له عقیدې ته پورې انقلاب (۱): نظري مقدمات
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
ژانرونه
الإهداء
مقدمة
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: تسميته
ثالثا: حده
رابعا: موضوعه
خامسا: منهجه
سادسا: مرتبته
ناپیژندل شوی مخ
سابعا: وجوبه
الفصل الثاني: بناء العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: ظهور الموضوعات من خلال الفرق، وظهور الفرق من خلال الموضوعات
ثالثا: من المسائل إلى الموضوعات، ومن الموضوعات إلى الأصول
رابعا: من الأصول إلى البناء
خامسا: من بناء العلم إلى عقائد الإيمان
سادسا: المصنفات القديمة
الفصل الثالث: نظرية العلم
أولا: نشأة نظرية العلم وتطورها
ناپیژندل شوی مخ
ثانيا: تعريف العلم
ثالثا: أقسام العلم
رابعا: النظر يفيد العلم
خامسا: كيف يفيد النظر العلم؟
سادسا: وجوب النظر
سابعا: طرق النظر
ثامنا: مناهج الأدلة
الفصل الرابع: نظرية الوجود
أولا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
ثانيا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» (الواجب)
ناپیژندل شوی مخ
ثالثا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)
رابعا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)
الإهداء
مقدمة
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: تسميته
ثالثا: حده
رابعا: موضوعه
ناپیژندل شوی مخ
خامسا: منهجه
سادسا: مرتبته
سابعا: وجوبه
الفصل الثاني: بناء العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: ظهور الموضوعات من خلال الفرق، وظهور الفرق من خلال الموضوعات
ثالثا: من المسائل إلى الموضوعات، ومن الموضوعات إلى الأصول
رابعا: من الأصول إلى البناء
خامسا: من بناء العلم إلى عقائد الإيمان
سادسا: المصنفات القديمة
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثالث: نظرية العلم
أولا: نشأة نظرية العلم وتطورها
ثانيا: تعريف العلم
ثالثا: أقسام العلم
رابعا: النظر يفيد العلم
خامسا: كيف يفيد النظر العلم؟
سادسا: وجوب النظر
سابعا: طرق النظر
ثامنا: مناهج الأدلة
الفصل الرابع: نظرية الوجود
ناپیژندل شوی مخ
أولا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
ثانيا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» (الواجب)
ثالثا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)
رابعا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)
من العقيدة إلى الثورة (1)
من العقيدة إلى الثورة (1)
المقدمات النظرية
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
ناپیژندل شوی مخ
إلى علماء أصول الدين.
تحقيقا لمسئولية جيلنا.
حسن حنفي
مقدمة
من الدعاء للسلاطين إلى الدفاع عن الشعوب
تبدأ المقدمات التقليدية في علم أصول الدين بحمد الله، والصلاة والسلام على رسوله، وهي مقدمات إيمانية خالصة، تعبر عن إيمان ذاتي خالص، هو المطلوب إثباته ، والبرهنة عليه، ولكن العالم الأصولي القديم يعلن عنه، ويسلم به، وكأن مقدماته هي نتائجه، وأن ما بينهما إن هو إلا لهو ولعب وسد فراغ، كما يغيب الأسلوب البرهاني، وعرض الإشكال، وبيان الهدف كما فعلنا في معنى «التراث والتجديد»، عارضين للتراث القديم، قارئين فيه أزمة العصر، ومحللين أزمة العصر مكتشفين فيها بعد التراث القديم، إن التعبير عن مضمون الإيمان كإحدى المسلمات هو نقض للبرهان، وهدم للاستدلال، وضياع للعلم، خاصة ولو كان هذا المضمون هو المطلوب إثباته، إيماننا هو «التراث والتجديد»، وإمكانية حل أزمات العصر، وفك رموزه في التراث، وإمكانية إعادة بناء التراث لإعطاء العصر دفعة جديدة نحو التقدم، فالتراث - كما بينا - هو المخزون النفسي لدى الجماهير، وهو الأساس النظري لأبنية الواقع.
1
تبدأ المقدمات التقليدية بتنزيه الله تنزيها مطلقا، والإعلان عن أوصاف ذاته الكاملة، وصفاتها المطلقة، والتعبير عن هذا المطلب الذي هو غاية الإنسان بلغة العشق والهيام،
2
وأن تحقيقها صعب المنال، وإدراكها يند عن العقول، ويصعب على الخيال، وتجد الذات نفسها كلما أمعنت في التعبير عن هذا العالم اللانهائي، وأعلنت حيرتها أمامه، وضياعها فيه، أو لجأت إلى الفيض والإلهام، تجد فيه معرفة له، وحاولت الاتصال به كي تنهل منه أو رأت في الطبيعة الآثار عليه، واكتشفت في الكائنات مظاهر لوجوده، وشعرت في نفسها بالدلائل عليه أو أعلنت في النهاية عن حيرة العقول والأفهام، وعجزها عن تحقيق بغيتها، ضعف الطالب، وقوي المطلوب.
ناپیژندل شوی مخ
3
ومع ذلك فإن المقدمات الإيمانية تعلن عن هذا الوجود المطلق الأوحد باعتباره قدرة شاملة، وإرادة مسيطرة، فهو الذي يبدئ ويعيد، وهو الذي يبدأ ويقرر، وهو الذي يحيي ويميت، ويظل العالم الأصولي القديم يتغزل في هذه القوة المسيطرة لدرجة الفناء فيها، وكلما شعر بعجزه قوي مدحه، وكلما شعر بأن الكون لا يسير وفقا لما يحب تصور وكأن «الآخر» قد قام بدلا عنه بالسيطرة على هذا الكون المفقود، وبالتالي ينشأ السلطان؛ الديني أولا ثم السياسي ثانيا، ويصبح للعالم مركز سيطرة واحد لا يتزحزح، ويكون السلطان متفردا بسلطانه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك ، ولا يعارضه معارض، ولا يقف بجواره ند. يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء، لا معقب على قراراته وأوامره؛
4
ومن ثم كان من السهل الانتقال من السلطان الديني إلى السلطان السياسي، ومن الحمد لله إلى الحمد للسلطان، ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان، ومن طلب العون والمغفرة من الله إلى طلبهما من السلطان؛ لأن التكوين النفسي للطالب واحد، وأحد البدائل يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها الآخر. من هذه القوة المركزية يستمد الإنسان كل شيء إن كان له فعل، أو تفعل هذه القوة بذاتها مستغنية عن الإنسان، فالله مدحض الأباطيل، وكاشف الحق، ودافع الباطل، ومعطي العلم، وواهب المعرفة، والمبرهن والمستدل والمنير الطريق، هو مصدر المعرفة وأساسها، ومعطي السعادة وواهبها، إن معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، لا تأتي من عل، بل من تأمل في المعطيات الفكرية والواقعية، فالمعرفة النظرية لا تتم كهبة مسبقة، بل عن طريق التحليل العقلي الرصين للأفكار والوقائع، وباستقراء مجرى الحوادث، ذلك لا يمنع من وجود مقاييس للصدق، وأنماط مثالية للفكر، ولكن هذه المعطيات المسبقة تنبع من طبيعة العقل، ويدركها الشعور بحدسه، وليست فعلا لكائن خارجي مشخص، يفعل مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الإنسان، ولا يمكن التسليم بشيء على أنه حق ما لم يعرض على العقل ويثبت في الواقع أنه كذلك.
