وإذن فالسأم يقوم شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى السخط وإلى سوء الخلق وإلى التشاؤم، وما أظن إلا أن كثيرا من هؤلاء الفلاسفة المتشائمين قد اتخذوا مذهب التشاؤم دينا لهم؛ لأنهم فكروا في أنفسهم وحللوها، ودرسوها أكثر مما ينبغي. لا أميل إلى أن يفكر الإنسان في نفسه كثيرا، فالإنسان لا يستحق هذا التفكير، وإنما أميل إلى أن يشغل الإنسان نفسه عن نفسه بالقراءة والحديث والعمل، والاستمتاع بلذات الحياة التي أباحاها الله والأخلاق. ولولا هذه اللذات التي قدمت لك وصفها في أول الكلمة، ولولا أني كنت أشغل بها نفسي عن نفسي كلما أحسست الحاجة إلى التفكير، لأصابني شيء من سوء الخلق غير قليل؛ لذلك تعبت في «أرجليس» ولم أسترح. فلم أقض يوما هادئا، ولعلي لم أقض ساعات متصلة في اطمئنان وهدوء ، وإنما كنت طوال الوقت أضطرب في الأرض، وأهيم في أنحائها متنقلا من غابة إلى غابة ومن شاطئ إلى شاطئ ومن قرية إلى قرية، أترك هذا المرج لأسعى إلى مرج آخر، وأدع هذه القرية لأزور قرية أخرى، وكذلك قضيت هذه الأسابيع لم يحس عقلي جوعا، ولم يستمتع جسمي براحة، وكان من بين القرى أو المدن التي قضيت فيها يوما وفكرت فيها كثيرا مدينة «لورد».
البوليجين في 12 اغسطس سنة 1924 (2) مدينة لورد
Lourdes
يجب أن نعدو مع الطير لندرك القطار الأول ولنبلغ «لورد» في مبتدأ النهار، وغدونا مع الطير فإذا جو بارد يلفح الوجه زمهريره، وينسيك أنك في أواخر شهر يوليو، وإذا الحاجة ماسة شديدة إلى المعطف، وإذن لا بد من إخفاء اليدين ومن ستر العنق والوجه، ولكنا أبينا أن نصطنع من ذلك شيئا عنادا لهذا الجو ولهذه الطبيعة التي تريد أن تغير الأشياء فتقر الشتاء مكان الصيف. أبينا إلا أن نحتفظ بلباس المصطافين، ومضينا في طريقنا لا نحفل بهذا الهواء البارد، ولا نحفل بهذا المطر الذي أخذ ينهمر بعد حين، والذي ما أسرع ما اخترق ثيابنا الصيفية، وبعث فينا اضطراب العصفور بلله القطر، ولكننا مضينا في عنادنا ولم نحفل بهذا الاضطراب، وأبينا إلا أن نعتبر أنفسنا في الصيف، ولم لا؟ ألم نتعود في مصر ضروبا من الصبر والمقاومة وألوانا من الجلد والاحتمال؟ ومضى القطار بنا حتى بلغنا «لورد» قبل الساعة التاسعة صباحا. فإذا مدينة كأحسن ما نعرف من المدن الفرنسية موقعا، يشرف عليها الجبل ويجري من تحتها النهر، يتردد فيها هواء خفيف ولكنه ممتلئ حياة ونشاطا لا يكاد يمسك حتى يجعلك حياة ونشاطا، فإذا أنت أقدر ما تكون على الحركة وأرغب ما تكون فيها، وإذا أنت أقدر ما تكون على التفكير وأشوق ما تكون إليه، ولم نكد نترك المحطة ونندفع في الشارع الذي ينتهي إلى المغارة حتى أحاطت بنا جموع من الرجال والنساء كلهم يعرض بضاعته، وكلهم يلح في عرضها، وكلهم يتملقك ويترضاك، وما هذه البضاعة إلا الفنادق وإلا الغرف في منازل بعض السيدات اللاتي نزلن في هذا الفصل عن بعض حجرهن وغرفهن واتخذنها تجارة ومصدرا للكسب.
يتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى سيارته الفخمة التي ستنتهي بك إن شئت إلى فندق كذا، وهو ليس غاليا ولا مسرفا في الشطط، على أن فيه كل ما تحتاج إليه من أسباب الراحة ووسائل النعيم، ويتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى عربته التي ستنتهي بك إلى فندق كذا، وهو فندق حسن الموقع تشرف منه على مناظر بديعة، وليس بينه وبين الغار إلا دقائق، أما الأجر فقليل، وتتقدم إليك هذه السيدة باشة مبتسمة تعرض عليك غرفة جميلة واسعة حسن الأثاث تشرف منها على الغار، أما الأجر فنستطيع أن نتفق عليه، وثق بأن ستكون مسرورا، ولكننا نجتهد في أن نخلص من هؤلاء الناس جميعا، فلم نأت «لورد» لنأوي إلى فندق أو خان، ولا لنمكث فيها أياما، وإنما أتيناها لنمكث فيها ساعات ثم نعود أدراجنا، فقد زرنا «لورد» وزرناها وأكثرنا من زيارتها، ولولا شيء سمعناه أمس لما فكرنا هذه السنة في أن نراها، ولكننا نتحدث فيما بيننا ونحن نشق صفوف هذه الجموع المزدحمة أمام المحطة بأن الفصل سيئ هذه السنة في «لورد»، وأن تجار هذه المدينة سيشقون بهذا الصيف. فقد كانت «لورد» دائما شديدة الغلاء، ولا سيما في شهري يوليو وأغسطس؛ حيث يزدحم عليها الحجيج من كل صوب، وحيث تضيق بالأجيال المختلفة التي تؤمها من أقطار الأرض المسيحية كلها.
نعم! الفصل سيئ في هذه السنة؛ فالحجيج قليل والفنادق بعيدة كل البعد عن أن تسترد شيئا من نفقاتها الضخمة، وهذه الحوانيت الكثيرة التي لا تكاد تحصى، والتي تكتظ بألوان البضائع المختلفة، ولا سيما هذه البضائع التي تخصص للتقوى والعبادة. هذه الحوانيت محزونة كئيبة تحس الكساد وتألم له، فالناس لا يزدحمون عليها، وهم لا يستبقون إلى الصلبان والسبح والتمائم، وإنما يمرون بهذا كله معرضين عنه زاهدين فيه، وما مصدر هذا الكساد؟ وما علة هذا الإحجام عن الحج في هذا العام؟ أما أنا فضحكت، وعللت ذلك بانتصار حزب الشمال في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. فأنت تعلم أن حزب الشمال الفرنسي ملحد مسرف في الإلحاد إلى حد أنه يتخذ الإلحاد دينا، وإذ قد انتصر هذا الحزب، وانتصر بالطرق الديمقراطية الصحيحة؛ أي برضا الفرنسيين وإرادتهم، فلا بد من أن يكون هناك اتصال بين انتصار الإلحاد وكساد التجارة في «لورد» وإحجام الناس عن الحج إليها، وأما زوجي فضحكت وسخرت مني ومن حزب الشمال ومن أحزاب اليمين أيضا، وأخذت تلتمس العلة لهذا الكساد، وإحجام الناس عن الحج إلى «لورد» في ظروف الحياة الاقتصادية التي ارتفعت لها حاجات الناس ارتفاعا شديدا. ألم ترتفع أجور السكك الحديدية ارتفاعا فاحشا أحجم له الناس لا عن الحج إلى «لورد» وحدها، بل عن الحج إلى هذه المواقع الطبيعية البديعة في الجبل وعلى سواحل البحر. فالفصل ليس سيئا في «لورد» وحدها، وإنما هو سيئ في هذا الإقليم كله، وما أحسب إلا أنه سيئ في جميع مواضع الراحة في فرنسا. ومن هم الذين يحجون إلى «لورد»؟ ألم تكن كثرتهم المطلقة من الفقراء، والذين يشبهون الفقراء، والذين يحتاجون إلى الحساب والتدقيق في الحساب ليعيشوا فضلا عن أن يستمتعوا بشيء من اللهو والراحة، أو أن يبيحوا لأنفسهم سياحة من السياحات؟
