك الريق الأبيض علامة على كفن أبيض؟ أو هل تتسع رقعة الكفن للكتابة خاصة لأعمال الأشقياء؟ ألم يدون كل شيء من قبل في صحائف الأعمال؟ وهل يتذكر الإنسان وهو ميت كل فعله في الدنيا؟ وما المانع ألا يكتب إلا الخير؛ إنقاذا للنفس؟ وكيف يكتب من دفن ويداه مبتورتان، أو الذي لم يدفن وكان بلا جسد بعد أن أكله السبع، أو ابتلعه اليم، أو التهمته النيران؟ وأين يكتب من دفن بلا كفن، أو من سرق كفنه لصوص المقابر، أو دافنو الموتى بعد مغادرة الأهل وإنهاء مراسم الدفن؟ وبماذا يكتب من جف ريقه، ولم يعد في حلقه مداد من هول ما يرى؟ وماذا يفعل الأمي الذي لا يعرف الكتابة؟ وهل يجوز أن يقطع رومان قطعة من الكفن، فيعري الجسد؛ كي يكتب عليها الميت أعماله، ثم يعلقها رومان على عنقه بلا خيط أو مشبك؟ وماذا لو طالت القطعة، ولم يكف الكفن، فيصبح الميت عاري الجسد مغطى الذقن؟ وقد يظهر إبليس متشفيا منتصرا بعد سماع إجابة الكافر، وإن لم يظهر متحسرا حزينا على إجابة المؤمن. ولكي تكتمل الصورة قد يقعد إبليس في ركن من القبر حتى يستكمل غوايته حتى آخر لحظة، وكأن الوقت وقت التكليف. ولا يثبت النبي ولا توجد أية رقية منه لمساعدة الميت، كما كان الحال في الدنيا عندما كان الوحي مساعدا للإنسان في مقابل الغواية، وكأن الإنسان في حياته كان له معين، ولكن بعد مماته يكون وحيدا بلا نصير.
ولإيجاد حل لكل هذه الصعوبات يلجأ إلى الأساس النفسي؛ إذ يخيل للإنسان أنه محاسب بين ملكين له خاصين، فهما له وللجميع في الوقت نفسه، في كل زمان ومكان، وكأن الأمر مجرد إحساس شعوري أو خيال شعبي يدل على تجربة إنسانية؛ تجربة الموت، وما قد يتخيله الإنسان المهموم بسلوكه وأفعاله لما قد يحدث بعد الموت. ويظل الإنسان مطاردا بالغواية والإيقاع حتى ما بعد الموت، في حياة القبر!
17
والحقيقة أن كل هذا الوصف إنما يأتي من الروايات والأخبار الضعيفة، والتي لم تعتمد عليها كتب العقائد المتقدمة ، بل امتلأت بها الشروح المتأخرة مستمدة مادتها من تآليف مستقلة عن علم أصول الدين، بعد أن أصبح موضوعا مستقلا تكثر فيه التآليف في فترات الانحطاط؛ تعويضا عن مآسي العصر وأحزان الزمان وهزائم المجتمعات وانهيار الدول؛ فتنشأ الأخرويات كتعويض عن الدنيويات، وكانتصار للروح بعد هزيمة البدن، وكأمل في المستقبل بعد ازدياد الكرب في الحاضر. كلها روايات وأخبار لا تتوافر فيها شروط التواتر، وفي مقدمتها الاتفاق مع العقل والحس ومجرى العادات، بل ولا حتى ترتقي إلى أخبار الآحاد. وهي على هذا النحو لا تعطي اليقين النظري أو العملي. لم يرد منها شيء في أصل الوحي الأول وهو القرآن، وليس في الحديث الصحيح كل هذه التفصيلات النظرية التي لا تهم السلوك العملي وتوجيه حياة الناس؛ فهي أمور لا تعم بها البلوى، ولا ترتبط بها مصالح الأمة. إنما يمكن فهمها بناء على تحليل التجارب البشرية، وهي ليست التجارب التي يعتمد عليها المتأخرون لإثبات حياة القبر الصحيح منها، مثل النوم أو المرض مثل الهلوسة وباقي الأمراض العقلية، أو ما سماه القدماء عجائب النفس، وما نشاهده من صور أو خيالات في النوم أو اليقظة، بل التجارب البشرية العادية، مثل الرغبة في قهر الموت وتجاوزه، واستمرار الحياة، والخوف من عواقب الأمور، وتحسب نتائج الأعمال.
18
وقد تبدو أهمية ذلك في مراقبة النفس وحسابها، خوفا من الله، والرقابة على الذات واستدراك الأمور، ولكن الخيال الشعبي حولها إلى استجواب كما يحدث في المباحث العامة، وتعذيب كما يحدث في المخابرات العامة، وتسجيل اعترافات كالتي تقوم بها أجهزة الأمن؛ قياسا للغائب على الشاهد، ونقلا من الواقع إلى الخيال. وقد كانت البداية مجرد أسماء ثم تحولت إلى أشياء بعد تحجر التجارب الحية الفردية والاجتماعية، وخلقها موضوعات من ذاتها تشخصها وتتعامل معها، فيسعد الإنسان بوهمه وخياله الذي صنعه. قد يكون منكر هو العقل والقول، ونكير هو الحكم عليهما بذلك، وليسا شخصين أو ملكين. تتحول الأسماء إلى معان مستقلة، ثم تتحول هذه إلى أشياء، ثم تتشخص الأشياء وتحيا وتصبح شخصيات حية، كما كان الحال في ألقاب المسيح. فهما للمؤمن مبشر وبشير، وبالنسبة للكافر منكر ونكير. هي أسماء تعبر بدلالاتها على التجربة الإنسانية، بل إنها ألفاظ يعبر بها الإنسان عن تجاربه في الحياة، ثم تتحول الأسماء إلى معان، ثم إلى أشياء، ثم إلى أشخاص، ثم تصبح مقدسات وفاعلات في العالم ضد الإنسان أو معه طبقا لعواطف الإيجاب والسلب وانفعالات الخير والشر. وهو ما يحدث باستمرار في ألقاب الأنبياء وصفات الآلهة.
19
ويقوم الخيال الشعبي المتصل بنوع من التواتر المعنوي، فيصبح مترادفا عند عديد من الشعوب، يعبر عن حكمة البشر وتجاربهم الحية عبر التاريخ. فهناك ملك للخير على اليمين، وملك للشر على اليسار، كريمان كاتبان، يدونان كل شيء إلى يوم الحساب. وهي الثنائية الدينية التقليدية المعروفة في الديانات القديمة القائمة على الصراع بين الخير والشر. وقد كانت هناك أنماط سابقة من هذه الخيالات في البيئة الحضارية القديمة فيما يتعلق بحياة القبر، سواء في ديانات مصر القديمة، مثل عودة ألكا وألبا إلى القبر وتحنيط جثة الميت واستئناف الحياة من جديد فيه، وكذلك في أسطورة إيزيس التي لمت أشلاء زوجها وأخيها أوزوريس، فعادت إليه الحياة، أو في معجزات المسيح، وتقطيعه الطير أربعة أجزاء، ثم جمعها وعودة الحياة إليه. يمكن إذن بدراسة أساطير الموت والبعث دراسة مقارنة من خلال تاريخ الأديان معرفة هذه الأنماط المثالية الأولى، التي عليها تم نسج صور حياة القبر في بيئة حضارية لم تكن تريد الإحساس بالنقص أمام سير الأولين وقصصهم. وما أكثر الصور الشعبية حول الموت وحياة الميت بعد الموت، مثل تلك التي يطير فيها التابوت، أو يخف حمله وسط تهليل المشيعين وراءه بأنه من أولياء الله، يتشبثون به حتى لا يطير في الهواء، أو يسير التابوت بسرعة، أو يتوجه نحو حبيب أو شخص أليف، ثم يحط في مكان ولا يتزحزح منه، فيدفن فيه بناء على رغبة الميت واختياره الأخير. وفي حياة القديسين بعد الموت، ومقاومة رفاتهم للفناء والتحلل، أمثلة أخرى عديدة على أن الروح قادرة على أن تظل في الجسد بعد موته، فتحافظ عليه وتحرسه من الفناء، وقادرة على اختراق المادة، والإبقاء عليها دما وعظما في أوعية أمام أنظار المشاهدين، على ما هو معروف في تاريخ الأديان وتقديس رفات القديسين. وقد أفاض المتأخرون في هذه الأوصاف؛ اعتمادا على الخيال الشعبي، وإلهابا لمشاعر العامة، ونقصا في العقل عند الداعية والجمهور وبموافقة السلطة. وكان من الطبيعي في مقابل إثبات حياة القبر وصورها كأشياء، أن ينشأ رد فعل بالإنكار أو بالتأويل.
20
والحقيقة أنه يمكن تحويل هذا الجزء كله إلى عقليات عن طريق التساؤلات حوله؛ حتى يمكن فهمه عن طريق درء المعارض العقلي؛ حتى لا تكون أمور المعاد الأخروية أضعف أجزاء علم أصول الدين. كما يمكن تحويلها إلى صور فنية الغرض منها التأثير على الجمهور، وتصبح جزءا من تاريخ الأدب الديني. كما يمكن تحويلها إلى فلسفة لتجاوز الموت؛ فلسفة أمل مثلا، أو فلسفة حياة متصلة. وقد تكون في النهاية بدايات علوم للمستقبل، وحساب المستقبل، والتنبؤ بمساره في صورتها الأولى عندما كانت مرتبطة بتاريخ الأديان. (4) هل يوجد عذاب في القبر؟
ويبدو أن الغاية القصوى من حياة القبر وسؤال الملكين هو في النهاية عذاب القبر للكافرين ونعيمه للمؤمنين؛ ولذلك قد يكون هو الموضوع الوحيد المذكور في الأخرويات، مع البرهنة عليه والدليل على وجوده. وأحيانا يكون عنوانا للموضوع كله عن طريق تعريف الشيء بعلته الغائية وهو عذاب القبر، وليس بعلته الفاعلة وهي حياة القبر. وبالرغم من أن الأدلة جميعها من الأخبار والروايات البعيدة التأويل من القرآن والمشهورة في الحديث، إلا أن بعض الأدلة يقوم على قياس الغائب على الشاهد دون إعطاء أدلة عقلية صرفة، ودون الرد مسبقا على المعارض العقلي. ومثال ذلك حياة النائم بين الحياة والموت أو حالة المرض أو الصراع أو المغمى عليه. وقد يكون المثل هو الوحي ذاته، عندما يرى الرسول جبريل ولا يراه من حوله.
21
وهذه الأمثلة كلها لا يجوز القياس عليها؛ فالنوم وحالات المرض ورؤية الرسول لجبريل، كل ذلك إنما يتم أثناء الحياة، وليس بعد الموت. ولا يمكن قياس ما يحدث بعد الموت على ما يحدث قبل الموت؛ نظرا لاختلاف الفرع مع الأصل. إنما يمكن فقط إرجاع تصورات ما بعد الموت إلى نشأتها في الحياة؛ تعبيرا عن تجربة بشرية؛ الرغبة في تجاوز الموت، وتعدي الانقطاع، واستمرار الحياة. ومع ذلك تظل الأدلة الغالبة لإثبات عذاب القبر ونعيمه هي الأدلة النقلية المستمدة معظمها من الحديث، وليس من مصدر الوحي الأول وهو القرآن. وما ذكر من المصدر الأول تأويل بعيد؛ فالمعيشة الضنك لا تشير إلى عذاب القبر، وما ذكر من المصدر الثاني إما أنه غير متواتر بل مشهور، والمتواتر منه لا يعني النار فيه عذاب القبر في الدنيا في حياة القبر، بل في الآخرة، وقد يعني البعض منها تشبيها وتورية وخصوصية للرسول، وقدرته على سماع ما لا يسمعه الناس أسوة بالوحي. والعجيب أن مثبتي عذاب القبر يئولون القرآن دون حاجة، ويأخذون الحديث حرفيا حيث الحاجة إلى التأويل.
22
وإن تجويز عذاب القبر بناء على جواز إحياء الموت في القبر لأن تعذيب الجماد لا يتصور، يعود إلى الموضوع السابق، وهو: هل تجوز إعادة الحياة إلى جسد الميت؟ ويكون إثباتا بشيء آخر يحتاج إلى إثبات، ويكون من الهدف رد الروح إلى الجسد وتصور نوع من الحياة، بل والحياة العاقلة، حتى يمكن للعذاب أن يتحقق منه هدفه، وهو وقوع عذاب القبر.
23
ولكن الحياة شرط العلم في الصفات، وليست شرط العذاب في أمور المعاد. وكيف تكون الحياة شرط العلم في العقليات، وتكون شرط عذاب القبر في السمعيات؟ ويظل الاعتراض قائما: وهل يحتاج إثبات عذاب القبر إلى شرط العلية وهو الحياة؟ أليس الله بقادر على إحياء الميت في القبر دون شرط العلية، سواء كانت علة فاعلة أو علة مقارنة؟ إن الله قادر على كل شيء، بما في ذلك إحداث الحياة في الميت بلا علة مقارنة.
24
وقد تكون الفائدة منه الردع والزجر، وحث الإنسان على فعل الخير. ولكن في هذه الحالة، أليس في عقاب اليوم الآخر ما فيه الكفاية؟ وما الفائدة من هذا الردع السابق لأوانه؟ وإن لم يرتدع العاصي من الردع الكبير، فهل يرتدع من الردع الصغير؟ وكيف يكون هناك ردع والأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها؟
25
فإذا ما ثبت عذاب القبر حرفيا وشيئيا، هل يكون بالجسد، أم بالروح، أم بالروح والجسد، أم بالشخص؟ فإذا كان في الجسد، فهل يجوز العذاب في أجزائه إن استحال الكل؟ ما دام الله قادرا على كل شيء، فإن النعيم والعذاب يكونان في الأجزاء، كما يجوزان في الكل بقدرته. وعلى هذا النحو، يتم تأييد الروايات الظنية بالقدرة المطلقة؛ حتى يتأكد الظن السمعي باليقين العقلي، ويمحى الشك بالقهر، ويقضى على العقل بالإيمان. وفي هذه الحالة، يجوز كل شيء بالقدرة والإيمان، فيجوز العذاب لكل الجسد أو لأجزاء منه، مثل مساءلة الملكين. والجواز في العذاب أكثر قبولا؛ لأن الجسد يحس، في حين أن اليد والرجل لا ينطقان، ولا ينطق إلا اللسان. ولكن كيف يجوز تعذيب من اختفى جسده كلا وجزءا، سواء أكله السبع، أو طواه اليم، أو حوله الحريق إلى رماد؟ وكيف يعذب الجماد بلا حياة؟ وما الفائدة من العذاب ما دام لا يوجد إحساس بالألم؟ فإن صعب الحل يكون العذاب للأرواح والأجساد معا بعد أن تعود الأرواح إلى الأجساد. وهنا أيضا تنشأ صعوبة احتمال غياب الأجساد في بطن السبع، أو في أعماق اليم، أو بين ألسنة النيران، فلا تجد الأرواح ما تحل فيه وتعود إليه، وكأن الأجساد شرط وجود الأرواح. وهل يجوز تعذيب شخص في شخص آخر، تعذيب الإنسان مأكولا أو مهضوما في بطن السبع؟ وما الفائدة وألم الافتراس قد تم، وأصبح الإنسان عصارة معدية لا تتألم كإنسان، وإن تألمت فإن آلامها ستصيب السبع من معاصي الذي في بطنه؟ فإن استعصى الأمر يكون العذاب للأرواح وحدها دون الأجساد. حينئذ ما فائدة إثبات عودة الأرواح إلى الأجساد، وإيجاد مستقر للأرواح، ومساءلة الملكين، والجواب باللسان، وعذاب القبر من خلال الجسد؟ لا يبقى إلا أن يكون عذاب الأرواح صورة فنية؛ إسقاطا من الحاضر على المستقبل، وتصور المستقبل بناء على الحاضر؛ تعبيرا عن هم المستقبل وثقل الحاضر، والتخوف منهما معا. فالأفعال الماضية خاصة القبيحة منها تطل على الحاضر ، وتجثم على المستقبل، فيشعر الإنسان بآلام الضمير ووخز النفس عندما ينكشف الحجاب، وتسقط الأقنعة، وينتهي العمر.
26
ثم يوصف عذاب القبر على نحو تفصيلي؛ فمنه ضم القبر وضغطه على الميت، حتى يهشم ما تبقى من ضلوع الجسد، حتى تلتقي حافتاه ويصبح الجسد بين المطرقة والسندان! وكيف تتحرك جدران القبر وتتحرك الأرض؟ وماذا تفعل للذي حوت جثته الماء، أو أنياب السبع ومعدته، أو أفواه الديدان؟ وماذا عمن بقي في العراء بلا قبر؟ وقد تكون ضغطة الكافر مثل سقوط السقف على العظام، أو تهشيم الترام الأرجل، أو زنقة القفص الصدري بين الركبتين. أما المؤمن فضغطة القبر عليه تكون مثل ضغطة الأم الشفيقة على ولدها من السفرة العبيقة! وهو تصور إنساني خالص، وصورة شعبية للذة الالتصاق التي يصعب التفرقة فيها بين الألم واللذة.
وكيف تفرق الأرض بين المؤمن والكافر، فتضم الأول برفق وتعصر الثاني وتهشم أضلاعه؟ وإن كان بالصحراء أو باليم، هل يضم عليه الجو، أو تخنقه المياه، ويضيق عليه المكان؟ وقد يقوم بالعذاب الوحوش؛ تسعة وتسعون تنينا تنهش لحم الميت وتلدغه؛ لإعراضه عن أسماء الله التسعة والتسعين، كل اسم بتنين! فإن لم تكن هناك عظام لتهشيمها فهناك لدغ العقارب والحيات، وإن لم يكن هذا ولا ذاك فهناك الضرب. وماذا لو مات الإنسان من شدة ضغط العظام أو نهش اللحم أو اللدغ أو الضرب؟ هل يموت ثم يحيا ثم يموت، وهكذا إلى أبد الآبدين؟ وهل هو تعذيب في سجون الدنيا وعذاب في القبور طريقا إلى الآخرة؟ وكيف تتكلم الأرض وتنذر الكافر وتبشر المؤمن؟ كلام الأرض زهد وتصوف وسوداوية، ورفض للعالم، واحتقار للإنسان، ولفظ له حيا وميتا. وتأتي كثير من التصورات من التصوف، حيث يذخر بالخيال الشعبي واصفا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
27
ويستثنى من عذاب القبر الأنبياء وآل البيت؛ إذ تحنو الأرض على فاطمة أم علي؛ فقد ألحدها الرسول ونزع قميصه ووضعه عليها؛ حتى لا تمسها النار أبدا!
28
وهل يبقى القميص إلى يوم القيامة؟ وما شفاعة قميص؟ كالشرطي يلصق شرائطه على الحائط ويذهب، ويقف العسكر صفا أمامها لا يتحركون؛ فهي بديل عنه ورمز له، وحافظة للنظام في غيابه. ولماذا فاطمة أم علي، وليس فاطمة زوجة علي، وليس عليا ذاته أو بنيه؟ ولماذا قارئ سورة الإخلاص في مرضه، وليس قارئ القرآن في صحته؟ ألا يستثنى من العذاب إلا الإنسان في حالة الضعف وبمجرد الإيمان بالوحدانية دون ممارسة العدل؟
ويتم عذاب القبر في البرزخ. والبرزخ يعني الانتقال من مكان إلى مكان أو من زمان إلى زمان؛ فهو مفهوم يختلط فيه المكان والزمان معا. وهو لفظ قرآني يشير إلى المكان أكثر مما يشير إلى الزمان، ويكثر استعماله في التراث الشيعي وفي الفكر الصوفي. وقد يكون لفظا أعجميا أكثر من كونه لفظا عربيا. ولماذا تكون هناك مرحلة متوسطة بين الحياة والموت، حياة هي موت، وموت هو حياة؟ ولكن إيقاع الأصوات يدل على أن الحوادث تحدث في الزمان، وأن الزمان به مراحل كما أن المكان به مراتب. يحيا الإنسان مرتين، ويموت مرتين؛ يحيا في الدنيا ثم يموت، ثم يحيا في القبر مرة ثانية، وتنتهي حياة القبر بعد المساءلة والعذاب، ثم يموت ميتة ثانية حتى يبعث من جديد، فيحيا بعد البعث والنشور. قد تكون الحياة الثانية، حياة القبر، نموذجا أو «بروفة» لما سيحدث بعد ذلك، وقد تكون استمرارا للحياة الدنيا والجسد ما زال دافئا ولم تسر فيه برودة الموت بعد؛ لذلك فهي حياة متوسطة، مثل البرزخ، بين الحياة الدنيوية والحياة الأخروية. وقد يرفع العذاب يوم الجمعة وفي شهر رمضان. وإن مات الإنسان يوم الجمعة أو ليلتها يكون العذاب ساعة واحدة؛ وذلك بحرمة النبي. ولماذا يتفاضل الزمان؛ يوما في الأسبوع هو يوم الجمعة أو ليلتها، أو شهرا في السنة هو شهر رمضان، لا تكون فيه ضغطة القبر؟ هل هي لحظات متميزة في الزمان؟ ولماذا يعود العذاب بعد ذلك؟ هل هو التعذيب؛ فالعذاب المنقطع أشد على الإنسان من العذاب الدائم؛ فبعد أن تندمل الجروح ويبرأ الإنسان تتقيح الجروح، وينتكس المريض ويعاوده الألم؟ وكيف يبدأ العذاب بين النفختين في الصور مع سؤال الملكين ، والنفخ في الصور من علامات الساعة، والساعة لم تقم بعد؟ والنفخ في الصور يعني ازدواج الصورة السمعية مع الصورة المرئية. ولماذا تموت الملائكة بين النفختين وكلها حياة أبدية، ولا داعي لموتها؟ ومن الذي يقوم بوظائفها بعد موتها؟ وكيف يبدأ عذاب القبر والحساب النهائي يوم البعث لم يتم بعد، والمحاكمة لم تعقد بعد، ولم يسمع فيها قول الشهود أو دفاع المتهم، بل ولم يصدر فيها حكم القاضي؟ وما وجه السرعة في إنزال العذاب بالكافر وبمن يستحق العقاب وهو لن يفر من قبره، ولا ملجأ أو مخبأ له؟ وهل يستعجل الله عذاب البشر إلى هذا الحد؟ هل الله سوداوي منتقم جبار إلى هذا الحد؟
29
ونادرا ما يتم الحديث عن نعيم القبر، أو وصفه بمثل هذه الدقة والتلذذ، كما يتم ذلك في وصف عذاب القبر! بل إن عنوان الموضوع عذاب القبر، وليس نعيم القبر. ومع ذلك فإن نعيم القبر يكون بأن يتحول القبر إلى جنة، بفرشها الوثير، وروائحها الطيبة، وحياتها الناعسة. يصبح القبر روضا من رياض الجنة، به زرع وحياة وماء ورباحة في المكان. يتسع القبر ويصبح فسحة من المكان إلى البلد البعيد الذي يشتاق إليه الإنسان، وبه غلمان وولدان تؤنس المطيع في وحدته إن كان من أهل العلم، به نور وشاب جميل بيده قنديل، دونما ذكر للجنس طبقا لعادات البيئة الصحراوية وممارسات البدو، وإن كانت هناك مقدماته والتمهيدات له. وقد يكون الشاب الجميل تشخيصا للعمل الصالح، وقد تكون صحبة الغلمان تعويضا عن وحدة العالم وعزلته في الدنيا مع القلم والقرطاس؛ استباقا للحور العين في جنة النعيم.
30
وبإدراك صور النعيم يدرك التقابل بينه وبين العذاب، ونشأة الصورة الفنية بقياس الغائب على الشاهد. فتوسيع القبر في مقابل ضغطه، ورحابة المكان في مقابل ضيقه، وجعل القنديل فيه ضوء مقابل الظلمة، وفتح طاقة فيها هواء في مقابل الاختناق، وانفتاح في مقابل الانغلاق، وامتلاؤه بالريحان مقابل عفن الجيفة، الرائحة الطيبة في مقابل الرائحة النتنة. وهل في القبر نعيم، في ظلمته ووحدته ووحشته وعزلته، وديدانه وتعفنه وتحلل الجسد فيه؟ وكيف يتم النعيم في القبر في وحشته وظلمته ورائحته وعزلته وغربته وصمته مثل صمت القبور، وفقره وترابه وديدانه وحشراته، وفوقه موبقات سكان القبور، وحوله شراذم العصاة والمذنبين والفارين؟ أم إن النعيم يكون بتخفيف العذاب والخنق والضغط والروائح العفنة؟ وبالتالي يرجع السؤال الأول: هل هناك عذاب القبر؟ وهل هناك حية فيه؟ ومع ذلك يظل التركيز على عذاب القبر دون نعيمه؛ للترهيب لا للترغيب، وكأن الحياة توضع خصيصا للعذاب، وكأن الحياة للعذاب، وكأنما تعاد الحياة إلى الجسد في القبر كي يتعذب الإنسان من جديد، عذاب في الحياة، وعذاب في الممات! أليست هذه نظرة سوداوية، واتجاها تشاؤميا في الحياة، وصادية يتلذذ بها صاحبها بالتفنن في عذاب الآخرين؟ وهل أصبح الألم له مثل هذا الوجود الضاغط، بحيث يتحول إلى عقيدة في علم أصول الدين؟ ألم يبعث الرسول هاديا ولم يبعث جابيا؟ وكيف يكون للعذاب كل هذا الثقل ممن عرف عنهم أنهم من أهل الرحمة؟ وكيف يخلق العقل للتعذيب والتمتع بالعذاب، والعقل نور العلم ونعمة الفكر وطريق الهداية، وكأن وظيفة العقل هي تبرير الشر وتقبله، وليس الاعتراض والتمرد عليه؟ وهل يعذب العقل وهو نعمة من الله وروح منه؟ وهل خلق الله الحياة للتعذيب أم للنعم والتمتع بخيرات الله؟ أليست الحياة كالعقل إحدى نعم الله؟
فإذا كان العذاب للعصاة، فإن النعيم يكون للمؤمنين؛ فالعذاب للمؤمنين الفاسقين العصاة والكافرين على حد سواء. فإذا كان كافرا يدوم عذابه إلى يوم القيامة، ولا يرفع عنه إلا يوم الجمعة أو ليلتها، وفي شهر رمضان لحرمة النبي، فلا يعذب أحد كافرا أو مؤمنا لحرمته. وإن كان مؤمنا عاصيا ينقطع عنه العذاب يوم الجمعة وليلتها وشهر رمضان، ثم لا يعاوده العذاب إلى يوم القيامة. وكأن العذاب له يدوم لمدة سنة واحدة ثم ينقطع! وإن كان مؤمنا مطيعا تكون له ضغطة خفيفة تذكره بهول الموقف؛ لما تنعم بنعم الله ولم يشكر. وكأن العذاب قادم قادم، والألم وارد وارد عند الجميع، لا فرق بين مؤمن وكافر، ولا فرق بين مؤمن عاص ومؤمن مطيع .
31
وقد يرفع العذاب عن المؤمن العاصي بدعاء أو بصدقة؛ أي بفعل الآخر، وليس بفعله هو، وهو ما يناقض قانون الاستحقاق. وهل الصدقة وهي فعل، مثل الدعاء وهو مجرد قول؟ أليست الصدقة عطاء والدعاء شحاذة؟ أليست الصدقة صورة ومضمونا وتقوى وشيئا، في حين أن الدعاء صورة بلا مضمون، تقوى فارغة بلا شيء؟ العذاب إذن نوعان: دائم للكفار والعصاة، ومنقطع لبعض العصاة بدعاء أو صدقة. ويكون دور الآخر هو رفع العذاب عن الذات بدعاء وهو مجرد قول، أو بصدقة وهو فعل؛ وبالتالي فهو أفضل. قد يعني ذلك استمرار إمكانية تغير مستقبل الميت بفعل الآخر، كاستمرار فعل الميت في حياة الآخرين. قد تكون هذه دلالة على الترابط الاجتماعي، وقد تكون دلالة على استمرار الأمل لتخفيف العقاب؛ إيثارا للعفو على العقاب، وللرحمة على العدل. فلا نهاية لإمكانية الإنقاذ، ولا مكان لليأس؛ فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون. ولا يعني الإيمان في هذه الحالة إلا الأمل المستمر بلا حدود.
عذاب القبر إذن تصور شعبي للظلام والهواء الراكد الساكن والرائحة العفنة والوحدة والعزلة والوحشة، يعبر عن تجربة إنسانية فعلية في الشاهد يسقطها الإنسان على الغائب؛ فلا يعرف الموت إلا قياسا على الحياة. إن إثبات عذاب القبر كواقعة شيئية تسبب رد فعل في إنكاره أيضا كواقعة شيئية. وإذا قام الإثبات على الرواية والسمع، فإن الإنكار يقوم على المعارض العقلي، والعقل في النهاية أساس النقل. فالميت لا حياة له؛ وبالتالي لا تعذيب له، ولم ير أحد عذاب القبر، أو آثار التعذيب على جثة إذا ما فتح القبر، ولم تسمع أصوات الأنين أو تأوهات الألم. وأين يقع العذاب إذا ما تحولت الجثة إلى عظام بالية، أو تقطعت إلى أجزاء في أجواف السباع وحواصل الطيور وأقاصي التخوم ومدارج الرياح؟
32
وبين الإثبات والنفي للواقعة الشيئية، هناك إثبات الدلالة التي لا يمكن نفيها؛ فالعذاب هو شعور الإنسان بالفعل القبيح وتأنيب الضمير، والنعيم هو شعور الإنسان بالرضا وبأداء الرسالة. العذاب والنعيم يشيران إلى تجربة الإنسان في النقص والكمال، في الفشل والنجاح، في الإحباط والتحقق؛ ومن ثم يجد المتكلمون حقائقهم في تأملات الحكماء.
