إن فرنسا تستطيع أن تتعرض للأزمات المختلفة، وأن تتجشم من الأهوال ضروبا وصروفا، وأن تنزل بها المحنة بعد المحنة والبلاء بعد البلاء، وإن فرنسا لتستطيع أن تبلغ من المجد ما تريد وما لا تريد، وأن تحرز من ألوان الظفر ما تحب وما لا تحب، وإن فرنسا لتستطيع أن تنزل من قلوب الناس منزلة البغض أو منزلة الحب. تستطيع فرنسا أن تفعل هذا كله وأن تتعرض لهذا كله، ولكنها واثقة بالخلود، واثقة بإكبار الناس إياها، وتقديسهم لها ما بقي فيها الحي اللاتيني، وما قامت في هذا الحي «السربون» و«الكوليج دي فرانس».
باريس في 9 سبتمبر سنة 1924 (5) في ملاهي باريس
نعم! فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلي الذهاب إلى باريس. ولم أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا إنما يتخذ اللهو غرضا من الأغراض الأساسية في برنامج رحلته؟ وهل كان السفر نفسه إلا ضربا من اللهو، وفنا من فنون العبث، يعمد إليه المتعبون ليستريحوا، ويرغب فيه المستريحون ليتعبوا؟
وكنت متعبا، وكنت أريد أن أستريح. وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني، وبغضت إلي الحياة.
وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس علي، وأن من الحق لي على نفسي، أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها نفسي وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغض إلي الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظ عظيم. وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هين لين لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه وأنه سيزهد في، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل.
وكذلك حياتنا نتعب لنستريح ونستريح لنتعب حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.
إذن فقد لهوت في باريس، لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولم أكتمه أو أخفيه وليس فيه والحمد لله مأثم ولا مدعاة إلى لوم، وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئن إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء، ولا تعصف بها الشهوات؟
لهوت في باريس واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة. ولم لا؟ أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني تأوي إليه ثمراته ونتائج بحثه في العلوم والفنون المختلفة؟ وهل أندية اللهو الباريسي البريء إلا ملاجئ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؟ فيها تظهر ثمراتها الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان، ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانا اجتماعيا كما يقول أرسطاطاليس، أو مدنيا بالطبع كما يقول فلاسفة العرب.
لست أدري أيشعر المصريون المتعبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف، فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثل فيه من جد، بل لم أكن أميل بوجه ما إلى التراجيديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة وإلى الموسيقى من جهة أخرى.
ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يضحك ويلهي والانصراف عما يحزن ويعظم، فلم أوفق إلا إلى سبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب! ذلك أننا «مفطومون» في مصر - كما يقول الفرنسيون - من اللهو الصريح البريء، ومن الضحك الذي يريح النفس حقا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة. وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، وقد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يضيعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء ولا نثق بشيء ولا نبسم لشيء. فليس عجيبا إذا خلصنا من هذا الجو القلق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء التي حرمناها في مصر وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.
ناپیژندل شوی مخ