ليست الخصومة بين العلم والدين إذن مقصورة على ما نعرف من الخصومة بين الديانات السماوية والعلم والفلسفة أثناء القرون الوسطى وفي هذا العصر الحديث، وإنما هي - كما رأيت - قديمة، قد ظهرت بين الديانة الوثنية اليونانية وبين فلسفة سقراط وتلاميذه. ومع ذلك فقد كانت الديانة الوثنية اليونانية من أيسر الديانات وأقربها إلى السذاجة وأقلها حظا من التعصب. وحسبك أن هذه الديانة اليونانية كانت تخلو خلوا تاما من مؤثرين عنيفين: أحدهما الكلام، والآخر الإكليروس. لم يكن للديانات اليونانية كلام أو لاهوت، بل لم تكن للديانات اليونانية عقائد محددة، وإنما كانت هذه الديانات عبادات وطقوسا - كما يقولون - لا أكثر ولا أقل. لم تكن للآلهة صفات معروفة معينة يكفر من ينكرها أو يشك فيها، ولم يكن لليونان علم يشبه هذا العلم الذي يتقنه اليهود والنصارى والمسلمون وهو علم اللاهوت. وكذلك لم يكن لليونان قسيسون يحتكرون هذا العلم ويقومون على حماية الدين وصيانته من عبث العابثين، أو إلحاد الملحدين، وإنما كان كل يوناني قادرا على أن يؤدي للآلهة ما يجب لهم من عبادة. وكان زعيم الأسرة قسيسها، وكان زعماء المدينة كهنتها. وإذا لم يكن للدين لاهوت يفرضه على الناس فرضا، وإذا لم يكن للدين هيئة قسيسين أو كهنة يحتكرون حمايته والقيام عليه، فخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من التعصب والجمود، وخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من مصادرة العقل ومخاصمة حرية الرأي والوقوف في سبيل التطور والرقي.
ومع هذا كله فقد اختصم هذا الدين الساذج اليسير مع الفلسفة وانتهت الخصومة بموت سقراط؛ ذلك لأن الخلاف بين العلم والدين لا يستمد قوته وعنفه من الفرق بين جوهري العلم والدين فحسب، وإنما يستمد قوته وعنفه من مصدر آخر، هو أن الدين حظ الكثرة، والعلم حظ القلة، فسواد الناس مؤمن ديان، مهما يختلف العصر والطور والمكان، والعلماء أو المفلسفون قلة دائما. فليس غريبا أن تظهر الخصومة قوية عنيفة بين هذه القلة الشاذة التي نسميها العلماء أو الفلاسفة، والتي تفكر على نحو خاص لم يألفه الناس، وليس من اليسير عليهم أن يألفوه، والتي لا تكتفي بالتفكير لنفسها، وإنما تريد أن تفكر لنفسها وللناس أيضا، والتي إذا فكرت وانتهى تفكيرها إلى رأي لم تكتف بإذاعته وترويجه، وإنما تذود عنه وتجادل، وتسرف في الذود والجدال. والتي لا تكتفي بهذا كله، وإنما تحرص على التأثر بتفكيرها وما ينتهي إليه من رأي، وتحرص على أن تلائم بين حياتها العملية وحياتها العقلية، فتمتاز من الناس من ناحيتين مختلفتين: تمتاز منهم في حياتهم اليومية، وتمتاز منهم في القول والتفكير. وأنت تعلم أن السواد أشد ما يكون كرها للتفوق، وأعظم ما يكون بغضا للامتياز؛ فهو يريد دائما أن يكون الناس سواسية في كل شيء، سواسية في القول والعمل، سواسية في الأكل والشرب والنوم والمشي، وغيرها من مظاهر الحياة. وأنت مهما تبحث عن أسباب التطور التي اضطربت لها المدن القديمة ودالت لها الدول الحديثة، فستجد في مقدمة هذه الأسباب سببا محققا هو بغض السواد للتفوق والامتياز، وطموحه إلى المساواة بين الناس. فإذا كان هذا التفوق يمس أصلا من أصول الحياة العامة، بل يمس أيسر هذه الأصول وأقربها تناولا وأشدها اتصالا بالضمائر والنفوس وتأثيرا في الحياة اليومية، نقول إذا كان التفوق يمس هذا الأصل الذي هو الدين، فخليق بالسواد أن يبغضه ويثور به، وينكل بالمتفوقين تنكيلا متى استطاع إلى ذلك سبيلا.
وكذلك كان ميل السواد في أتينا، وكذلك كان موقفه من سقراط وتلاميذه.