33
سابعا: المعاد
بعد حياة القبر بكل ما فيه من عودة الأرواح إلى الأجساد، وسؤال الملكين، وعذاب القبر، هل ترجع الأموات إلى الدنيا أم تموت من جديد ثم تعود إلى الآخرة؟ وإذا عادت إلى الدنيا، هل تعود كلها عامة وخاصة، شعوبا وقادة، أم لا يعود إلا الأئمة؟ وأين تذهب الأرواح بعد أن تنتهي حياة القبر؟ هل تعود إلى الدنيا وتتناسخ في أبدان أخرى، أم ترفع إلى مكانها ومستقرها؟ وأين هو هذا المكان أو المستقر؟ ومتى يبدأ المعاد وكيف؟ هل هو معاد جسماني يقوم على إمكانية إعادة المعدوم لما كان العدم شيئا، أم هو معاد روحاني؟ وماذا يعني البعث وكيف يتم؟ كل ذلك أيضا إنما يوجد في المرحلة المتوسطة بين الدنيا والآخرة، ما بعد الدنيا وما قبل الآخرة، قبل علامات الساعة والحساب والعقاب. (1) رجعة الأموات
بعد عذاب القبر، وتحقيق الغاية من الحياة فيه بعودة الأرواح إلى الأجساد، هل ترجع الأموات إلى الدنيا فتعاقب وتثاب، أو يكون لها حياة أخرى في هذه الأرض في أجساد أخرى، وهي عقيدة التناسخ، أم تبعث الأموات من جديد بعد حياة القبر ومغادرة الأرواح للأجساد، وتبدأ أمور المعاد في الآخرة يوم قيام الساعة ليتم الحساب، الثواب أم العقاب؟ الافتراض الأول هو رجع الأموات، والثاني هو المعاد بشقيه؛ المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. وقد تكون رجعة الأموات للعامة أو للخاصة، لعامة الناس أو لخاصة الأئمة، أو لعلي بوجه أخص، مثل عودة الإمام الغائب حتى يقاتل الدجال ويقيم العدل والقسط. فإذا مات إمام فإن جميع الأمة لا يموتون، بل يظل في كل عصر إمام حي؛ فالإمام هنا لا يحتاج إلى الرجعة، بل يظل في الأرض ليموت موتة أو موتتين.
1
والحقيقة أنه لو رجع الأموات إلى الحياة لعجل الثواب والعقاب، ولانتفت الغاية من الإعادة؛ فإحضار المستقبل يغني عن تأجيل الحاضر إلى المستقبل. والقول برجعة الأموات إنما يعبر عن عقائد المجتمعات المضطهدة التي مات زعماؤها ولم يحققوا غاياتهم بعد؛ فرجعتهم إنما تعني معاودة رسالتهم واستئناف نشاطهم؛ لذلك كانت الرجعة للأئمة أكثر منها للجماهير. وبوجود الزعامة العائدة، وبعودة البطل، تصحو الجماهير، وتلتف العامة حولها. ويوجد نموذج سابق لذلك في البيئة الدينية والتراث الحضاري الشائع عند بني إسرائيل الذين يشاركون الشيعة في عقدة الاضطهاد.
فإن لم تثبت رجعة الأموات جاءت عقيدة التناسخ ثم عقيدة الرفع. فالتناسخ عود إلى الدنيا وإيثار لها على الآخرة، والرفع تطهر وإيثار للآخرة على الدنيا، وكلاهما طريقان متقابلان. فالتناسخ استعجال بالثواب وبالعقاب، ورفض للانتظار إلى يوم الحساب، وعصفور في اليد خير من عشرة في الغد، وثواب الدنيا وعذابها مشاهدان للعيان؛ فالأولى أن تعود الأرواح إلى الدنيا؛ الخيرة منها في أجساد حسنة، والشريرة منها في أجساد قبيحة. وهي عقيدة تجمع بين العلم والأسطورة، بين المشاهدة وعقدة الاضطهاد. والروح الخير يكون هو الملاك، والروح الشرير يكون هو الشيطان.
ولما كانت النفس لا تتناهى، فهي تعاود الحلول في الأجسام. وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية بحيث تتفق مع عقيدة التناسخ، خاصة تلك الآيات التي تتحدث عن تركيب الصور وخلق الإنسان وخلق الأزواج من نفسه، بتأويل حرفي يقضي على الدلالة.
2
وهناك صورة أخرى للتناسخ في عقيدة الدهرية تمنع من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت. فلما كان العالم لا يتناهى، فوجب أن تتردد الأنفس في الأجساد أبدا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي وجب لها بطبعها وشرفها تعلقا به وإشراقا فيه، ولا تحتاج النفس في هذه الحالة إلى شرائع، يكفيها شرف طبعها وخلودها. والحقيقة أن هناك تمايزا بين أنواع النفس، بين النفس الناطقة وهي نفس الإنسان، والنفس غير الناطقة وهي نفس الحيوان. وهذا ما يؤكده الحس والعقل، وتؤيده المشاهدة والبرهان.
3
أما القول بأن الأرواح تنتقل إلى أجساد أنواعها، فيعارضه إثبات تناهي العلم وحدوثه. فكيف تحل نفس لا متناهية في عالم لا متناه؟ كما أن الاختلاف بين الأشياء في العالم أكثر من الاتفاق، والفروق أكثر من التشابهات؛ وبالتالي استحال أن تحل الروح في جسد يشابه. ولما كانت الأشخاص متفردة بأرواحها، وكانت الأعمال أحد مظاهر هذا التفرد، استحال أن تحل روح شخص في شخص آخر.
4
كما لا يثبت التناسخ بمجرد مشاهدة عقاب في الدنيا لمن لا يستحق، مثل مرض الأطفال وذبح الحيوان، وبأن يكون بالضرورة عقابا مستحقا لأرواح اكتسبت هذه الأجساد. فطبقا للصلاح والأصلح، كان من الأصلح عدم خلق مرض الأطفال أو ذبح الحيوان، بدلا من عذابهما وجعلهما يتحملان عقاب الآخرين.
5
إن القول بتناسخ الأرواح هو رد فعل طبيعي على القول بحدوث النفس؛ فكلاهما خطآن يلغي أحدهما الآخر. فالقول بحدوث النفس يسبب القول بقدمها. التناسخ ضد قانون الاستحقاق، فمن الذي سيعاقب؟ أي بدن وأي نفس؟ كما يؤدي القول بالتناسخ إلى القول بقدم الكائنات وأزليتها؛ وبالتالي المشاركة في صفات الله، كما ينفي المعاد وكل ما يتعلق به من بعث وحساب وعقاب. ولو صح التناسخ لتذكرنا الحياة الماضية، ولأصبح الإنسان وعاء للتاريخ، ومخزنا للحوادث لكل الناس. ولو لزم التناسخ للزم أن تكون الأرواح بعدد الأبدان، وإلا لو زاد عددها لظل بعضها طائرا في الفضاء بلا أجساد.
6
عقيدة التناسخ إذن نظرة أخلاقية للنفس، تبغي الانتقام والعقاب من النفوس الظالمة التي فقدت براءتها الأولى. عقابها في النزول؛ فنزولها إلى الأبدان نسخ، وإلى الحيوان مسخ، وإلى النبات رسخ، وإلى الجماد فسخ؛ وثوابها في الصعود، التخلص من الأبدان والتعلق بالأجرام. وواضح أن العقاب أهم من الثواب، فتفصيل العقاب أكثر حضورا من عمومية الثواب.
7
وفي مقابل عقيدة النسخ عقيدة الرفع. الأولى هبوط والثانية صعود. الأولى عود إلى العالم من أجل الانتقام منه أساسا، والثانية هروب منه تطهرا وتعففا عن آثامه. فالبريء الطاهر لا يموت، ولكنه يرفع إلى الملكوت، ويعيش في مجتمع الأطهار بعيدا عن أرض النفاق والآثام، ويستطيع أن يبلغ في هذا الرفع أعلى الدرجات، بل أعلى من الأنبياء والملائكة؛ وبهذا الرفع لا يقال إن الإنسان يموت.
8
وبهذا المعنى لا يفهم في أمور المعاد إثباتها أو إنكارها، بل فهم دلالاتها على أنها تعويض عن الظلم الدنيوي؛ فالأخرويات هي صياغة نظرية لهذا التعويض. وإن إنكارها والقول برجعة الأموات في عقيدة التناسخ هو رفض لانتظار الحساب والعقاب الذي تعد به الأخرويات التقليدية في آخر الزمان، وانتظار للخلاص في هذا العالم، ورغبة في الإسراع بعقاب الظالم في هذه الدنيا تشفيا منه، ورؤية الانتصار الآن وهنا ما دامت رجعة الأموات ممكنة، وما دام تناسخ الأرواح ممكنا. فتحل الروح الظالمة في جسد شرير، وتحل الروح العادلة في جسد خير. (2) المعاد الجسماني
يقوم افتراض المعاد الجسماني على الهوية والاختلاف بين الإنسان والعالم، بين العالم الصغير والعالم الكبير؛ فالإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير. كما يقوم على جدل الخراب والتعمير، وهو ما سماه القدماء الكون والفساد، جدل الهدم والبناء. فتخريب العالم الصغير هو موت الإنسان، وتعميره هو بعثه وإحياؤه من جديد، وتخريب العالم الكبير هو فناء العالم، إما بتفريق أجزائه، أو عدمه وخرابه في بعثه وإعادته في اليوم الآخر؛ لذلك يشمل الموضوع مسألتين: الأولى إعادة المعدوم كموضوع ميتافيزيقي كوني صرف، إعادة كل شيء، وهو يتعلق بالعالم الكبير؛ والثاني إعادة الأرواح إلى الأبدان كموضوع إنساني خاص. فإذا ثبت الموضوع الأول ثبت الثاني؛ فالثاني ما هو إلا حالة خاصة من الأول. وفي الموضوع الثاني يظهر افتراضان: المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. الأول حشر الأجساد، والثاني خلود النفس. والمقصود شرعا في علم أصول الدين المعاد الجسماني؛ أي حشر الأجساد، في حين أن المعاد الروحاني؛ أي رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقتها بالأبدان واستعمال الآلات، فهو المقصود في علوم الحكمة.
9
ولكن هل يمكن ثبوت المعاد الجسماني فقط وإنكار النفس الناطقة؟ إن إنكار النفس الناطقة عادة ما يكون نظرة مادية لا تقول بإعادة شيء، بل بفناء المادة أو بقائها دون القول بالوجود أو البقاء من عدم. وما الفائدة من القول بالمعاد الجسماني دون نفس، والنفس هي مصدر حياة البدن وشرط الإدراك والإحساس بالثواب أو بالعقاب؟ كيف تعود الأجسام دون إعادة الحياة إليها، والنفس إنما تعني هذه الحياة في الأبدان؟ ومع ذلك يمكن إثبات المعاد الروحاني دون المعاد الجسماني، وذلك بعد إثبات تميز النفس عن البدن ، وبقائها متجردة عنه بعد فناء البدن. وفي هذه الحالة لا حاجة إلى إحياء الأبدان، ولا يكون الثواب والعقاب جسمانيا، بل يكونان روحانيين خالصين. والحل الثاني أي إثبات المعاد الروحاني رد فعل على الحل الأول، وهو إثبات المعاد الجسماني. أما إثبات المعادين معا، الجسماني والروحاني، فهو يجمع بين الاثنين كنتيجة طبيعية لتلافي عيوبهما، وتأكيدا لمقتضيات الشرع ولحكمة الإشراق.
10
وقد يسبب ذلك رد فعل في إنكار المعادين معا؛ وبالتالي يكون الحل الرابع رد فعل على الحل الثالث، كما كان الحل الثاني رد فعل على الحل الأول. أما التوقف عن الحكم في الكل فلصعوبة الحكم على النفس؛ هل هي المزاج المرتبط بالبدن؛ وبالتالي يستحيل إعادتها مع فناء البدن؟ هل هي جوهر باق بعد فساد البنية؛ وبالتالي يمكن القول بالمعاد الروحاني؟ فإذا كان لا يجوز إعادة المعدوم نظرا لأنه لا شبهة في انعدام الجسم، فإن التردد يكون في انعدام النفس؛ وبالتالي التردد أيضا في الجزم ببقائها. وبالرغم من أن هذا الحل الخامس في مصدره التاريخي الأول من خارج الحضارة، إلا أنه طبقا للبنية العقلية، وبعد التعرف عليه وعرضه على العقل، أصبح جزءا من نسق الحلول، خاصة وأن التوقف عن الحكم أحد الحلول المتبعة ذاتيا في داخل الحضارة في عرض مسائلها الخاصة.
11
فهل الإعادة واجبة؟ وإن كانت واجبة، هل هي واجبة بالشرع أم بالعقل؟ وإن لم تكن واجبة بالشرع، فهل هي جائزة بالعقل؟ وإذا كان الحق هو المعاد الجسماني مطلقا، فهل يكفر المنكرون لحشر الأجساد؟ إن الوجوب الشرعي يصطدم بالرواية والسمع الظني، والظن لا يكون أساسا للوجوب؛ نظرا لجواز ضعف السند وتأويل المتن، والوجوب العقلي في حاجة إلى براهين يقينية من الحس والمشاهدة. لم يبق إذن إلا الجواز الشرعي أو العقلي. ولما كان العقل أساس النقل، يكون الجواز عقليا بالأساس. وإذا كان الابتداء ممكنا، فالإعادة تكون أيضا ممكنة؛ لأن الإعادة مشروطة بالابتداء، والابتداء شرط الإعادة. ولكن في الواقع، وبصرف النظر عن الحجج العقلية، يعتمد الجواز العقلي على تحليل التجارب البشرية، مثل الرغبة في مقاومة الموت ، وتجاوز الفناء، والقصد نحو البقاء.
12
فالإعادة صياغة نظرية لتجربة إنسانية تريد الإبقاء على الماضي حاضرا ومستقبلا؛ حتى ينكشف الحق، ويظهر العدل. وما الزمان ذاته إلا مرآة للخلود. ويحيل أقل الزمان إلى كل الزمان بالضرورة. أما الوجوب العقلي فإنه لقانون الاستحقاق، ثواب المطيع وعقاب العاصي، وهو قانون عام بصرف النظر عن أوجه تحققاته وتشخيصها، بإعادة المعدوم وحشر الأجساد والحساب واليوم الآخر والجنة والنار.
وإذا كانت الإعادة للأجسام، فهل تكون للجواهر أم للأعراض أم لكليهما معا؟ وهو مبحث ميتافيزيقي صرف، يعود إلى نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى،
13
بل وتغلب عليها المباحث الطبيعية في الجواهر والأعراض وأنواع الأعراض وأجناس الحركات والتقديم والتأخير، مما يخرج الموضوع من مستواه الإنساني، وهو الرغبة في مقاومة الموت والاتجاه نحو الخلود، إلى مستواه الطبيعي أو الميتافيزيقي الصوري الخالص.
14
ومع ذلك فإن الإعادة للأجسام دون الأعراض تجعلها مركزة على الأقوى؛ وبالتالي تسهل إعادة الأضعف، خاصة وأن الجواهر لا تنفك عن الأعراض، وأن الأعراض لا توجد دون الجواهر، وأن القادر على إعادة الجواهر يكون أقدر على إعادة الأعراض. وإذا كان المعاد معنى، والمعنى لا يقوم بالعرض، يكون المعاد فكرة، والفكرة ليست في العرض، بل في الذهن. وتثار قضية جواز إعادة الأعراض على أساس أنها هي الإشكال؛ لأن الأعراض محمولة على الجواهر، وإعادتها لا تمثل اعترافا بقدرة أو بعلم زائد؛ نظرا لأنها قد تتبع إعادة الجواهر؛ فالجواهر لا تتعرى عن الأعراض، والأعراض لا تعود بأعيانها، بل بإعادة الجواهر. وما الفائدة من إثبات قدرة على الأضعف؛ أي إثبات الأعراض وإعادتها؟ ألا يكون إثبات الجواهر وإعادتها أجدى؟ وما الفائدة من إعادة الأعراض وهي أضعف من إعادة الجواهر؟ إن إعادة الجواهر، وليس الأعراض، أقرب إلى العقل، وإلى التعامل مع الماهيات والأسس. وإن قسمة الأعراض إلى باق وغير باق، وجواز إعادة الأولى دون الثانية، هي قسمة تدخل تصور الجوهر في الأعراض؛ إذ إن العرض الباقي هو الجوهر، وتكون أقرب إلى إعادة الجواهر دون الأعراض؛ لذلك كان من تحصيل الحاصل القول بالإعادة الشاملة للأجسام والأعراض معا، بالرغم مما يدل عليه القول من تأكيد على الإعادة دون تفريق بين الموضوعات. فإذا كان الإيجاد الأول للجواهر والأعراض معا، فكذلك تكون الإعادة الثانية أسوة بالإيجاد الأول.
15
ويبدو أن الغرض من الإعادة ليس فقط تطبيق قانون الاستحقاق، ولكن إثبات القدرة الإلهية، ورجوع إلى أصل التوحيد، وإثبات لجهل الإنسان الذي لا يعرف كيفية بعض الأعراض، ولكن الله أعلم بها. فما كان في مقدور العباد لا تصح إعادته؛ لأن الإعادة دليل على القدرة الإلهية؛ وبالتالي لا بد من سلبها من الإنسان، خاصة إذا كانت أفعالا فردية خاصة، وليست أفعالا نوعية. وإذا كان ما يجهل الإنسان كيفية إعادته يعود، وما عرف الإنسان كيفية إعادته لا يعود، تكون الإعادة كما هي إثباتا للعلم الإلهي؛ فما يجهله الإنسان يعلمه الله، وما يعلمه الله يجهله الإنسان. والحقيقة أن قضية إعادة المعدوم بعينه قضية ميتافيزيقية خالصة، وما يهم هو إعادة الروح إلى البدن؛ حتى يمكن الحساب. فهي قضية خاصة في الإنسان، وليست قضية عامة في الطبيعة.
فإذا ما عادت الأجسام جواهر وأعراضا، فكيف تتم الإعادة؟ قد تتثبت إعادة المعدوم من لا شيء؛ لأن العدم كلي شامل لا يبقي على شيء؛
كل شيء هالك إلا وجهه . والله هو الأول والآخر، الظاهر والباطن، لا يبقى معه شيء. بدأ الخلق من لا شيء، ويعيده من لا شيء. والأجسام نفسها تقبل الوجود والعدم، والله قادر على كل الممكنات، عالم بكل الجزئيات. ألا يتطلب ذلك أن يهلك الله كل شيء؛ الملائكة والجن والشياطين والمردة والحور العين والولدان المخلدون والجنة والنار؛ حتى لا يبقى معه شيء قبل البعث والنشور؟ والحقيقة أن هذه الحجج على جواز إعادة المعدوم من لا شيء، إنما هي حجج لاهوتية تثبت قدرة الله، وليست حججا طبيعية تثبت إمكانية الإعادة من عدم، وهي أدخل في أصل التوحيد لإثبات صفتي العلم والقدرة أكثر من دخولها في إثبات المعاد، وهي نفس فكرة الخلق من لا شيء، تعاد من جديد بالنسبة للإعادة بطريق الأولى؛ فالقادر على الخلق من لا شيء يكون أقدر على إعادته من لا شيء.
16
وهو التصور القائم على افتراض الانفصال بين الوجود والعدم، أو بين العدم والوجود، ولا يتم الاتصال بينهما إلا عن طريق الأمر التكويني الإرادي، وليس عن طريق التطور الطبيعي، من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود. وقد يمكن إعادة المعدوم عن طريق تفريق الأجزاء وتأليفها، بحيث يحصل منها مثل الهيئة الأولى التي كان الشخص عليها في النشأة الأولى؛ فتكون عودة النفس إلى البدن الأول دون أن يتطلب ذلك بالضرورة عودة المعدوم بعينه؛ فالإعادة تركيب ثان، وليس إعادة من عدم؛ فلا شيء يأتي من لا شيء في الخلق أم في الإعادة.
17
ولو وقع إعدام الكل لوقع إعدام الجنة والنار، ولو وقع إعدام الكل وعودة الكل لاستحال؛ فالمعدوم لا يعود. وإن لم يعد الشيء بعينه لاستحال الاستحقاق؛ لأن الاستحقاق فردي وليس كليا، ولكن هل يتحلل جسد الأنبياء أم إن لهم وضعا خاصا؟ والحقيقة أن ذلك تشخيص للنبوة، ليس فقط في شخص النبي بل في جسده، وقضاء على الرسالة وإحلالها في البدن. وهل يختلف جسد محمد عن أي جسد كائن حي؟ وهل هناك فرق بين إعادة الناس البسطاء، وإعادة الحور العين والغلمان المخلدين، وكأن أجسادهم من طبقة أخرى؟ هل يتكون البسطاء من عدم محض، في حين يتكون الحور العين والولدان المخلدون من تجميع الأجزاء فحسب؛ رغبة في ألا يفنى الحور العين والولدان المخلدون، وحرصا عليهم ممن يفنون وهم لا يدرون، وكأن الراغب الفاني يشتهي المرغوب فيه الذي لا يفنى، فتفنى الذات، ويبقى موضوع رغبتها؟ ويدل ذلك على أن الموضوع كله إنما يعبر عن رغبة إنسانية، وهو ما سماه القدماء بحسب الذهن الذي لا بحسب الخارج. والواقع أن هذا التصور أقرب إلى التصور المادي القائم على اتصال المادة وتطورها من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود، وهو التصور العلمي القائم على الاتصال في مقابل التصور اللاهوتي القائم على الانفصال، وهو تصور لا يحتاج إلى علة فاعلة خارجية، في حين يحتاج التصور اللاهوتي إلى علة فاعلة مشخصة .
وبالإضافة إلى التصور الإرادي المشخص والتصور المادي المتصل، هناك تصور إشراقي خالص لكيفية الإعادة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الدين أو العلم؛ إذ تتحرك النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوحي في كل زمان، دائرا على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة. ترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع. وهي وسيلة لبلوغ النفس الإنسانية كمالها درجة العقل، وائتمامها به، ووصولها إلى مرتبه. وتلك هي القيامة الكبرى، فتتحلل تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء، وتتناثر الكواكب، وتتبدل الأرض، وتطوى السماء، ويحاسب الخلق، ويتميز الخير من الشر، والمطيع من العاصي. وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المبطل. فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال. وفي هذه الحالة، لا يبعث إلا من استطاع بلوغ مراتب الكمال العليا من أولاد آدم وحدهم دون غيرهم، طبقا لقدراتهم على تصفية النفس وتخليد الذات. وهي نظرية في الخلود في العالم عن طريق الكمال، يبلغ عليها الطابع الكوني الإشراقي، وليس الطابع النظري العقلي الخالص.
18
والحقيقة أنه لا يهم كيفية الإعادة، وكيف تعود الأرواح إلى الأجسام، وكأننا في مبحث طبيعي؛ فالإعادة تصور إنساني خالص لتجاوز الموت واستمرار الحياة. هي رغبة إنسانية، وليست حدثا طبيعيا، مطلب إنساني يفرض نفسه على الطبيعة من كثرة التركيز عليه، واقتضاء تحققه، والاستجابة له.
فإذا ما تم الانتقال من الإعادة كموضوع عام إلى الإعادة كموضوع خاص، أي حشر الأجساد، ظهر موضوع الزمان. فهل يعاد الزمان باعتباره عرضا؟ وإذا عاد، فهل يعود بأبعاده؛ الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل يعود بأعمار الإنسان والعالم المتتالية، أم في آخر لحظة فيه؟ هل يعود الزمان وحدة واحدة أم في لحظاته المتعاقبة؟ ويثير موضوع إعادة الزمان أشكال التتابع والتتالي والمراحل والتطور. هل يعود مرة واحدة أم على مراحل؟ هل يعود دفعة واحدة أم بالتدريج؟ إن عودة جميع الأزمنة تساعد على الشهادة على الأعمال المتحققة فيها، وما وقع فيها من طاعات وآثام. ومع ذلك قد تصعب إعادته؛ نظرا لاجتماع متنافيات مثل الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد، وهي صعوبة منشؤها قياس الغائب على الشاهد، خاصة لو كان الغائب حالة افتراضية لا يمكن تصورها، ولكن الزمان تيار جارف، وإذا عاد فإنه يعود كذلك. أما الزمان المتوقف فإنه لا يكون حياة، ربما يكون فقط تعاقب الزمان في الإعادة أسرع إيقاعا منه في الدنيا. وينعكس الإشكال نفسه على الحشر كله، هل يتم الحشر دفعة واحدة أم على فترات متعاقبة؟
19
وبالإضافة إلى سؤال الزمان تبرز أشكال الهيئة: هل تكون الإعادة كما كان الحال في الدنيا، أم تكون بصور أخرى متغيرة؛ الكافر يزداد قبحا، والمؤمن يزداد حسنا؟ ولكن الحساب لم يتم بعد حتى تتغير الصور، وعودة صور الدنيا وقبحها وقذارتها وأمراضها وبؤسها استمرار للبؤس بعد أن أنهاه موت البائسين، كما أنه استمرار لبهاء الأغنياء، وكأن الموت لم يكن نهاية للترف ومساواة بالفقراء؛ وبالتالي يعيش البؤساء في البؤس مرتين، كما يحيا الأغنياء في الغنى مرتين.
20
ولماذا يكون حساب يوم الميعاد بمقدار خمسين ألف سنة؟ وما الدافع لتضخيم الحساب؟ هل يرجع السبب في ذلك إلى كثرة العدد؟ قد يكون الهدف هو الدلالة النفسية؛ أي طيلة الانتظار والإحساس بطول الوقت؛ نظرا لأهمية الحدث فيه.
21
وقد ينكر موضوع الإعادة كله، ليس فقط باعتباره كيفية؛ أي استحالة المعدوم من لا شيء، وإمكان ذلك بالتجميع والتفريق للأجزاء، بل إنكار الإعادة من الأساس كموضوع ميتافيزيقي خالص، أو كموضوع جزئي في إنكار حشر الأجساد. ويأتي إنكار الإعادة نتيجة لعدة عقائد سابقة، منها إنكار حدوث العالم؛ فما دام العالم موجودا قديما وباقيا لم يفن، فإنه لا يعود. وهو أقرب إلى المنطق والاتساق ما دامت الإعادة نتيجة طبيعية للقول بالحدوث والإيجاد ومن عدم؛ فالإيجاد من عدم يتلوه طبيعيا الإيجاد بعد العدم. أما إذا ثبت حدوث العالم، ثم أنكرت الإعادة بعد العدم، فإنه يكون بين النتيجة والمقدمة عدم اتساق منطقي؛ فما دام إثبات الوجود من عدم قد تم، فإن الإعادة تكون أسهل؛ وبالتالي لا يمكن إثبات الحدوث وإنكار الإعادة. أما إذا ثبت حدوث العالم وإعادة المعدوم، فإنه لا يمكن بعد ذلك إنكار البعث والقيامة فيما يتعلق بحياة الإنسان بعد الموت، ابتداء من حياة القبر حتى الثواب والعقاب في الجنة والنار؛ إذ لا يمكن إثبات الأساس وهو الإعادة، وإنكار الفرع وهو الحشر، ولا يمكن إثبات المبدأ العام، وإنكار إحدى حالاته الخاصة؛ فالغاية من إثبات الإيجاد من عدم هي إثبات حشر الأجساد. أما إثبات صدق العالم وإثبات الإعادة، ثم إنكار البعث والقيامة وإسقاط الشرائع، فإنه أيضا يأخذ الوسائل دون الغايات؛ فالغاية من إثبات حدوث العالم والإعادة هي إثبات حشر الأجساد، والغاية من إثبات حشر الأجساد هي الثواب والعقاب جزاء على الأعمال طبقا لقانون الاستحقاق، والغاية من ذلك كله إقامة الشرائع؛ فالعقائد النظرية وسائل لتحقق غايات عملية، والتصورات الدينية إنما هي وسائل لأفعال خلقية.
22
وإن إثبات حدوث العالم أو قدمه إنما موضوعه نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى، وإنما المكان هنا لإثبات إعادة المعدوم وحشر الأجساد أو إنكارهما.
ويتم إنكار الإعادة ضرورة أو استدلالا. فالضرورة تقوم على أن تخلل العدم بين الشيء ونفسه محال؛ وبالتالي يكون الوجود بعد العدم غير الوجود الذي قبله، ولا يكون المعاد هو المبدأ بعينه. وأما الاستدلال فإنه يقوم على ثلاث حجج: الأولى أن الشيء بعد عدمه نفي محض، ولا تبق هويته أصلا، فلا يعود، والمحكوم عليه متميز عن غيره، والمتميز ثابت غير معدوم؛ فالمعدوم لا يمكن إصدار الحكم عليه بإعادته؛ لأنه أساسا غير موجود، وإصدار الحكم لا يكون إلا على موجود متميز، كما أن الحكم بأن المعاد عين الأول يستدعي تميزه حال العدم، وهو محال. والثانية أن إعادة المعدوم بتقدير وقوعه لا يتميز عن مثله؛ وبالتالي تبطل الإعادة للشيء الفردي. ولماذا الإعادة بعينها والله قادر على إيجاد مثله مستأنفا؟ وفي هذه الحالة، لا يتميز العادي من المستأنف، وتلزم الاثنينية بلا امتياز، وهو محال. والثالثة أنه لو أعيد المعدوم لتمت إعادته والأول معه؛ وبالتالي يكون مبتدأ، وهو تناقض؛ لأن الإعادة ثانية، وليست أولا. وإذا كان المعاد معادا بجميع عوارضه ومنها الزمان، فلا يكون الوقت الأول معادا ثانيا، وإلا كان خلفا.
