كل هذا جعل الحكومة الإسلامية وعلماء الدين من المسلمين أقل ميلا إلى الاضطهاد وأشد احتراما لحرية الرأي من الحكومات المسيحية ورجال الدين من المسيحيين. وقد يكون من الخير أن نلاحظ أن المسلمين لم يعرفوا اضطهادا لحرية الرأي في عصورهم الأولى، حين كانت الحكومة عربية خالصة منصرفة إلى الشئون السياسية وحدها، غير متدخلة في حياة الأفراد ولا فيما يرون. فلسنا نعرف أيام الخلفاء الراشدين اضطهادا لحرية الرأي، ولسنا نعرف شيئا من ذلك أيام بني أمية، مع أن البدع ظهرت وكثرت في هذه الأيام؛ ذلك لأن الحكومة في تلك العصور كانت عربية خالصة، والعربي حر بطبعه، ولأن الحكومة في تلك العصور كانت قريبة إلى الأصول الإسلامية الخالصة، وأصول الإسلام حرة بطبعها، فلما كان عصر بني العباس، وتسلطت على المسلمين حكومة عربية في ظاهر الأمر، أعجمية في حقيقته، ظهرت الخصومة بين العلم والدين، وظهر اضطهاد الحكومة لحرية الرأي، فكان ما كان من تتبع الزنادقة أول أيام بني العباس، على أن الزنادقة كانوا يتحدون الإسلام حقا ويحاولون الإفساد في الأرض أحيانا. ثم كان ما كان من تتبع الذين يخالفون رأي الخليفة في الدين، وفتنة الناس في آرائهم أيام المأمون، ثم كان ما كان من تسلط الترك وتسلط الجمود معهم على الحياة الدينية والعقلية. فأنت ترى معي أن الإسلام والمسيحية بريئان من اضطهاد الرأي ومناهضة العلم، وأن إثم ذلك واقع حقا على السياسة التي تدخلت بين الدين والعلم أو بين السواد والعلماء. ولما كان حظ رجال الدين المسيحي من سلطان السياسة أعظم من حظ رجال الدين الإسلامي، كان اعتداء «الإكليروس» المسيحي على الحرية أشد خطرا وأبعد أثرا.
6
ولك الآن أن تعكس الأمر، فإن الدين لم يعتد وحده على العلم، بل اعتدى العلم على الدين أيضا حين آل إليه السلطان. وقد رأيت أن المسيحية اعتدت على الوثنية وحاربتها بنفس الأسلحة التي حاربتها الوثنية بها. وقد رأيت أنا لا نرى الخصومة بين العلم والدين من حيث هما علم ودين، وإنما نراها واقعة بين القديم والجديد من حيث هما قديم وجديد. ولو أن سواد الناس عني بالمسائل اللغوية والأدبية عنايته بمسائل الدين، لكان من المجددين في اللغة والأدب صرعى وشهداء كما كان من المجددين في العلم والدين والفلسفة. ونحن نرى في أول هذا العصر الحديث حركة تدعو إلى حرية الرأي وإلى التجديد في كل شيء في العلم والأدب والفلسفة والدين. فأما المظهر الديني لهذه الحركة فالبروتستانتية، وأما المظر العلمي فحياة «جليلي» و«كوبرنيك» ومن إليهما من العلماء. وأما المظهر الفلسفي فحياة «ديكارت» و«باكون» و«ولبنينز» و«سبينوزا» ومن إليهم. وأما المظهر الأدبي والفني فكل هذه الحركة القوية الخاصة التي نلحظها في إيطاليا ثم في فرنسا ثم في إنجلترا، والتي أخرجت من أخرجت من الشعراء والكتاب والمصورين والمثالين. نرى هذا كله ولكننا لا نرى الحرب بين القديم والجديد عنيفة تنتهي إلى سفك الدماء، لا في المظهر الديني الخالص، أو في ما يكون من الخصومة بين المظهر الديني والمظهر العلمي الفلسفي.