3
على أن تقرير هذا الأصل، وهو بغض السواد للجديد، لا ينتهي بنا إلى هذه النتيجة وحدها، وإنما يعيننا على فهم حقائق أخرى وقعت في العصور القديمة والوسطى، ولم يحاول الباحثون أن يردوها إلى أصولها الصحيحة، فالسواد لا يكره تفوق العلماء وحدهم، وإنما يكره التفوق من حيث هو. قل إن شئت إنه يكره كل جديد، وهو مضطر بحكم هذا الكره إلى أن يقاوم هذا الجديد ما استطاع، فإما أن ينتصر فلا جديد، وإما أن ينخذل فيتسلط الجديد شيئا فشيئا حتى يصبح قديما، ويستعير من خصمه الأول كل الأسلحة التي حاربه بها، ليدافع بها عن نفسه، ويناهض بها كل جديد. ومن هنا نستطيع أن نفهم أن السواد القديم اليوناني والروماني لم يحارب الفلسفة وحدها، وإنما حارب الدين أيضا. فأما اليونان فقد وقفوا موقف الخصومة من ديانات شرقية حاولت أن تنبث في بلادهم، ووفقوا بعض التوفيق في هذا الموقف، فلم تستطع الديانات الشرقية أن تنتشر في البلاد اليونانية جهرة، وإنما ارتدت عنها ارتدادا أو انتشرت فيها خلسة فكونت لنفسها جماعات سرية تؤدي واجباتها من وراء ستار.
وأما الرومان فكرهوا في أول الأمر فلسفة اليونان أشد الكره؛ لقوها بالازدراء، ثم قاوموها مقاومة سياسية، فحظروا درسها، وبلغ بهم ذلك أن زعيما من زعمائهم هو «كاتو القديم» توسل إلى مجلس الشيوخ في أن يتعجل في قضاء حاجة لبعض السفراء اليونانيين ليترك هؤلاء السفراء المدينة ويستريح منهم سواد الشعب. وكان بين هؤلاء السفراء فلاسفة انتهزوا سفارتهم فرصة لإلقاء محاضرات فلسفية في روما. ولكن الرومان لم يكرهوا الفلسفة اليونانية وحدها، وإنما كرهوا معها كل جديد أيضا، وليس أدل على ذلك من اللفظ الذي اصطلح الرومان عليه للتعبير عن الثورة وقلب النظام فهو «الشيء الجديد». فهم لا يقولون إن فلانا يريد أن يثور، أو إن فلانا ثار، وإنما يقولون: إن فلانا يريد أن يحدث شيئا جديدا. ذلك أن الرومان كانوا من أشد الشعوب القديمة في الغرب محافظة وحرصا على القديم. ومع أن دينهم لم يكن أشد من الدين اليوناني تعقيدا، ومع أنه لم يكن كالديانات السماوية يعتمد على كلام أو لاهوت، فقد كان يمتاز من الدين اليوناني امتيازا قويا من وجهين؛ الأول: أنه كان أشد من الدين اليوناني تسلطا على حياة الفرد والجماعة، فقد كان الفرد الروماني من أشد الناس طيرة واشفاقا، يخاف من كل شيء، ويرى تأثير الآلهة في كل شيء، ويحرص على أن يتملقهم ويترضاهم. وكان وجود الأسرة نفسها قائما على أصول من الدين. وكانت الجماعة الرومانية كالفرد الروماني حذرة متطيرة، وكان وجودها السياسي كوجود الأسرة قائما على أصول ثابتة من الدين. ونحن لا نعرف عند اليونان زجرا ولا عيافة ولا قيافة ، ولكننا نرى هذا كله عند الرومان، ونراه مؤثرا أشد التأثير في الحياة الخاصة والعامة جميعا. الثاني: أن هذا الفرق بين الفرد اليوناني والروماني من حيث التأثر بالدين قد استتبع نتيجته الطبيعية، وهي أن تكون عناية السياسة بالدين ملائمة لشدة ما لهذا الدين من التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، فنظمت حماية السياسة بالدين في روما تنظيما قويا، وقام في روما شيء يشبه «الإكليروس» له سلطته الدينية وله امتيازاته أيضا.
وإذ كان رئيس الدولة سواء أكان ملكا أو قنصلا، إنما يستمد سلطته من الشعب بعد استشارة الآلهة، أو قل من الآلهة بعد استشارة الشعب، فقد كان الواجب الأول على الملك أو القنصلين حماية الدين. وكذلك قامت بحماية الدين في روما جماعة «الإكليروس» وهيئة الحكومة ومجلس الشيوخ الذي كان واجبه الأول حماية ما ترك الآباء. فلا تعجب إذا رأيت الرومانيين يقاومون الجديد مهما يكن، ويشتدون في مقاومته إذا مس الدين. ولا تعجب إذا رأيت الرومان في عصورهم الأولى يبغضون أشد البغض ويناهضون أشد المناهضة هذه الديانات الأجنبية التي حاولت أن تنبث في روما بعد أن انبسط سلطان روما على الأرض.