وقد يأتي الإنكار من أن الإعادة كلها من عمل الوهم، وأن الهلاك إنما يعني التقابل لكل ممكن، وأن ذلك يتطلب إعدام الجنة والنار، وأنه يستحيل إعادة المعدوم.
23
ويستمر إنكار الحالة الخاصة، وهي حشر الأجساد، بحجج جديدة مستمدة من حجج المبدأ العام، وذلك مثل قدم العالم؛ وبالتالي يستحيل الحشر، أو إن الجنة والنار إما في هذا العالم أو في عالم آخر، وإذا كانتا في هذا العالم فإما أن تكونا في عالم الأفلاك أو في عالم العناصر، والأول ليس فيه فساد ولا فناء ولا ألم؛ وبالتالي لا إعادة له؛ لأنه باق، والثاني يوجب التناسخ. ويستحيل في عالم آخر؛ لأنه لا وجود للشكل الكروي خارج العالم. وقد تكون الحجج أكثر حسية بعيدة عن موضوع العالم، مثل لو أكل إنسان إنسانا، وأصبح المأكول جزءا من الآكل، فكيف يعود المأكول؟ وهل إذا عاد الآكل يعود المأكول ضرورة؟ وهل يكون المأكول إذا عاد فردا مشخصا؟ وإذا كان القصد من الحشر الإيلام أو الإلذاذ، فالإيلام لا يصح من الحكيم، والإلذاذ باطل لورود العقاب.
24
والحقيقة أنها في معظمها حجج صورية طبيعية ميتافيزيقية للإنكار، يرد عليها إما بحجج مثلها، أو بحجج أخرى تعتمد على التجربة الإنسانية. فالإعادة أسهل من الابتداء، والقادر على الأول قادر على الثاني بطريق الأولى. وقد يؤدي إنكار الإعادة وحشر الأجساد إلى القول بوجود أبعاد وامتدادات لا متناهية لضرورة وجود أجسام لا تتناهى؛ وبالتالي القول بقدم العالم؛ مما ينافي القول بالحدوث، وهو ما يحيل إلى نظرية الوجود من جديد في المقدمات النظرية الأولى. ولكن قد تئول الإعادة مع حشر الأجساد بأن الغاية منها ليست العقيدة النظرية التي تطابق واقعة مادية يمكن معرفتها بالعلمين الطبيعي أو الإلهي، بل الغاية منها عملية صرفة؛ فالإعادة وحشر الأجساد الغاية منهما الترغيب والترهيب، وحث الناس في حياتهم على العدل، وإبعادهم عن الظلم؛ حتى يصلح حالهم في الدنيا. وتأويل أمور المعاد على هذا النحو مثل تأويل الصفات؛ فالغاية من العقليات والسمعيات واحدة، وهي توجيه النفس في الدنيا، وليس إعدادهم للآخرة. أما حجة الاحتياط فهي رهان على الحشر، حتى إن خسر الإنسان في حالة عدم وقوعه لا يخسر شيئا، وإن كسب في حالة وقوعه فإنه يكسب كل شيء. وهناك تكون الحياة مقامرة، والعقائد رهانا، الغاية منها أيضا المكسب العملي في الدنيا؛ فحساب الآخرة إنما يتم تحصيله في الدنيا؛ فلا وجود ليقين نظري في أمور المعاد، إنما اليقين عملي خالص.
25
وكأن القرآن من قبل قد جادل المنكرين للحشر كما يجادل المتكلمون الفلاسفة؛ وبالتالي دخل الموضوع في علم العقائد من مناقشتين تاريخيتين؛ الأولى في بداية الحضارة في أصل الوحي، والثانية بعد اكتمالها.
26 (3) البعث
ثم تتحدد المسألة أكثر فأكثر، وتتحول من مجرد مسألة ميتافيزيقية، إعادة المعدوم بوجه عام إلى حشر الأجساد بوجه خاص، إلى موضوع البعث الذي يجمع بين العام والخاص؛ ففي إعادة المعدوم الأولوية للفعل وللقدرة الإلهية، في حين أنه في البعث الأولوية للشيء. والبعث والنشور معنى واحد، وهو الإخراج من القبور. وحشر الأجساد يعني سوقها إلى الموقف المسمى بالحشر بعد بعثهم من القبور المسمى بالنشر. فهي كلها معان متقاربة، والخلاف بينها في التوقيت؛ أي في وقت الحدث. فالبعث والنشر أولا ثم الحشر ثانيا. الأول الخروج من القبور، والثاني الوصول إلى الموقف. والمهم هو عموم البعث، وليس بعث فرد بعينه؛ لأنها قضية مبدأ، وليست قضية شخص.
27
ويتم البعث عن طريق تجميع الأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره حتى ولو قدمت، ويتم البعث ابتداء من العظم بعد أن يتحلل اللحم وتأكله الديدان؛ فالعظام هي التي تحيا يوم القيامة، كما أنها ما يخلق قبل أن يكسوه اللحم.
28
والحشر على أربعة أنواع: اثنان في الدنيا، واثنان في الآخرة. ففي الدنيا إخراج اليهود من جزيرة العرب إلى الشام، وسوق النار التي تخرج من أرض مدن باليمن للكفار وغيرهم من كل حي قرب قيام الساعة إلى المحشر، فتثيب معهم، وتقيل معهم، فتدور الدنيا كلها وتطير، ولها دوي كدوي الرعد القاصف، وحكمتها الامتحان والاختبار. من علم أنها مرسلة من عند الله وانساق معها سلم منها، ومن لم يكن كذلك أحرقته وأكلته. وبعد سوقها لهم إلى المحشر يموتون بالنفخة الأولى بعد مدة. هذان النوعان في الدنيا، وواضح في المكان الأول هو المعنى الحرفي للحشر؛ أي إخراج الناس من مكان إلى مكان، مثل إخراج اليهود من الجزيرة العربية أحد أهداف الإسلام السياسي الأولى، ثم إخراج الكفار بالنار من مدن اليمن خارج الجزيرة إلى يوم القيامة. من تعرف عليها سلم منها، ومن لم يعرفها احترق بها. وهذا النوعان يدلان على أن النوعين الآخرين إنما هما امتداد لحشر الدنيا في الآخرة قياسا للغائب على الشاهد. أما نوعا الآخرة، فهما البعث والخروج من الأرض إلى يوم الحشر، راكبا أو ماشيا أو منكفئا على وجهه، وصرف الناس من الموقف إلى الجنة والنار. الأول يبدأ من الأرض خارجا عنها. وصور الخروج تطابق نوع الأعمال؛ أفضلها الراكب، وأقلها الماشي، وآخرها المنكفئ على الوجه. الراكب هو التقي، والماشي على رجليه هو قليل العمل، والمنكب على وجهه هو الكافر. الركوب دلالة العظمة، والمشي للرجل العادي، والانكفاء على الوجه علامة الذل والمهانة. والثاني حشر الناس من الموقف قبل الحساب إلى الجنة أو النار بعد الحساب. وقد فصل الصوفية أنواع الحشر، واعتمد علم أصول الدين في هذا الموضوع على خيالات التصوف.
29
ويكون البعث بالأجساد والأرواح معا، وليس بالأجساد وحدها؛ لأن الأجساد لا تحيا إلا بعودة الأرواح إليها، وليس بالأرواح وحدها؛ لأن الثواب والعقاب للأجساد والأرواح معا. والبعث غير التناسخ؛ ففي التناسخ تعود الأرواح إلى أجساد مختلفة في الدنيا؛ الروح الحسنة في قالب حسن، والروح السيئة في قالب سيئ؛ أي انتقال الروح من بدن إلى بدن مخالف للأول دونما جنة أو نار، في حين أن البعث هو عود الروح إلى الأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره.
30
ويبدأ الحشر بأنواعه الأربعة من مكان معين هو القدس المبدلة، التي لم يعص الله أحد عليها، وهي غير القدس المدينة الأرضية. هذا من حيث المكان. أما من حيث الزمان، فيبدأ بالنفخة الثانية، وهي نفخة البعث؛ إذ تجمع الأرواح في الصور ، وفيها ثقوب بعددها، تخرج الأرواح إلى أجسادها، فلا تخطئ روح جسدها. أما النفخة الأولى، نفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، فعندها قد تفنى النفس، وقد لا تفنى. إنما لا خلاف في بقائها بعد النفخة الأولى بعد فناء الجسم، حتى الأنبياء والملائكة الأربعة الرؤساء والحور العين وموسى. النفخة الأولى إذن فناء الأرواح كلية، ما بقي منها قبل موت أجسادها، أو ما بقي منها بعد موت أجسادها. والنفخة الثانية بعث الأرواح من ثقوب الصور بعددها، وكأن الصور بها آلاف الملايين من الثقوب. ماذا يكون طوله إذن؟ وهل وظيفة الصور إصدار الصوت أم بعث الأرواح؟ هل هو آلة سمعية أم آلة بصرية؟ المهم في النفختين أن البعث يتم في الزمان، وما بين النفختين أربعون عاما! ولكن بحساب من؟ بحساب الدنيا أم بحساب الآخرة؟
31
وكيف يكون مصنوعا من نور، والنور ليس مادة تكون بها ثقوب، ويمسك بها إنسان، وينفخ فيها بفمه؟ وكيف يكون عرضها ما بين السموات والأرض؟ وماذا يكون طول إسرافيل وعرضه وهو الذي يمسك بها بيديه، ويحرك على ثقوبها أصابعه؟ وهل الروح تحتاج إلى مثل هذه الضخامة، أم إن كل تضخيم هو تشخيص لمدى الهول الذي يلاقيه الإنسان بعد الموت، وما ينتظره من حساب؟
ثم يبدأ الخروج من الأرض والحشر إلى الموقف. ولكن من هو أول من تتشقق عنه الأرض؟ بطبيعة الحال هو النبي، كما أنه أول داخل إلى الجنة، وبعده نوح. ولماذا نوح دون موسى أو عيسى؟ ألا تقول كل أمة عن نبيها إنه أول من يخرج إلى الحشر، وأول من يدخل الجنة؟ ولما يرد بعده الصحابي أبو بكر قبل باقي الأنبياء؟ ولماذا لا يأتي عمر بعد أبي بكر قبل الأنبياء، وفضل عمر ورؤيته يشهد بها الجميع، وما زالت حتى الآن قدوة ونبراسا على الجرأة على الواقع، والدفاع عن مصالح الناس، ونموذج الحاكم؟ أليست هذه المفاضلة إسقاطا في الدنيا على الآخرة طبقا لتصور المجتمع لأفضلية الأنبياء وترتيب الصحابة؟ ويكون الحشر في صور مختلفة حسب الأعمال؛ فإذا كان الإنسان زانيا فإنه يخرج في صورة قرد؛ ربما لأن الحياة الجنسية للقرود وحياة المشاع، ومؤخرتهم ظاهرة حمراء مكورة، تدل على العري وعدم الحياء، وهو مصدر التهكم الإنساني عندما يوصف إنسان بأنه قرد. وإذا كان من آكلي السحق والمكس فإنه يحشر في صورة خنزير؛ لما كان الخنزير آكل القذارات والأوساخ. وإذا كان جائرا في الحكم فإنه يحشر أعمى؛ نظرا لأن الجور عماء، والظلم فقدان للبصيرة والرؤية. وإذا كان معجبا بعمله فإنه يخرج أصم أبكم؛ حتى لا يستمر في الإعجاب، فلا يتحدث بثناء النفس، ولا يسمع ثناء الآخرين، وكأن نعمته في الدنيا قد حرم منها في الآخرة. وإذا كان واعظ سوء منافقا، تخالف أفعاله أقواله، فإنه يحشر ماضغا لسانه، مدليا على صدره، يسيل القيح من فمه؛ جزاء له على لوكه بالكلام دون إتمامه بالأفعال. وإذا كان مؤذيا لجيرانه فإنه يخرج مقطوع الأيدي والأرجل؛ جزاء له على سعيه بالسوء، واستعماله الأطراف للأذى. وإذا كان ساعيا بالناس إلى السلطان فإنه يخرج مصلوبا على جذوع من نار، يلاقي من نفس العذاب الذي سببه للآخرين. وإذا كان مقبلا على الشهوات واللذات مانعا حق الله من أمواله، فإنه يخرج أشد نتنا من الجيف، وكأنه أكل في بطنه نارا وسعيرا. وإذا كان من أهل الكبر والعجب والخيلاء، فإنه يخرج لابسا جبة سابغة من قطران لاصقة بجلده؛ إذلالا له وكسرا لنفسه وقلبا لدنياه في آخرته.
32
ولكن، هل سيبقى المكلفون وحدهم العقلاء البالغون، أم سيبعث غيرهم من المجانين والصبيان؟ ولم يبعثون إذا كانوا لا يحاسبون؟ وفي أية صورة يخرجون وهم غير مكلفين، ولا ينطبق عليهم قانون الاستحقاق؟ هل يبعث الملائكة وهم غير مكلفين أيضا وإن كانوا يحيون ويموتون؟ وكيف يموتون ولا أجساد لهم؟ ما رسالاتهم؟ وهل يقصرون في أدائها حتى يستحقوا الثواب والعقاب؟ وهل لهم عقل وحرية وإرادة حتى يعقلوا ثم يعترضوا كما فعل إبليس؟ وهل يحشر الجن والشياطين؟ من هم أنبياؤهم ورسلهم؟ وما هي رسالاتهم التي أرسلت إليهم؟ وهل لهم عقل واستطاعة على الفعل حتى يكونوا محاسبين؟ هل تبعث البهائم والحشرات والطيور؟ هل تبعث الوحوش الكاسرة والحيوانات المفترسة؟ من هم رسلهم وأنبياؤهم؟ وما جوهر رسالاتهم؟ وهل لديهم عقل ورؤية أو قدرة واستطاعة على الفعل؟ وماذا عن السقط الذي تتم أعضاؤه ولم ير النور بعد، ولكن دخلت فيه الروح؟ هل هو مسئول بالغ عاقل حتى تعاد إليه الحياة، ويبعث ويقف يوم الحشر انتظارا للحساب؟ ولكن هل تقاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية؟ إذا كان الصبية والأطفال والمجانين والسقط كل ذلك غير مكلف في الدنيا، ألا ترد إليه الروح في الآخرة لما كانت الآخرة هي دار الحياة والبقاء؟ وإذا كان السقط الذي دخلت فيه الروح قبل أن يرى الدنيا يرد في الآخرة في مثل أهل الجنة طولا وعرضا، وبهاء وجمالا، ألا يكون ذلك استحقاقا؛ وبالتالي يتساوى مع أهل الاستحقاق على الأعمال؟ والحقيقة أن كل هذه الصور إنسانية خالصة، تقوم على قياس الغائب على الشاهد، خاصة في صور الحشر، وطريقة الوصول إلى المحشر، وفي تصور الأطفال في الجنان، والحشرات في دورات المياه.
33
فكما أن الموت قد لا يكون مجرد حادثة طبيعية بتوقف وظائف الحياة، بل يكون موتا شعوريا، فكم من الناس أحياء وهم أموات، وكم من الناس أموات وهم أحياء، فكذلك قد لا يكون البعث واقعة مادية تتحرك فيها الجبال، وتموج فيها البحار، وتخرج لها الأجساد، بل يكون البعث هو بعث الحزب، وبعث الأمة، وبعث الروح. فهو واقعة شعورية تمثل لحظة اليقظة في الحياة في مقابل لحظة الموت والسكون؛ ولذلك كانت مشاهد البعث كلها حياة وحركة؛ يعني البعث استمرار الحياة، وأن الموت ما هو إلا حالة عارضة؛ لذلك آثر كثير من الأدباء تسميتهم رواياتهم «البعث»، وكثير من السياسيين تسمية حزبهم «البعث»، وهو الاسم المفضل عند جميع رواد النهضة الحضارية لدى كل شعب وعند كل أمة. (4) المعاد الروحاني
وفي مقابل رجعة الأموات والمعاد الجسماني والبعث، وكلها تتطلب إعادة الحياة إلى الجسد، مما يسبب صعوبات نظرية ومشاكل يصعب حلها، يأتي المعاد الروحاني واضعا حدا لهذه الصعوبات، ومستبعدا معظم الإشكاليات، مستغنيا عن الجسد كلية؛ فالمعاد للأرواح وحدها، وهي التي ستنال الثواب أو العقاب، ولكن استبعاد إشكاليات إحياء الجسد أوقع في إشكاليات أخرى بالنسبة للروح. فإذا كانت الإعادة ممكنة بشكل ما، فماذا تعني الروح في المعاد الروحاني؟ (أ) ماذا تعني الروح؟
التصورات تتفاوت بين التصورات المادية والتصورات الروحية؛ فقد تكون الروح جسما لطيفا شفافا ينتشر في البدن ويتشابك معه، يصعد ويهبط، ويعرج ويرد إلى البرزخ، وهو جسم ذو صورة وشكل وهيئة، لا في الظلمة والكثافة والرقة واللطافة؛ فالصورة أقرب إلى طبيعة الروح من المادة، والشكل أنسب لها من الثقل والوزن، والهيئة أكثر ملاءمة لها من الكثافة والظلمة. وإن رفع الروح والعروج به في حواصل طيور خضر إلى الجنة، والهبوط به إلى سحيق النار، يدل على أن الروح جسم، كما أن إقبال بعضها في يوم «ألست بربكم» بوجهها والبعض الآخر بظهرها، دليل آخر على أنه جسم. الروح هنا صورة الجسم أو هيئته، لما كانت الصورة هي مبدأ التفرد للجسم والتعين للمادة. ولكن يظل الإشكال قائما: هل الروح جسم؟ وما صلته بالبدن؟ هل هما متحدان ما دامت الروح جسما أم متمايزان؟ وما وجه التمايز؟ قد تكون أقرب إلى الاتحاد كما هو الحال عند المتكلمين، أو أقرب إلى التمايز كما هو الحال عند الحكماء. ولكن لا يوجد مكان للروح في الجسد، وإلا إذا قطع عضو في حيوان قطع عضو في الروح؛ وذلك لأن لطافتها تقتضي سرعة انجذابها من العضو المقطوع قبل انفصالها. وإذا كانت بالجسم، هل تكون بالبطن أو القلب؟ ولماذا لا تكون في الدماغ وهو آخر ما يموت من جسد الإنسان؛ إذ تصعد الروح من القدمين إلى الرأس؟ قد يكون اتصال بعضها تنجيزيا، أي دفعة واحدة، والبعض الآخر تدريجيا. الأول بالطفرة والثاني بالتطور. الأول بالخلق والثاني بالطبيعة. وقد تظهر الحياة في الجسد عادة، وليس بملامسة الروح له؛ وبالتالي تكون الروح علة مقارنة، وليست علة فاعلة.
34
وقد ظهر هذا التصور المادي للروح في إطار التصورات المادية القديمة التي انتشرت في البيئة الحضارية؛ فقد كانت الروح جسما ماديا يوصف بالطول والعرض والعمق. وهو تصور طبيعي صرف، لا يدخل في الاعتبار صلتها بالبدن. وقد تكون لها صفة الحد والنهاية؛ وبالتالي لا تفارق البدن عند الموت؛ ومن ثم لا تميز الحيوان في شيء.
35
وقد يتحدد الروح بالنفس، ويكون هو مصدر الحياة ومبدأها. ولا يختلف في هذه الحالة أيضا عن الجسد أو أحد عناصره مثل الدم أو المزاج، وهو اجتماع العناصر الأربعة في معنى خامس، أو الحرارة الغريزية، أو الأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ، والذي يتولد من حركة الدم في الشرايين والأوردة التي بها حياة كل حيوان، ولا تختص بنوع الإنسان وحده، وهو موضوع علم التشريح.
36
ولكن تظل الروح جسما والحياة عرضا لها. ومع ذلك تظهر بدايات التمرد على هذا التصور حين اعتبار البدن آفة على الروح وباعثا على الاختيار، وكأن الروح تتململ من وجودها في البدن، وتتمرد عليه، وتبغي التمايز عنه والاستقلال منه والخروج عليه. ولو خلص الروح من البدن لكانت كل أفعاله على التولد والاضطرار. وقد تصبح النفس معنى بين الجسم والجوهر؛ حتى يمكن الجمع بين التصورين المادي والروحي. وقد يحدث التمايز بين النفس والروح، وبين الروح والحياة؛ فالحياة عرض. وفي هذه الحالة، يكون النوم سلوب النفس والروح دون الحياة. ولكن، هل النفس عرض للجسم، آلة يستعين بها على الفعل؟ هل هناك روحان في كل جسد؛ روح اليقظة تغيب عند النوم، وروح الحياة التي تفارقه عند الموت؛ فالموتة موتتان؛ موتة عند النوم، وموتة عند الموت؟ وقد ارتبط هذا التصور المادي النسبي، الروح باعتباره نفسا وحياة وعرضا، بالبيئة الحضارية القديمة بعد عرضها على العقل والسمع وإيجاد بعض المشروعية لها، خاصة وأنها تجمع بين المطلبين العلمي والديني، العقلي والسمعي.
37
وقد تكون جوهرا متعلقا بالبدن غير داخل فيه ولا خارج عنه، ولا تكون جسما ولا عرضا. وهو أيضا تصور متوسط بين المادي والروحي، لا يبعد عن المادي، ولا يصل إلى الروحي.
38
وفي وسط هذه التصورات للروح لا ينسى الموضوع الأساسي، وهو المعاد والثواب والعقاب والغاية من إعادة الروح إلى الأجساد، ولكنه أيضا يتم تصوره على نحو مادي مكاني؛ فهناك أماكن للروح بعد الموت، وتختلف أماكن أرواح السعداء عن أماكن أرواح الأشقياء. قد تكون أرواح السعداء بأفنية القبور، أو في البرزخ عند آدم في السماء الدنيا، ولكنها لا تستقر على حال، تسرح حيث شاءت، وقد تصل إلى الشام، وقد تعود إلى بئر زمزم، وهي متفاوتة في مكانها أعظم التفاوت، كسبق على تفاوت مراتبها في الجنة. أما أرواح الكفار ففي بئر في حضرموت، سجين في الأرض السابعة السفلية. الأرواح السعيدة حرة تسرح كيفما شاءت، والأرواح الشقية سجينة. الأولى في السماء، والثانية في الأرض. الأولى في الارتفاع، والثانية في الانخفاض.
39
والحقيقة أن كل هذه التصورات لمكان الروح إنما هي شخصية خالصة طبقا لاختيار المكان. فكيف تكون أرواح السعداء فوق أبنية القبور، وهي كما تعلم من حال المقابر مكان الموبقات والفارين والهاربين واللصوص والأشقياء؟ وإذا كان اختيارها لزمزم ما يبرره، فما سبب اختيارها لجابية الشام؟ هل لأن هناك بيت المقدس؛ وبالتالي تكون هناك عدالة في التوزيع والاختيار بين القبلتين مكة والقدس؟ ولماذا تصعد في البرزخ عند آدم في السماء الدنيا وتترك الأرض؟ وهل السماء مكان؟ وأين يكون التفاوت في الأرض، على أفنية القبور أو في مكة أو في القدس؟ ولماذا تكون أرواح الأشقياء في حضرموت؟ هل لأسباب جغرافية صرفة؛ الحر، الجفاف، أم لأسباب سكانية؛ الوحدة والعزلة ووحشة الصحراء، أم لأسباب سياسية؟ ولماذا لا تتفاوت مراتب الأرواح في الأرض طبقا لسوء الأعمال؟ وإذا كانت الأرض عيبا تبقى فيها الأرواح الشريرة ولا تصعد إلى السماء، فإنها أيضا إحدى اختيارات الأرواح الطيبة. وكيف يمكن التمييز بين الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة والحساب لم يتم بعد، والأعمال لم تعرض بعد، وكأن الحكم قد صدر قبل الدفاع؟ ونظرا لهذه الصعوبات كلها في تصور الروح مسبقا يمكن التوقف عن الحكم، وتفويض الأمر، والإمساك عن الخوض فيه.
40
وقد يستدل على عدم الخوض فيها، وبأنها سر ضد الاعتقادات الشائعة، بأنها شيء يخرج من فم الميت، وبأنها كالهواء أو الأثير عند الطبائعيين المتأخرين، أو كالحيوانات الصغيرة جدا التي توجد في الحياة، والتي لا ترى حتى بالمجسمات والمكبرات للمرئي، أو كالعقار الصغير، أو شرارة النار، أو الجزء الصغير من السم، أو المغناطيس غير المرئي وخاصية الجذب ولا يرى بالعين؛
41
فالتفويض نفسه يقوم على تصور مادي للسر الذي يراد الإمساك عنه!
وإذا كان التصور المادي للروح قد غلب على علم أصول الدين، فقد ظهر التصور العقلي للروح في علوم الحكمة بتعريف الروح على أنها هي العقل، وبعد أن طغت علوم الحكمة على علم أصول الدين في المرحلة المتأخرة، وقبل مرحلة العقائد والشروح. وفي الوقت نفسه يسهل هذا التعريف إثبات خلود النفس والقول بخلود العقل كحل وسط بين الفناء والبقاء، وكرد على البيئة الحضارية القديمة؛ وبالتالي ينتقل موضوع الروح من مستوى البيولوجيا والفيزيقا إلى مستوى الميتافيزيقا والحكمة، ومن شهادة الحس إلى بداهة العقل، ومن النفس الحية إلى النفس الناطقة؛ فالعقل أحد قوى النفس، وقد توجد النفس دون عقل كما هو الحال في المجنون والصبي والطفل. والعقل نظري أو عملي. الأول قوة على أفعال الفكر والرؤية، أو الحدس والاعتقادات؛ والثاني قوة عملية على الأفعال السلوكية. قد يطلق على الأول الجوهر المتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف، وهو المشار إليه في حديث «أول ما خلق الله العقل»، وحال النفوس بالقياس إليه حال الإبصار بالقياس إلى الشمس. والثاني مستمد من المعنى اللفظي للعقل المستمد من «العقال»؛ أي المنع، في فك العقال؛ أي في حرية السلوك. لذلك ارتبط العقل بالعلم والتكليف؛ فهو أداة العلم وشرط التكليف. وإن تفضيل العقل على العلم أو العلم على العقل لهو إدخال حكم قيمة في حكم واقع. العقل وسيلة العلم وأداته، وليس أحدهما بأفضل من الآخر. أما أنواع العقل فهي كلها إسقاطات إنسانية وصور فنية لشيء واحد هو الوعي العاقل والتجربة العاقلة. العقل الغريزي الذي يتهيأ به الإنسان لإدراك العلوم النظرية هو الوعي في بداية تعقله. والعقل الكسبي الذي يكتسبه الإنسان من معاشرة العقلاء هو التجربة العاقلة والقدرة على التعلم. والعقل العطائي الذي يعطى للإنسان لتوجيهه العلمي هو العقل الحدسي، الذي به يدرك الإنسان الحقائق النظرية فجأة بلا تعمد وروية، والذي به يتوجه نحو الخير بالإرادة الطبيعية. وعقل الزهاد الذي يكون به الزهد هو العقل الفاعل، العقل الإرادي الذي به يأخذ الإنسان موقفا من العالم. والعقل الشرفي هو العقل الكامل الذي لا يكون لشخص بعينه فحسب، مثل النبي، بل يكون للحكيم الذي يستطيع أن يصل به إلى أعلى درجات الكمال النظري والعملي. وهو في كل الحالات عقل إنساني صرف، وعي خالص، أكثر من العقل البيولوجي المرتبط بقوى النفس الحية، وأقل من العقل الإلهي الحاصل على النور الرباني. هو أقرب إلى عقل الحكماء منه إلى عقل المتكلمين أو الصوفية.
42 (ب) هل الروح متميزة عن البدن؟
والحقيقة أنه لا يهم معرفة الروح وحدها أو البدن وحده، بل ما يهم هو معرفة هل الروح متميزة عن البدن من أجل إثبات المعاد الروحاني. فإذا تميزت الروح عن البدن، وكان البدن فانيا، ثبت بقاء الروح بعد فناء البدن؛ وبالتالي يثبت المعاد الروحاني. يتوجه السؤال الآن ليس إلى الروح وحدها أو إلى البدن وحده، بل إلى الأنا؛ هل هي واحد أم مركب من اثنين؟ هل الأنا جسم، أم نفس وجسم، أم نفس خالص؟
43
فإذا كانت الأنا جسما، فهل يكون البدن هو الأنا؟ هل يكون الأنا هو البدن من أول العمر إلى منتهاه، في كل أجزائه وصوره؟ هل هو البنية المحسوسة أو العضو الحي؟ وكيف تكون الأجزاء الداخلة فيه والخارجة عن هويته أجزاء من الأنا؟ وقد يكون الأنا جزءا لا يتجزأ من القلب، أو أجزاء لطيفة سارية في الأعضاء، أو روحا لطيفة في الجانب الأيسر من القلب أو الدماغ، وقد يكون هو الأخلاط الأربعة في المزاج أو الدم، وقد يكون عبارة عن الحياة. وهنا تظهر الأنا على أنها الأنا البيولوجي الذي يتحدث عنه الأطباء، ويتعاملون معه في حالة التشخيص والعلاج.