5
والحقيقة أنه لا يحمي الإنسان المعاصر، ولا يحافظ على مصالح الجماعة إلا الوعي الفردي، وتجنيد الجماهير، وكلاهما لن يتم إلا بالثورة الفعلية. لن يتغير الواقع بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين التي يتحول فيها الوعي الفرد إلى معبر عن وعي الجماعة، الجماهير هم الدرع الواقي، والطليعة هم رأس الحربة، لا تسليم هناك بشيء، بل لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يعرض على العقل والواقع وإثبات أنه كذلك، لا يوجد صمام أمان إلا في وعي الإنسان بذاته وليس في «عقدة القبة السماوية»
6
التي تغطي الأرض، فلا وكالة إلا من الأنظمة الاجتماعية والعجز عن مراقبتها وعدم القدرة على مراجعتها. ليس المطلوب في هذا العصر أن يتوه الإنسان تحت هذا الخواء، وأن يضيع في هذه المتاهة، وأن يشعر بضآلته تحت هذا الشمول، بل المطلوب تأكيد ذاته، وإعمال عقله، وإحساسه بالمسئولية، وتحقيقه للرسالة، ووعيه بالجماهير، وإدراكه لحركة التاريخ. ليس مطلب العصر هو تبرئة «عقدة القبة السماوية» الحافظة للعالم من كل سوء، تشبيه أو تجسيم أو شرك، بل معرفة المسئول عما وصل إليه حالنا من احتلال وتخلف، وقهر وطغيان، وفقر وبؤس، وضنك وحرمان، وتشرذم وتبعثر، وذل وهوان. ليس مطلب العصر هو إبراء الذمة، ووضع الطهارة المجردة، افتراضا وأملا، هذه الطهارة التي لا تشوبها شائبة، وتخليصها من مآسي العصر، مع أنها قد تكون أحد مظاهره أو أسبابه، بل المطلب هو تحديد المسئولية عما وقع في حياتنا من مآس وأزمات، وهزائم ونكبات، وكيف يكون الخالص مسئولا عن الشائب؟ وكيف يكون البريء مسئولا عن ذنوب العصر ومظاهر البؤس والشقاء فيه؟ كيف يكون الغني مسئولا عن الفقر، والعادل عن الظلم، والقوي عن الضعف، والقيوم عن المحتل، والواحد عن المتجزئ؟ إن كل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نحن فيها ليست مفروضة علينا ولا مكتوبة من أحد، بل هي نتيجة للأوضاع ذاتها، ويخطئ القدماء عندما يجعلون العلة معلولا، ونخطئ معهم عندما نعلق مآسينا وهزائمنا على مشجب لم يره أحد ولم ينقذ أحدا، لا يعني ذلك رفض الشمول والعموم؛ فالشمول للأفكار وللمبادئ، وهي لا تعطي الإنسان أي ضمان أو أمان بل تعطيه فقط الأساس النظري للتطبيق والممارسة، وتصف له وسائل التحقيق، ولا يتوه فيها العقل، بل يدركها ويحصل منها على معرفة، ولا تضعف أمامها الإرادة بل تتمثلها وتتأكد حريتها، ولا تضمحل أمامها الذات وتفنى، بل تثبت ويتأكد وجودها.
في هذه المقدمات الإيمانية تتحدد علاقة الإنسان بالله، ليس فقط على مستوى المعرفة والنظر، بل أيضا على مستوى السلوك والعمل؛ فالإنسان يحمد الله على نعمه، ويشكره على فضله، مما يجعل العلاقة أحادية الطرف، من واهب إلى موهوب، ومن معط إلى معطى، وتجعل الإنسان مجرد وعاء للنعم، ومستقبل للعطايا، ومنتظر للجود والإحسان، قد يرفض الإنسان بطبيعته الكرم والفضل، وقد ينفر من الهبات والعطايا؛ لأنه يأبى أن تكون يده هي السفلى، ويد غيره هي العليا، وإن كثيرا من مآسي عصرنا لهو انتظار الكرم والجود، والتشوق إلى الهدايا والعطايا، والتزلف من أجل هبات السلطان حتى أصبح العصر كله عصر تعايش وارتزاق، بل إن سلبية الجماهير اليوم قد ترجع إلى أن معظم مظاهر التغير الاجتماعي في حياتها قد تمت أيضا بفعل الجود والكرم، وكأنها هبات من أعلى، وليست مكتسبات حصلت عليها الجماهير بعرقها وكفاحها، فإذا حصلت الجماهير على بعض حقوقها، فإن الحاكم لم يتفضل عليها بشيء، بل نالت حقها، وحقها ليس منة ولا فضلا عليها من أحد، وقد يكون هذا هو السبب في معاناة عصرنا من اعتبار كل حق منة أو فضلا من رئيس على مرءوس.
فإذا كان القدماء قد حمدوا الله على الكفاية، فإننا نتجه بكل قوانا نحو الناقص ونتوجه إلى ما لم يتحقق بعد، اتجاهنا نحو الحاجة أقوى من نزوعنا نحو الحمد، والحمد على ما هو موجود فيه رضاء واستكانة، والثورة على ما هو مفقود فيه غضب ومطالبة بحق، حالنا لا يتطلب حمدا ولا ثناء على أحد، بل يقتضي رفضا واعتراضا، مطالبة وثورة، نحن لا نحمد بل نتضجر، ولا نرضى بل نغضب، ولا نثني بل ننقد، ولا نشكر، فلا شكر على واجب، بل نثور ونطالب، إن الإحساس بالحق المشخص يعطي الإنسان نوعا من الرضا، ويجعل نفسه طيبة طيعة حامدة شاكرة، وهذا على خلاف مقتضيات تكويننا النفسي المعاصر الذي يشوبه القلق والغليان، وتعتريه عواطف السخط والغضب، يئن تحت ضغوط العجز والحرمان،
ناپیژندل شوی مخ
7
فإذا طلب الإنسان شيئا فإنه يدعو كي يستجاب له، ويسأل كي يعطى له، فتكوينه النفسي قد تعود على السؤال والاستجداء، واعتاد على الشحاذة والتسول، ولن يتغير الواقع عن طريق الدعاء، ولن يطعم جائع بطريق الاستجداء، ولن ينصر مظلوم عن طريق البكاء! الدعاء تعبير عن أماني ورغبات وليس تحقيقا لها، هو حيلة العاجز، وفعل القاعد، وأسلوب القعيد، وطريق الخامل، وسبيل المستكين، وقد بدأنا تغيير الواقع بالدعاء منذ تراثنا القديم ولم يتوقف حتى عصرنا الحاضر،
8
والخطأ لا يتغير بالتوبة والاستغفار، بل بالتعلم والاستفادة منه، والعود من جديد إلى القيام بنفس الأفعال على أساس من المناعة ضد الخطأ والاكتساب النظري والعملي للصواب، لا يوجد ملجأ للإنسان إلا عمله، ولا نجاة له إلا بعمله المشترك مع الآخرين أي بالعمل الجماهيري الذي تؤيده حركة التاريخ، إن الحصول على القوة لا يأتي بالدعاء للقوي، وباستجداء واهب القوة بل يحصل عليها بالاستعداد، والحصول على القوة بالفعل.
ثم تنتقل المقدمات الإيمانية التقليدية من محورها الأول، وهو الله، إلى محورها الثاني، وهو الرسول، وهما المحوران اللذان دار حولهما علم أصول الدين في المرحلة العقائدية المتأخرة، وتشرع في الصلاة والتسليم عليه،
9
وفرق بين الصلاة والعلم، بين الترانيم الدينية والتحليلات العقلية، البحث العلمي ليس صلاة، والنظر العقلي ليس دعاء، وسلامة المنهج هو الضامن لليقين، ودقة التحليل هو السبيل إلى الصواب، والتركيز على الرسول بشخصه، وفضله، وكرمه، ومآثره، وفضائله، وسجاياه، تشخيص للرسالة، وتركيز في الوحي على المبلغ إليه، وخلط بين الرسالة والرسول، والنبوة والنبي، ومدح الوحي المشخص في النبي تشخيص للفكر مثل تشخيص الحق، والقدوة لا تعني التبعية لشخص والثناء عليه ومدحه، بل تعني تجربة تاريخية فريدة، وأن الفكر ممكن التحقيق، تجربة يستفاد منها ولكن لا يمتدح محققوها، الهدف هو التجربة، كيف يتحول الفكر إلى واقع، وليس الأشخاص.
ومن مآسي عصرنا تشخيص الأفكار، وعبادة الأشخاص، وقد قوى ذلك فينا الصوفية بنظرياتهم عن «الحقيقة المحمدية»، كما انتشر هذا التيار بيننا لأنه في غياب القدرة على فهم الأمور، وتصور الحقائق، والتعامل مع الأفكار، يستبدل بذلك كله الأشخاص الحسية، والجاهل بما لا يرى يستعيض عنه بما يرى، في حين أن الرسول ما هو إلا مبلغ للوحي، هو مجرد وسيلة لا غاية، فضله من الوحي، ومآثره من الرسالة، وعظمته في الجهاد، وقدوته في الأخلاق مثل أي قائد أو زعيم، فاختياره للرسالة ليس ميزة لشخصه، بل لأن الرسالة لا بد وأن تبلغ من خلال رسول تتوفر فيه شروط الأداء والتبليغ، والتركيز على الاختيار والاصطفاء ليس من الوحي في شيء، وهو أقرب إلى الاصطفاء اليهودي
Election . والوحي يرمي إلى ما بعد الاختيار، وهو التبليغ، وليس إلى اختيار الشخص ذاته، وإلا خلطنا بين الوسيلة والغاية.