فأنت تعلم ما سفك من الدماء بين الكاثوليك والبروتستانت، وأنت تعلم ما لقي العلماء والفلاسفة من أذى رجال الدين، وأنت تعلم أن ديكارت إنما آثر حياته في هولندا - كما يقول رينان - لأن الناس كانوا عنه في شغل بتجارتهم. وإذن فلا بد من أمرين لتكون الخصومة بين العلم والدين، أو بين الحرية والدين، عنيفة منكرة؛ أحدهما أن يعنى السواد بهذه الخصومة، والثاني أن تستغل السياسة عناية هذا السواد. ولولا أن السواد عني بالخصومة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وبالخصومة بين العلم والدين، ولولا أن السياسة اعتزت بهذا السواد لما سفك دم ولا حرق عالم ولا أوذي فيلسوف. على أن البروتستانتية قاومت حتى كان لها النصر، واستأثرت بجزء عظيم من أوروبا، وعلى أن العلم والفلسفة قاوما حتى كان لهما النصر، واستأثرا بالعقول في أوروبا أثناء القرن الثامن عشر. وليس هنا موضع البحث عن الأسباب التي أتاحت للعلم والفلسفة الاستئثار بعقول كثير من سواد الناس أثناء هذا القرن الثامن عشر. ولكن هناك حقيقة واقعة لا تقبل الشك، وهي أن العقل الأوروبي تطور في هذا العصر تطورا شديدا غريبا، فنصب الحرب لهذين الحليفين اللذين أذلاه حينا، وهما السياسة الملكية والكنيسة الكاثوليكية، نصب الحرب لهذين الحليفين، واعتز في حربه هذه بالعلم والفلسفة، وظل يجاهد حتى كانت الثورة الفرنسية. وهنا انعكست الآية، وأثم العلم والفلسفة، أو قل أثم أصحاب العلم والفلسفة كما أثم أصحاب الدين من قبل ، فاضطهد الدين اضطهادا شديدا، ولقي رجال الدين ضروبا من المحن والفتن، وكان الذين يفتنون رجال الدين ويمتحنونهم هم أولئك الذين كانوا متأثرين بفسلفة «فولتير» و«مونتسكيو» و«جان جاك روسو» و«ديدرو» وغيرهم.
وكان قوام هذه الفلسفة من الوجهة العملية والنظرية إنما هو الدعوة إلى حرية الرأي وإلى التسامح؛ فما بال هذه الفلسفة التي كانت تدعو إلى الحرية والتسامح قد استحالت عدوا للحرية والتسامح. أما الفلسفة نفسها فلم تتغير، ولم تنكر الحرية ولم تنصب لها الحرب. وإنما ذنبها وإثمها أنها ظفرت بعد الثورة الفرنسية بالمكانة السياسية الرسمية، فطغت أو طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. أمرها من ذلك كأمر المسيحية، كانت تعذب وتضطهد وتدعو أثناء ذلك إلى الحرية والتسامح، حتى إذا أصبحت دين الدولة طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. فالإثم في حقيقة الأمر ليس إثم الدين ولا إثم العلم ولا إثم الفلسفة، وإنما هو إثم هذه الدخيلة التي تتوسط بين هذين العدوين فتسلح أحدهما على الآخر وتستغل هذا لمنفعتها الخاصة.
وفي الحق أني أحاول أن أفهم كيف يستطيع الدين أو العلم أن يعتدي على الحرية العلمية أو الدينية إذا لم تمده السياسة بالذخائر والسلاح، فلا أجد إلى هذا الفهم سبيلا. تصور بلدا وقفت السياسة فيه موقف الحيدة المطلقة بين العلم والدين، فكفت أيدي الناس عن الناس، وأقرت الأمن في نصابه، وتركت للعلم حريته، وللدين حريته، فما الذي يمكن أن يقع من العنف بين العلماء ورجال الدين؟ لا شيء إلا الخصومة الكلامية، لا شيء إلا المناقشة والجدل، ومن الذي يستطيع أن يرى شرا في المناقشة أو الجدل؟
7
سنظن بعد أن نقرأ هذا كله أنا لا نرى الخصومة قوية بين العلم والدين نفسهما، وإنما نرى أن السياسة تستغلهما لمنفعتها، ولو تركتهما لتصافيا وائتلفا ... كلا! نحن لا نرى هذا الرأي، وإنما نرى ما قلناه في أول هذا البحث من أن الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها. هي أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وإنما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار ولا يعنى بالعاطفة إلا من حيث هي موضوع لدرسه وتحليله. والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين أسن من العلم، ولأنه كان في العصور القديمة كل شيء: كان دينا وكان علما، ولأن العلم جاء بعد ذلك فغير هذا القسم العلمي من الدين، وأبى الدين أن يذعن لهذا التغيير، وأبى العلم أن ينزل عما ظفر به من الثمرات. فلن يتفقا إلا إذا جحد أحدهما شخصيته كما قلت في غير هذا المكان.
والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى نفسه التغير والتجدد، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.
والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن أحدهما عظيم جليل، واسع المدى بعيد الأمد، لا حد له ولا انتهاء لموضوعه، ولأن الآخر متواضع ضئيل محدود المطامع بطيء الخطى يقدم ثم لا يكره أن يحجم، ويمضي ثم لا يكره أن يرتد، ويبني ثم لا يتحرج من الهدم، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.
ناپیژندل شوی مخ