44
ولكن، هل الأنا هو مجرد هذا الجسم الحي أو البدن العضوي؟ يبدو أن الأنا ليس هذا البدن المحسوس؛ لأن له ذاتا يعبر عنه بضمير المتكلم، الشخص الأول بالرغم من الغفلة عن الأعضاء؛ فعندما يقول الإنسان «أنا»، فإنه يعني هويته، ويعبر عن ذاته، ولا يشير إلى بدنه أو أعضائه. وقد تقطع الأعضاء الظاهرة، وقد تفنى وتنحل إلى عناصر بسيطة، وتظل الأنا أو النفس باقية من أول العمر إلى آخره، بل إن مسار البدن غير مسار النفس؛ فإذا كان البدن كلما تقدم العمر ضعف وذبل، فإن النفس تقوى وتنضج؛ مما يدل على أنهما من طبيعتين مختلفتين، يوجدان في الزمان في مسارين مستقلين ومتقابلين. وإذا كان البدن قادرا من خلال الحواس على إدراك المحسوسات، كل حس يدرك محسوسا، فإن النفس هي القادرة على إدراك المحسوسات الكلية الظاهرة والباطنة؛ أي المعقولات. وإذا اقتصر عمل الحواس على الإدراك، فإن نشاط النفس يمتد إلى إدراك الكليات والحكم بها ابتداء من الجزئيات. وإذا كانت أفعال البدن غريزية أو انعكاسية، فإن أفعال النفس إرادية اختيارية. وإذا كان نشاط النفس يتمثل في إدراك المدركات الحسية والعقلية، الجزئية والكلية، وكانت هي الفاعل لجميع أنواع الأفعال، فإن البدن لا يوصف بمثل هذه النشاطات، كما تدل عديد من الشواهد النقلية على بقاء الحياة بعد الموت متمثلة في حياة الشهداء. هناك إذن جوهر ناطق بعد الموت، مستقل عن البدن ومتميز عنه، وهو النفس.
45
هناك نفس مستقلة عن البدن تحتاج البدن كآلة؛ فالجوهر لا تأثير له إلا من خلال البدن.
46
ولكن تظل المشكلة قائمة في حالة التركيب؛ أي الجمع بين الأنا النفسي والأنا الجسمي، وهي كيفية الجمع والتركيب؛ لذلك آثر الحكماء تميز النفس عن البدن كمقدمة لإثبات بقائها والاستغناء عن البدن كلية. فإذا كان العلم بالله لا ينقسم، وكان محله هو النفس، تكون النفس كذلك، والحال كذلك أيضا بالنسبة لكل علم وفعل. كما أن القوة العقلية تقوى على أفعال غير متناهية، في حين تكون قوى البدن محدودة لا تقوم إلا بأفعال متناهية.
47
وتكون العلاقة بين النفس والبدن علاقة الاستنباط بالاستقراء، العقل بالحس، الكل بالجزء، الجدل النازل بالجدل الصاعد. (ج) هل تفنى الروح بفناء البدن؟
كان الهدف من السؤال السابق عن تميز الروح عن البدن هو طرح هذا السؤال الأخير: هل تفنى الروح بفناء البدن؟ فالقول بعدم التمايز والتوحيد بين الأنا والجسم، يؤدي إلى القول بفناء الروح مع فناء البدن، وأنه ليس عند الله أرواح شهداء ترزق.
48
وبالتالي يكون للموت الكلمة الأخيرة، وهو ما يضاد التجربة الإنسانية، والرغبة في تجاوز الموت واستمرار الحياة، والكشف عن الحقائق، واسترداد الحقوق والقصاص من مغتصبيها. أما القول بالتمايز، فإنه يؤدي بالضرورة إلى القول ببقاء النفس، سواء كان ذلك مع حشر الأجساد أو بدونها كجوهر خالص. فإذا كان المتكلمون قد ركزوا على إثبات حشر الأجساد، فإن الحكماء قد ركزوا على بقاء الأرواح بعد فناء الأجساد. فالنفس الناطقة لا تقبل الفناء عند المتكلمين الأشاعرة؛ لأن المواظبة على الفكر تفيد كمال النفس ونقصان البدن؛ فلو فنيت النفس بفناء البدن لامتنع أن يكون الموجب لنقصان البدن سببا لكمال النفس، وإذا كان عدم النوم يضعف البدن فإنه يقوي النفس؛ مما يدل على أنهما يسيران في خطين متعاكسين. وفي سن الأربعين يزداد كمال النفس، ويبدأ البدن في الضعف والوهن. وعند الرياضات الشديدة تحدث للنفس كمالات عظيمة، وتلوح لها الأنوار، وتنكشف لها المغيبات، في حين يضعف البدن. وهي حجج مشابهة لحجج الحكماء في إثبات تميز النفس عن البدن. هذا بالإضافة إلى أقوال الأنبياء والحكماء مما يثبت الجزم بعدم فناء النفس بفناء البدن، وببقائها بعد فنائه.
49
أما حجج بقاء النفس عند الحكماء، فإنها تعتمد على أن النفس بسيطة لا تركيب فيها؛ فالنفس الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة. ولو قبلت الفناء لكان للبسيط فعل وقوة، وهو محال. ولو صح عليها العدم لكان إمكان العدم مقدما لا محالة على العدم، واستدعى ذلك الإمكان محلا باقيا، مع أن الشيء لا يبقى عند عدمه. ولو صح العدم على النفس لكانت مركبة من مادة وصورة، وذلك غير صحيح؛ لأنها ليست جسما. ولو عدم جزء لكان قابلا للعدم، ولافتقر إلى عدم آخر باق، وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهو محال. فالإمكان هنا وجود وليس مجرد حكم ثبوتي، والنفس الإنسانية باقية بعد البدن، ولا تفنى بفنائه، ولا لسبب من أسبابه؛ لأنه لا وجود لتعلق بينهما، لا بالتقدم والتأخر، ولا بالمعية والتكافؤ. التقدم إما بالزمان أو المكان أو الشرف أو الطبع. وإن كان التقدم بالذات لكان علة صورية أو فاعلية أو مادية أو غائية. وإن كان التعلق بالتكافؤ فهما متطابقان. وفي كل الحالات، لا يجوز ذلك في تعلق النفس بالبدن؛ فالنفس حادثة ليس لها مكان، وليست متكافئة مع البدن، أو علة مادية له. إنما النفس تتقدم عليه بالشرف والطبع، وهي أقرب إلى العلة الصورية أو الفاعلة، لما كانت النفس صورة البدن أو أحد كمالاته.
50
والحجة العظمى حجة إشراقية خالصة، وهي إثبات سعادة النفوس بعد المفارقة نتيجة للعلم. فالنفس إما جاهلة، فتتألم بعد المفارقة لشعورها بالنقص، ولا مطمع لها في زواله؛ أو عالمة لها هيئات رديئة مكتسبة من ملامسة البدن، فإذا ما فنى البدن رسخ العلم، وشعرت بسعادتها. سعادة النفوس إذن لا تكون إلا بعد الموت بعد تخلصها من علائق البدن. وإذا كانت اللذة إدراك الملائم، وكان الملائم إدراك المجردات، فالمجردات لا تحصل إلا بعد الموت. وعلى عكس ذلك يكون شقاء النفوس الجاهلة بسبب الهيئات البدنية المتعلقة بالنفس.
51
فسعادتها بحصول كمالها؛ أي أن تكون عالمة بالعقليات، متصلة بالجواهر الروحانية. وبعد المفارقة تكون أقدر على ذلك، وتكون إما قد عقلت شيئا من كمالها ليس بطبعها، أو أن تكون حصلت عليه بطبعها مشتغلة بالرياضات. وقد يتقدم الحجة تقسيم قوى النفس إلى ثلاث: شهوانية، ومحلها الكبد، وهي أدنى المراتب؛ وغضبية، ومحلها القلب، وهي أوسطها؛ وناطقة، ومحلها الدماغ، وهي أشرفها. فإذا فنيت القوتان الأوليان بفناء البدن، فإن القوة الثالثة، وهي النفس الناطقة، تبقى بكمالاتها. كما قد تنقسم قوى النفس إلى نظرية وعملية، ثم تنقسم النظرية إلى مراتب، أشرفها النفس القدسية الإلهية، ثم يتلوها شرف النفس التي حصلت لها اعتقادات حقة في الإلهيات والمفارقات دون برهان يقيني، بل اعتقادا وتقليدا، ثم تتلوها النفوس الخالية من الاعتقادات الحقة أو الباطلة، البرهانية أو التقليدية. وأخيرا تأتي أقل النفوس درجة من حيث الشرف، وهي النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة.
52
والحقيقة أن هذه حجة إشراقية «أفلاطونية» خالصة، لما كانت المعرفة الحقة لا تتم إلا بعد الموت. والسؤال الآن: هل كمال المعرفة والسعادة في العلم أم في العلم والعمل؟ وهل العلم هو الرياضي والإلهي؛ وبالتالي هو العلم الديني وليس الدنيوي، الصوري وليس المادي، العقلي وليس الحسي؟ هل المعرفة لذة أم وسيلة للعمل؟ ولماذا لا تكون السعادة في العمل والتحقيق والدخول إلى العالم، بدل الخروج منه والتأمل فيه؟ لماذا لا تكون السعادة في الثورة والغضب والتمرد، وليس في الإشراق والنقاء والصفاء؟ وإذا كانت النفوس تختلف من حيث طباعها وماهياتها، وليس فقط من حيث قدراتها ومجاهدتها، فكيف يكون هناك ثواب وعقاب طبقا لقانون الاستحقاق؟ إن هذه الحجة تطهرية خالصة تكشف عن الرغبة في قسمة الإنسان والعالم إلى قسمين: الأول دنيء مملوء بالشهوات لا يصدر منها إلا بالجهل والموت، والثاني طاهر متعفف زاهد لا تصدر منه إلا الحكمة والخلود. ويخضع ترتيب قوى النفس وحالاتها وطباعها إلى هذه النظرة التطهرية التي تستنكف من العالم وتهرب منه، باحثة عن شيء آخر خارج العالم، فتطير منه فارغة من غير مضمون، وتتركه وراءها. ولما كانت النفس أيضا مشدودة إلى العالم من خلال البدن، فسرعان ما يتكالب الجسد عليه؛ وبالتالي يكون الإنسان متطهرا من جانب النفس، متكالبا على العالم من جانب البدن، ويصبح مقسما بين السماء والأرض، مشدودا بين الله والعالم، فتضيع وحدته.
لذلك غلبت الإشراقيات والنظريات الصوفية على علوم الحكمة؛ وبالتالي على علم أصول الدين. ولم يسلم ذلك من دخول بعض جوانب السحر والطلسمات ما دامت الروح المتجردة أو النفس القادرة قد وصلت إلى كمالاتها النظرية والعملية، وتجردت عن علائقها في البدن وعن صلتها بالعالم. وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخرة بعد أن توقف تطور علم التوحيد، وتسربت الفلسفة إليه بعد استبعادها منذ القرن الخامس، وعادت إلى علم التوحيد الذي لا يشك فيه أحد من وراء ستار، بل تحولت مسألة النفوس الناطقة في العقائد المتأخرة إلى مسألة مستقلة معتمدة على الاستعارة من التحليلات الفلسفية. وينضم المعاد النفساني إلى المعاد الروحاني، ويظهر خلود النفس مع حشر الأجساد.
53
وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية التي تتفق مع هذه الحجة الإشراقية. ويتجاوز الأمر من مجرد حجة لإثبات بقاء النفس بعد فناء البدن إلى إثبات للثواب والعقاب في هذه المفارقة ذاتها، فنعم النفوس الطاهرة في معرفتها، وشقاؤها في جهلها، دونما حاجة إلى ثواب أو عقاب حسيين حيث لا بدن.
54
وتنتهي حجج بقاء النفس بعد فناء البدن إلى غايتها القصوى، وهي إثبات المعاد الروحاني، وهذا الذي ركزت عليه مراحل الوحي السابقة، في حين ركزت المرحلة الأخيرة على المعاد الجسماني. فالمعاد الروحاني وارد، والمعاد الجسماني وارد أيضا، والجمع بينهما بناء على العقل والشرع. وكلاهما يدل على رغبة الإنسان في تجاوز الموت واستمرار الحياة.
55
الأول ليس موضوعا للتكليف، ولا يرفضه الشرع رفض الحكماء لحشر الأجساد. يدل عليه العقل والشرع، وتؤيده بداهة الوجدان.
والحقيقة أن المعاد الروحاني يقوم على تصور ثنائي للعالم، الحط من شأن البدن والإعلاء من شأن النفس. وهي نظرة متطهرة للعالم، ترى المادة شرا والروح خيرا؛ مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى رد فعل عكسي؛ تصبح المادة خيرا والروح شرا، كما هو الحال في المذاهب المادية، أو تتحول إلى نفاق ورياء عندما يعيش الإنسان على مستوى المادة، ويتظاهر بأنه يسلك على مستوى الروح. فطالما هناك ثنائية متعارضة لا يسلم الإنسان إما الوقوع في الخلط بينهما بدعوى التمييز، فيعيش في مستوى المادة مغطيا نفسه بمظاهر الروح، وهو النفاق؛ أو تتسرب إليه المادة كلما أغرق في الروح، وكأن الصورة لا تعيش إلا بمضمون، حتى ولو على نحو خفي. وكثيرا ما تنتهي تحليلات الروح إلى وصف للمادة. والتصور الثنائي للعالم تصور طفولي للإنسان قائم على ثنائية الخير والشر والثواب والعقاب، في حين أن الإنسان البالغ العاقل يعمل الخير لذاته، ويتجنب الشر لذاته، دونما انتظار لثواب أو خوف من عقاب، دونما ترغيب أو تخويف. وهذا لا يمنع من حدوث ردود أفعال للأفعال الحسنة أو القبيحة في الدنيا، في الحال أو في المآل تكون في رأي الناس جزاء أو عقابا، وهي أفعال متولدة في الطبيعة ومنتجة في التاريخ. والتصور الثنائي للعالم موقف صاد يقوم على الالتذاذ بعذاب الآخرين؛ وبالتالي فهو موقف يقوم على الكراهية لا المحبة؛ فالآخر غير قادر على الوصول إلى المعاد الروحاني مثل وصول الأنا، وهذا ما يعطي الأنا نوعا من السرور والرضا عن الذات في مقابل عذاب الآخر وإحباطه؛ لذلك منع الصوفية العذاب للآخرين عندما أحبوا كل البشر. ومنهم من رغب فداء البشر كلهم بعذابه وحده، ويصبح الإنسان بطلا منقذا، مركز العالم، ومحور التاريخ. وفي الوقت نفسه، يكون التصور الثنائي للعالم موقفا ماسوشيا يقوم على تعذيب البدن في سبيل إعلاء الروح، وكلما عذب البدن درجة صعدت الروح درجة، وكلما اشتد العذاب كما قويت الروح كيفا، وكلما اشتد العذاب كيفا تجلت الروح وجودا؛ فالألم البدني لذة في سبيل سعادة أعظم هي رقي الروح. والتصور الثنائي للإنسان تصور تشاؤمي؛ لأنه يقوم على أن البدن شر والروح خير، وأن هذا العالم ميئوس منه، وأن لا أمل فيه، وأن الرجاء كله خارج العالم، في العالم الآخر. يقوم باليأس من إنقاذ العالم، ثم يعوض هذا اليأس في إنقاذ الروح؛ لذلك يظهر هذا التصور الثنائي للعالم في لحظات الضعف والهزيمة عندما يتحد الإنسان بالجزء الفاني، ويعشق الجزء الخالد؛ تعويضا له عن الهزيمة، أو عندما يتحد القاهر بالجزء الخالد، ويفعل في المقهور الذي اتحد مع الجزء الفاني ما يشاء، ثم يود المقهور أن يصبح قاهرا؛ كي يحول القاهر إلى مقهور بالفعل. يعبر إذن هذا التصور الثنائي عن جدل الهزيمة والنصر، ويكشف عن أن الحياة معركة، ولكنه يجعلها مشخصة فردية خارج العالم من أجل إنقاذه! والتصور الثنائي للعالم تصور «رأسمالي» يقوم على المنافسة والمسارعة إلى الكسب، يعوض الخسارة إلى مكسب وبأسرع الطرق، لا عن طريق النزول إلى الأسواق، بل عن طريق المضاربة والمراهنة واحتوائها من أعلى. ففهم قوانين اللعبة مقدمة لاحتوائها، وكأن اللاعب الكبير يترك اللاعبين الصغار يتنافسون على الفتات، وهو يتمتع بالقسط الأكبر، ويمتلك القسط الأعظم. يتعامل الصغار مع «الصرف»، في حين يتعامل الكبير مع «الأوراق البنكية». وإذا كان الصغار فقراء، فالخوف على الأغنياء أن تكون أوراقهم المالية غير مغطاة، أو أن تكون شبكاتهم بلا رصيد. وأخيرا التصور الثنائي للعالم تصور طبقي يقوم على افتراض طبقات في العالم الآخر يتميز الإنسان بأعلاها عن غيره، وتنتقل المنافسة من الأرض إلى السماء، ومن الدنيا إلى الآخرة؛ فالصعود دائما إلى أعلى وعلى درجات، دون أن يكون هناك هبوط. ويتربع على القمة الفرد الأقوى والأغنى والأكمل، وكأن التصور الثنائي للعالم ينتهي إلى تصور فردي خالص؛ إنقاذا للذات على حساب الآخرين.
وكرد فعل على هذا التصور الثنائي، سواء في المعاد الجسماني أو المعاد الروحاني، أصبح الخلود للنفس الكلية المتحدة بالنوع، وليس للنفس الفردية. لا يتحقق الخلود بتشخيص الرغبات، بل يتحقق بالفعل من خلال الزمان بالنشاط والجهد؛ وذلك بتحقيق الإنسان وغايته في الحياة، وبتحوله إلى تاريخ وحضارة. ويمكن للإنسان أن يخلد نفسه من خلال حياته بنشاطه وفعله وعمله، عندما ينتج فكرا ويترك أثرا؛ وبالتالي يتحول وجوده الزماني إلى وجود حضاري، كما يفعل الفلاسفة والشعراء والثوار والشهداء. ليس الخلود واقعة يمكن الحصول عليها أو لا يمكن لكل فرد، بل هي عملية تخليد، إمكانية محضة مشروطة بجهد الإنسان وفعله، وكل قادر على الخلق والتأثير. فالمعاد ليس جسمانيا أو روحانيا، بل المعاد إنساني خالص تكشف عنه رغبة الإنسان في مقاومة الموت واستمرار الحياة عن طريق أفعاله في الدنيا وآثاره في الناس، فيتحول وجوده الفردي إلى وجود جماعي، ويخلد الفرد في الجماعة، ويبقى في الأمة.
56
ثامنا: علامات الساعة
وبعد إثبات إمكانية المعاد، يبدأ البحث في توقيته وساعة حدوثه. وقبل حدوثه يمكن معرفة ذلك بعلامات؛ فعلامات الساعة هي إيذان بقرب حدوث المعاد، ونهاية الزمان، وانقضاء الأعمار، وانتهاء رحلة الحياة، وأن لم يعد هناك مجال للتكليف أو الاستحقاق أو الاختيار. فإذا ما انتفت الغاية جاءت النهاية. وهي موجودة قبل ظهور الأنبياء والإعلان عن النبي أو قدومه. يخلو أصل الوحي منها، ولكنها موجودة في الأحاديث التي تعتمد على الخيال الشعبي ، والتي تنبئ بحوادث آخر الزمان، كما هو معروف في كل الأخرويات؛ تعويضا عن هموم الناس، وتفريجا لكربهم، وتوسيعا لخيالهم إذا ما ضاق العقل، واتجاها نحو المستقبل الأفضل إذا ما استعصى الحاضر وتأزمت أحواله. كما أنها تكثر للغاية في العقائد المتأخرة، وتستمد من كتب التفسير والتاريخ والسير، حيث يزداد الخلق الشعبي، وتكثر صور المعاد والأحاديث الأخروية الضعيفة.
1
وهناك نماذج عديدة منها في الديانات المحيطة والمعروفة في البيئة الحضارية، والتي يمكن دراستها في الأساطير المقارنة، وفي علم التاريخ المقارن للأديان. وهي علامات لا يمكن تجربتها أو التحقق من صدقها لا عقلا ولا تجربة؛ لأنها لم تحدث بعد، ولم يرها أحد؛ وبالتالي يكون السؤال: هل هي علامات حسية تقع بالفعل، أما إنها دلالات ومعان لتجارب ووقائع حاضرة يستطيع بها الإنسان أن يتخيل المستقبل، وأن يطمئن عليها كلما ازداد قلقا على حاضره؟ فالإنسان يتخيل مستقبله بناء على حاضره، ثم يشخصه وكأن سيحدث بالفعل في وقائع مستقبلة في آخر الزمان. وكلما قوي المعنى وعمقت الدلالة، زاد تشخيصها كوقائع وإثباتها كحوادث.
ولا يهم عدد العلامات أو حجمها؛ فقد تكون خمسا أو عشرا؛ أي خمسة مضروبة في اثنين. ربما يكون للعدد خمسة معنى رمزي، ولضربه في اثنين دلالة رمزية أخرى. أما قسمتها من حيث الحجم خمسة كبرى وخمسة صغرى، فإنها تدل فقط على التقابل في الصور بين الأكبر والأصغر، طبقا لدرجة حضور المعنى وعمقه في الشعور. ومع ذلك يمكن تصنيف العلامات إلى ثلاثة أنواع: الأول يتعلق بالصراع بين الخير والشر، والثاني خاص بقوانين الطبيعة، والثالث يسير إلى نهاية التكليف. (1) الصراع بين الخير والشر
وتشير أول مجموعة من العلامات إلى الصراع بين الخير والشر، ظهور الشر وسيادته، ثم تغلب الخير عليه في النهاية، وتشمل: (أ) ظهور المسيح الدجال
والمسيح الدجال إنسان من بني آدم، وليس شيطانا، وكأن الإنسان سيطغى في الأرض حتى يفسد كل شيء، وهو كافر لا أمل في إيمانه، مجبر على الكفر لا اختيار عنده بينه وبين الإيمان؛ وبالتالي يكون شرا مطلقا. يدعي الألوهية؛ أي يخلط بين المستويات، ويقضي على الخالص، وينكر الخير الأعم.