4
كل هذا يرجع إلى أصل واحد، وهو أن الدين أقوى ما يمثل نفس السواد، فالسواد به كلف، وله محب، وعليه حريص، وعنه ذائد، يبذل في ذلك ما يستطيع من قوة وجهد. وقد قلت منذ حين إن حرص السواد على دينه لا يكلفه محاربة العلم والفلسفة وحدهما، وإنما يكلفه محاربة كل جديد من شأنه أن يمس الدين. ومن غريب الأمر أنك إذا فكرت قليلا فيما تسميه خصومة بين العلم والدين، رأيت أن بعض الديانات أو أن الديانات السماوية نفسها قد كان ينظر إليها كما ينظر إلى العلم؛ أي إن الديانات القديمة كانت تكره دين اليهود والنصارى وتحاربهما كما كانت تكره فلسفة سقراط وتحاربها، لا لشيء إلا أن ديني اليهود والنصارى كانا جديدين مخالفين لطبيعة هذه الديانات الوثنية القديمة. ولسنا في حاجة إلى أن نقف بك عند هذه الحرب المنكرة التي أثارتها وثنية الرومان على دين اليهود أولا وعلى دين النصارى ثانيا، فأنت تعرف من تفصيل هذه الحرب وعن اضطهاد الوثنية للهودية والنصرانية ما يغنينا عن مثل هذا الاستطراد، ولكننا نلاحظ أن الأسباب التي حملت الوثنية الرومانية على أن تنكر توحيد اليهود والنصارى وتنصب له الحرب وتمزق أهله تمزيقا، هي بعينها الأسباب التي حملت وثنية اليونان في آخر القرن الخامس قبل المسيح على أن تقضي على سقراط وتذيقه الموت. هي بعينها الأسباب التي تتصل بعواطف السواد وميوله الدينية من ناحية، وبالسياسة واستخدامها لهذه العواطف والميول من ناحية أخرى. ولعلك تقتنع بهذا اقتناعا لا يقبل الشك إذا فكرت في طبيعة الإمبراطورية الرومانية التي حاربت اليهودية والنصرانية قرونا متصلة.
كانت هذه الإمبراطورية الرومانية تقوم على الدين كما كانت الديمقراطية الأتينية والأرستقراطية الرومانية تقومان على الدين أيضا. وكان الإمبراطور قد جمع إليه السلطان الديني والسياسي، وأخذ الناس بعبادته في أقطار الأرض على أنه ممثل روما التي كانت تعبد إبان العصر الجمهوري، وعلى أنه خليفة الله في أرضه. وكانت الشعوب الوثنية الخاضعة للسلطان الروماني لا ترى بأسا بعبادة قيصر، كما أنها لم تكن ترى بأسا بعبادة روما. وكانت عبادة قيصر يسيرة على الشعوب الشرقية، وعلى المصريين منهم بنوع خاص، وقد ألفت هذه الشعوب منذ أول الزمان عبادة السادة الملوك. وكانت هذه العبادة عسيرة أول الأمر على اليونانيين الذين لم يألفوا من قبل عبادة الأفراد، والذين ضحكوا من الإسكندر حين تقدم إليهم أن يعبدوه. ولكن اليونان خالطوا الأمم الشرقية واتصلوا بها، وكان لهم فيها ملوك عبدوا كما عبد الفراعنة وعظماء الفرس، فهان عليهم الأمر ومضوا فيه جادين حينا ولاعبين حينا آخر كدأبهم في كل شيء. إنما هذا الشعب السامي الذي بعد عهده بالوثنية منذ حين طويل، والذي ألف التوحيد وأمعن فيه، وهو شعب إسرائيل، لم يستطيع أن يفهم عبادة روما ولا عبادة قيصر، كما أنه لم يستطع أن يفهم عبادة فرعون ولا أن يدين لآلهة بابل وآشور. ومن هنا كانت ديانة هذا الشعب السامي منكرة ثقيلة على الرومان لأنها تخالف ديانتهم الوثنية وتخالف سياستهم القائمة على هذه الديانة. وجاءت النصرانية فكانت أشد مخالفة لطبيعة الوثنية ولطبيعة السياسة القائمة عليها من اليهودية، فلم يتردد قياصرة الرومان في محاربة هذه النصرانية إلا ريثما فهموا خطرها على السياسة والدين. ولدينا أقدم نص تاريخي يتصل باضطهاد النصارى، وهو استفتاء من أحد حكام الأقاليم للإمبراطور «تراجانوس»، آخر القرن الأول للمسيح، في أمر هذه المتنصرة وما ينبغي أن يتخذ نحوها من سياسة، وقد اعتاد المؤرخون أن يثنوا على هذا الإمبراطور؛ لأن رده على مستفتيه كان رفيقا لينا، ومع ذلك فإن الإمبراطور لم يطلب إلى مستفتيه أن يقر حرية الدين، ولا أن يدع المتنصرة، وإنما طلب إليه ألا يحفل بما يرفع إليه الجواسيس، فأما معاقبة النصراني الذي تثبت نصرانيته فلم يكن منهما بد؛ لأن النصرانية كانت خروجا على السياسة وعلى دين الدولة معا.
ناپیژندل شوی مخ