10
ناپیژندل شوی مخ
وكثيرا ما نقف في حياتنا المعاصرة على الأشخاص ونترك أفكارهم، ونتمسك بالأفراد ونترك رسالاتهم؛ لذلك جعلنا الرسول شفيعا في اليوم الآخر، وجعلناه واسطة بين الله والخلق، واقتربنا من المسيحية فيما تقوله في المسيح، واعتبرناه قديما لم يخلق، وأبديا لا يفنى؛ ومن ثم شارك في صفات الألوهية في العقائد الشعبية المبنية على حب آل البيت، والخلود لا يكون للأشخاص بل للأعمال والأفكار.
11
ويستمر الفضل والاختيار ليس فقط للرسول، بل في آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
12
مع أن كل إنسان مسئول فردا، بعمله وليس بانتسابه إلى جماعة، ويحاول كل فريق منا أن يكون هو الوريث لهذه الجماعة الأولى، فكثر الادعاء، واطمأن كل فرد على حاله، ما دام ينتسب إلى العترة الطاهرة، والصحبة الخيرة، وقد يسمح لنفسه ما لا يسمح به لغيره، لأنه هو سليل الجماعة الأولى، مع أننا نعاني من الشللية، ونقاسي من الجماعات المغلقة، ثم يقل الفضل والاختيار حتى يمحي في عصرنا الذي يسوده الشر، ويعمه الضلال؛ ومن ثم يتدهور التاريخ، ويسير في انحطاط مستمر، ويظل التاريخ الأول قدوة للناس، يتقدمون بالرجوع إلى الوراء، ويسيرون إلى الأمام ووجههم إلى الخلف، وهو ما نحن عليه الآن، وكما يبدو في الحركات الإسلامية المعاصرة، وهذا لا يمنع الإنسان من الانتساب إلى جماعة عمل مثل الحزب أو الجمعية، ولكن هذه الجماعة توجد في أي وقت وفي أي مكان، وليست في زمان أو مكان معينين، والتجارب التاريخية التي يتحقق فيها الفكر عامة وليست محددة، قد تكون الجماعة الأولى أقرب إلينا لأنها هي التي تعمل في مخزوننا النفسي والتي يمكن اتخاذها قدوة ودليلا.
13
إن الصفوة المختارة ليست أسرة القائد ولا قبيلته ولا أصحابه، بل هي أية طليعة ثورية في أي مكان وفي أي زمان، تحاول توجيه الواقع بالفكر، فهي ليست جماعة تاريخية نسبية، بل هي جماعة فكرية لا مكان ولا زمان لها، هي كل جماعة حاولت تحرير الإنسان، وتغيير الواقع، ومناهضة الظلم، وأداء الرسالة، وإذا كان هناك وضوح في الرسالة، وإذا اشتمل الوحي على البرهان، فإن ذلك راجع إلى طبيعة الرسالة والوحي، وليس إلى فعل المبلغ، فالوحي بطبيعته واضح، والرسالة بطبيعتها عقلية، وكلاهما يشتملان على البرهان الداخلي، والوضوح النظري للإعلان والبلاغ؛ ومن ثم فالتصديق لا يحتاج إلى معجزة؛ لأن المعجزة برهان خارجي، في حين أن الوضوح النظري برهان داخلي، والقرآن ليس معجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة، بل بمعنى موضوعية الفكر، من ناحية المضمون وناحية الشكل، والتصديق بالفكر والإحساس بأسلوب التعبير، ورؤية المعنى والاتصال المباشر باللفظ.
14
وإن إثبات أن الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين لا يعني أيضا تركيزا على فضائل شخص أو على مزايا فردية لأحد، بل يعني أن الوحي قد اكتمل، وأنه تطور منذ أول الأنبياء حتى آخرهم، وأن آخرهم يعني أن النبوة قد انتهت، وأن الإنسان قد استقل، وأن عقله قد استطاع أن يصل بنفسه إلى اليقين، وأن فعله بإمكانه أن يحقق رسالة الإنسان دون ما تدخل من أية إرادة خارجية عامة أو مشخصة.
15
ناپیژندل شوی مخ
كما يعني عموم الرسالة أنها أصبحت رسالة للبشر جميعا، وأن هناك حقيقة شاملة يمكن لكل الشعوب معرفتها والوصول إليها.
وبعدما تبدأ المقدمات الإيمانية التقليدية بالحمد لله والصلاة على رسوله، فإنها تشفعهما بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وفي حقيقة الأمر، وطبقا لمقتضيات العصر، لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما بل تعني الشهادة على العصر، وذلك ببيان المسافة بين نظام الواقع ومقتضى الفكر، وهي الشهادة النظرية ثم محاولة إلغاء هذه المسافة وتوجيه الواقع طبقا لمقتضيات الفكر، والتضحية في سبيل ذلك بكل شيء حتى بالنفس فتتحقق الشهادة، وهي الشهادة العملية، ويصبح الإنسان شهيدا بعد أن كان شاهدا، فالشاهد والشهيد كلاهما موقف شهادة، ليست الشهادتان إذن إعلانا لفظيا عن الألوهية والنبوة، بل الشهادة النظرية والشهادة العملية على قضايا العصر وحوادث التاريخ؛ فالتوحيد نوعان، توحيد قول وتوحيد عمل.
16
ولفظ الشهادة الأولى «لا إله إلا الله» يحتوي على قضيتين: الأولى سالبة «لا إله»، والثانية موجبة «إلا الله»؛ فالتوحيد فعلان: فعل سلبي يقوم فيه الشعور الفعلي العملي بنفي كل آلهة العصر المزيفة التي تصبح تصورات للعالم ودوافع للسلوك عند الناس، وفعل إيجابي يضع فيه الشعور مثلا أعلى مبدأ واحدا عاما وشاملا، بفعل النفي يتحرر الوجدان الإنساني من كل صنوف القهر والظلم والتسلط والطغيان، وبفعل الإيجاب يضع الإنسان مثلا أعلى ويعلن ولاءه للمبدأ الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع، الفعل السالب يحرر الشعور الإنساني من كل صور القهر، والفعل الموجب يضع الشعور حرا خالقا مبدعا؛ الأول يحرر الإنسان من التبعية للقيم السائدة في عصره وما به من تطلعات، والثاني يجعل الإنسان متمثلا لقيم جديدة ومرتبطا بمبدأ عام.
17
ولفظ الشهادة الثانية: «أن محمدا رسول الله» إنما تعني الإعلان عن اكتمال الوحي، ونهاية النبوة، وتحقق آخر مراحلها في نظام وتجسده في دولة، وأنه لا يمكن الرجوع إلى الوراء لمراحل سابقة منها، فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتقدم جوهر الوعي الإنساني ومسار التاريخ وحركة التطور، فالإنسان بعقله المستقل وبإرادته الحرة قادر على أن يواصل حركة التاريخ وأن يستمر في تقدمه باجتهاده الخاص، فيرث النبوة وتراث الأنبياء، فالعلماء ورثة الأنبياء، والاجتهاد طريق الوحي، والعقل وريث النبوة.
18
ونظرا لفراغ المقدمات الإيمانية التقليدية من أي مضمون فكري أو واقعي، عقلي أو مصلحي، فإنها تعبر عن نفسها بأسلوب السجع المملوء بالتلاعب بالألفاظ التي لا تحمل وراءها إلا عواطف إيمانية، فالعاطفة تنشئ اللغة، واللغة تعبر عن العاطفة، ويغيب الفكر كما يغيب الواقع، تعتمد المقدمات على المحسنات البديعية وعلى الإنشاء الخالص دون فكر ودون رؤية أو تحليل لشيء، لا يكمن وراءها إلا بعض الانفعالات الإيمانية تبلغ أحيانا درجة التصوف، وكأن الإعلان عن العلم لا يتأتى إلا بالإغراق في المواجيد الصوفية، والتعبير عنها بالتراشق اللفظي.