2
يطوف بالدنيا كلها بثا للفساد الشامل وعما للخراب. سمي مسيحا لمسحه الأرض يوم أحد أربعين يوما، فهو مرتبط بالشر؛ بهزيمة أحد، وسياحته في الأرض تأييدا للكفار. وقد يكون سبب التسمية أنه ممسوح العين اليسرى. وفي التصورات الشعبية ممسوح العين، كريه، وشرير. والعين اليسرى تشير أيضا إلى الشر والقبح أكثر مما تشير العين اليمنى. على عكس تسمية المسيح عيسى ابن مريم الذي يسيح في الأرض دونما علاقة بأحد، أو لأنه يمسح كل ذي عاهة فيبرأ، أو لأنه ممسوح بالبركة والخير طبقا لرصيد الصور المستمد من البيئة الدينية المحلية، مثل مسح السيد المسيح على ذوي العاهات لإجراء المعجزات، أو دهن ماريا المجدلية له بالزيت، ومسحها له بالعطور. وربما تتحدد المدة التي يظهر فيها المسيح الدجال بأربعين يوما، أسوة بعودة المسيح الحق أربعين يوما إلى الأرض بعد البعث لتعليم التلاميذ، على ما هو معروف في الدين المسيحي. وقد تشير الأيام الأربعون إلى بعض مظاهر الحزن وطقوس العزاء في الديانة المصرية القديمة، وهي فترة الحزن قبل بداية تحلل جسد الميت وبروز عظام الوجه وتشققه. وقد تنفصل الصورة أكثر فأكثر طبقا لإبداعات الخيال الشعبي، بل تتحول الواقعة إلى قصة بها حوار بين الشر والخير، بين المسيح الدجال والسيد المسيح أو من ينوب عنه مثل الخضر. تتحول الواقعة إلى حدث درامي كامل، فيتحدد المكان في أرض المشرق بخراسان؛ ربما لبعدها، أو لغزوات التتر والمغول، أو لعدم عروبتها، أو لعجمة لسانها. واسمه صاف، وهي تسمية عن طريق القلب، وتسمية الشيء بضده إمعانا في إبراز الصفة عن طريق التقابل. وكنيته أبو يوسف؛ أي إن له اسما مشهورا؛ ربما إشارة إلى أبي يوسف الثقفي الحجاج، قاطع الرءوس. ودينه اليهودية؛ تعبيرا عن عداء اليهودية، بالرغم من أن اليهودية دين من عند الله، وأحد مراحل الوحي. وقد يكون أعور، وليس فقط ممسوح العين اليسرى، والأعور أكثر قبحا من المبصر، أو ممسوح أحد العينين، فالقرصان أعور. والقائد الإسرائيلي بالنسبة للعرب أعور. والعين الأخرى لم تسلم من بقعة صفراء تجعله أعور بعين وأقرب إلى العمى بالعين الأخرى. ومكتوب بين العين العوراء والعين العمياء كافر! وكأن الجبين سبورة أو قرطاس! وبأي لون تكون الكتابة؟ وبأية لغة؟ وما حجمها؟ وماذا عن المؤمن الذي لا يعرف القراءة أو اللغة، أو المؤمن الأعمى؟ كثير الشعر مثل الحيوان، وليس أملس مثل الغلام. وبعد الوصف الجسدي المظهري له تبدأ الصحبة. معه جنة ونار يسيران معه وكأنهما شخصان؛ الخير على اليمين، والشر على اليسار. وكذلك تسير معه الأنهار، دون تحديد من الخلف أو الإمام، وهي إلى الأمام أقرب. ومع أن الجنة تجري أيضا من تحتها الأنهار، إلا أنها فيما يبدو جداول رقيقة لتصوير الرياض وحدائق القصور الأندلسية، بل يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت؛ مما يدل على قدرته الفائقة على صنع الخير؛ مطر السماء ونبات الأرض. يأمر الأرض فتخرج كنوزها فتسير معه؛ رمزا للغنى وأموال الذهب الأسود. وبالتالي فهو قادر على أن يفعل المعجزات مثل الأنبياء. ثم يبدأ الحوار، وتظهر شخصية أخرى، فيتحول الحديث إلى قصة. يظهر الخضر رجلا جميلا في مقابل بشاعة الدجال. والخضر صورة النقاء الصوفي والتأويل الرمزي والفعل المستقبلي. يستمر الدجال في الغواية، غواية خضر، وكأنه استمرار لفتاني القبر، وامتحان الراحة الأخيرة. ولا يسأل الدجال، بل يبدأ بالإقرار الخاطئ، ولا يطلب من المسئول إلا إقرارا على إقرار، ولكن الخضر يكتشف كذب الدجال، ويلعنه، ويقر بالله رب العالمين، ويتحول من ملاك طاهر إلى ضارب بالسيف يشق الدجال نصفين، ثم يأمره بالقيام، فيحيا الدجال بقدرة الله من جديد؛ كي يعلن الخضر من جديد عجزه عن فعل أي شيء، ويتحول المسئول إلى سائل، والممتحن إلى ممتحن؛ وبالتالي يحول الخضر السؤال النظري عن الله إلى تحد عملي بالقدرة، كما هو الحال في إعجاز القرآن، وتحدي القدرة الإنسانية به. ثم ينتقل الحوار إلى وصف الركب؛ فإذا كان لجبريل براق بجناحين، فللدجال حمار أعور مثل صاحبه. وإذا كان ما بين أذنيه أربعون ذراعا، فما بالك برأسه وجسده وقدميه وذيله، وما بالنا بصاحبه! وإذا كانت خطواته ميلا ، فما بالنا بسرعته! وكيف بهذه الضخامة يحدث الحوار مع الخضر، ويشقه الخضر نصفين؟ وبأي سيف يتم الشق إن لم يكن الخضر عملاقا مثله، والسيف أشبه بقوس قزح في السماء؟ مهمة الخيال الشعبي التصوير عن طريق التضخيم؛ حتى يحدث التأثير. وتتدخل التعريفات اللغوية وسط الواقعة الدرامية؛ فالدجال من الدجل؛ أي التغطية؛ لأنه يغطي الحق بالباطل. ثم تستمر القصة بحوار آخر، وتأكيدا على أنها فتنة، بل وأعظم الفتن بغية للتضخيم، يستعاذ فيها كما فعل الرسول، حتى تثبت صحتها. وينشأ الحوار الآخر من أجل الإقناع؛ فيحضر الدجال الشيطان في صورة الأبوين؛ ليشهدا شهادة زور عن خوف أو تدليس على أن الدجال هو الرب الذي يؤمن به. وتحتوي شهادتهما على التحذير المقنع من أنه الرب، ولكن عليه أن يبتعد، لا أن يقترب. وفي هذا الامتحان، يتدخل علم الأشعرية بأن من ثبته الله على الإيمان مر بنجاح، ولم يضر شيئا دون قانون الاستحقاق على الأعمال. ويسوح الدجال في كل الأرض، إلا الأماكن المقدسة فيها؛ مكة والمدينة والقدس والطور، الأماكن المقدسة في الوحي في مراحله الثلاث؛ إذ تحرسها الملائكة، وتطرد الدجال عنها، وكأن الملائكة في مساعدة الإنسان، تعينه على الخير وتمنع عنه الشر، ثم يظهر عامل الزمان دون تحديد بأربعين يوما؛ نظرا لاختلاف الناس فيه، فلا يعلم الزمان إلا الله، وكأن الحمار لم يكف الدجال؛ إذ إن له جساسة؛ أي دابة تجس الأخبار له، وتجمع المعلومات؛ حتى يكون على بينة من أمره. وبغية في إعطاء بعض الأمل بعد اليأس، والتشجيع بعد الإحباط، والترغيب بعد الترهيب، يظهر الدجال مسلسلا بحديد في يديه ورجليه في جزيرة! وكيف يسير ويركب ويطوف وهو في هذه الحالة؟ وأي سلاسل تقوى على من ينزل الأمطار، ويفجر الأرض، وينبت الزرع؟ ولتأكيد واقعة الحبس، يمر شاهد عيان موجود بالفعل، وشخص تاريخي معروف باسمه، ويسأل الدجال عن النبي؛ لإبراز التناقض بين موضوع السؤال والشخص المسئول، ثم يرجع السائل ليخبر النبي بما حدث! (ب) نزول المسيح عيسى ابن مريم
ينزل المسيح عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال انتصارا للخير على الشر. وأحيانا يظهر المهدي مع المسيح في رواية واحدة يؤديان الدور نفسه بالنسبة للمسيح الدجال. يظهر المهدي أولا، فيحاصره المسيح الدجال، ثم يأتي المسيح عيسى ابن مريم ليخلص المهدي؛ مما يدل على وجود علاقة بين المخلصية المسيحية والمهدية؛ أي بين الأسطورة النموذج والأسطورة المحلية. وقد يظهر المهدي وحده كإحدى علامات الساعة، فتصبح الأسطورة واقعا تتدخل فيه التحديدات المكانية والزمانية، وتحديدات أخرى عقائدية؛ لضبط الرواية، وجعلها وكأنها حدث تاريخي مستقبلي واقع بالفعل. فقبل موت عيسى بعد نزوله عند قيام الساعة، تتوحد الملل في الإسلام الحنيف؛ إعلانا لنهاية النبوة، واكتمال الوحي، وتحقيق الواقع، وتطابق الفكر مع التاريخ. وقد يكون الزمان هو وقت طلوع الشمس. ويبقى المسيح في الأرض أربعين سنة، أو سبعين سنة، أو سبع سنين. ويمكن التوفيق بين الرأيين باعتبار الأربعين سنة مدة مكثه قبل الرفع، فإن رفع وله ثلاث وثلاثون سنة يكون مجموع سنوات مكثه قد ناهز السبعين. وقد يكون العدد أربعون والعدد سبعون أعدادا رمزية أو نمطية؛ فهناك العلماء السبعون الذين ترجموا التوراة إلى اليونانية (السبتانت)، وهناك السبعون تلميذا، وهي الدائرة الأوسع بعد الدائرة الأضيق؛ دائرة الحواريين الاثني عشر، وهناك العدد سبعة كعدد رمزي كوني في السموات السبع والأرضين السبع والأيام السبع. وقد علم المسيح التلاميذ أربعين يوما بعد البعث وقبل الرفع الثاني. وفي مصر القديمة يكتمل الحزن في الأربعين. وقد يتحدد زمان النزول بصلاة الصبح بداية الزمان وقت طلوع الشمس وبكارة اليوم. وقد يكون الزمان شعوريا خالصا؛ فإذا مكث المسيح أربعين ليلة يسبح في الأرض، فإن اليوم من أيامه يكون كالسنة أو كالشهر، أو يكون اليوم كالجمعة. وقد تكون سائر الأيام كأيامنا. أما بالنسبة للتحديدات المكانية، فإن المهدي يظهر أولا في الحرمين الشريفين، ثم يأتي إلى بيت المقدس، فيحاصره الدجال، ثم ينزل المسيح عيسى ابن مريم من المغارة الشرقية من دمشق الشام ويقتل الدجال، وهي أماكن مقدسة في الحجاز وفي الشام، ولا تقل دمشق قدسية عن القدس. والمنارة من الشرق، وليس من الغرب؛ فالشرق أكثر قدسية من الغرب. وقد ينزل عيسى من السماء؛ فالسماء أكثر شرفا من الأرض. وعلى هذا النحو ينتقل الصراع السياسي إلى رموز جغرافية؛ الحجاز والشام معا في مواجهة بغداد والعراق. ويدفن المهدي بين النبي والصديق، أو بين الشيخين؛ أي في مكان شريف. كما يدفن المسيح بعد أن يصلي عليه المسلمون في روضة محمد؛ لأنه خلق من الأرض بعد نفخ جبريل في طوقها. وقد ينزل المسيح من السماء الثانية التي يسبح فيها الله، وهي أقرب إلى الأرض ساعة النزول من السماء السابعة. وفي وقت النزول تقوم الملائكة بأبواب مكة والمدينة، ويفر الناس إلى جبل الدخان بالشام، فيأتيهم المسيح الدجال، ويحاصرهم، وكأن العذاب والخلاص بالشام! قد يكشف ذلك عن الصراع بين الحجاز والشام، أو كنوع جديد من المعراج من الحجاز إلى الشام. ومع هذه التحديدات الزمانية والمكانية، يظهر البطل المسيح عيسى ابن مريم؛ فيقتل المسيح الدجال بضربة واحدة فيقتله في الحال، فيذوب كالملح في الماء. ينزل المسيح من السماء الثانية، حيث كان يسبح الله؛ أي إنه هو الخير المطلق. لا يأكل ولا يشرب؛ لأن الطعام والشراب من مظاهر النقص. ينزل واضعا يديه على أجنحة الملائكة، طائرا مثلهم دون ركوب، جسد على جسد، لابسا ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران؛ دلالة على الزركشة والرائحة العطرة. يكسر الصليب الذي هو رمز لتحريف عقائد الناس فيه، ويقتل الخنزير رمز تحريف شريعته، ويترك الجزية رمزا للسماحة والغفران. يتزوج من امرأة من حزام، وهي قبيلة باليمن؛ رمزا لتحريف شريعته من الزواج إلى الرهبنة. ويولد له ولدان، موسى ومحمد؛ أي إن الأنبياء من نسل واحد. ولا ينزل عليه جبريل بشرع جديد؛ لأن شريعة الإسلام آخر الشرائع، ثم يجتمع المسيح بالمهدي وقد أقيمت الصلاة، يشير المهدي إلى عيسى المسيح دلالة على اقتداء المسيح بالرسول لما كان المهدي نائبا عنه. ويتضح في الرواية أثر التصور الشيعي في نيابة الإمام عن الرسول، وأفضلية الإمام على النبي. ولا ينزل المسيح إلا بعد أن ينقضي التكليف في الأرض، فلا يبقى فيها مكلف واحد؛ وبالتالي لا امتحان ولا اختبار ولا حرية ولا عقل. والحكمة في نزوله الرد على اليهود والزاعمين قتلهم له؛ فالرواية تذكر تعليل النزول، ويتضح فيها الجدل مع اليهود. فالإسلام والمسيحية معا في كفة، واليهودية في كفة أخرى. وفي زمانه يكون رخاء كثير وتكون بركة، حتى لتكاد تكفي رمانة واحدة جماعة كثيرة، كما كان الحال أيام معجزاته في تكثير السمك والخبز والماء. ويعم الأمن؛ فترعى الغنم مع الذئب، وتلعب الصبيان بالحيات، حيث لا شر ولا عدوان. وتتعرف الطبيعة على المسيح الدجال، وعلى المسيح ابن مريم، ويتكلم الشجر، وينادي الحجر. وبصرف النظر عن الترتيب الزماني والتحديد المكاني وظهور البطل وتحقيق أفعاله وأحوال عصره، فإن الرواية كلها إنما تعبر عن رغبة في الخلاص في المستقبل، وانتصار الخير على الشر؛ أسوة بما كان في الديانات السابقة، وكان يصعب أن يأتي محمد ليقوم بدور المخلص في نهاية الزمان؛ لأن محمدا يقوم بذلك في الدنيا، ولكن أعطيت الوظيفة للمسيح؛ فهي وظيفته التقليدية، ويشاركه فيها الإمام تعبيرا عن الجماعة المضطهدة، وأملها في انتصار الخير على الشر، وغلبة الحق على الباطل، وسيادة العدل على الظلم. وينزل المسيح الدجال، وليس موسى الدجال، أو محمد الدجال؛ لأنه في مقابل المسيح عيسى ابن مريم كخير مطلق هناك المسيح الدجال كشر مطلق. أما محمد وموسى فإنها قادران على الانتصار بنفسيهما عن طريق الفعل، انتصار محمد على قومه، وانتصار موسى على فرعون.
3 (ج) حرب يأجوج ومأجوج
وما إن تنتهي العلامتان الأوليان، خروج المسيح الدجال ثم نزول المسيح عيسى ابن مريم لقتله، تأتي العلامة الثالثة وهي «يأجوج ومأجوج». فماذا يعني الاسمان؟ هل هما اسمان عربيان أم أعجميان؟ هل يعبران عن حدث تاريخي مستقبلي مثل القتال بين قبيلتين أم معسكرين، أم مجرد صورتين للخير والشر؟ ولكن لا توجد إشارة واضحة على أن أحدهما خير والآخر شر، بل كلاهما شر، يقاتل بعضهما بعضا، وكأن الشر يدمر نفسه، وينتهي بالصراع بين الأشرار. وقيل إنهما من ذرية يافث بن نوح؛ أي من ذرية الإنسان الشرير، رمز الشر وأصله. وقيل إنهما من الترك، وكأن صورة الترك هي الهرج والمرج والحرب والقتال، كما كان الحال مع غارات التتار والمغول. ويدل ذلك على الوضع المتأخر للرواية بعد هجمات الشرق على العالم الإسلامي. وبالإضافة إلى تحديد هوية الاسمين تأتي التحديدات الزمانية والمكانية كالعادة. فالزمان هو زمن عيسى ومحمد في آن واحد؛ فالرواية لا تعتني بالترتيب الزماني للحدث التاريخي، بل يكفيها وقوع الحدث في الزمان المتصل، وليس في الزمان المنفصل. فيطوف يأجوج ومأجوج في زمن عيسى وأمة محمد فوق رءوس الجبال. هل تستمر الحرب بينهما سبعمائة عام حتى يمكن الجمع بين عيسى ومحمد في زمن واحد؟ ولماذا تهرب أمة محمد فوق رءوس الجبال، وتكتفي بالدعاء عليهما بلا حرب «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف»؟ وهل هذه هي صورة الإسلام المجاهد والأمة المجاهدة، في حين يأتي خلاصها على يد المسيح؟ وهنا يظهر المسيح في ثلاث علامات من خمس؛ مما يدل على أثر النصرانية في تصور العقائد لعلامات الساعة. ولماذا تصعد أمة الإسلام فوق رءوس الجبال وهي تعلم أنها لم تعصم ابن نوح من الطوفان، أم إن المسلمين يستعدون لنوع من حرب الصواريخ والفضاء؟
4
وقد تزداد تفصيلات يأجوج ومأجوج من حيث الشكل والحجم. فهم مختلفون في الصفة؛ منهم من طوله مساو لعرضه حرصا على التناسق الكمي في الحجم وإن كان عدم تناسق في الشكل، وإلا كان الإنسان مربعا! ومنهم من يفرش أحد أذنيه ويلتحف بالأخرى، كتعبير عن كبر الأذنين، وعدم الاحتياج إلى موضوع خارجي من أسفلها كي ينام عليه، أو من أعلاها يلتحف به. هو لحم متصل، ذات وموضوع. لهم أضراس كالسباع، ومخالب في أظافرهم كالحيوانات، تعبيرا عن الافتراس والنهش في اللحم والقطع بالمخالب. أولهم بالشام يشرب من طبرية وآخرهم بالعراق؛ مما يدل على كبر حجمهم وضخامة عددهم، يملئون الشام الكبرى. يقتلون أهل الدنيا جميعا، ثم يتجهون لمقاتلة أهل السماء. يرمون جهة السماء بالنشاب، فترجع ملطخة بدماء أهلها. ويضلهم الله استدراجا لهم وزيادة في صلافتهم وغرورهم، وكأنها إسرائيل يمتد حلمها من الفرات إلى النيل، والتي يصل طيرانها من المغرب إلى كراتشي؟ ثم يموتون جميعا بآفة في رقبتهم؛ دود يخرج منها، يموتون مرة واحدة لا فرادى، وكأنه طاعون لا يبقي ولا يذر. ولا حاجة إلى المسيح عيسى ابن مريم لخلاص الدنيا من شرورهم، وهم جميعا كفار لا إيمان لهم.
5
وقد تزداد التفصيلات أكثر فأكثر طبقا للخيال الشعبي في واقع جغرافي مخالف. فبعد قتل المسيح عيسى ابن مريم للمسيح الدجال، يوحي الله إليه أنه قد أخرج عبادا له لا يدان لأحد بقتالهم، وهو ما يعارض النداء إلى الجهاد. ويأمر الله المسيح بأخذ عباده المؤمنين إلى الطور أمانا وحرزا، وكأن المؤمنين جماعة طاهرة منعزلة صوفية يخشى عليها من الانقراض. ويبعث الله «يأجوج ومأجوج» من كل نسل، وليس من نسل معين، يسرعون في المشي تعبيرا عن الجد والنشاط والحركة العسكرية، وكأنهم من المظليين. يمر أولها على بحيرة طبرية، فيشربون ماءها حتى تجف، وهي بالشام طولها عشرة أميال؛ تعبيرا عن الجيش العرمرم. ويمر آخرها فلا يجدون آثارا لماء، ولكنهم لا يموتون من العطش. وذلك أيضا تعبير عن الفوضى وعدم النظام والأنانية، فلا يبقي أول الجيش ماء لآخره، فالسابقون السابقون. ثم يحصرون عيسى وأصحابه، ويحاصرون الحيوان، وكأن رأس الثور عندهم تبلغ قيمته مائة دينار عندنا؛ مما يدل على أنهم يحاصرون المؤمنين، ويستولون على معاشهم. ولما كان عيسى وأصحابه لا يقدرون عليهم، مع أنه قدر على قتل المسيح الدجال، فإنه يرغب إلى الله ويدعوه، فيرسل عليهم الله النغف في رقابهم، فيصبحون خرسا، ويموتون مرة واحدة. فالله يأتيهم من الرقاب، وهي نقطة الضعف في جسد الإنسان، وحيث مقتل السيف. ثم يهبط عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون فيها شبرا واحدا موضع قدم لزحمتهم، وكأنهم قد عادوا إلى الحياة من جديد، فيدعو المسيح عيسى ابن مريم الله من جديد، ويرجو النصر، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتحملهم وتطرحهم أرضا حيث شاء الله، وكأنها طير كاسرات قادرة على هزيمة هذه الكائنات الوحشية، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ثم يرسل الله مطرا لا يبقي ولا يذر؛ ليغسل الأرض من آثار الدماء، ويكنسها من مخلفات المعركة والأشلاء، حتى يتركها بيضاء من غير سوء، ثم يقول لها: «أنبتي ثمرك.» فتعود الأرض مخضرة مثمرة كالعروس! وتبدو المعركة هنا طبقا لنموذج عام الفيل، والطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل، فتهزم جيش أبرهة وتنقذ الكعبة.
6
وقد خرج يأجوج ومأجوج أمما، كل أمة أربعمائة ألف، والعدد أربعون من الأعداد الرمزية في الموت والحياة. ولا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطوف بين يديه من صلبه، فهو يتوالد ويتكاثر ولا يمكن إفناؤه. وهم من ولد آدم؛ أي إنهم إنس، لا جن ولا ملائكة. يسيرون إلى خراب الدنيا وكأن البشر يخربون عمرانهم بأيديهم. يشربون طبرية ودجلة والفرات حتى يأتوا بيت المقدس. وتتداخل الروايات، كل منها يزيد تفصيلا. تدل على معركة في الخيال بعد أن توقفت المعارك في الواقع، كما هو الحال في «رؤيا يوحنا» عند النصارى. وتدل على عجز المؤمنين أمام طغيان الكافرين. هل يأجوج ومأجوج هم الأمويون في مقابل آل البيت؟ هل هي إسرائيل في مقابل المسلمين اليوم؟ وكيف يكون الأمل في النصر عن طريق الدعاء وتدخل الله بالدود في الرقاب وإماتة الأعداء، وكأن معجزات المسيح لم تعد قادرة على إنقاذ المخلص، وكأن جهاد المسلمين أصبح عاجزا عن نصرة الحق والقضاء على الظلم؟
7
ويمكن ضبط الرواية بالرجوع إلى أصل الوحي، الذي يذكر يأجوج ومأجوج بصدد قصة ذي القرنين، وإقامة سد بينهما وبينه وانتصاره عليهم، وليس عجزه أمامهم، وهي حادثة في الماضي، وليست في الحاضر تعيدها الرواية كعلامة من علامات الساعة، كما يمكن الرجوع إلى علوم التاريخ والجغرافيا والآثار للبحث عن بقايا هذا السد، وآثار هؤلاء القوم في كل بقاع الأرض، والتحقق من مكان خروجهم، فلعلها سيبيريا التي تغطيها الثلوج، مع أن ذا القرنين أقام سدا بزبر الحديد، ونفخ فيه النار!
8
صحيح أن أصل الوحي قد أشار إلى يأجوج ومأجوج مرتين؛ مرة كحدث وقع في الماضي، ومرة كحدث سيقع في المستقبل، ولكن الأولى لا تدل على عجز الناس أمامهم، بل تدل على قوة الحيلة، وعظم المقاومة، وإقامة سد من الحديد المنصهر المغطى بالقطران الذي لم يستطع يأجوج ومأجوج اختراقه. فكيف بالقدرة في الماضي تتحول إلى عجز في المستقبل؟ ربما تدل العلامة على الفوضى وانتهاء النظام واختلاط الحابل بالنابل، يموج البعض في البعض، ويصبح البشر جميعا يأجوج ومأجوج.
9 (د) خروج الدابة
وهي ناقة من فصيل ناقة صالح لما عقرت ولم يدركها طالب هربت! ويدل ذلك على أن علامات الساعة قد تم تخيلها طبقا لمعجزات الأنبياء؛ وبالتالي يتحول الماضي إلى مستقبل. ينفتح للناقة حجر وينطبق عليها؛ اتقاء للكفرة، وحفظا لها منهم، وتظل فيه إلى وقت خروجها كي تنتقم منهم. وفي هذا الوقت تكون مسلحة بعصا موسى وخاتم سليمان؛ وذلك لأن عيسى ليس نبي الانتقام. تجلو وجه المؤمنين بالعصي، وتختم على فم الكافر بالخاتم، لا ينجو منها هارب. فالعصي هنا مصدر النور والطهارة لجلاء وجه المؤمنين، والخاتم للطبع على فم الكافرين، فيعرفون بالختم كأنه ماركة مسجلة. يصل ارتفاعها إلى السحاب؛ مما يدل على الضخامة والعظمة والعلو، ريشها جمع من كل حيوان؛ وبالتالي فهي تمثل جنس الحيوان كله، كما جمع جسمها كل الحيوان. رأسها رأس ثور رمزا للضخامة، وعينها عين خنزير رمزا للقبح، وأذنها أذن فيل رمزا للفخامة والتدلي على نحو يأجوج ومأجوج، وقرنها قرن إيل رمزا للقوة والفتوة وهو الخرتيت، وعنقها عنق نعامة رمزا للطول، وصدرها صدر أسد نظرا للضخامة والقوة، ولونها لون نمر نظرا لجمال التخطيط، بدلا من اللون الأجرب للأسد، وخاصرتها خاصرة هر في التلوي والالتواء وخفة الحركة وسرعة الدوران، وذنبها ذنب كبش رمزا للضخامة والطراوة والليونة والدسامة، وقوائمهما قوائم بعير في الاتساق والارتفاع والنظم، بين كل مفصل ومفصل اثنتا عشرة ذراعا؛ حتى تقوى القوائم على حمل هذا الارتفاع الذي يصل إلى السحاب. وكيف لدابة بمثل هذه الضخامة أن تجلو وجه المؤمن، أو أن تطبع فم الكافر، ويكونان أمامها مثل النملة أمام الفيل؟ وهل أداء الوظيفة يحتاج إلى مثل هذه الضخمة والتبذير في الإمكانيات؟
10
وللدابة ثلاث خروجات: الأولى بأقصى اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ويفشو ذكرها في البادية، ولكن لا يدخل ذكرها مكة باعتبارها مكانا مقدسا محروسا. وبعد مدة تخرج مرة ثانية قريبة من مكة، فيفشو ذكرها في البادية ومكة، وكأنها في المرة الثانية تقترب أكثر فأكثر، ويتسع نطاق أثرها. ثم تخرج مرة ثالثة، وفيها عيسى ابن مريم؛ وبالتالي يصبح المسيح عاملا مشتركا في العلامات الأربع الخاصة بصراع الخير والشر. يطوف المسيح بالبيت ومعه المسلمون؛ إذ تهتز الأرض تحتهم، ويتشقق الصفا مما يلي شعر الدابة، وتخرج رأسها من الصفا. وهنا يتحد الجسد الحيواني مع الطبيعة الكونية؛ فاهتزاز الأرض يماثل جريان الدابة. وينشق الصفا وتخرج رأس الدابة، ويجري الفرس ثلاثة أيام؛ أي إن الدابة هنا فرس طبقا للتصور العربي لنموذج الدواب، وثلاثة أيام طبقا لروايات الصلب في النصرانية، وصعود المسيح إلى السماء، وزحزحة الصخرة بعد ثلاثة أيام، ويحدث كل ذلك ولم يخرج إلا ثلثي الدابة! وبعد خروجها كلية يمس رأسها السحاب، وتمشي على الأرض، وتسمى الجساسة؛ لأنها تجس الأرض قبل السير عليها. طولها ستون ذراعا، ولها أربع قوائم وزغب. وهنا يبدو عدم التناسق في الوصف؛ مرة ينقلب الخيال في وصول رأسها إلى السحاب، ومرة يتغلب الواقع فيكون طولها ستين ذراعا، ولها أربع قوائم وزغب.
11
وقد تخرج الدابة من جبل الصفا مباشرة، فيتصدع لها الجبل والناس سائرون إلى منى أو من الطائف؛ أي وقت الحج؛ حتى يحدث التقابل بين الشر والخير.
12
وقد تستعمل الدابة اللغة المكتوبة أو اللغة المسموعة، فتكتب بين عيني المؤمن مؤمنا فيضيء وجهه، وبين عيني الكافر كافرا فيسود وجهه.
13
وبأي مداد تكتب؟ وبأية لغة تعبر؟ وهل يمكن بضخامة أصبعها الكتابة على هذه المساحة الصغيرة؟ وتكلم الناس ببطلان الأديان إلا دين الحق، وكأن دين الحق قادر على مقاومة التحريف والتبديل والتغيير، وتصدر أحكاما بالإيمان والكفر على الناس وكأنها على علم بهم، وكأنها مزيج من الشر والخير. تخرج من أعظم المساجد حرمة وهو المسجد الحرام؛ مما قد يمنعها من الحديث ببطلان الأديان. وقد يعني ذلك اكتمال الأديان كلها، ونهاية النبوة في الإسلام؛ فبطلان الأديان إنما يعني ارتباطها بمراحل سابقة في الزمان والمكان. الدابة إذن عالمة تعرف الكتابة والكلام باستعمال حروف من نور وظلمة، تكتب بالأبيض للمؤمن، وبالأسود للكافر. وكيف تعرف الدابة من المؤمن ومن الكافر قبل يوم الحساب؟ وهي بهذا المعنى أشبه بالملكين منكر ونكير، بنعيم المؤمن أو بعذابه في القبر قبل اليوم الآخر. يتضح من ذلك كله أثر الخيال الشعبي في وضع الرواية في بيئة صحراوية؛ فالدابة تتكلم وليس الإنسان الشرير أو الشيطان؛ نظرا لأهمية الدابة في حياة البدو. وهي ذات قوائم كدليل على البهيمية والحيوانية. وما فائدة الزغب والريش وحر الصحراء لا يتحمل ذلك، ولا فائدة منه إلا أن يقي الحيوان من زمهرير الشتاء، ووبر الجمل قصير، اللهم إلا إذا كان ذلك تعبيرا عن العظمة والرخاء؟ وكيف يتكلم الحيوان ببطلان الأديان؟ وهل يعلن عن ذلك الحيوان؟ وكيف يتم الإعلان عن شرف الموضوع بأخس الوسائل؟ وهل الحيوان قادر على التمييز بين الأديان الباطلة ودين الحق؟ وهل هو حيوان عاقل؟ كما يظهر أحيانا بعض التناقض في الاجتماع في شيء واحد الخير والشر معا؛ إذ يخرج الحيوان رأسه من الصفا، وهو مكان مقدس، فتبطل الأديان من مهبط الأديان! ولماذا يطوف عيسى بالبيت، وليس محمدا وهو أولى بالطواف؟
14
ولماذا لا يطوف إبراهيم وإسماعيل وهما اللذان رفعا القواعد من البيت؟ وكما تظهر المبالغة تبعا لقدرة الخيال الشعبي، فيتصدع الجبل من خروج الدابة، وتجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها، وكأن في الثلثين الباقيين لا توجد قوائم. فإن وجدت، فكيف تجري الفرس على قوائم أقل؟ وقد لا يستطيع تحمل مثل هذا الجسد الضخم أربع قوائم وحدها، ولا أقل من مئات من الأقدام. وقد تتناقض العلامة مع نفسها أو مع غيرها؛ إذ كيف تخرج الدابة والناس تطوف بالبيت، والأنبياء تقوم بمناسك الحج، وفي الوقت نفسه تكون علامة أخرى، وهو ألا يوجد على الأرض مؤمن واحد؟ (2) خرق قوانين الطبيعة
وبعد علامات الصراع بين الخير والشر، وهي علامات إنسانية خالصة تتعلق بالإنسان والحيوان، بالأفراد والجماعات، بالأبطال والشعوب، تأتي علامة واحدة أخرى تشير إلى اضطراب قوانين الطبيعة، وتوقف اطرادها وجريانها وفقا للعادة؛ فتشرق الشمس من المغرب، وتغرب من الشرق. تخرق قوانين الطبيعة، وتنتهي إمكانية الحياة في عالم لا يحكمه قانون، ولكن هذا الاضطراب مؤقت وليس دائما؛ إذ لا يستمر أكثر من ثلاثة أيام طبقا لروايات الإنجيل، ثم تصعد الشمس إلى وسط السماء دليلا على العظمة والارتفاع والحد الفاصل بين الفوضى والنظام، حيث لا ميل ولا انحراف شرقا أم غربا، ثم يسود القانون الطبيعي من جديد ويطرد جريانه، فتشرق الشمس من المشرق وتغرب من المغرب؛ تغليبا للنظام على الفوضى، وللقانون على الاستثناء. ويوجد لذلك نموذج سابق في التوراة، وهو وقوف الشمس ليوشع. فالخيال الشعبي ينسج تصوراته طبقا لنماذج سابقة في تاريخ الأديان، النصرانية واليهودية خاصة كأديان منافسة في الجزيرة العربية. فإذا ظهر المسيح في العلامات الأربع في الصراع بين الخير والشر، يظهر يوشع في خرق قوانين الطبيعة؛ وبالتالي لا يكون المسلمون أقل من النصارى واليهود في تصور أمور المعاد. وكما عاب أهل الكتاب على محمد عدم معرفته بأقاصيص الأولين، وأرسل الله له أحسن القصص، فكذلك نسج الرواة خيالات المعاد وعلامات الساعة؛ حتى لا يكونوا أقل من أهل الكتاب. فإذا ما تحدث القصص عن الماضي وعن التاريخ، فإن علامات الساعة تتحدث عن المستقبل. وإذا كان الماضي تذكرة وعظة وعبرة، فإن المستقبل تخطيط وإعداد ورؤية، وكلاهما بعدان لوعي تاريخي واحد. وقد يكون الغرض من هذا الاضطراب في سير قوانين الطبيعة واطرادها هو تنبيه الإنسان على نهاية الزمان وانتهاء التكليف؛ وبالتالي إعطاؤه إمكانية قصوى للتوبة وتعديل السلوك والتنبه إلى الفعل. فالتوبة تحدث في الزمان، وعلامة الساعة إنما تحدث في الزمان؛ فالساعة هي الزمان أو لحظته القصوى والأخيرة، فالعلامة هي التنبيه للإنسان لأن يلحق بالزمان قبل أن يمضي وينقضي. قد تكون التوبة خاصة بالمؤمن العاصي وحده دون الكافر، وقد تغلق على الكافر وحده. والأقرب أن تكون للمكلف عامة العاقل البالغ بصرف النظر عن وضعه؛ حتى يعطى الأمل للجميع. ومنذ عودة النظام إلى يوم القيامة لا تقبل التوبة، وكأن الزمان قد استهلك، والحياة قد استنفدت، ولم يعد هناك أمل في التغيير. فإذا ما اعترض العقل على كل ذلك، فما أسهل اللجوء إلى القدرة الإلهية الشاملة؛ وبالتالي إرجاع السمعيات إلى أحد الاختيارات في العقليات.