الظروف الاقتصادية إذن هي التي صرفت الناس عن «لورد» لا الظروف الدينية ولا الظروف السياسية، ومهما يكن من شيء فقد زرنا «لورد» ومضينا في شوراعها، وانتهينا إلى الغار وإلى الينبوع، فإذا حولهما جماعات من الناس لا تذكر بالقياس إلى تلك الجماعات التي كنا نراها من قبل، ولكنها مع ذلك كثيرة، ولكنها مع ذلك بائسة، ولكنها مع ذلك تملأ القلوب حزنا وحسرة، ولكنها مع ذلك تدعو العقل إلى التفكير، وتبعث الإنسان إذا كان جافيا غليظ الطبع على أن يسخر من الإنسان، وتبعثه إن كان رقيقا حساسا على أن يعطف على الإنسان. انظر إلى هؤلاء الناس الذين انبثوا حول الغار والينبوع حاسرين يصلون ويضرعون ويتوسلون، ويتمسحون بالأحجار، ويغمسون أيديهم في الماء ويشربون منه، وفيهم المكفوف وفيهم المقعد وفيهم من أصابته ضروب الشلل وفيهم من ألح عليهم الجذام وفيهم من أنهكتهم العلل المتباينة، وفيهم الأصحاء أقبلوا يتضرعون لأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، كل هؤلاء منبثون حول الغار والينبوع لا يضحكون ولا يلهون، ولا يحفلون بجمال الطبيعة، ولا يستمتعون بروعة المنظر، ولا يكترثون لهذا الجو الذي قد يبرد حتى يبعث الرعدة وقد يسخن حتى يتصبب له العرق، وهم منصرفون عن هذا كله إلى صلاتهم يبتهلون إلى العذراء التي ظهرت في هذا المكان سنة 1858 للفتاة «برنديت» وأوحت إليها أن تأمر الناس بإقامة كنيسة لها في هذا المكان، وأثبتت ظهورها بإخراج هذا الينبوع الذي تفجر عنه الصخر أمام هذه الفتاة الراعية فرآه الناس وآمنوا له، وصدقوا الفتاة، وتحولت له هذه القرية التي كانت خاملة إلى مدينة ضخمة فيها من أسباب الترف وألوان النعيم ما لم تبلغه مدن كثيرة قديمة العهد بالنمو في هذا الإقليم.
يبتهل هؤلاء الناس إلى هذه العذراء أن تشفي مرضاهم، وينتظرون الساعة المعينة التي يقوم فيها رجال الدين بحركاتهم اليومية فيغمسون المرضى في الماء المقدس، ماء الينبوع، ويصلون ويبتهلون وينتظرون المعجزة، فتواتيهم حينا وتخلفهم حينا، ومن سوء حظ «لورد» ورجال الدين في هذا العام أن العذراء لم تحدث معجزة منذ ابتدأ الفصل، وهم يبتهلون ويتضرعون ويلحون في الابتهال والتضرع، ويغمسون المرضى في الماء ويخرجونهم منه، ثم يردونهم إليه ويخرجونهم منه، والأساقفة يترددون على المدينة ويشرفون على هذه الحفلات والصلوات، ولكن العذراء عنهم معرضة لا تسمع لهم ولا تلتفت إليهم، وكانت قد عودتهم أن تحدث لهم في كل عام معجزة أو معجزات، فما لها هذا العام قد تركت مدينتها وأعرضت عن عبادها؟ أما أنا فضحكت هذه المرة كما ضحكت في المرة الأولى، وقلت إن العذراء مغضبة؛ لأن حزب الشمال قد انتصر في الانتخاب، ولو قد انتصر حزب اليمين لما تصرم يوم من أيام هذا الفصل دون أن تحدث العذراء معجزة تضطرب لها أرجاء الأرض، ولو قد انتصر حزب الوسط الذي ليس هو بالمؤمن ولا بالملحد، ولكنه على كل حال قد استأنف العلاقات السياسية مع «البابا » لما رضيت العذراء أن يتصرم الفصل أو جزء عظيم منه دون أن تحدث معجزة أو معجزات، ولكن زوجي زجرتني زجرا شديدا وهي تقول: ما يصلح هذا الوضع لمثل هذا الهذيان، فأرجئه إلى حيث تخلو إلى نفسك فلا تؤذ به أحدا ... فسكت، ولكني لم أحدثك إلى الآن عن السبب الذي من أجله فكرت في أن أزور «لورد» هذا العام، وهو سبب لا يحتاج إلى أن يكون موضوعا للحديث، ولكنه مع ذلك كلفني هذه السياحة القصيرة، وأزعجني عن مضجعي ولما تشرق الشمس. ذلك أني سمعت القسيس يخطب الناس في «أرجليس» ويقرأ عليهم منشورا أصدره «البابا» رفع به «برنديت» - هذه الفتاة الراعية التي ظهرت لها العذراء في «لورد» - إلى منزلة السعداء، التي ليس فوقها إلا منزلة واحدة فيما أظن هي منزلة القديسين.