19
يغيب الأسلوب البرهاني والتحليل العقلي والوصف الواقعي للظواهر، ويحل محله أسلوب إيماني خالص يعبر عن العشق والهيام لموضوع فارغ، ويكشف عن مواجيد النفس ولوعات الإيمان، وكأن علم أصول الدين كأحد علوم النظر قد تحول إلى علم التصوف كعلم للذوق، وإذا كانت «الأشعرية» قد ازدوجت بالتصوف في العقائد المتأخرة، فإن التصوف قد حل محل الأشعرية كلية في العقائد الإيمانية، حتى الشروح والملخصات فإنها لا تبين الغاية من الشرح أو التلخيص، بل تقوم بشرح المقدمة الإيمانية، فالحمد تعني الحمد، والله يعني الرحمن، والثناء يعني المدح! فاستعاضت عن الفكر بالسجع واللفظ وبلعبة المترادفات، أما في عصرنا فقد بلغت أزماته ومآسيه درجة أن الاعتناء بالمحسنات البديعية أصبح تعويضا عن الشقاء، وتعبيرا عن الخواء، ورغبة في الحصول على شيء حتى ولو كان رنين الصفائح أو قرع الطبول، وأن أول ما نذكره نحن هو الواقع، أزماته وتقلباته، حاله ومآله، حتى يعي الناس حالهم، فالرموز والصور والتشبيهات تكرار وسجع لفظي لا يكمن وراءه وعي، ولا يغير الواقع قيد أنملة.
ناپیژندل شوی مخ
وأحيانا تختلط المقدمات الإيمانية التقليدية بين الحمد لله والثناء عليه، وبين الدعوة للسلطة والتزلف إليها، فالحديث عن السلطان واحد، السلطان الديني أم السلطان السياسي، السلطان الإلهي أم السلطان البشري أو باختصار الله والسلطان، الأول يمثل السلطة الدينية في قمة الكون والثاني السلطة السياسية على رأس الدولة، وكلاهما يتم الكلام عنه بلغة الجبروت والعظمة، حتى إنه ليصعب الفصل بين السلطانين أو بين السلطتين أو بين الإلهين، إله السماء وإله الأرض، إله الدين وإله السياسة، وقد يكون ذكر اسم الله المطلق وأنه المسيطر على كل شيء تعبيرا عن وضع اجتماعي يتحد فيه الله بالسلطة، فلا فرق بين الثناء على الله والثناء على السلطان، كلاهما يصدران عن بناء نفسي واحد، وكل منهما يغذي الآخر ويدعمه، فالثناء على الله تدعيم للثناء على السلطان، والثناء على السلطان نابع من الثناء على الله،
20
وكلاهما قضاء على الذاتية، ذاتية الأفراد وذاتية الشعوب.
فإذا كان هذا هو حال السلطان، فإنه لا يختلف كثيرا في صفاته عن حال الله، كلاهما منعم، واهب، عادل، عالم، قادر ... إلخ، وتملق السلطان ومنافقته لا يختلف كثيرا عن مواقف الزلفى والنفاق لله ، بل إن الموقفين موقف نفسي واحد، مرة يتجه نحو الله ومرة أخرى نحو السلطان.
21
فإذا أتى الشارح فإنه يقوم بنفس الدعاء لله وللسلطان الجديد، فالله قائم والسلاطين تترى.
22
وما الفرق بين أسماء الله الحسنى وألقاب السلطان؟ بل إنه في كثير من الأحيان يوصف السلطان بصفات الله! في العقائد المتقدمة تقل المدائح لله فتختفي المدائح للسلطان في حين أنه في العقائد المتأخرة تكثر المدائح لله فتظهر المدائح للسلطان، وكأنه إذا ظهر العقل خف المديح، وإذا عم الإيمان كثر المديح!
وفي عصرنا الحالي، بدلا من الثناء على السلطة، والدعاء للممسكين بها، والقائمين عليها، والقيمين على الناس، مستنصرين لهم، ومؤيدين لخطاهم، فإننا نبين تواطؤ السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكيف أن كلا منهما تعيش على الأخرى، وفي كلتا الحالتين، الجماهير هي الخاسرة، والشعوب هي الضائعة، حرية ورزقا، إن مدح خصال السلطان النظرية والعملية تقرب وتملق، مداهنة وتزلف، وصولية وانتهازية، نفاق وكذب وخداع، وهذا ليس دور الجماهير ولا مهمة طلائعها؛ فدورها الرقابة، ومهمتهم النقد، وليس في كليهما مدح أو تعظيم، علاقة الرعية بالسلطان في عالمنا المعاصر وبأوضاعه الحالية التي ينكشف بناؤها من خلال وجداننا القومي، وإحساساتنا الدفينة ليست علاقة طاعة وقبول بل علاقة ثورة ورفض، فكثيرا ما أدت طاعة السلطان إلى الضياع والتخلف والاحتلال، والخروج على السلطان والثورة ضده كان فيه إجبار له على العدل والشورى، والرقابة عليه.
23
ناپیژندل شوی مخ
والسلطان لا يهدي ولا يضل، ولا ينفع ولا يضر، لا تتبع الأفلاك هواه، ولا تتحرى الأقدار رضاه فتلك صفات الله وحده.
24
هو سلطة تنفيذية خالصة، والسلطتان التشريعية والقضائية للفكر الذي وعد السلطان بتنفيذه، وعلى أساس التزامه به تمت البيعة له والعقد عليه، واختياره من بين المسلمين؛ فالفكر هو مصدر السلطات، والسلطة الحقيقية الفعلية هما السلطتان التشريعية والقضائية، والسلطان ما هو إلا منفذ للأولى، مطيع للثانية، السلطان ليس ملكا، ولا صاحبا، ولا آمرا ولا ناهيا، ولا خالقا، ولا قادرا، بل هو منفذ لقانون الفكر، ومطيع لقضائه، ومستمع للمشورة، وقابل للنصح. ليس السلطان باستمرار مصدر الخير والصلاح، بل كثيرا ما يكون مصدرا للفساد والطلاح لنفسه ولشعبه، السلطة في غياب الرقابة الشعبية تفسد، وتعمل لمصلحة القائمين بها، تغنم وتثرى، تتجبر وتنفرد بها، ثم نجد من يعاونها في ذلك؛ تحقيقا لنفس الأغراض، الثراء والسلطة، المنصب والجاه، ثم تضع في الشعوب كل القيم التي تساعدها على تحقيق مآربها مثل الحرمان الجنسي بدعوى الفضيلة والتقوى ثم الإثارة الجنسية بدعوى المدنية وإدخال السرور على النفس حتى يتحول الشعب كله إلى فئتين؛ مثير جنسيا ومثار جنسيا، أو تلهي السلطة الشعب بقوته اليومي، حتى يظل الشعب لاهثا وراءه، تاركا السياسة، وغافلا عن السلطة، تاركا لها مجال السياسة العليا في الحرب والسلام، في الغنى والفقر، في الحرية والقهر، وفي الوحدة والتجزئة، أو تلوح بالمناصب حتى يتهافت عليها الناس، ويتسابق نحوها وزراء الغد، فتعطى لمن لا يستحق حتى يظل عبدا لها، حريصا عليها، يستمد منها قيمته كل من لا قيمة له، إن أزمة السلطة في عالمنا المعاصر أنها لم تأت عن طريق الشورى والبيعة، ولكنها أتت قفزا عليها، واستمرت بقوانين القهر وبحكم العسكر وبسيطرة أجهزة الأمن بعد أن أخذت شرعيتها أولا من الإنجازات الثورية أو الحركات الوطنية التي أدت إلى الاستقلال لا من البيعة والاختيار الحر، أخذت الشرعية من العمل ثم من القوة لا من النظر ثم البيعة، والثورية حتى في أحسن صورها واستمراريتها لا تكفي دون البيعة لتحقيق ذاتها ولاستمرارها ولالتفاف الجماهير حولها، وغالبا ما تنقلب الثورية ضد الشعب، أصل البيعة، ومصدر الشورى. قد تكون السلطة مصدرا للجهل لا للعلم، وقد يكون في مصلحتها نشر الأمية وليس محوها، والقضاء على الثقافة وليس تنميتها، فالسلطة تتأكد في شعب جاهل، وتقوى في جماعة مطيعة، فالجهل طاعة والعلم ثورة، وقد يكون المدح للدولة، لفكرها وعقيدتها، لحزبها ونظامها كما يحدث في عالمنا المعاصر من الدعوة للنظم السياسية وللثورات الوطنية، يكون التاريخ قبلها خواء وظلاما، ثم يحدث الملاء ويعم العدل في ظل النظام السائد، وبعد الثورات المباركة، وهو ما عاصرناه في جيلنا من جب لما قبل تاريخ ثوراتنا المعاصرة، وشجب لكل ماضينا ثم الازدهار المفاجئ والنهضة الشاملة في ظل النظام القائم وبعد الثورة، فنولد من جديد، ونحيا بعد عدم، ونملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتوجهنا عقائد الشيعة ونحن أهل سنة!