15 (3) انتهاء التكليف
وهناك علامات أخرى تدل على انتهاء التكليف ونهاية الزمان، منها ظهور المهدي، وقد دخلت في صراع الخير والشر مع ظهور المسيح عيسى ابن مريم. ومنها الدخان الذي يصيب الكافر حتى يصبح كالسكران الذي يفقد وعيه وتوازنه، ويصيب المؤمن منه كهيئة الزكام؛ وذلك لأن له بعض الأعمال السيئة. ويمكث الدخان في الأرض أربعين يوما يخرج من أنف الكافر وعينيه ودبره من كثرته فيه، ولا يخرج من المؤمن من أية فتحة فيه لقلته عنده! وكيف يميز الدخان بين المؤمن والكافر؟ وكيف لا يصيب الدخان المنتشر في الهواء المؤمن والكافر بلا تمييز، نظرا لحمل الهواء له وعدم القدرة على السيطرة على التيار، خاصة إذا مكث المؤمن والكافر في المكان نفسه وفي مواجهة التيار نفسه؟ وقد يكون الكافر سكيرا يحب السكر فيلتذ به. ولماذا يصيب المؤمن القليل منه وهو مؤمن تائب؟ أليس الزكام في نهاية الأمر مرضا يبرأ منه الإنسان؟ ولماذا تحديد الزمان بأربعين يوما إلا إذا كان العدد الأربعون ما زال رمزا للموت والحياة كما هو في الدين المصري القديم وفي الدين الشعبي الآن؟ وقد تعني العلامة، رجوع أهل الأرض كله كفارا، نهاية الإيمان، وانتهاء إمكانية الفعل والتحقق، وسيادة اليأس التام والتشاؤم المطلق. فالزمان تغير وحركة وصراع ونصر وغلبة، وما دام الأمل قد انتهى ينتهي الزمان بدوره. وقد تكون العلامة خراب الكعبة على يد الحبشة بعد موت عيسى؛ فالكعبة رمز للإيمان، وخرابها على يد الحبشة إسقاط الماضي على المستقبل، ومد عام الفيل إلى نهاية الزمان كنوع من هم الماضي وتحوله إلى هاجس في المستقبل. ويظهر عيسى من جديد حيا مقارنا بالكعبة، مع أن إبراهيم أو إسماعيل أو محمدا أولى بالقرآن. وقد تكون العلامة رفع القرآن من المصاحف والصدور أيضا بعد موت عيسى. وبطبيعة الحال لا يعني ذلك رفع المداد من الورق؛ فالقرآن ليس حروفا بالمداد على ورق وصحائف، إنما يعني رفعه من الصدور، ونسيان المؤمنين له، وضياعه منهم، وعدم العمل به؛ وبالتالي انتهاء الوحي عن كونه موجها للعالم ومطابقا للطبيعة. ولا يستطيع البشر أن يعيش بلا علم أو عمل. وكيف يقضي الناس أمام الله يوم القيامة بلا حجة من القرآن إذا ما رفع من الصدور، خاصة وأن من حفظ القرآن طبقا لإحدى الروايات لا يمس جسده النار شفاعة له، ولا يحرق مع حافظه؟
16
والحقيقة أن علامات الساعة المذكورة في علم العقائد ليس منها شيء في أصل الوحي، وهناك علامات أخرى في أصل الوحي ليست منها، إنما أتت علامات الساعة في علم العقائد من روايات ضعيفة وضعها الخيال الشعبي لاستكمال النسق العقائدي؛ حتى لا تكون العقائد الإسلامية بأقل من العقائد النصرانية أو اليهودية؛ وبالتالي أتت علامات الساعة على منوالها. ويصعب في أصل الوحي التفرقة بين علامات الساعة وبين بدايات اليوم الآخر، وهي صور تجمع بين الحقائق البشرية وبين الحوادث الكونية، ولكن ليس بها أثر لمخلص أو مهدي أو مسيح دجال أو نبي؛ فهناك خسف القمر، وجمع الشمس والقمر، وتكوير الشمس، وانشقاق السماء والقمر، وهوي النجم، ونفخ الصور. تكون السماء كالمهل، والجبال كالعهن. يخرج الناس من الأجداث سراعا، وكل منهم لا يسأل إلا عن نفسه. يكون الناس كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش. يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وتزلزل الأرض، وتدك دكا.
17
ولكن الأهم من ذلك كله أنه إذا كان المقصود من علامات الساعة معرفة ميقاتها، فذلك مستحيل؛ فالساعة، أي نهاية الزمان، غير معلومة؛ لأن الزمان تجربة معاشة، تكون الساعة هي ساعة الزمان أو ساعة الأجل. أما يوم الساعة فإنه غير معلوم، مع أنه يأتي يقينا، لا يعلمه إلا الله باعتباره كل الزمان، تأتي الساعة بغتة. ليس الغرض منها معرفة وقتها وعلامتها، بل الإعداد لها والإحساس بالزمان قبل انقضاء العمر وانتهاء التكليف.
18
تاسعا: اليوم الآخر
وبعد علامات الساعة يبدأ اليوم الآخر، ومدته من أول الحشر حتى تنفيذ الأحكام. والحقيقة أن هذه المدة شعورية خالصة؛ فقد تطول على الكافر، وتتوسط على الفاسق، وتقصر على المؤمن حتى يكون كصلاة ركعتين. ولا يترك إلى ما لا يتناهى في الزمان؛ نظرا لأن مصير الإنسان إلى الجنة أو إلى النار. أما مكانه فهو أرض يخلقها الله ليقف فيها الخلائق. مكان ليس في مكان؛ نظرا لانتهاء الأرض. وهو تصور محض لضرورة الوقوف في مكان قياسا للغائب على الشاهد. فإذا اجتمع الزمان والمكان يكون اليوم الآخر هو يوم الجمعة في أرض الشام؛ اليوم المقدس في الأرض المقدسة. وله أسماء عدة؛ فهو اليوم الآخر لأنه آخر يوم من أيام الدنيا، وهو يوم القيامة لقيام الناس فيه من قبورهم، ووقوفهم أمام الخالق، وقيام الحجة لهم أو عليهم، وهو يوم النشور لأن الناس ينشرون فيه، وهو يوم العرض لأن الناس يعرضون فيه، وهو يوم الوقف لأن الناس يقفون فيه.
1
وفي أصل الوحي يسمى يوم الفصل ويوم الحشر ويوم القيامة واليوم الآخر. وما يحدث فيه يسمى الصافة والقارعة والطارق والصارخة؛ أي بالدلالة الصوتية للتنبيه والإنذار. كما يسمى الطامة والغاشية؛ نظرا لوقعها الثقيل على النفوس من رهبة الحساب. والحقيقة أنه يصعب التفرقة بين اليوم الآخر في الدنيا واليوم الأول في الآخرة، كما يصعب التفرقة بين علامات الساعة في الدنيا ومناظر القيامة ابتداء للآخرة؛ مما يدل على اتصال الزمان، وتغير أشكال الحياة فيه. (1) الموقف، والحوض، والقصاص
ويبدأ اليوم الآخر بأهوال الموقف، وكأن التعذيب قد بدأ، والحساب قد انتهى، والحكم قد صدر. وتتفصل أنواع التعذيب دون أنواع النعيم؛ رغبة في إيلام الذات وإيلام الآخرين، تضيقا على النفس، وزيادة في الكرب، وحملا للهموم، وإعلانا من المصائب؛ فمنها طول الوقوف والانتظار للحساب وبداية العذاب، عذاب الحشر، وطول الانتظار والجهل بالمصير، وكأن الطوابير والترقب وجهل المصير في الدنيا وفي الآخرة. يطول الانتظار، ويشتد الزحام تحت حرارة الشمس وفي عز الحر، وكأن القيظ يلاحق الناس في الدنيا والآخرة، وكأن حرارة جهنم قد بدأت تباشيرها، وامتد لهيبها. وتكون الشمس فوق الرءوس عمودية على الناس؛ حتى يشتد قيظها دون دفء الصباح أو نسمة الغروب. وكيف تكون الشمس وقد كورت من قبل كأحد علامات الساعة ودب فيها الفناء؟ وهل الفناء يكون للأرض فقط دون الشمس والقمر والنجوم؛ لأن الأرض وحدها هي المسكونة، أم يكون الفناء للمجموعة الشمسية؟ ويتصبب عرق الناس من لهيب الشمس تفوح منه رائحة نتنة، يصل العرق إلى الكعبين للبعض، وإلى الركبتين للبعض الآخر، وإلى الأحشاء عند فريق ثالث، وإلى الأذقان عند فريق رابع، كل قدر أعماله! وكيف يتم تقييم الأعمال والحساب لم يتم بعد؟ وما ذنب المؤمنين في الحشر عندما يلحقهم عرق العصاة ورائحة عرقهم النتنة والجسد ملاصق للجسد، والكتف في الكتف؟ ولا يتكلم الإنسان إلا بإذن الله. والصمت في هول الموقف عذاب مضاعف؛ لأن الزحام يولد الكلام تعبيرا عن الهول وتخفيفا للكرب، والواقف المنتظر لا حق له فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا الأنبياء والأولياء والصلحاء. وهل يتساوى الأولياء والأنبياء؟ وهل يتساوى الصلحاء مع الأولياء؟ وكيف يتم الاستثناء في وسط الجمع الحاشد؟ وهل يتميز البعض في طوابير الانتظار كما يحدث في الدنيا عندما تحشد الدهماء والجموع، بينما يقضى للمتميزين حاجاتهم دون وقوف أو انتظار؟
2
وتخفيفا من أهوال الموقف وحرارة الشمس، يكون لكل نبي حوض يشرب منه المؤمنون، ويمنع عنه الكافرون إلا النبي «صالح»؛ فحوضه ضرع ناقته! وقد يكون حوض النبي أعرض ما دام خاتم الأنبياء تضم نبوته سائر النبوات كما يضم حوضه سائر الأحواض، ويكون أكثر ورودا. وقد يكون لخاتم الأنبياء وحده حوضه كرامة له! فإذا كانت أهوال الموقف مماثلة في قيظ الشمس عذابا قبل العذاب، فإن الحوض نعيم قبل النعيم، وكأن العذاب والنعيم قد بدآ من قبل.
3
وكيف تكون للرسول كرامة وهو بشر مثل باقي البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ فإثبات الحوض قائم على إثبات الكرامة؛ فإذا ما تم إنكار الكرامة تم إنكار الحوض.
4
وكيف يكون الرسول وهو أرحم البشر أجمعين بهذه القسوة، يمنع العطشان من الحوض، وهو متدلي اللسان لاهث النفس، والرسول إنسان؟ وماذا عن باقي الأمم إن لم يكن لكل نبي حوض ؟ ولماذا يكون حوض صالح ضرع ناقة إن لم تكن المعجزة في النبوة رصيدا في الميعاد؛ وبالتالي يحد الماضي المستقبل بتصوراته وتخيلاته؟ وتزداد التفصيلات في وصف الحوض مكانا؛ طولا وعرضا وعمقا، ولونا ورائحة. فمن حيث الشكل هو حوض أو نهر لا تنافس بينهما ما دام المعنى واحدا، وهو الدلالة وتخفيف عذاب العطش، وهو متصل بالجنة ونهرها، وكلاهما كوثر؛ فالحوض مصدر النعيم مثل أنهار الجنة، مع أن الكوثر لغويا تعني الخير البالغ في الكثرة، وقد لا تعني شيئا حسيا ماديا مكانيا. مكانه مع الوقف وقبل الصراط؛ لأن الناس يخرجون عطشى من القبور، وكأن الإنسان في القبر ما زال له جسد ولسان وحلق يشعر بالعطش! وقد يكون هناك حوضان: الأول قبل الصراط والميزان، والثاني في الجنة. الحوض قبل الصراط؛ فالناس عطشى، والحوض بعده إرهاصا للجنة. وقد يعترض من القدماء بأن الحوض لو كان قبله لحالت النار بينه وبين الماء الذي ينصب فيه من الكوثر، وكأن النار متوسطة بينهما، أو أنه يستحيل التغلب على هذه الصعوبة بالالتفاف والكباري والسدود، أو أن القدرة الإلهية ليس في استطاعتها الإجابة الفعلية على هذا الاعتراض. مكانه على الأرض المبدلة، وهي أرض غير الأرض التي فنيت، ولا سبيل إلى معرفتها إلا قياس الغائب على الشاهد. هو جسم مخصوص متسع الجوانب على أرض بيضاء كالفضة. فهو حوض حسي حتى لا يكون مجرد خيال أو وهم، متسع الجوانب تعبيرا عن الفيض والكرم، على أرض بيضاء كالفضة تعبيرا عن الصفاء والنور والطهارة. واتساعه لمسافة ما بين أيلة ومكة، أو ما بين صنعاء ومكة، أو بين بيت المقدس ومكة، فهناك طرف ثابت وهو مكة، وطرف آخر متحرك وهو آيلة أو صنعاء أو بيت المقدس. الأول في وسط الجزيرة، والثاني في جنوبها أو في شمالها. وقد تكون المسافة ما بين المدينة وبيت المقدس، فتحل المدينة مكان مكة، ويكون القياس شمالا لا جنوبا. وقد تكون المسافة في جنوب الجزيرة ما بين عدن وعمان على طول حضرموت، حتى يحدث التقابل بين ظمأ حضرموت وري الحوض. وقد تتحدد المسافة أكثر فأكثر بالمسيرة بين نقطتين؛ فالمسيرة بين عدن وعمان شهرا، وما بين مكة وأيلة شهرا، وما بين صنعاء والمدينة شهرين، وقد كانت هذه الجهات تمثل أطراف الأرض القصية في الجزيرة العربية؛ وبالتالي يدل قياسها على اتساع الحوض وكثرة الماء بالتقابل مع قحط الجزيرة.
5
زواياه مربعة دليلا على الاتساق الهندسي، مستو ماؤه ضد الهيجان، صفحته هادئة ضد الأمواج حتى يصح الشرب في هدوء وسكينة، لونه أبيض ناصع مثل اللبن، مثل كل شراب الجنة، وطعمه أحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك. أمينه جبريل عليه حارس مع علي، ويصرف أمته بالضرة والتحجيل؛ مما قد يدل على بعض الصور التي تنشأ في مجتمع الاضطهاد والانتقال من الفقر التام إلى الغنى التام. من الناس من يشرب منه لدفع العطش، ومنهم من يشرب للتلذذ، ومنهم من يشرب لتعجيل المسرة. الشرب الأول حاجة، والثاني متعة، والثالث ازدياد. على الحوض ولدان صغار ذكورا وإناثا يخدمون الآباء والأمهات، وهي صورة المجتمع البدوي القبلي. في أيديهم أكواب وأقداح ومناديل لتجفيف الفم، وعليهم قباب الزخرف والنقوش. قد تكون الأقبية من الديباج، والمناديل من نور. بأيديهم أباريق من فضة وأقداح من ذهب. كيزانه كنجوم السماء باعتبار العدد أو اللمعان. يسقي الولدان آباءهم وأمهاتهم إلا من سخط الله عليهم فلا يسقونهم، فيتفرق الولدان عن آبائهم وأمهاتهم، وتمحى عاطفة الرحمة والبر بالوالدين في يوم الفراق، وكأن الله يفرق بين الابن وأبيه والبنت وأمها على الحوض. من شرب منه يوم القيامة لم يظمأ أبدا، وكأن في شربه أعظم لذة من شراب الجنة. ولا يشرب منه إلا من قدر له عدم دخول النار، وكأن من يدخل النار قد قدر له العطش في الأولى وفي الآخرة، قبل الحساب وبعده،
6
بل ولا يشرب منه كل من ينكره، وكأن إنكار الحوض يحتاج إلى عقاب بالعطش، وهي حجة تهديدية توعدية أكثر منها حجة عقلية، وكأن الاجتهاد والرأي جريمة يستحق صاحبها العقاب. كما قد يدعى على المنكرين له بألا يشربوا منه هجوما على الشخص دون حوار مع الأفكار، مع أن الإنكار هو نوع من تأويل الحوض بالخير الكثير أو النبوة أو القرآن أو الرضا والرضوان.
7
ولا يمكن رد الإنكار إلى أثر خارجي دون تناول للصورة ذاتها، هل هي حس أم تخييل، واقع أم إيهام، حدث تاريخي أم بنية نفسية؟ لذلك قد لا يكفر منكره، بل يخطأ فحسب؛ لأنه مما لا يجب اعتقاده.
8
وعلى هذا النحو، لا يقع التعطيل فقط في الإلهيات، بل يقع أيضا في الأخرويات، وهو قائم أساسا على رفض مادية المعاني وحرفية النصوص.
وأخيرا يأتي القصاص كأحد أحداث الموقف، قصاص المظلوم من الظالم، وكأن أداء حق البشر قبل الحساب سابق على أداء حق الله بعد الحساب.
9
وهو مشابه لقوانين الاستحقاق والتعويض والإحباط والتكفير والموازنة؛ وبالتالي يكون أدخل في العدل منه في المعاد، أو يكون المعاد تحقيقا لمبادئ العدل، ولكن ألا يكون القصاص هنا رغبة في الانتقام لا يجوز في هول الموقف؟ ألا يكون تسرعا في تطبيق مشخص للعقاب وأخذا بالثأر دون انتظار الحساب؟ ألا تغيب فيه روح التسامح لا من الإنسان ولا في غيره. إنه في الحقيقة سبق للحساب؛ فقد يكون لدى الإنسان عذر مقبول أو دافع نبيل. وهل يجوز للإنسان أن يقتص بيده أم إن الله هو الذي يقتص له كما يقتص له الإمام في الدنيا؟ وإذا ما اقتص المقتول بيده من قاتله، فكيف يحاسب القاتل؟ هل يبعث من جديد حتى يتم حسابه وينال عقابه؟ وهل هناك قصاص من القاتل عندما يقتل قاتله في الدنيا؟ ألا يكون ذلك أشبه بدورة لا نهاية لها، مثل الأخذ بالثأر في صعيد مصر؟ وكيف يكون القصاص بين الحيوانات وهي غير مكلفة، خاصة إذا قام الله بذلك بنفسه؟ وقد وضع الله قانون الغاب. هل أكل القوي للضعيف قانون طبيعي من صنعه؟ هل يقتص الله من الأسد لأنه أكل أرنبا، أو من القطة لأنها أكلت فأرا؟ وكيف يعيش الأسد والقط؟ ولماذا لم يضع الله فيها عقلا كما وضع في الإنسان، ويكون ذلك أصلح لها من القصاص؟ وإذا كان الصياد يصطاد الأسد، والسبع يأكل القط في الدنيا، فلماذا لا يكون ذلك قصاصا؟ يتضح من ذلك أن السمعيات لا يمكن أن تتأصل إلا على نحو عقلي أسوة بالعقليات، خاصة وأن معظمها قد أتى من الشروح المتأخرة، ومستمدا من كتب التصوف حين توقف العقل، فاستمدت العقائد الأشعرية مادتها منه. (2) الحساب، والميزان، والحفظة، والكتبة، وإنطاق الجوارح
بعد الموقف والحوض والقصاص يأتي الحساب والميزان والحفظة والكتبة وإنطاق الجوارح. وإثبات أحدها يؤدي إلى إثبات الآخر، كما أن تأويل أحدها يؤدي إلى تأويلها كلها.
10
ويبدأ الحساب بالوقوف بين يدي الله. ولا يعني الوقوف هنا الحركة وانتصاب القامة بقدر ما يعني بداية الحساب والامتثال أمام القاضي في ساحة العدالة.
11
ثم يبدأ الحساب بعد الوقوف. والحساب يعني التحقيق الفعلي والنهائي لقانون الاستحقاق. ومع أن الله يعلم كل شيء، ولا فائدة تعود عليه من الحساب، ولكنه صورة القضاء العادل؛ حتى يعرف الإنسان أعماله، حسنات أو سيئات، وحتى تعطى له كل الفرص للدفاع وللمحاجة. الغاية من الحساب إقناع الإنسان، وليس فرضا عليه، وإعطاؤه أكبر فرصة للدفاع عن النفس، لا أن يكون متهما لا يعرف التهمة، ويصدر عليه الحكم وهو لا يعرف السبب، كما تصور ذلك الروايات الإنسانية والآداب عند كل الشعوب. وقد لا يحتاج الإنسان إلى حكم يصدر عليه من حاكم أو قاض؛ إذ يحكم على نفسه بنفسه بعدما يشهد على نفسه. وليس الهدف من الحساب معرفة قدر الأعمال من حيث الكم فحسب، بل أيضا معرفة الكيف؛ فالقياس كمي وكيفي في آن واحد؛ حتى يتحقق العدل. وبالرغم من أن الحساب علني، إلا أن الله قد يخفي سيئات العبد عن العباد حفاظا على كرامتهم، وتسترا على سوءاتهم، مغفرة لهم، وكأن المغفرة تتم مباشرة قبل السؤال والجواب وبلا توبة. كما تتفاوت درجات الحساب؛ منها اليسير ومنها العسير، منها الجهر ومنها السر، والحساب منه الفضل ومنه العدل. ويكون الحساب فردا فردا. قد يطول عند البعض وقد يقصر عند البعض الآخر، ولكن من الذي يقوم بالحساب؟ قد يقوم الله نفسه به، وقد ينيب الملائكة عنه ، وقد يقوم به الله والملائكة معا، ولكن هل يتحدث الله بصوت قديم فالكلام صفة قديمة، أم بصوت مخلوق لأن الصفات حادثة؟ هل يخلق الله صوتا في أذن السامع أم يكشف عن الإنسان الحجاب ليعلم الحساب دون صوت؟
12
وقد يتم الحساب من خلال الطير من تحت العرش، فتلتصق بعنق صاحبها، فيأخذها الملك وينادي على صاحبها، ويدفعها له بيمينه، أو بعد ثقب ظهر الكافر، ويأخذها منه بشماله! فكل إنسان ألزم طائره في عنقه؛ أي حمل مسئوليته ونتائج أعماله، وليس طيرا حقيقيا حول العنق. واليمين حسن والشمال سيئ طبقا للسنة في الطعام باليد اليمنى ودخول المسجد بالرجل اليمنى. ويستغل ذلك في السياسة لجعل السلطة أهل اليمين والمعارضة من أهل اليسار، فتحسن السلطة وتقبح المعارضة.
13
ويستثنى الملائكة والأنبياء وسبعون ألفا من هذه الأمة ومن تبعهم من الحساب، وهم الذين وصلت أعمالهم الحسنة من البداهة بحيث تصبح نتيجة الحساب معروفة سلفا. وأفضل من يحاسب وأولهم أبو بكر. وماذا عن الصبية والمجانين والمعذبين في الأرض؟ ولماذا يستثنى سبعون ألفا يتبع كلا منهم سبعون ألفا، فتكون النتيجة 4900000000؛ أي ما يقارب الخمسة مليارات، وهو ما يعادل سكان الأرض تقريبا؟ وهل التقليد يغني عن الحساب؟ وإن استثناء المعصومين من الحساب يدل أيضا على أثر شيعي، وأن كل فريق يستثني أصحابه بأن الحساب، ويضع فيه خصومه. وتكون أمة الإسلام آخر أمة في الحساب، مع أنها أولها في الفضل والخير، فهل هذا عدل أم كرم أم موضوعية صرفة؟ هل لأن أخطاءها قليلة أم إن مسئولياتها جسام؟ أليست محتلة ومتخلفة ومقهورة ومستغلة ومجزأة ومغربة ولا مبالية، تعرف الحق ولا تعمل به، وهو أسوأ مما لا يعرف الحق؟ هل سيكون ترتيب الحساب للأمم طبقا لترتيب ظهور الأنبياء، وهو أقرب إلى العدل، ومراعاة لتطور التاريخ؟ مع العلم بأن آخر المحاسبين هو أطول الواقفين والمنتظرين! لذلك كان الفضلاء أول المحاسبين من كل أمة، وأسهلهم وأسرعهم حسابا. وإذا تم إنكار الحساب للكل، أو حساب الكفار وحدهم، فلأن نتائج الأعمال جزء لا يتجزأ منها، وتحتوي على الثواب والعقاب من داخلها. فالحساب هنا زيادة خارجية وإضافة صورية على شيء قد تحقق بالفعل. وكيف يحاسب من جهل الحق نظرا، وهو حال الكفار، ولم يجد عليه برهانا؟ قد يحاسب على أعماله الطبيعية وعقله البديهي بطريقة أسرع وأسهل وأخف.
14
ويكون الحساب والمساءلة، أي السؤال والجواب، وأخذ الأقوال، وفتح محضر التحقيق، حتى يمكن نزع الاعتراف من المتهم حتى تثبت التهمة عليه.
15
وبعد الحساب والمساءلة يأتي الميزان؛ إذ هناك ترتيب في أمور الحساب. الميزان قبل الصراط وبعد الحساب.
16
والسؤال هو: هل هو ميزان ذو لسان وكفتين؟ ولماذا تكون الكفتان من ذهب؟ وهل هناك صنج؛ أي وحدات قياس؟
17
والذهب مادة قيمة تسترعي الانتباه، وتثير الخيال، وتدل على العظمة والشرف أكثر من الحديد والنحاس، فينضم قياس المرتبة والشرف والأولى إلى قياس الغائب على الشاهد، ولكن ما هو الموزون؟ إذا كانت صحائف الأعمال فهي رقائق؛ صحف من ورق أو من جلد، ثقلها أو خفتها لنوعها وليس للكتابة فيها. هل الموزون جسم يخف ويثقل؟ هل هو كاغد مكتوب عليه خيرات العباد وشرورهم، ثم يخلق الله فيه ثقلا أو خفة فيترجح به الميزان؟ إن لكل شيء ميزانا، المعيار للخفة والثقل، والمكيال للأحجام، والذراع والفرسخ والميل للمسافات، والعدد للمعدودات، وميزان الأعمال والأقوال ما يليق بها. ومع ذلك يظل السؤال: هل الموزون الأعمال أم صحائف الأعمال؟ المعاني والقيم أم تشخيصها في صحف مكتوبة؟ وهل الأعمال حبر على ورق، ومداد على صحائف؟ وماذا عن صنف الورق أو الجلد وعدد الصحائف؟ قد تكون صحائف الخير على ورق رقيق شفاف، وصحائف الشر على ورق غليظ، فترجح كفة الشر على الخير. وما نوع الخط ونظامه وكيفية كتابته؟ فقد يكتب الكثير في مساحة قليلة، وقد يكتب القليل في مساحة كبيرة على ما هو معروف في فن الخط العربي. توزن الحسنات في كفة من نور، وتوزن السيئات في كفة أخرى من ظلمة، وكأن نوع الأعمال يؤثر في كل كفة تأثيرا من نوعه. والأمر كله تشبيه وتخييل تعبيرا عن أحكام قيمة، ولكن هل يمكن إثبات الميزان ونفي وزن الأعراض لأنها لا وزن لها؟ وكيف تدخل الأعراض في الحساب؟ إن عدم وزن الأعراض هو أحد حجج النفي؛ وبالتالي يكون الموقفان، إما إثبات الميزان الحسي أو إثبات الميزان المعنوي.
18
ويزداد تفصيل الصحف، نوعها ومكان تعليقها وكيفية أخذها وقراءتها؛ فكتاب المؤمن أبيض، وكتاب الكافر أسود. وهي لغة النور التشبيهية التي تعبر عن التقابل بين النور والظلمة تشبيها للحسنة والسيئة، ولكن كيف تأتي الكتب وتعلق في العنق؟ تطيرها الريح من خزانة تحت العرش، فلا تخطئ كل صحيفة عنق صاحبها، ثم تأخذها الملائكة فتعطيها لهم باليد. إلى هذا الحد بلغت دقة التصويب! ولماذا لا تأتي في اليد مباشرة وتأتي على حركتين؟ ويدخل أبو بكر كرئيس بلا صحف؛ لأن حسناته بديهية وأكثر من سيئاته. وعمر أول من يأخذها بيمينه كدليل على منهجين؛ النص عند أبي بكر، والواقع عند عمر. وأبو مسلم أول من يأخذها بشماله؛ لأنه أول من حارب النبي يوم بدر. فهذا تصوير لمواقف دنيوية. يأتي ليأخذ كتابه بيمينه، فيجذبه ملك، فيخلع يده، فيأخذه بشماله وراء ظهره. وهي صورة فنية أقرب إلى الحركات المسرحية لتصوير الصراع بين الخير والشر، والتقابل بين الحسنة والسيئة. وإذا كانت «لا إله إلا الله» مكتوبة في صحيفة، فإنها تعادل كل السيئات، وكأن الإعلان عن التوحيد مجرد عبارة مكتوبة، وليست شهادة فعلية بالقول والعمل، بالإقرار وبالفعل. وهل يقرأ كل إنسان كتابه أم يقرأ عليه؟ وماذا عن الأمي؟ وماذا عن الأعمى أو الأصم؟ وبأية لغة تكتب الصحف وتتم قراءتها؟
19
والذي يزن الأعمال هو جبريل مع أنها ليست وظيفته، ويقوم ميكائيل أمينا على جبريل منعا للسهو أو للخطأ،
20
ولكن هل يزن الله بنفسه أم ينظر إلى الملائكة تزن بدلا عنه؟ وقد توزن بعض الأشياء بذاتها في غير ما حاجة إلى وازن، الحكم بالنفس على النفس. فهل هذا ممكن؟ هل تتوفر الأمانة في حساب الذات خاصة ولو كانت السيئات أعظم؟ وما السبب؟ هل انشغال الملائكة وترفع الله أم بلاء وامتحانا للمؤمن أو ثقة به؟ وماذا لو رغب المؤمن أيضا زيادة مراتبه في الجنة وأفاض المكيال ووفى الميزان؟ ولماذا يستثنى سبعون ألفا من الميزان يدخلون الجنة بغير حساب ولا صحف؟ وبأي مقياس يتم الاختيار؟ وهل هو ميزان واحد بالرغم من تعدد الخلق، أم هي موازين عدة متشابهة يجمعها اسم الجنس أو النوع؟ إن كل هذه التساؤلات تجعل الميزان مجرد صورة حسية للعدل والقسطاس سيرا على طبقة التخييل، وهي أساس الإعجاز عند البلاغيين، ولا ترفض إحالة الموضوع كله إلى مقررات العقول؛ فالتأويل هو السبيل للخروج من جدل الإثبات والنفي. وجعل الموضوع كله خارج عقول البشر هو هدم لإمكانية تأسيس العلم طبقا لنظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى. والإثبات ثم التوقف في الكيف تحصيل حاصل، خطوة إلى الإمام وخطوة إلى الخلف.