قرأ القسيس هذا المنشور، ثم انتقل منه إلى حياة «برنديت» فذكرها مفصلة، حتى إذا بلغ ظهور العذراء لهذه الفتاة الراعية أخذ يلح في إثبات ذلك بالأدلة المختلفة، ثم أخذ يسرد المعجزات أو طائفة من المعجزات التي أحدثتها العذراء في «لورد»، فإن هذه المعجزات لا يمكن أن تحصى، وأخذ يذكر لنا معجزات قائمة بين أيدينا لا سبيل إلى جحودها، فهذه السيدة التي تتردد في الكنيسة لتجلس الناس وتتقاضى منهم أجور الكراسي وتتقاضى منهم الصدقات، هذه السيدة التي ترونها جميعا في حركاتها ونشاطها وخفتها، هذه السيدة انظروا إليها تسعى بينكم. ليس بينها وبين أشدكم قوة فرق. انظروا إليها، لقد كانت مقعدة فأطلقت العذراء ساقيها في «لورد»، وأنتم أهل هذه المدينة تعرفون فلانة وتعرفون علتها التي أعيت الأطباء أعواما، لقد شفتها العذراء في العام الماضي، وما أظن أن منكم من يجرؤ على إنكار هذه الواقعة ...
وفي الحق أن أهل المدينة لا ينكرون هذه الواقعة ولا الواقعة التي سبقتها، ولكن في الحق أيضا أني رأيت امرأتين؛ إحداهما بدالة تبيع ألوان البقل وضروبا من المتاع وهي عرجاء أصابها ألم في القدم منذ سنين، وعجز الأطباء عن شفائه، ولم تغن فيه المياه المعدنية المختلفة شيئا، وهذه المرأة تتردد كل عام إلى «لورد» فتشرب من ينبوعها، وتستحم في أحواضها كما كانت تتردد إلى المدن والقرى التي تمتاز بمياهها المعدنية الحارة والباردة، وتصلي إلى العذراء وتبتهل دون أن تحدث العذراء فيها معجزة، وهي غير يائسة ولا قانطة، بل هي تعتزم السفر إلى لورد بعد أيام. والأخرى امرأة عرجاء أيضا، ولدت معوجة الساقين فهي لا تمشي وإنما تحجل، وتجد في ذلك مشقة شديدة. رأيتها في بعض الرياضات؛ لأنها مكلفة أن تحرس ممر القطار في طريق مسلوكة، وكنا قد أخطأنا الطريق إلى المدينة فما زالت معنا حتى اهتدينا، وقد قطعت بنا طرقا مجهولة شاقة، فتحدثنا إليها أكثر من نصف ساعة، وعرفنا علتها، وعرفنا أنها ألحت على العذراء، وشربت كثيرا من ينبوع «لورد»، وانغمست كثيرا في أحواض «لورد»، ولكن العذراء لم تلتفت إليها، فيئست من العذراء، وجحدت «لورد» وسخرت منها، ورضيت علتها واطمانت إليها. رأيت هاتين المرأتين ولكنهما - فيما يظهر - لا تصلحان حجة على أنصار «لورد»؛ فالعذراء ليست مكلفة أن تشفي كل مريض، وإنما هي تشفي من تريد أن تشفي. ومن يدري؟ لعلها تشفي المرأتين في يوم من الأيام. سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت، فاشتقت إلى زيارة «لورد» وطمعت في أن تظهر معجزة يوم زيارتي، ولست أمزح ولا ألهو فإن المعجزات قد ظهرت في «لورد»، وما أظن إلا أنها ستظهر أيضا، غير أن العلماء يعللون هذه المعجزات تعليلا ويعللها القسيسون تعليلا آخر، وأنت حر في أن تصدق العلماء أو في أن تصدق القسيسين. أما أنا فقد طمعت في أن أرى المعجزة، ولكني لم أر شيئا. ثم طمعت في أن أسمع بالمعجزة أثناء إقامتي في «أرجليس»، على مسافة قصيرة من «لورد»، ولكني لم أسمع شيئا. ثم سافرت من «أرجليس» وإني لفي القطار إلى حيث أقيم الآن، وإذا سيدتان تتحدثان ... ماذا أسمع؟ أصغيت ثم استعادت السيدتين حديثهما.
ناپیژندل شوی مخ