25
وهو ما يحدث أيضا في خطب المساجد من الدعوة إلى السلطان، وتأييد للنظام، ومدح للحكام، وهو ما يكثر في عصور الانحطاط كأحد مظاهره أو أسبابه، فالإمام يخشى السلطان فيمدحه، والسلطان يخشى الإمام فيوظفه في رعيته ويجعله تابعا له فقيها للسلطان، وبمدح الإمام تثبت شرعية السلطان في قلوب الناس والجهال، ولو أن الإمام فضح السلطان لما بقي السلطان، وشرعية الإمام في قلوب الناس أرسخ وأعمق من شرعية السلطان.
26
فإذا ما تغيرت السلطة بانقلاب أو بوفاة، انصب نفس المدح للسلطان القديم على السلطان الجديد الذي يعطي نفس الصفات، وتكون له نفس المحامد والآثار، وتوجه إليه نفس الدعوات والابتهالات، فمدح السلطان لا يقوم على خصائص موضوعية في السلطان، بل هو اتجاه نحو السلطة بالتملق والزلفى والنفاق، حتى ولو كان السلطان حيوانا! ولقد نشأ بيننا كتاب لهم هذه الوظيفة في مدح القائد الملهم، والزعيم الشجاع، وابن الشعب البار، والمجاهد الأعظم، والرئيس الأفخم، وصاحب القرار، وإذا استنفدت السلطة أحدهم أو ضاقت به أو خدمها بغباء، أو استعمل ذكاءه لحسابه الخاص أتى الآخر، ثم تطول قائمة الانتظار، يود الكل اللحاق بوظيفة مداح السلطان.
27
وقد يكون الدعاء لرئيس المصلحة، السلطان الأصغر، الذي بيده الخبز والعيش، الرئيس المباشر الذي بيده الترقية والدرجة، والتقرير والتوصية، والذي يراه الكاتب وجها لوجه؛ فالسؤال هنا مباشرة من شخص إلى شخص وليس إلى ذات مجردة أو لسلطان بعيد قد يسمع وقد لا يسمع، السؤال هنا لشخص حي، يصعد الدرج ويهرول، ويهبط تحفه البركات، ويصعد تنهال عليه الدعوات.
28
ناپیژندل شوی مخ
أما الإهداء فإنه يكون أيضا للحضرة العلية حتى يذكر اسم السلطان في فاتحة الكتاب بعد فاتحة القرآن أو قبلها، فكل الآراء تتوجه إلى السلطان كما أنها بدرت منه، وخرجت بتوجيهاته.
29
أما نحن فإهداؤنا «إلى علماء أصول الدين، تحقيقا لمسئولية جيلنا»، تكاتفا مع العلماء، وإبداء للنصح، وتحملا للمسئولية عن هذا العلم وأثره في الحياة العملية وعلى سلوك الجماهير وعلاقتها بالسلطة، فإذا كان هذا هو المحتوى الرئيسي للمقدمات الإيمانية التقليدية التي تدعو إلى الله وإلى السلطان معا، وتسبح بحمدهما معا خاصة في العقائد المتأخرة، عصر الشروح والملخصات، عصر الانحطاط وتلقي البركات، فإن عصرنا الحالي عصر إصلاح ونهضة، وجيلنا الحالي جيل تغيير وثورة، وكتابه لا يتملقون السلطان الإلهي أو السلطان السياسي، بل يدافعون عن مصالح الشعوب ضد جميع السلاطين، هذه هي مسئولية «من العقيدة إلى الثورة» ومقدمته الأولى.
وإذا كانت بعض المقدمات الإيمانية القديمة تبدأ فقط ب «اسم الله الرحمن الرحيم»، فإننا نبدأ «باسم الأمة»، فالله والأمة واجهتان لشيء واحد بنص القرآن.
30
فإذا كان الله قد تم الدفاع عنه عند القدماء وانتصروا في قضيتهم إثباتا للتنزيه، فإننا ندافع عن الأمة التي اعتراها التفتت، وأنهكها الضياع، وتوالت عليها الهزائم، وانتابها العجز، وعمها القعود، وإذا كان القدماء في دفاعهم عن التوحيد قد فتحوا البلدان، وغزوا في سبيل الله، وحرروا الوجدان البشري إعلاء لكلمة الله، فانتصروا في الفكر والشريعة، وحققوا النظر في العمل، فإننا اليوم ندعو الأمة إلى الجهاد وإلى تحرير البلدان، واستعادة الأراضي المغتصبة، وذلك عن طريق تفجير التوحيد لطاقات المسلمين، وعودتهم إلى الأرض، فإذا دافع القدماء عن الله نظرا لأنه كان مظان الخطر والهجوم، فإننا ندافع اليوم عن الأرض فهي المستهدفة، رقعة وثروة؛ فالله بنص القرآن إله السموات والأرض،
رب السماوات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . فالتوحيد فتح وجهاد، تلك «الفريضة الغائبة»، وهذا الأصل من أصول الإسلام بل وعقيدته الأولى باسم التوحيد، لقد استبيحت حرمات المسلمين، واحتلت أراضيهم، ونهبت ثرواتهم، وانتهكت أعراضهم، وقتلت نساؤهم وأطفالهم، وذبح أبناؤهم، فإذا كان القدماء قد بدءوا مقدماتهم الإيمانية التقليدية «باسم الله»
31
فإننا نبدأها باسم الأرض المحتلة في مواجهة الاحتلال الأجنبي لأراضي المسلمين، وباسم حريات المسلمين في مواجهة صنوف القهر والطغيان، وباسم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وباسم المساواة والعدالة الاجتماعية في مواجهة تجميع الثروات وتكديس الأموال لدى الأقلية المترفة أمام جماهير الأمة التي تموت جوعا وقحطا، بؤسا وعريا، وباسم الوحدة، وحدة الأمة بنص القرآن مرآة لوحدة الله في مواجهة التجزئة والتشرذم والتشتت والتبعثر بين ملوك الطوائف، وباسم التقدم في مواجهة التخلف، وباسم النهضة في مواجهة الانحطاط، وباسم الهوية ضد التغريب، باسم جماهير الأمة، وباسم الأغلبية الصامتة، وباسم عامة المسلمين يصدر «من العقيدة إلى الثورة» بناء على «العقل المصلحي» يجمع بين «علم أصول الدين» وبين «علم أصول الفقه» ليعيد وحدة «علم الأصول» بشقيه.
ناپیژندل شوی مخ
وفي مرحلة ثانية،
32
انتقلت المقدمات الإيمانية من مجرد التعبير عن عواطف الإيمان إلى التركيز على «التأصيل العقلي» للعلم خاصة، وأن علم التوحيد هو الذي يعطي التصورات ويقدم المسببات والأسباب.
33
ونستمر أيضا في التأصيل العقلي دون وقوع في أخطاء التجريد أو التشبيه.