21
وما دامت هناك صحف منشورة أو معلقة، فهناك كتبة، وكتبة من الملائكة. وما دامت هناك صحيفتان، فهناك ملكان، وكأن ملكا واحدا لا يكفي لكتابة الحسنات والسيئات، أو أن اليد الكريمة التي تخط الحسنات لتستنكف أن تخط السيئات. وكيف يكون هناك ملاك للسيئات؟ أليس ذلك تناقضا بين الفاعل والفعل، بين الشخص والوظيفة؟ الأقرب إلى كتابة السيئات أن يكون الشيطان الذي يسر بكتابة السيئات ويحزن لكتابة الحسنات. وأين ستحدث الكتابة في الدنيا مكان الحدث أم في الآخرة مكان التسجيل؟ وبأي لغة؟ وبأي قلم؟ وفي أي قرطاس؟ وهل يخفى على علم الله شيء حتى تدون أفعال العباد؟ قد يكون ذلك احتراما للتدوين وتنفيذا للشرع في كتابة الوصاية والديون والعقود. وهل يعرف الملائكة القراءة والكتابة وعديدا من اللغات واللهجات للأمة الإسلامية؟ وماذا عن الأمم والشعوب الأخرى ولغاتها وأفعالها وقيمها؟ هل هناك مقاييس للحكم على الأفعال؟ وهل الأفعال من الوضوح بحيث يسهل تصنيفها بين الخير والشر؟ وكيف يمكن تقييم الفعل وهو متشابك بين النية والغاية، بين القدرة والقيمة؟ وهل على الملاك ملاك إلى ما لا نهاية؟ وهل على الجن والشياطين والأنبياء والأولياء والصالحين ملائكة؟ وماذا يفعل ملك الشمال الذي لا يجد شيئا يكتبه للملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين والمعصوم، في حين يئن ملك اليمين من كثرة الكتابة وتدوينه للحسنات ؟ وماذا سيفعل ملك اليمين الذي لا يجد شيئا يكتبه للكفار وللذين حبطت أعمالهم، بينما يئن ملك الشمال من كثرة كتابته للسيئات والمعاصي؟ هل في ذلك مساواة للأعمال؟ وإذا كان الكتبة يفارقون الإنسان في أوقات البول والغائط وعند الجماع والغسل، ولا يفارقونه ما دون ذلك، ولو كان في بيته جرس أو كلب أو صورة، فهل يمكن للإنسان أن يأتي ما يشاء من أفعال في هذه الأوقات وهو ضامن عدم التسجيل عليه؟ ولماذا لا يفارق الحفظة العبد في هذه الأوقات مثل الكتبة، ويصرون على مصاحبته؟ هل يحفظونه من الضرر، أو لما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو اعتقاد؟ وهل الإنسان عاجز عن أن يحرس نفسه بنفسه؟ وكيف تقع المصائب للإنسان وعليه حفظة؟ وإذا كان القدماء لا يعرفون كيفية ذلك، فلماذا إدخاله في علم العقائد، وهو علم مهمته النظر والبحث عن الأسس العقلية التي تقوم عليها دفعا للشبهات عنها؟
22
وقد تزداد التفصيلات حول المكتوب والكتبة؛ فالمكتوب ليس الأقوال، بل الأفعال والاعتقادات والنيات، كذكر القلب سرا بعلامة يعرفونها بها، ولكن أليس من الأقوال ما هو بمثابة الأفعال؛ فالكلمة إعلان عن حق وأمر بفعل؟ ولماذا لا تكتب الأقوال بينما تكتب النيات والاعتقادات؟ وماذا تفعل الكتبة بما يهم الإنسان به دون أن يفعله؟ وماذا تفعل بما تاب الإنسان عنه؟ هل تمحوه؟ وماذا تفعل بالأفعال الجماعية؟ لأي الأفراد تنسبها؟ وكيف تحدد الكتبة المسئولية في الأفعال المشتركة؟ وإذا كانت أفعال الصبية والمجانين لا تدون لأنها ليست أفعال تكليف، فهل لهم كتبة؟ وماذا يفعلون؟ وماذا تفعل الكتبة في أفعال الكفار؟ كيف تقيمها، خاصة إذا أتى الكافر بأفعال صادقة حسنة النية؟ وقد يزداد العدد من اثنين إلى أربعة أو عشرة أو عشرين، عشرة بالنهار وعشرة بالليل بالتناوب، وكأن الملائكة ينتابها تعب ونصب! بل وتتحدد أماكنها؛ واحد عن يمينه، وواحد عن شماله، واثنان بين يديه، واثنان على حاجبيه، وواحد قابض على ناصيته، إن تواضع رفع وإن تكبر خفض، واثنان على شفتيه لا يحفظان عليه إلا الصلاة، والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه! فاليمين والشمال مفهوم لتدوين الحسنات والسيئات، ولكن ما وظيفة الملكين بين يديه وعلى حاجبيه؟ هل يكتبان ما تفعل يداه وما تنظر عيناه؟ وإذا كانت وظيفة الاثنين على الشفتين الحفاظ على الصلاة، فأين صدق النية والعزم دونما حاجة إلى ملكين؟ أم إن وظيفتهما تدوين الأقوال وكل ما يخرج أو يدخل من الفم؟ أما هذا العاشر الذي يحرس الإنسان من أن تدخل الحية في فمه، فأين هذه الحية؟ وماذا تعني؟ وهل رأينا إنسانا تدخل حية في فمه إلا إذا كان ساحرا؟ وكيف يقف الملكان على الحاجبين والشفتين وكأنهما حواة أو بهلوانات في سرك؟ ولماذا يراجع الإنسان ما دون الملكان كل يوم خميس حتى يقر بما فعل ويلقى ما سواه؟ وهل يخطئ الملكان في التدوين وتكون الرقابة في النهاية للإنسان عن نفسه؟ وماذا لو نشأ نزاع بينهما، بين الإنسان والملائكة، فمن الحكم؟ ولمن القول الفصل؟ قد يعني الملكان مجرد شهود بين الله وخلقه طبقا لقانون العدل وضرورة الشهود على ما هو معروف في الدنيا وفي الشرع.
23
وقد تكون هناك صلة بين هذا التدوين وما يحدث في المجتمعات الحالية من تدوين كل شيء على الإنسان، وتسجيل ما يصدر منه من أقوال وأفعال، ورصد ما يبدو منه من حركات وسكنات، واستعمال شتى وسائل جمع المعلومات وأجهزة التصنت والتجسس على حياة الناس الخاصة والعامة. ففي مجتمعاتنا رقباء على الرقباء، ومتصنتون على المتصنتين، حتى تتجمع الخيوط كلها في يد الحاكم الأعظم. وقد يسمى الملكان؛ فأحدهما رقيب والآخر عتيد، أسوة بمنكر ونكير. وبصرف النظر عن الأسماء، هل تشير إلى مسميات أم لا، فقد تشير الأسماء إلى وظائف، وليس إلى أشخاص وظائف الرقابة والحفظ. ولما كانت ثنائية الخير والشر أصيلة في الخيال الشعبي، فالأول لكتابة الحسنات والثاني لكتابة السيئات، يلازمانه طيلة حياته، يدونان حسناته وسيئاته. وهذا يتطلب عددا من الملائكة ضعف عدد البشر في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حتى يكفي بالناس، لكل فرد اثنان. وقد يكون لكل فرد ملكان؛ اثنان بالنهار واثنان بالليل؛ فتكون الملائكة أربعة يتعاقبون عند صلاة العصر وصلاة الصبح؛ أي بعد منتصف النهار وبعد منتصف الليل؛ وبالتالي يكون عدد الملائكة أربعة أضعاف عدد البشر، ولا يتغايران عليه ما دام حيا. وإذا مات يقومان على قبره يسبحان ويكبران ويهللان، ويكتبان ثوابه إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا. دورهم إذن يتعدى دور الكتبة إلى دور الحاكم والمقيم والداعي بالخير أو الشر، بالبركات أو اللعنات. يدونان الأعمال في الزمان والمكان لمزيد من الضبط والإحكام. ملك اليمين أمير على ملك اليسار، ولا يكتب ملك اليسار شيئا إلا بإذن ملك اليمين. لا تدون السيئة إلا بعد ست ساعات من وقوعها؛ فلعل الإنسان يتوب عنها. ولماذا ست ساعات تماما لا أقل ولا أكثر؟ وهل يعطي ذلك الإنسان الحق في أن يفعل ما يشاء ثم يتوب عنه قبل انقضاء الساعات الست بدقيقتين، أم إن ذاك يعتبر نوعا من الحيل الفقهية أو سوء النية في الأخلاق؟ فإذا ما انقضت الساعات الست، لماذا يدعو عليه الملاك بالموت ويناصبه العداء؟ ألم تنشأ بينهما صداقة طول العمر؟
24
والحقيقة أن هناك اشتباها بين جعل الكتابة بكاتبين وآلة وقرطاس ومداد، وجعلها كناية عن الحفظ والعلم. وقد يصل التشبيه إلى حد جعل الملكين معلقين على ناجذي الإنسان أو عاتقيه أو عنقه أو ذقنه. وقد تتعدد الكتب؛ فهناك كتب أعمال العباد، وهناك كتب اللوح المحفوظ، وهناك كتب الملائكة التي بها أوامر التصرف في العالم. صحف الحفظة موضوعة تحت العرش رمزا للحفظ في الخزانة. وما الحاجة إلى كل هذه الكتب والتدوين البعدي فيها بعد وقوع الحوادث، واللوح المحفوظ قد دون فيه كل شيء من قبل؟ إن الهدف من كل ذلك هو مجرد تصوير فني للرقابة على النفس، ومعرفة النفس بكل أفعالها لتذكر الإنسان بأن كل شيء معروف، وأنه لا أسرار هناك تكتم وتخفى. ويحدث ذلك خاصة بالنسبة لأفعال الحلال والحرام، أو حتى أفعال الندب والكراهة. أما أفعال الإباحة فإنها لا تكتب؛ لأنها لا تتطلب رقابة نفسية، بل مجرد تعبير عن طبيعة.
25
وإنطاق الجوارح للشهادة على الإنسان. فالجوارح التي قامت بالأفعال؛ أي الأعضاء المباشرة مثل الأيدي والأرجل والألسن والسمع والبصر والجلد، بالإضافة إلى الأرض؛ أي المكان، والليل والنهار؛ أي الزمان؛ فالفاعل وميدان الفعل مكانا وزمانا، الكل يشهد على الفعل. وقد تتكلم الأعضاء بلا لسان، وقد يشهد كل عضو بمفرده طالما أن له بنية حية ويتكلم بلا لسان، أو قد ينوب اللسان في الشهادة عنه. والشهادة الأولى أقوى؛ لأنها مباشرة ولا وسيط، وأبلغ من حيث الخيال الشعبي. وسواء نطقت الجوارح أم أنطقها الله، فإن المهم هو شهادتها على الإنسان في أفعاله، وإلا لتحول الموضوع إلى صفة القدرة في مبحث الصفات. ويبدو هنا أيضا رصيد المعجزات في إنطاق الجوارح، وكيف أن رصيد النبوة يصب في المعاد؛ فنطق العجماء مثل إنطاق الجوارح؛ فإذا كانت الأفعال في الدنيا تدور في نطاق السر والكتمان، فإنها في المعاد تصبح مكشوفة على الملأ وأمام الأشهاد، وابتداء من البدن في الزمان والمكان.
26 (3) العرش، والكرسي، والقلم، واللوح
وكلها مناظر القاضي على منصة الحكم؛ العرش والكرسي، وبعده القلم واللوح، وبه سجل الأعمال والكاتبون؛ أي الكتبة الكرام.
27
فالعرش جسم عظيم، والعظم عكس الصغر، مصنوع من نور عكس الظلام، علوي ضد السفل، من زبرجدة؛ أي من أحجار كريمة في مقابل الأحجار العادية. لونها أخضر، وهو اللون الديني المفضل لعباءة النبي وللطرق الصوفية، أو أحمر وهو لون الحمية والنار والفاعلية والشيطان. ليس كرويا، بل قبة فوق العالم؛ مما يدل على الاحتواء، فالتحديب أفضل وأسمى من التقعير. أعمدته أربعة، وهي صورة للعرش والحمل. تحمله الملائكة كمحفة تأكيدا للعظمة، وفي الآخرة ثمانية زيادة في العظمة. تصل رءوس الملائكة عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى؛ تعبيرا عن طول القامة وعظم المهابة،
أصلها ثابت وفرعها في السماء . قرونهم كقرون الوعل، ما بين قرن وقرن خمسمائة عام؛ مما يدل على اتساع الجبهة كي تقدر على حمل العرش. وعظم الحامل يدل على عظمة المحمول. ومع أن صورة القرن للشيطان وليس للملاك، إلا أن الوعل المقرن صورة بدوية كريمة.
28
وكل ذلك رجم بالغيب وقول بلا دليل.
أما الكرسي فهو أيضا جسم عظيم من نور تحت العرش، ملتصق به، فوق السماء السابعة، ثابت معه لا يتزحزح، والسماء السابعة أعلى وأشرف من السموات الست الأولى طبقا للعدد الرمزي سبعة، بين الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام؛ فالعدد خمسة أيضا عدد رمزي في الديانات القديمة، في اليهودية والنصرانية وفي أطراف الإنسان. والقصد هو الدلالة على العظمة. اتساع الكرسي والعرش مثل اتساع جبهة الوعل، والتقدير بالمسيرة الزمنية أعظم وأبعد من التقدير بالمسافة المكانية.
29
والقلم جسم عظيم يتناسق مع الكاتب واللوح وعظم المادة المكتوبة، مصنوع من نور، فالنور مادة شفافة، والشفاف أرقى من المعتم. وقد يكون مصنوعا من اليراع، وهو القصب؛ حتى يكون أسوة بقلم الدنيا الذي يستعمله الخطاط لتحسين الكتابة وتجميلها. يخط كل شيء، وكأن القلم جبري يتفق مع عقيدة الجبر؛ فالجبر في الأفعال يتفق مع التجسيم في أمور المعاد. وهذا يتناقض مع صحائف الأعمال عند الكتبة الذين يكتبون علما بعديا، في حين يكتب هذا القلم علما قبليا. والعلم القبلي الذي أمر الله بكتابته أشرف من العلم البعدي عند الكتبة.
30
والكاتبون هم الذين يدونون ما في صحف الملائكة الموكلين بالتصرف في العالم كل عام أولا بأول، ثم يدونون كتابا واحدا به جميع ما كتبوا في الصحف المتفرقة، ويضعونه تحت العرش. هناك إذن ثلاثة كتب: صحف الأعمال التي يدونها الملكان في الدنيا، وصحف الملائكة التي يكتب فيها الكاتبون أوامرهم كل عام، وكتاب تجمع فيه هذه الأوامر تحت العرش، نسخة أخرى جامعة عند الله في خزانته.
31
أما اللوح فإنه ليس للكاتبين ولا للكتبة؛ لأنه لا يكتب فيه أحد من الملائكة بالقلم على قرطاس، وبمداد وخط، ولكن يكتب فيه بمجرد القدرة الإلهية. مصنوع أيضا من نور، فالنور أشرف من الظلام، وله وجهان؛ أحدهما به ياقوتة حمراء، والآخر به زمردة خضراء؛ أي إنه قلم مزركش مثل أقلام الأغنياء وعلية القوم، وهو أشرف من أقلام الرصاص أو الأقلام الجافة عند عامة الناس، تتهادى بها النخبة، وتوقع بها المعاهدات بين الدول . واللون الأخضر لون قدسي، لون عمامة النبي ووشاح الصوفي وبيارقه، واللون الأحمر لون الشفق والفورة والهيجان،
32
وهما الحجران الكريمان نفسهما الموجودان في العرش. يكتب فيه العلم القبلي، العلم الإلهي قبل أن تقع الحوادث، ويكتبها الكتبة في صحف الأعمال كعلم بعدي. هناك إذن أربعة كتب من الأدنى إلى الأعلى: صحف الأعمال يكتبها الكتبة كعلم بعدي بعد حدوث الأفعال، وصحف الملائكة التي يكتب فيها الكاتبون أوامر الله لهم كل عام، ينقلونها من اللوح المحفوظ كنوع من تكليف الأعمال، والكتاب الذي تجمع فيه هذه الأوامر كلها ويوضع تحت العرش في خزائن الله، وكما يحدث في الدنيا في أرشيف صاحب العمل أو رئيس الديوان، وأخيرا اللوح المحفوظ الذي تضع فيه القدرة الإلهية العلم الإلهي مدونا، فيكون في الأعيان وليس فقط في الأذهان. وإن دعوة القدماء بالإمساك عن الجزم عن اليقين تعني أن كل ذلك قياس للغائب على الشاهد، ورجم بالغيب. (4) الصراط
والصراط هو الطريق إلى الجنة أو إلى النار بعد انتهاء الحساب والحكم بالثواب أو العقاب، وكأن المؤمن أو الكافر لا يستطيع أن يدخل كل منهما الجنة أو النار مباشرة ومن أوسع الأبواب، بل لا بد للمرور في طريق هو الصراط، خروجا من قاعة المحكمة إما إلى العالم الفسيح إذا كان بريئا، أو إلى ظلمات السجن إذا كان مذنبا. قد يكون ذلك إجحافا بالمؤمن الذي يود أن يقفز من قاعة المحكمة إلى رحابة العالم دون المرور بالصراط، وحتى لا يتساوى مع الكافر الذي يستحق السير في الدهليز الطويل. وكما يكون ممدودا إلى الجنة والنار، فإنه قد يكون ممدودا بينهما مثل الأعراف، وقد يكون ممدودا إلى النار فقط، وقد يكون منصوبا فوق جهنم، وقد يكون ممدودا بين النار والجنة؛ النار أولا والجنة ثانيا. والأفضل أن يكون منذ مخرج القاعة معبران؛ معبر للمؤمنين ومعبر للكافرين؛ حتى لا يختلط المؤمن بالكافر بعد الحساب. وقد يكون الصراط بين ظهراني جهنم، وليس معبرا فوقها.
وفي هذه الحالة، ما ذنب المؤمن كي يسير فيه ويمر إلى الجنة من خلال جهنم ؟ الأقرب ألا يمر عليه الكفار، بل يذهبون إلى النار قذفا أو تعذيبا إلا إذا كان المقصود العذاب البطيء، وألا يمر عليه المؤمنون إلا إذا كان المقصود تشويقا إلى الجنة وتمرينا لهم على النعيم؛ حتى لا يصابوا بصدمة عصبية عند رؤية الحور العين. وقد يكون الصراط طريقا واحدا يتشعب إلى طريقين؛ طريق يمنى وطريق يسرى. الأول لأهل السعادة، والثاني لأهل الشقاء.
33
أما بالنسبة إلى شكله أو حجمه، فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وهي صورة شعرية تلهب الخيال وتثير العجب. فهل يستطيع مثل هذا الخيط الرفيع أن يحمل المؤمنين والكفار كلهم من أول الخليقة حتى آخرها؟ وإذا كان السير عليه صعبا وفيه مهلكة، فلماذا يسير عليه المؤمنون ولا يسير عليه الكفار وحدهم؟ هل يستطيع أن يتحمل ثقل الإنسانية جمعاء؟ وما طوله؟ وأي قوة تحمله؟ وما بدايته؟ وما نهايته؟ أين يتعلق في البداية والنهاية؟ وهل يتقوس من ثقل الحمل؟ وهل يمكن ذلك دون أن تكون هناك حوامل أخرى بين الحين والآخر؟ كيف يسير الناس عليه والوقت زحام شديد، فرارا وهرولة؟ وما الترتيب؟ صغارا وكبارا؟ أنبياء وأولياء؟ إنسا وجنا؟ وكيف يكون أحد من السيف وأدق من الشعرة ويختلف في الضيق والاتساع؟ يبدو أن المبالغة لا تلتفت إلى التناقض في الصورة الفنية. المهم أن يكون الطريق طويلا وعريضا. وكيف يقاس الخيط صعودا وهبوطا وهو ممتد أفقيا لا رأسيا؟ هناك فرق بين السير على الجبل وبين التسلق عليه.
34
ويختلف الناس من حيث السرعة في السير عليه، كل حسب عمله؛ فمنهم من يجتازه اجتياز الريح، مثال الأنبياء، والبرق الخاطف بلا تعب ولا نصب، وبالمقابل يسير عليه الكافر ببطء مثل بطء السلحفاة تعذيبا له. ومتى سيصل الكافر إلى النار وهو بمثل هذا البطء؟ وهل عذاب السير على الصراط أعظم من طريق النار؟ إن التباطؤ في مثل هذه الحالة على الصراط نعيم بالقياس إلى لهيب النار. بل إنه من الأصلح للكافر أن يتباطأ وأن يزداد طول الصراط إبعادا لوقت الحريق قدر الإمكان. إن اختلاف أشكال العبور عليه في السرعة، مثل البرق والريح والطير والجواد والسعي والمشي والحبو على الرجلين أو اليدين أو الجر على الوجه، لتصوير اختلاف الأحكام طبقا للأعمال سيرا إلى الجنة أو النار. وهو موقف شعوري وليس موقفا ماديا، إحساس ذاتي وليس وصفا موضوعيا، ورؤية كيفية وليست حسابا كميا. الزمان على الصراط شعوري كالمسافة منه. منهم من يمر عليه في الأزمان، ومنهم من تستغرق فيه الأعوام والأعوام مثل أشيل والسلحفاة؛ فالمسافة تقاس بالزمن ويتحول المكان إلى زمان. وإذا كان المسير عليه ثلاثة آلاف سنة، فمتى يدخل الإنسان الجنة أو النار؟
35
يتسع الصراط على أهل الجنة ويضيق على أهل النار؛ فالمكان شعوري أسوة بالزمان، وكما تتسع جدران القبر على المؤمن وتضيق على الكافر، وكما تفتح طاقة في القبر على المؤمن ويختنق الكافر. وأثناء السير على الصراط تتدخل الملائكة، فتدفع الكفار للوقوع في النار، وهم مكبلون بالنواصي والأقدام، وكأن القسوة والإسراع في العذاب من شيم الملائكة! ولماذا لا تتدخل ملائكة أخرى للدفاع عن المؤمنين وحرصهم من الوقوع، أو على الأقل مساندتهم حتى يصلوا إلى بر الأمان؟ يوضع للمؤمنين عليه مائدة يأكلون منها ما يتدلى من ثمار الجنة، وكأنها وليمة، وليست امتحانا أو اختبارا. وكيف تنصب الموائد على الصراط الذي هو أحد من السيف وأدق من الشعرة؟ وكيف توضع الموائد والناس من فوق الصراط طوابير الواحد تلو الآخر؟ وكيف التمييز بين المؤمنين والكافرين إلا إذا كان هناك طابوران منفصلان لكل فريق، وحتى لا يزاحم الكافر فيقعد على مائدة المؤمن درءا للجوع، خاصة وأنه قد حرم الشراب من الحوض في الموقف قبل الحساب؟ وقد يقع الكافر على الصراط إذا ما تشابكت كلاليبه به وكأنه مسمار، فيتشبث به بكلتا يديه، فيعتدل ويسير أعواما وأعواما. وقد ينجو بعد ذلك وكأن الأمر جذب لانتباه المشاهدين، وتلاعب بعواطف النظارة كما هو معروف في الفنون المرئية باسم التعليق
Suspense .
36
وهناك أسئلة على الصراط، وكأن الناس لم يشبعوا أسئلة، وكأن المحاكمة لم تنته بعد. وهي أسئلة سهلة عن الصلاة والصوم والزكاة والحج، يعرفها كل إنسان، ولا تمثل أية صعوبة أو امتحان أو ابتلاء أو اختبار. بعض الأسئلة فقط عن ظلمات الناس وحقوقهم. ويسأل جبريل الناس عن عمرهم فيما أفنوه، وعن شبابهم فيما أبلوه؛ لأنه هو الموكول بالوحي والعلم، وعن علمهم ماذا عملوا به. وميكائيل يسأل مع جبريل؛ لأنه هو الموكول بالآجال. وهل من وظائف جبريل وميكائيل سؤال المؤمنين على الصراط؟
37
وأحيانا يتدخل الله نفسه لإنقاذ من يشاء بإرادته المطلقة، أو يترك ذلك للمصادفة، وكأن الله والمصادفة على المستوى نفسه كعوامل مرجحة. وما الحكمة من الصراط ما دام هناك ترجيح من عوامل خارجية؛ الله أو المصادفة؟ ويختلط الصراط بالأعراف الذي يسير فيه من تساوت حسناته مع سيئاته ولا يستطيع أن يدخل الجنة أو النار. قد يتفضل الله عليه فيدخله الجنة أو قد يترك للمصادفة، إما إلى الجنة أو إلى النار. والترجيح الأول أقرب إلى العدل؛ فإنه في حالة تساوي الخير والشر يتغلب الخير؛ لأنه أقرب إلى الطبيعة. أما ترك الأمر إلى المصادفة فإنه إنكار لطبيعة الخير إن وقع في الجنة، وتغليب للشر إن وقع في النار.
38
والحقيقة أن الصراط لا يعني شيئا مجسما حسيا على ما يصف القدماء، بل يعني مجرد الطريق المستقيم. ولا سبيل إلى تأويل الروايات التي قد توحي بذلك إن لم تكن ضعيفة أو موضوعة من الخيال الشعبي. والتوقف خطوة إلى الوراء وخطوة إلى الخلف. والتفويض مجرد إرجاء وتأجيل للموضوع وإحالته إلى الآخر الأقدر. وأيهما أفضل، الإبقاء على الظاهرة وتفويضها؛ أي الوقوع في الخطأ ثم إعلان الجهل، أم تأويلها عقليا إنسانيا؟ وقد دخلت هذه العقائد كلها إلى الشروح المتأخرة من كتب التصوف عندما ازدوجت به الأشعرية، وقامت عليه بعد أن ضعف أساسها العقلي الذي منه قامت في البداية. فالصراط مقدمة للمعراج ما دام الأمر كله عبورا وسيرا وصعودا. وهناك فرق بين التحليلات العقلية والأذواق الصوفية.
39
إن اللجوء إلى القدرة الإلهية المطلقة لهو عود بالمعاد إلى الصفات، وإيثار المعجزة في الدنيا والآخرة، وكأن إحدى معجزات المعاد السير على الحبل كما هو الحال في السرك والألعاب البهلوانية. وإن الوجود لا يعني المرور على جسر، بل مجرد العبور إلى جهنم بعد المحاكمة. فإذا أدى الإثبات إلى الإنكار فإن التأويل قادر على تحويل الشيء إلى معنى؛ وبالتالي تأصيل العقائد والاقتراب بالسمعيات من العقليات.
40
عاشرا: الجنة والنار
بعد الصراط، يدخل المؤمنون الجنة والكفار النار؛ فالجنة دار للمتقين، والنار دار للفاسقين.
1
ليست الجنة تفضلا، وليست النار انتقاما، بل الجنة ثواب والنار عقاب طبقا لقانون الاستحقاق.
2
وهما مخلوقتان؛ لأنهما جزء من العالم، بل إن نعيم الجنة وعذاب النار مخلوقان كذلك؛ فقد خلق الله النعيم في الجنة والعذاب في النار، وكأن القدرة الإلهية وراء الإنسان بالمرصاد، تخلق نعيمه في الجنة وعذابه في النار، وتمنعه حتى من أن يذوق نعيم الجنان بنفسه، وأن ينال عذاب النار عن استحقاق كقانون طبيعي، الجزاء من جنس الأعمال. والله لا يقدر أن يزيد أو ينقص نعيم أهل الجنة أو أهل النار، وإن قدر الإنسان على الظلم، فالله ليس بقادر عليه طبقا لقانون الاستحقاق.
3 (1) أوصاف الجنة والنار
يبدو أحيانا أن القدماء قد أفاضوا في وصف الجنة أكثر من وصف النار على عكس عذاب القبر؛ إذ تم وصفه أكثر من نعيمه. توصف الجنة على أنها في مكان، مكان متناه محدود ما دامت جسما، وتوصف أحيانا بأنها الجنة التي كان فيها آدم وزوجه، وهي جنة على الأرض، وليست جنة في السماء. والدليل على ذلك أمر آدم بالهبوط. وقد يتحدد مكانها جغرافيا بين فارس وكرمان، أو بأرض عدن، أو بفلسطين كورة بالشام طبقا لقدسية المكان. وقد تكون جنة آدم مخالفة لجنة الخلد؛ ومن ثم تكون الجنة في الآخرة فوق السموات السبع وتحت العرش، وهو ما يعادل أيضا عظمتها وقدسيتها.
4
ولو كانت جنة الخلد لما أكلا من الشجرة رجاء أن يكونا من الخالدين. وجنة الخلد لا كذب فيها، وقد كذب إبليس. وقد اكتشف فيها آدم عريه والجنة ليس بها عري. وشعر آدم بالحر والبر والجنة ليس بها قيظ ولا زمهرير. والقضية الآن: هل هذا موضوع، جنة آدم في السماء أم في الأرض ؟ أليست الجنة تعويضا عن بؤس خلفائه في الأرض؟ وتزداد التفصيلات في وصفه الجنة؛ فأبوابها متفاوتة تصويرا لتنوع الشعائر؛ فهناك باب للصلاة وباب للصوم تركيزا على خصوصية الأفعال. أبوابها ثمانية عشر، وأكبرها باب الصلاة، يدخل منها من يكثر النفل، والبعض منها لا يدخله إلا الصائمون. ويدخل الناس الجنة بيضا مكحولين؛ فالبياض لون الصفاء والكحل الأسود في العين جمال عربي. وماذا عن لون الشعر؟ ليس لهم لحية إلا آدم؛ رمزا لمهابة آدم أو لفطريته وبدائيته؛ فهو أبو البشر، الإنسان الأول، ولكن أليست اللحية سنة عن الرسول في الدنيا، فلماذا لا تكون كذلك في الآخرة؟ وهل تحلق لحى أهل الجنة بما في ذلك الأنبياء؟ ويكونون في طول آدم ستين ذراعا، وعرضه حوالي سبعة أمتار؟ وماذا عن حجم الأبواب التي تسمح بمرور هذه الأجسام في مثل هذه الضخامة؟ وماذا عن حجم الأطفال الصغار أو القصار؟ هل يضيعون بين أرجل هؤلاء العمالقة؟ قد يتساوى الصغير مع الكبير، ويصبح الجميع في حجم واحد، ذو قامة واحدة. وفي هذه الحالة، ألا يؤدي ذلك إلى الملل في الرؤية بسبب غياب التمايز والفردية؟ والجنة بها درجات طبقا للأعمال، وكلها متصلة بمقام الوسيلة، حيث مشاهدة الرسول. نشرت الشمس على أهل الجنة كلهم. أكبر نعيم فيها رؤية وجه الله ومشاهدة الرسول على ما يقول الصوفية. للجنة سبع درجات متجاورة، أوسطها أفضلها. والعدد سبعة عدد رمزي في الديانات القديمة يدل على طهارة الروح وكمال النفس. والأقرب أن تكون متعالية وليست متجاورة، وبطبيعة الحال يكون العرش أعلاها. وذلك يدل على رغبة الإنسان في السعي إلى الدرجات العليا أسوة بما كان يفعل في الدنيا من الصعود الاجتماعي والارتقاء الطبقي. ومن أعلى درجة وهو الفردوس تتفجر أنهار الجنة، ثم تنتقل إلى الدرجات الأخرى؛ وذلك تعبيرا على البيئة الصحراوية وحاجتها إلى الماء. الفردوس أعلاها، ثم جنة المأوى، جنة الخلد، جنة النعيم، جنة عدن، دار السلام، دار الجلال. ويطلق على الجميع جنة عدن تعبيرا عن السلام والطمأنينة وغياب أي خوف وذعر. حارسها رضوان سيد خزنة الجنة، يفتحها أولا لسيد الخلائق.
5
تتم لهم فيها مجامعة الحور العين، وهن مطهرات حسان، عرب أتراب، يجامعن بحماس وعفية، ويشاركن أهل الجنة لذة الجماع. وقد خلقن ليلتذ بهن المؤمنون. ولا تموت الحور العين أبدا لدرجة السؤال عن أفضليتهن على الأنبياء والملائكة! الواحدة منهن تلبس سبعين حلة للزينة والتجمل والتغير جذبا لانتباه أهل الجنة، نور ساقها يضيء منها كما فعلت ملكة سبأ مع سليمان، فرصيد النبوة يصب في المعاد، يزين آذانهن بالقرط. وقد سمين الحور لشدة بياض العين مع سواد الحدقة. ووصفهن بالعين لاتساع عيونهن. وفي كل مرة تفض الأبكار تعود البكارة دون دماء البكارة وآلام الفض. وأين متعة شهر العسل بعد فض البكارة دونما حاجة إلى بكارة جديدة؟ ينكحهن الجن والإنس؛ فالجن مثل الإنس تكليفا وحسابا، ثوابا وعقابا. قد تكون البكر صورة للطهارة والجدة والبراءة، ولكن يظل السؤال: لماذا هو فعل قبيح في الدنيا وفعل حسن في الآخرة؟ هل ما يحرم الناس منه في الدنيا يباح لهم في الآخرة؛ وبالتالي يكون إشباع الآخرة تعويضا عن حرمان الدنيا؟ وكيف يتم لهؤلاء العملاقة مجامعة الحور العين، ومن صفات جمالهن الصغر وتناسق الأجسام؟ وماذا عن طول ذكرهم وصغر فروجهن؟ وهل تقوى الحور العين على مجامعة هؤلاء العمالقة؟ وماذا عن عددهن؟ يبدو أن كل ساكن من أهل الجنة له ما يشاء من الحور العين دون عدد معين، فهن ملك يمينه دون حد أقصى بأربعة كما هو الحال في الدنيا في الزواج الشرعي. وبالإضافة إلى الحور العين هناك الولدان المخلدون مثل غلمان الدنيا جمالا وبهاء، مزينون بالجواهر لشرح الصدر والقرط في آذانهم. وهم أولاد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ متعة للمؤمنين! ويبدو أن المجتمع العربي بما فيه من شذوذ جنسي وحب للغلمان قد أسقط متعته على الآخرة، فتصورها على غرار الدنيا! والنعيم لا يحصى، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما يقول الصوفية.
6
ومن الطبيعي في مقابل هذا التجسيم والتشبيه للجنة كحوادث ووقائع أو أشخاص، فتصبح الجنة رجلا والنار رجلا، كما شخصت عواطف التأليه والشرائع من قبل أن يأتي الإنكار.
7
وتئول النصوص بحيث تدل على معاني النعيم الروحي كما يفعل الحكماء، والتأويل أولى من التفويض؛ فالتأويل اجتهاد وعلم، والتفويض اعتراف بالجهل، وكلاهما يمنع من الوقوع في التفسير الحرفي للنصوص.
8
ولا مفر من أخذ المعارض العقلي في الاعتبار؛ إذ كيف توصف الجنة ماديا طولا وعرضا؟ هل العالم كله جنة؟ وهل عالم الأفلاك كله جنة؟ وأين العالم الذي ليس بجنة؟ هل تبلغ الجنة كل شيء، أم إن ذلك مجاز الاتساع ضد ضيق المكان والحشر في الحجرات، وهو ما تأنفه النفس في زحمة المكان؟ وأين مكان النار لو ابتلعت الجنة المكان كله؟ ولو كانت الجنة موجودة بعرض السموات والأرض لأدى ذلك إلى التناسخ، حيث تنتقل النفس إلى عالم العناصر وتعود منه. وما الفائدة من وجود الجنة والنار الآن فارغتين، احتلال مكان واستهلاك مياه، وتعيين خدام، إناثا وذكورا دون عمل؟ فالأولى عدم وجودهما الآن ووجودهما آخر الزمان عندما تنشأ الحاجة لها. فالوظيفة تنشئ الشيء وتوجده. وإن إنكار الدرجات في الجنة تأكيد لمبدأ المساواة المطلقة؛ فالتفاوت الطبقي من آثار الدنيا، وليس من سمات الآخرة. وينفي حشر السباع والطيور والحشرات في الجنة أن البلوغ والعقل شرطا التكليف، وأن الجنة دار استحقاق. فإذا دخل كل ذي روح الجنة، فإن ذلك يكون لأن الحياة في نفسها قيمة يحافظ عليها. فإذا تساوى الموت والحياة، فالحياة أقرب إلى الطبيعة، كما أنه إذا تساوى الشر والخير، فالخير أقرب إلى الطبيعة.
أما النار فمكانها في الأرضين السبع، كما أن الجنة في السموات السبع، سفل في مقابل علو، وهبوط في مقابل صعود. ومنها نار الدنيا بعد أن وضعت في البحر مرتين حتى تقل حرارتها، ويسهل استعمالها، وينتفع بها. أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى اسودت، فخرجت سوداء مظلمة، وجمرها أحمر محرق. وهي جسم لطيف محرق يميل إلى جهة العلو. لها أيضا سبعة أبواب أو سبع طبقات طبقا للعدد الرمزي سبعة. وكما أن رضوان حارس الجنة ، فإن «مالك» وكيل النيران. له أصابع بعدد أهل النار، ولو وضع أصبعا على السماء لأذابها!
9
وهي كلها صور فنية من أجل المبالغة والتأثير في النفس لا تمنع من بروز المعارض العقلي. فكيف تكون في الأرض وفي الوقت نفسه دار عقاب بعد فناء الأرض ومن عليها؟ وكيف تبرد في ماء البحر مرتين والنار والماء نقيضان لا يجتمعان؟ وبأي نيران يحمى عليها ألف سنة؟ وهي نيران في حاجة إلى نيران أخرى؛ كي يحمى عليها، وتبرز ألوانها البيضاء في الألف سنة الأولى، والحمراء في الألف الثانية، والسوداء في الألف الثالثة، وكل نيران في حاجة إلى نيران إلى ما لا نهاية حتى الوصول إلى نيران أولى ليست في حاجة إلى نيران أخرى لتحميتها. والألوان نوع من الزركشة في الخيال الشعبي حتى تكون أكثر إيقاعا في النفوس. وكيف يكون لخازنها أصابع بعدد أهل النار؟ كيف يكون حال اليد إذن وحال الذراع والجسد كله؟ وما وظيفة كل أصبع؟ وكيف يذيب الأصبع السماء كلها، والخازن في السماء والعرش في السماء؟ وزيادة في العذاب يكون داخل النار الزمهرير والحيات والعقارب حتى يثير التضارب بين الحار والبارد الخيال، وتجتمع لسعة اللهيب مع لسعة العقرب ولدغة الحية، وكله إحساس بالجلد وبسطح البدن. وكما في الجنة درجات كذلك في النار درجات طبقا لدرجات العذاب أو لمجموعات المعذبين. وتقوم الدرجات إما على أجزاء البدن ومساحة الأعضاء المعرضة للعذاب، أو على شدة النيران وخفتها، أو على طول المدة وقصرها. ويظهر هذا التفاضل في صيغة حسية؛ فكما أن للجنة درجات سبعا فكذلك للنار درجات سبعا؛ أعلاها جهنم، وتحتها لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وباب كل واحدة من داخل الأخرى على الاستواء، مثل الحمام العمومي وحجراته المتداخلة طبقا لشدة البخار. وبين أعلى جهنم وأسفلها خمس وسبعون سنة، أحرها هواء محرق، لا حجر لها سوى بني آدم وأحجار الأوثان، وهي أحجار قابلة للاشتعال من عظمة جرمها، وكأن الأحجار كائنات حية مثل بني آدم، استقبلت محرقاته وقرابينه. كل درجة لها طائفة ؛ فاللظى لليهود، والحطمة للنصارى، والسعير للصابئين، وسقر للمجوس، والجحيم لعبدة الأصنام، والهاوية للمشركين، وجهنم لمن يعذب على قدر ذنبه من المؤمنين، ثم تصير خرابا بخروجهم منها، وكأن النار تعرف الطائفية الدينية والتفرقة بين الأديان! يتفاضل أهلها في العذاب؛ أقلهم عذابا توضع حجرتان من نار في أخمصيه، ولا يكون الأشد إلا إلى جذب الأذون! يعذب المؤمن العاصي على الصراط وهو على متن جهنم، يصيبه لفح النار ولهبها، فيتألم بمقدار عصيانه، ثم يدخل الجنة. وقد يصل عذاب آخر مثل الجثة المقلاة على نار متأججة! وأخفها إحساس بالعذاب لحظة ثم يصير الإنسان بعدها كالنائم لا يحس بها فعل لحظة من عذابها.
10
قد يتحول عوام الدهرية والنصارى والزنادقة ويصيرون في الآخرة ترابا، وكذلك الأطفال والبهائم،
11
وكذلك السقط الذي ألقي فيه الروح، تعاد إليه ويدخل الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن لم يبلغ ذلك يصير ترابا. والحقيقة أن كل ذي روح تعود له روحه حفاظا على الحياة كأحد مقاصد الوحي الضرورية. إنها كلها صور فنية تعبر عن القبح؛ فجهنم من الجهامة، وهي كراهة المنظر. تنشأ النار من الحسد؛ أي إنها تعبير حسي عن انفعال إنساني، وتصوير فني لأحد المواقف الإنسانية. فإذا كان الإنكار رد فعل على الإثبات، وكلاهما يتحدث في واقعة حسية، فإن التأويل رد فعل عليهما معا عندما يبحث عن أسسها النفسية وصورها الفنية. والتأويل أولى من التفويض؛ لأن التفويض اعتراف بالجهل وتخل عن تأصيل العلم، في حين أن التأويل اجتهاد علم ولو بغلبة ظن.
12
ورغبة في تنزيه الله عن الشر، قد يتنعم أهل النار في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة؛ وبالتالي لا عذاب ولا ألم.
13
وفي مقابل اعتبار النار في الحقيقة والعذاب في الحقيقة؛ وبالتالي يثبت فعل الله للشر والضرر تكون النار مجازا ويكون العذاب مجازا؛ فبالتأويل يمكن تنزيه الله عن الشر، واعتبار الشر مجازا في العالم؛ وبالتالي يتحقق هدفان في العدل وفي المعاد.
14 (2) هل تفنى الجنة والنار؟
ويرتبط هذا السؤال بدوام الاستحقاق والتخليد؛ فالجنة والنار هما مكان الثواب والعقاب وتنفيذ قانون الاستحقاق. فإذا كان الاستحقاق دائما، فهل الجنة والنار كذلك؟ إذا بقيتا شاركتا الله في الخلود، ولم يتفرد الله بصفة البقاء، وإذا فنيتا لم يدم الاستحقاق ولم يخلد. القول بدوام الجنة والنار وأبديتهما إنما يخضع للتفسير الحرفي للنصوص «خالدين فيها أبدا»، ولا يتحول الإنسان من الجنة إلى النار أومن النار إلى الجنة إلا بقانون الموازنة أو بالتوبة. وقد يكشف القول بدوام الجنة والنار عن صادية، حيث ينعم المؤمنون إلى الأبد ويتعذب الكفار إلى الأبد دونما تغيير أو أمل. ومع أن الله قادر على إفنائهما إلا أنهما باقيان لا يفنيان. وقد يبدو ذلك متناقضا؛ فإذا كانت الجنة والنار مخلوقتين، فإنهما بالضرورة فانيتان. الخلق يتبعه الفناء، والقدم يتبعه البقاء، ولا يوجد مخلوق يبقى أو قديم يفنى.
15
لذلك كان الأقرب للتنزيه حفاظا على صفة البقاء لله وحده أن تفنى الجنة والنار، وذلك أيضا ظاهر في النص الذي يقول بفناء كل شيء إلا الله، وبقياس عرض الجنة والنار بالسموات والأرض وهما فانيتان. قد يغتم أهل الجنة، ولكن يفرح أهل النار! ويمكن رفض التخليد بناء على حجج طبيعية، وليس فقط على حجج إلهية. فما دامت القوة الجسمانية متناهية، فلا بد من فنائها، كما أن دوام الإحراق مع بقاء الحياة مستحيل عقلا؛ فالإحراق يحيل إلى رماد وينتهي الشيء المحروق، والنار تفنى بالرطوبة؛ وبالتالي تنتهي إلى عدم، وتقل حرارتها كلما طال الزمان، وتفقد الطاقة جزءا منها؛ وبالتالي فمصيرها إلى النهاية والفناء.
16
وانقطاع حركات أهل الجنة والنار حل وسط بين البقاء والفناء؛ فالسكون الدائم يجمع بينهما. وإذا ما أتى وقت الفناء، وكان المؤمن قد تناول بإحدى يديه كأسا وبالأخرى «مزة»، وأتى وقت السكون، فإنه يبقى دائما على هيئة المصلوب! والحقيقة أن ذلك يرتبط بالتوحيد قدر ارتباطه بالمعاد. فلأن مقدورات الله لها كل وغاية، وحد ونهاية، تنتهي قدرته على الخالقية؛ وبالتالي يسكن أهل الجنة فيها، وهو ما يضر التوحيد وإطلاقية الصفات، كما أنه لا يحل مشكلة مشاركة الجنة والنار في صفة البقاء؛ لأنهما يظلان باقيين وإن كانا ساكنين. فهذا الحل الوسط لا يرضي متطلبات التوحيد في الصفات وفي المعاد.
17 (3) الخلود في الأرض
ظهرت دعاوي التجسيم والتشبيه والتنزيه ليس فقط في العقليات، بل في السمعيات، وليس فقط في التوحيد، بل في أمور المعاد. فالتجسيم في التوحيد تجسيم في المعاد، والتشبيه في التوحيد تشبيه في المعاد، والتنزيه في التوحيد تنزيه أيضا في المعاد.
18
والحقيقة أن أمور المعاد كلها خطأ في تفسير النصوص وتحويل للصور الفنية إلى وقائع حادثة؛ فأمور المعاد لا تشير إلى وقائع مادية وحوادث فعلية، وعوالم موجودة بالفعل في مكان ما يعيشها الإنسان في زمان ما، بل هي بواعث سلوكية ودوافع للفعل للتأثير على السلوك، والحث على الطاعة ترغيبا تارة، وترهيبا تارة أخرى. وليس المقصود بالدوافع الثواب على الحسنة والعقاب على السيئة؛ فالأفعال الصالحة لا تحتاج إلى ثواب وعقاب. ويمكن ممارسة الحياة الخلقية بلا جزاء، ثوابا كان أم عقابا. أليس حسن الأفعال في ذاته مدعاة للإتيان بها، وقبح الأفعال لذاته مدعاة لتجنبها؟ وهل ينتج أسلوب الترغيب والترهيب فتحسن الأفعال في الدنيا، أم إنه قد ينتج عند البعض ولا ينتج عند البعض الآخر؟ هل المعاد باعث نفسي على صلاح العالم تخويفا للظالمين، أم إنه يقود برد فعل وهو تعويض المظلومين؟ قد ينجح الترغيب عند الفقراء تعويضا عما هم عليه من فقر، ولكن قد لا ينجح الترهيب عند الأغنياء؛ فالحاضر لديهم أولى من المستقبل. قد لا ينجح مع الظالمين والطغاة والمستغلين إلا الثورة عليهم بالفعل، واسترداد حقوق الفقراء منهم، وحصول الناس على حرياتهم المسلوبة، حتى لو تصدق الأغنياء، فهل الدار الأخرى مكافأة لهم أم لعقابهم على فائض أموالهم؟ وهل أعمال الخير هي الصدقة وإطعام المساكين وبناء المساجد والزوايا والتكايا، أم إعادة توزيع الثروة؟
19
إن أمور المعاد في نهاية الأمر ما هي إلا تعبير عن عالم بالتمني عندما يعجز الإنسان عن عيشه بالفعل في عالم يحكمه القانون ويسوده العدل؛ لذلك تظهر باستمرار في فترات الاضطهاد، وفي لحظات العجز، وحين يسود الظلم ويعم القهر، كتعويض عن عالم مثالي يأخذ فيه الإنسان حقه، ويرفع الظلم عنه. أمور المعاد في أحسن الأحوال تصوير فني يقوم به الخيال تعويضا عن حرمان في الخبز أو الحرية، في القوت أو الكرامة، في الرزق أو الحق، في عالم يحكمه القانون ويتحقق فيه العدل. وهي تعادل في علم أصول الدين المدن الفاضلة في علوم الحكمة. تنشأ أمور المعاد إذن نشأة سياسية اجتماعية اقتصادية.
20
وبطبيعة الحال أن ينشأ رد فعل على التصور الثنائي، وأن ينشأ تصور بديل هو التصور الواحدي للعالم؛ فهناك دنيا واحدة وآخرة واحدة هي نفسها الدنيا. فالجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا، وليس في عالم آخر يحشر فيه الإنسان بعد الموت. الدنيا هي الأرض، والعالم الآخر هو الأرض. الجنة ما يصيب الإنسان من خير في الدنيا، والنار ما يصيب الإنسان من شر فيها. وهو ما قاله الفلاسفة أيضا عن النعيم الروحي والعذاب الروحي في هذا العالم، وإنكار النعيم البدني والعذاب البدني في عالم آخر. ولا يهم ماذا تعني الدنيا، هل هي الهواء والجو، أم هي كل ما خلقه الله من الجواهر والأعراض، بل يكفي أنها دار عمل وحياة وبقاء. إن واقع النعيم والعذاب في الدنيا لا يمكن إنكاره، سواء كان ذلك امتحانا للإنسان وابتلاء له ليزداد إيمانه وشكره، أو كان ثوابا وعقابا على أفعاله دون انتظار؛ إذ إن نتائج الفعل قد تظهر في الحال أو في المآل، في حياة الإنسان أو بعد مماته، كما هو الحال في السنن والآثار.
21
ويؤكد ذلك عدد كبير من الأغاني الشعبية والأمثال العامية عن أن الجنة هي حضور الحبيب والأنس به، والنار غياب الحبيب وعذاب الفراق.
22
وقد يجعل هذا التصور الناس أكثر حرصا على العمل في الدنيا والتمسك بها، بدلا من الرضا وانتظار تعويضها في زمن آخر وفي مكان آخر. وقد يظهر تصور الخلود في الدنيا في عقيدة التناسخ، وانتقال الروح المنعمة إلى جسد منعم، والروح المعذبة إلى جسد معذب بالأمراض والأسقام والشيخوخة، أو إلى جسم حيوان.
23
وقد تتشخص الجنة والنار في رجلين؛ الأول تجب موالاته والثاني تجب معاداته؛ مما يدل على ارتباط أمور المعاد بالظروف النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمع الاضطهاد.
24
وفي هذه الحالة لا تفنى الدنيا كما قد تفنى الآخرة، وكأنه عندما تضيع الدنيا تخلد وتفنى الآخرة كما هو الحال في التجسيم، وعندما تنال الدنيا تفنى وتبقى الآخرة كما هو الحال في التنزيه، أو كأن خلود الدنيا وفناء الآخرة تعريض ينشأ عن حال الفقد والعجز في الدنيا بإثبات خلودها وفناء الآخرة.
25
وقد تتعدد الديار، دنيا وآخرة، لتجمع بين التصورين الثنائي والواحدي لعلاقة الدنيا بالآخرة؛ فقد تكون الديار خمسا؛ داران للثواب، والثالثة للعقاب، والرابعة للابتداء، والخامسة للابتلاء. وقد كلف الخلق في دار الابتلاء بعد اختبارهم في الدار الأولى، ولا يزال التكوين والتكرير، الاختبار والتكليف، في الدنيا حتى يمتلئ مكيال الخير ومكيال الشر. فإذا امتلأ الأول أصبح العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصا، فينقل إلى الجنة وكأنه لم يلبث طرفة عين. ومطل الغني في الحياة وحبه لها ظلم له. وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شرا محضا، فينتقل إلى النار وكأنه لم يلبث طرفة عين.
26
وقد يعبر عن رسالة الإنسان في الحياة فنيا بالصورة، فتنشأ أمور المعاد، فتكون الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وتتحول رسالة الإنسان في الحياة ليحققها. فمن حقق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين، في مكانة أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم؛ لأنهم حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحققوا الرسالة هبطوا أسفل سافلين، تسلب منهم الرسالة، ويتحولون إلى أقل مرتبة من الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وحياة الشعور، ثم تعطى لهم فرصة ثانية للاختبار والتكليف. وهكذا تستمر الحياة، تكليف برسالة، ونجاح أو فشل في التحقيق، لا نهاية ولا يأس، بل عملية مستمرة لمزيد من الارتفاع للبعض، ومزيد من الانخفاض للبعض الآخر؛ حتى يظهر التقابل بين الملاك والحيوان، بين النعيم المطلق والعذاب المطلق، بين حياة الوعي وحياة اللاوعي، بين اليقظة والموت.
27
صحيح أن المعاد يكشف عن هم المستقبل لدى كل إنسان ولدى الإنسانية جمعاء، خوفا منه أو ثقة فيه، ويخطط كل كائن حي للمستقبل، بما في ذلك الطير والحشرات من أجل تخزين الطعام وفقس البيض، وأن عبادة الأسلاف وأرواح الموتى والتطلع إلى المستقبل من أجل التعرف عليه والإعداد له، قد يجعل من المعاد أساس الحضارة، وأنه لولاه لانهارت الأمم، وقصر نظر الإنسان. أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداء من حسابات الحاضر؛
28
ولذلك احتوى كثير من النصوص على صور فنية لتصوير المعاد، ليس الغرض منها إصدار أحكام واقع، بل أحكام قيمة. ليس المطلوب منها إيجاد تطابق معانيها مع وقائع مادية، بل كشف هذه المعاني عن جوهر التجربة الإنسانية في المستقبل. لا يحيل النص إذن إلى وقائع مادية، بل يكشف عن وقائع شعورية تعبر عن بنية الوجود الإنساني. إن قسمة الحياة إلى دنيا وآخرة، إلى ديني ودنيوي، لتعبر عن تصور ثنائي للحياة يكشف عن تخلف وكبت وحرمان وتعويض وعجز واستكانة وخور. ولا تعني الآثار المترتبة على الفعل التصوير الفني لهذه الآثار من جنة أو نار؛ فالجنة هي الفائدة المترتبة على النظر، والنار هي الضرر الناتج عن غياب النظر كما هو الحال في تأويل الفلاسفة. الجنة هي آثار الفعل الحميد في الدنيا، والنار هي آثار الفعل القبيح فيها. أمور المعاد إذن هي أولا خطأ في التفسير وتحويل الصور الفنية إلى وقائع مادية، وهي ثانيا خطأ في الاتجاه وتحويل هذا العالم إلى عالم آخر؛ مما يكشف عن موقف مغترب منحرف، معوج منعرج في الحياة، وهي ثالثا خطأ في القصد؛ فليس المقصود منها الحساب الكمي في النهاية، بل توجيه السلوك والتأثير فيه منذ البداية. وكلما عمقت ثقافة الإنسان وقوي وعيه وقلت غربته عن العالم، فإنه لا يكون في حاجة إلى خلق مثل هذه العوالم الوهمية، وأصبح قادرا على التفرقة بين عالم التمني وعالم الواقع. وفي المواقف الثورية تغير المجتمعات حالها بالفعل، وتفرق بين النية والعمل، بين القصد والفعل، بين البداية والنهاية.
إن الخلود رغبة إنسانية خالصة، وتعبير عن طموح الإنسان لتجاوز فنائه وحدوثه؛ فهي رغبة على الدوام لتجاوز الزمان، وطموح في البقاء لتجاوز الفناء. ليس في الخلود فترة انتظار من لحظة الموت إلى لحظة قرار الخلود، بل الخلود متصل لا انتظار فيه عندما يؤثر الإنسان في حياته، ويستمر أثره بعد مماته. الخلود واقع وليس تمنيا، حاضر وليس مستقبلا، يكتسب ولا يوهب. وبالخلود يستمر فعل الإنسان، ويظل الإنسان فاعلا مؤثرا من خلال جهده وأثره طالما هو دائما فعال. يتم الخلود في هذا العالم من خلال الأثر الذي يتركه الإنسان في شعور الآخرين وفي واقعهم. لا يحدث الخلود في عالم آخر، بل في هذا العالم، وفي حياة الناس عندما يتحول سلوك الإنسان إلى قدوة، وحياته إلى نموذج. ليس الخلود ميزة فردية يستأثر بها إنسان دون آخر بصادية يفرح صاحبها بنعيمه المقيم وبعذاب الآخرين، بل هي فردية بمعنى أنها مشروطة بجهد الفرد في البداية، ثم تحيل الإنسان كجزء من الحضارة والتاريخ في النهاية. ومع ذلك فالخلود فردي قد يحدث لفرد دون فرد؛ لأنه كسب؛ وبالتالي ليس كل البشر خالدين. الخلود فقط لمن حول حياته الزمانية إلى حياة أبدية. ليست درجات الخلود خارج هذا العالم في مراتب اجتماعية، ومكاسب مادية، ومنازل ودور من أدوار وقصور، أو زمان يقصر أو يطول، بل درجات الخلود في هذا العالم طبقا للأثر الذي يحدثه فعل الإنسان في حياته على الآخرين. قد تحدث أخطاء في عملية التخليد نتيجة للاجتهاد، خطأ أم صوابا، ونتيجة لضعف الباعث أو شدته، أو شوب القصد وطهارته، أو غموض الهدف ووضوحه. تلك هي بنية الجهد الإنساني الحر كدليل على حرية الإنسان واختياره الحر. وقد تحدث مظاهر نكوص في عملية التخليد عندما تضعف الروح، أو يتفتت الأثر، أو عندما يحدث أثر مضاد، ولكن هذه هي حياة الخلود، حياة تسري عليها قوانين الحياة؛ النشوء والنماء، الانكماش والضمور. الخلود في النهاية للحضارة وللتاريخ، وللشعب صاحب الحضارة وصانع التاريخ. الخلود عملية يساهم فيها كل الأفراد، كل يكمل الآخر حتى يخلد الذهن البشري الخالق المبدع، وهو ما سماه الحكماء خلود العقل الفعال، ولكنه هذه المرة عقل الأمة أفرادا وجماعات، حال في التاريخ وليس مفارقا للعالم. وإن الخلود الفردي ليجد كماله في خلود الجماعة في الحضارة والتاريخ.
ناپیژندل شوی مخ