34
ولكننا نزيد على «التأصيل العقلي» عند المتأخرين «التأصيل الواقعي» عند المعاصرين أسوة بالمصلحين المحدثين حتى يرتبط التوحيد من جديد بالعمل، والله بالأرض، والذات الإلهية بالذاتية الإنسانية، والصفات الإلهية بالقيم الإنسانية، والإرادة الإلهية بالحرية الإنسانية، والمشيئة الإلهية بحركة التاريخ، وإذا كان الدافع عند القدماء هو العلم، فقد كانوا منتصرين في الأرض فاتحين للبلدان، وارثين الإمبراطوريتين القديمتين، الفرس والروم، فإن الدافع لدينا هو العمل، فنحن مهزومون، محتلون، تتداعى علينا الأمم كما تتداعي الأكلة على قصعتها، تريد الدولتان العظميان اليوم، في الشرق والغرب، وراثتنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ليس المهم لدينا هو فهم العالم كما كان عند القدماء بل تغييره وتطويره والسيطرة عليه، لقد عبرت المقدمات التقليدية الأولى عن واقع العلم والمناقشات النظرية في عصر كان الواقع الفعلي مستورا: البلاد مفتوحة، والجنود منتصرة، والدول قائمة مستقلة، وكان الخطر يتهدد العقائد النظرية الجديدة؛ أي التوحيد، ولقد تغير الوضع الآن فأصبح الخطر على الأرض بعد أن احتلت البلاد، واستعمرت الأوطان، واثاقل الناس إلى الأرض، وقعدوا عن الجهاد في حين أن التوحيد النظري قائم، وصفات الله ظاهرة، وهو واحد حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يهدف التأصيل الواقعي إذن إلى إعادة بناء «علم أصول الدين» بحيث تتحول العقيدة إلى ثورة للدفاع عن البلاد، وإطلاق التوحيد من عقاله، وإيقاظه من سباته، وتحويله إلى فاعلية في الأرض، وحركة في التاريخ.
35
وإذا كانت المقدمات التقليدية بلا استثناء قد جعلت هدفها الدفاع عن العقيدة، فقد كان الدفاع في معظم الأحوال دفاعا عن عقائد فرقة معينة هي فرقة أهل السنة ضد أهل البدعة، ولكننا لا ندافع عن عقائد فرقة بعينها، بل نعيد تأصيل التوحيد كما ورثناه من القدماء وبعد عرضه على ظروف العصر دفاعا عن مصالح الأمة. ليس الغرض من التأصيل العقلي المصلحي هو الهجوم على «الملحدين»، والدفاع عن عقائد الدين، بل إيجاد البراهين على الصدق الداخلي للعقائد عن طريق التحليل العقلي للخبرات الشعورية الفردية والجماعية، وبيان طرق تحقيقها من أجل إثبات الصدق الخارجي لها وإمكانية تطبيقها في العالم،
36
ناپیژندل شوی مخ
فإذا كان هدف القدماء إثبات عقائد «الفرقة الناجية» ضد «الفرق الضالة»، فإن هدفنا هو الدفاع عن اجتهادات الأمة كلها، ووضع العقائد كلها على قدم المساواة ومعرفة كيف نشأت في ظروف العصر القديمة وكيف يمكن أن تحيا في ظروف العصر الجديدة، إذا كان هدف القدماء هو بيان «الفرق بين الفرق» فإن هدفنا هو «الجمع بين الفرق» في وقت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى الوحدة الوطنية، إذا كان هدف القدماء بيان «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، فإن هدفنا هو بيان «مقال المسلمين واتفاق المصلين»، إذا كان هدف القدماء عرض «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين»، فإن هدفنا هو الكشف عن عقيدة الأمة وكيفية استعمالها من كافة قواها الاجتماعية والسياسية ولصالح من يتم تأويلها وفهمها واستخدامها.
37
وإذا كان القدماء قد اتبعوا نهج الالتزام بقواعد السلف، وبما قاله السابقون، ينقلون عنهم، ويهمشون عليهم، ويشرحون عقائدهم دون تجديد أو إضافة حتى أصبح علم أصول الدين لا يقص تاريخ الأمة، ولا يعكس صورة الأحداث فإن نهجنا هو عدم التأسي بأحد، قدماء أو محدثين، «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»، وإذا كان القدماء قد آثروا الإتباع دون الإبداع فإننا نرى مأساتنا في الإتباع لا في الإبداع، وأن هناك فرقا بين الابتداع والإبداع؛ الأول خروج على النهج بلا أصول، والثاني تطوير للأصول وتجديد لها، الأول انقطاع بلا تواصل، والثاني تواصل بلا انقطاع. ليس السلف بأفضل من الخلف بالضرورة ولا الخلف أشر من السلف بالضرورة، ولكن لكل عصر اجتهاداته، ولكل جيل إبداعاته، ولكل زمن سلبياته وإيجابياته، ولكن رؤية الماضي كنموذج للإتباع ورؤية المستقبل كنموذج للإبداع كلاهما إسقاط للحاضر من الحساب، وفي ذلك إهدار للإمكانيات البشرية لجيلنا وكأن الحل يوجد خارج عصرنا إما في فردوس الماضي أو في حلم المستقبل، وكلاهما طريقان وهميان للخلاص، وذلك ضد حركة التاريخ ومساره، وتطوره على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل بفعل الأجيال، وطالما أن القدماء لهم الطول على المحدثين فإن الأمة لم تحسم بعد في حياتها معارك النهضة، ولم تحصل بعد على شروط التقدم، بل إن بعض القدماء يضع لفظ «السلف» أو «السنة» في العنوان إيثارا للسلامة، وتحقيقا للإتباع، سواء من المؤلفين أو من الناشرين، ونحن لا نعتمد إلا على البحث الحر، والإيمان بقدرات الأمة على الإبداع، وتطبيق العقل المصلحي في العقائد، فهي إيمان الجماهير والتي تعطيهم تصوراتهم للعالم ودوافعهم على السلوك، كما فضل بعض القدماء ذكر سند الرواية وكأن العقائد أحاديث تروى من شيخ إلى شيخ بالقراءة والإجازة والمناولة إلى آخر ما هو معروف من مناهج الرواية الكتابية القديمة.
38
فإذا كان القدماء قد جمعوا ما في الكتب السابقة المتفرقة وكان التأليف هو التجميع، فإننا نجتهد رأينا من واقع المسئولية، مسئولية الأصوليين الواضعين للعلم والمطورين له.
39
لذلك ارتبط «من العقيدة إلى الثورة» بالعقائد الإصلاحية فهي وحدها التي تركز على دور العقائد في تغيير حياة الناس، تصوراتهم وأساليب حياتهم من أجل تغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية وإعادة نظام التوحيد، بل لقد تأسست دول بأكملها ابتداء من إعادة بناء العقائد، وإن مظاهر الشرك في حياة الناس عديدة ليس فقط زيارة قبور الأولياء والأنبياء، والتبرك بالحجابة والتميمة وممارسة السحر، والرجم بالغيب، والوساطة والشفاعة، وهو الشرك في العبادات، بل أيضا الشرك في المعاملات ووجود مجتمع به أغنياء وفقراء، قاهرون ومقهورون، أصحاب سلطة ومتزلفون منافقون، أو أن يظن إنسان أن لإنسان آخر سلطانا عليه فيمدحه ويداهنه، أو يجبن ويخاف ويسكت على الحق حرصا على الدنيا وإيثار السلامة، ولا يكفي الشرك في العقائد النظرية ابتداء من الغزو الثقافي الحديث إثر حركة الترجمة الثانية وضرورة الرد عليها بالاعتماد على العقائد السلفية والرد على نتائج العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة؛ فذلك نسيان لهموم المسلمين العملية، وإبقاء على النظر دون العمل وإعطاء الأولوية للمستوى النظري القديم على المستوى العلمي الحديث.
40
وقد بدأنا بعلم أصول الدين كأول جزء من «التراث والتجديد»؛ لأنه هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوراتها للعالم وببواعثها على السلوك، فهو البديل لأيديولوجياتها السياسية خاصة بعد فشل جميع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث،
41
ناپیژندل شوی مخ
فعقائد الإيمان هي التي حافظت على هوية الجماهير وعلى الشخصية الوطنية للبلاد إبان نضالها ضد الاستعمار، وعبارات الإيمان هي التي تخرج على اللسان في لحظات الحسم، مثل: «الله أكبر» أو «سبحان الله» أو «لا إله إلا الله» عند المصابين أو «الله، الله» في لحظات العجب والاستحسان، أو «لك يوم يا ظالم» في لحظات الإحساس بالقهر والعجز عن الظلم. فما سماه القدماء «أرفع العلوم وأعلاها» أو «أشرف العلوم وأسماها» هو عندنا أكثر العلوم فاعلية وأثرا في تصورات الناس وسلوكهم، فالشرف ليس من الموضوع كما قال القدماء، بل من الأثر والقدرة على تحريك الناس، وتجنيد الجماهير والدخول في حركة التاريخ.
42
وإذا كان القدماء قد وضعوا عقائدهم بناء على سؤال الأمراء والسلاطين، أو بعد رؤية صالحة للولي أو للنبي، أو بعد استخارة لله، فإننا وضعنا «من العقيدة إلى الثورة» دون سؤال من أحد أو رؤية أو استخارة، بل تحقيقا لمصلحة الأمة وحرصا على وحدتها الوطنية بعد أن أصبحت شيعا وفرقا في نضالها الوطني وتغيرها الاجتماعي، خاصة بين أنصار التراث وأنصار التجديد، بين الحركة السلفية والحركة العلمانية، وهما الاتجاهان الرئيسيان في جسد الأمة، بدلا من التكفير المتبادل، والصراع على السلطة، واستبعاد كل منهما الآخر؛ فعقائدنا هي حركة الوصل بين جناحي الأمة، والتي من خلالها يستطيع التراث السلفي أن يواجه قضايا العصر الرئيسية، كما يستطيع العلماني التقدمي (الليبرالي أو الاشتراكي أو القومي) أن يحقق أهدافه ابتداء من تراث الأمة وروحها، فيأمن الأول المحافظة والرجعية، ويأمن الثاني الوقوع في التغريب والعزلة عن الناس، يأمن الأول الخروج على المجتمع سرا أو علنا ومعاداة الأهل والوطن، ويأمن الثاني الانتهاء إلى الردة والوقوع في الثورة المضادة، وهذا ما يبرهن عليه واقعنا المعاصر، سواء في موقف الحركة الإسلامية منه أو في انتكاسة الثورة العربية وردتها.
43
والغالب على أسماء مؤلفات العقائد التقليدية إما أسماء العلم والتبيين أو أسماء الجدل والإرشاد، أو أسماء تدل على القدرة الشخصية الفائقة أو التواضع الشديد أو أسماء محايدة لتأصيل الدين وشرح أصوله أو أسماء تبين العقائد الناجية طبقا لتصور أصحابها، أو بعض الأسماء التي لا تدل على مسمياتها.
44
أما اسمنا فهو: «من العقيدة إلى الثورة»؛ فالعقيدة هي التراث والثورة هي التجديد، العقيدة هي إيمان الناس وروحهم، والثورة مطلب عصرهم، والسؤال هو: كيف يتم نقل الأمة على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر؟ كيف تعود إلى التوحيد فاعليته في قلوب الناس ليعود نظاما سياسيا لمجتمعاتهم؟ كيف تصبح العقيدة باعثا ثوريا عند الجماهير وأساسا نظريا لفهمهم للعالم؟ كيف يتحول مسلمو اليوم إلى ثوار الغد بعد أن بدءوا ثوراتهم الوطنية العلمانية المحدثة والتي حققت أقل قدر ممكن من الاستقلال، وهو جلاء القوات الأجنبية، ولكن ما زالت الأرض محتلة، والثروات ضائعة، والاقتصاد تابعا، والأبنية متخلفة، والهوية مغتربة، والحريات مقهورة، والأمة مجزأة، والجماهير عاجزة؟ كيف يصبح التوحيد، وهو اسم فعل، تحريرا للوجدان البشري، وتحررا للمجتمعات البشرية وللإنسانية جمعاء؟
45
أما من حيث الألقاب التي تبارى فيها القدماء مدحا لأنفسهم أو تعظيما من الآخرين لهم، فلست الإمام، ولا القطب، ولا الشيخ، ولا القاضي، ولا الرئيس، ولا العالم العلامة، الحبر الفهامة، ولا الصاحب، ولا الحافظ، ولا المحدث، ولا المحقق، ولا العالم، ولا الأستاذ، ولا المرجع، ولا سيدنا ومولانا! كما أني لست إمام العالمين، ولا قدوة علماء المسلمين، ولا سيف الحق والدين، ولا نجم الملة والدين، ولا فخر الدين، ولا عضد الدين، ولا سيف الدين، ولا أفضل المتقدمين والمتأخرين، ولا سيف السنة، ولا لسان الأمة، ولا حجة الإسلام، ولا صدر الإسلام، ولا شيخ الإسلام، ولا لسان المتكلمين، حجة الناظرين مع فرق المبتدعين، ولا صاحب الفضيلة، ولست العبد الفقير إلى رحمة ربه، الحقير الراجي من الله غفران الوزر.
46
ناپیژندل شوی مخ
بل أنا فقيه من فقهاء المسلمين أجدد لهم دينهم وأرعى مصالح الناس. ليس لنا ألقاب، بل نحن من علماء الأمة، ورثة الأنبياء، والمحافظون على الشرع كما كان فقهاء الأمة من قبل، لا نريد مدحا ولا تعظيما كما فعل القدماء، فقد أعطي نفس اللقب لأكثر من عالم وإمام، وأعطي للإمام والعالم أكثر من لقب، وكثرت الألقاب قبل الاسم وبعده، يصحبه دعاء حتى اختلطت الوظائف بالألقاب، ويتساءل الإنسان: طالما أن في الأمة كل هؤلاء العلماء سيوف الدين، فلماذا احتلت الأرض، ونهبت الثروات، وقهرت الحريات، وتجزأت الأمة، وتخلفت الأبنية الاجتماعية، وتغربت الهوية، وسكنت الجماهير؟ ولا نريد أن نضيف إلى مئات الألقاب واحدا، إنما نحن أحد علماء الأمة وواحد من المجتهدين.
وكما يستعين القدماء بالله، فإننا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم والفعل، على النظر والعمل بالاعتماد على النصوص القديمة وتجارب العصر، ولا عصمة لأحد، والخطأ خطئي وحدي، فلا يستطيع الباحث أن يعي كل شيء، وأن يعرف كل تحليل، وأن يكون على علم تام بمطالب العصر؛ ومن ثم فهي اجتهادات ومواقف محتملة، وكل التفسيرات ممكنة إذا كان فيها تلبية لمطالب العصر. فلا توجد صحة نظرية بقدر ما هناك من فائدة عملية.
47
وإذا كانت أخطاء القدماء تتغير بالتوبة والاستغفار، فإن أخطاءنا تتغير بالتعلم والاستفادة والمراجعة والنقد، ثم العود من جديد للقيام بنفس المهمة في تأصيل جديد عقلي مصلحي لعلم أصول الدين على أساس من اجتهاد العصر، والاكتساب النظري والعملي للصواب.
48
وإذا كان القدماء يريدون ثوابا في الجنة أو إنقاذا من النار، فإننا نريد صلاح الأمة؛ تحرير أراضيها، وإعادة توزيع ثرواتها بالعدل والمساواة، وإطلاق حرياتها في القول والعمل والاعتقاد، وتوحيد شتاتها، والقضاء على تخلفها ، وإعادتها إلى هويتها من غربتها، وتجنيد جماهيرها؛ نريد تحقيق الإصلاح في الأرض، ومقاومة الفساد فيها.
49
ولا أرجو مفازة، ولا أبغي جزاء، بل سير الحضارة بعد أن توقفت، ونقلها من طور إلى طور، من الطور الثاني (من القرن السابع حتى الرابع عشر) إلى الطور الثالث (ابتداء من القرن الخامس عشر)، مفازتي في تحمل المسئولية الوطنية والواجب الحضاري، رسالة العلماء وأمانة الجماهير، لا أطلب ثوابا أخرويا ولا جزاء دنيويا، بل تأدية الرسالة؛ فالرسالة تحتوي على جزائها في باطنها بتحقيقها، وتحول الإنسان من الفردية إلى حياة الحضارة الجماعية، فيتحول الفرد إلى تاريخ، والزمان إلى خلود.
50
ونادرا ما تصدر عقائد القدماء عن تجربة شخصية أصيلة، فإذا حدثت فإنها تجربة شروح وحواشي، فالمادة «الكلامية» محفوظة ومرصوصة، يتناقلها المصنفون أبا عن جد، وابنا عن أب، وتلميذا عن شيخ، فهم مصنفون وليسوا مؤلفين، يرتبون ويبوبون مادة صماء لا باعث فيها ولا هدف لها، وأقصى ما يوجد من تجارب شعورية وراء المؤلفات هي تجارب الشرح قبل فوات العمر!
ناپیژندل شوی مخ
51
أما «التراث والتجديد»، وأولى تطبيقاته هذه «من العقيدة إلى الثورة»، فإنه يمثل تجربة العمر دون ما تجريد في العرض أو ادعاء لعلم؛ فالعلم لا يأتي إلا من تجربة، فردية واجتماعية، تكشف عن تجربة جيل بأكمله، في عصر معين، في إحدى مراحل التاريخ، وموضوعية الفكر لا تنفي حياة المفكر، بل إن حياة المفكر وتجربته هي المحل الذي تنكشف فيه موضوعية العلم وشموله، وأرجو ألا تشغلنا زحمة الحياة، والخوض في تجارب العصر، وعيش أزماته عن إعادة بناء العلوم القديمة، وتأسيسها من جديد طبقا لمقتضيات العصر.
كانت تجارب القدماء في أغلبها صوفية، وفي أقلها علمية نظرية، وبالتالي خلت من أي مضمون اجتماعي، وكيف يهتز العالم كله من مجرد تجربة ذوقية شخصية تعتلج في صدر صاحبها، ويموج بها قلبه، ويهتز لها وجدانه؟ وقد يكون الإحساس بخلاص العالم على يد الشارح؛ تعويضا عن إفلاس علمي حقيقي، أو تغطية لا شعورية عن هزائم العصر، وانهيار الحضارة، أما تجاربنا نحن فهي اجتماعية بالأصالة، تجارب ذات مضمون، وضعناها في التراث، وقرأنا التراث من خلالها فتحولت إلى فكر، وتحول التراث إلى تجربة، وتلك هي مقدمتنا لهذا الجزء الأول من «التراث والتجديد» وهو «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين القديم.
يعبر مشروع «التراث والتجديد» عن تجربة العصر من خلال جيلنا على الأقل، وهو جيل يكشف عن مسار التاريخ المعاصر في أحد مراحله الرئيسية، كما يعكس الصراع الدامي الذي حدث بين «الإخوان المسلمين» التي كانت تمثل الحركة الإسلامية المعاصرة وريثة الإصلاح الديني القديم من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب ثم إلي، وبين «الثورة المصرية» منذ «عرابي» حتى «عبد الناصر»، كان أول وعيي بالعالم الحرب «العالمية» الثانية (إذ إني من مواليد 1935م) وكانت عواطفنا ونحن صغار مع دول المحور؛ لأنها كانت ضد بريطانيا التي تستعمرنا، ولم نكن ندري وقتها ماذا تعني النازية أو العنصرية، وكان وعيي الثاني إبان حرب فلسطين 1948م عندما ذهبنا للتطوع في جمعية «الشبان المسلمين» فطلبوا تحويلنا إلى حزب آخر «مصر الفتاة»، ويومها عجبت للفرقة المذهبية في قضية وطنية، ثم دخلت «الإخوان المسلمين» في نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة المصرية في عام 1952م، طالبت أن يكون شعار الإسلام مصحفا ومدفعين وليس مصحفا وسيفين، إعلانا للتحديث وتأكيدا على المعاصرة، وكنا مع الثورة في صف «محمد نجيب» الذي دعا في جامعة القاهرة إلى الوحدة الإسلامية، ثم اشتعلنا بثورة محمد مصدق بإيران وتأميم البترول، وهرب الشاه، وكانت أول صدمة تراخى الإخوان في تأييدها، بل وتأييد الكاشاني! ثم حدثت أزمة مارس بين الإخوان والثورة، وكان مشروع المعاهدة المصرية البريطانية أقل مما كانت تطالب به الحركة الوطنية المصرية، كما انضممنا إلى الحركة الوطنية المصرية العامة التي كانت تطالب بالحريات وبالدستور، ثم اشتعلنا من جديد بالثورة المصرية بعد تأميم قناة السويس في يوليو 1956م، وظهر «عبد الناصر» ليس فقط كمناضل ضد الاستعمار، بل كرمز لحركات التحرر في العالم الثالث كله.
بدأت الأفكار الأولى لمشروع «التراث والتجديد» إذن من أتون الصراع بين «الإخوان » و«الضباط الأحرار»؛ أي بين «الإسلام» و«الثورة» أو بين «القديم» و«الجديد» أو بين «الماضي» و«الحاضر»، خلال أربع سنوات حياتي الجامعية من 1952-1956م، واكتشاف توجيه الفكر للواقع، والطاقة والحركة والتغير والجدة والحياة، حتى لقد حسبني أحد الأساتذة كانط أو برجسون، ومنه سمعت لأول مرة تكوين الشعور والإحالة المتبادلة أو القصدية، وأنه يمكن لتجارب الشعور (الدينية الصوفية عندي في ذلك الوقت) أن تتحول إلى علم.
Les methodes d’Exégèse P. V-VI . وفي فرنسا في أواخر 1956م تمت صياغة «المنهاج الإسلامي العام» الذي يتكون من صورتين: الأولى ثابتة تصور ونظام والثانية حركية طاقة وحركة مما انتهى بعد تعديلات طويلة، وتطور في وعي المنهج برسالتي الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» (بالفرنسية)، أولى محاولات التراث والتجديد التطبيقية، وبعد عودتي من فرنسا في صيف 1966م شرعت في كتابة المقدمات النظرية «أزمة الدراسات الإسلامية، التراث والتجديد، ص75-122»، ثم وقعت هزيمة يونيو 1967م، وهنا تحولت من باحث نظري «أكاديمي» إلى باحث اجتماعي، وانتقلت من «الوعي الفردي» الغالب على الرسالة الأولى إلى «الوعي الاجتماعي» من أجل التصدي للهزيمة كمفكر وباحث وعالم (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (1): في فكرنا المعاصر»، و«قضايا معاصرة (2): في الفكر الغربي المعاصر») لمدة ثلاثة أعوام، بعدها غادرت البلاد رغبة في الهدوء والنسيان، وتهدئة الخواطر مع السلطات الجامعية والسياسية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (1971-1975م) جمعت مادة «من العقيدة إلى الثورة» لأول مرة، ثم كتبت «التراث والتجديد» في 1976م كمقدمة عامة بعد أن نضجت في ذهني أزمة التغير الاجتماعي، ولكن حدثت في 1977م الردة الثانية، وانقلاب الثورة المصرية إلى ثورة مضادة مما جعلني أتحول مرة أخرى من باحث ومفكر وعالم إلى «حارس للمدينة» حرصا على الثورة، وحماية لمكتسباتها، ودفاعا عن مشروعها، وظل ذلك على مدى أربع سنوات أخرى في هذه المهام العاجلة والشهادات المستمرة على أحداث العصر (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (3): في الثقافة الوطنية»، و«قضايا معاصرة (4): في اليسار الديني»). ثم جاءت مذبحة سبتمبر 1981م، وخروج اضطراري من الجامعة مما أعطاني عاما كاملا لكتابة «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثانية، وبعد خلاص مصر من أسوأ عقد في تاريخها؛ وهو عقد السبعينيات كتبت «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثالثة في فاس بالمغرب الأقصى خلال عام 1983م بعد أن برزت الحركة السلفية في المشرق كوريث للحركة الإصلاحية الدينية وكبديل للثورات العربية وللحركة العلمانية التقدمية بوجه عام، وبعد رصيدها في تخليص مصر، وعلى هذا النحو يكون «من العقيدة إلى الثورة» قد استغرق عشرة أعوام مثل رسالتنا الأولى عن «مناهج التفسير»، وكم في العمر من عشرات الأعوام؟ لذلك أرجو أن تتوالى أجزاء «التراث والتجديد» تباعا، بعد أن شهدنا على أحداث العصر بما فيه الكفاية، الهدف الآن تنظيرها وإحكامها وتحويلها إلى علم محكم، ويكفي «اليسار الإسلامي» كمنبر عام لبيان كيفية الانتقال «من العقيدة إلى الثورة» ⋆
قد أشفعها جميعا بسيرة ذاتية وقد أترك «التراث والتجديد» يحكي قصة حياتي. ⋆
انظر أيضا باقي الظروف في: التراث والتجديد، ص216.
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
ناپیژندل شوی مخ