نعم، نحن أغنياء أجواد إذا احتجنا إلى متاع الدنيا، فأما إذا احتجنا إلى غذاء العقل والقلب ففقرنا لا يعدله فقر. هناك علوم مزهرة في أوروبا وأمريكا ونحن لا نسمع بها في مصر؛ إما لأننا لا نحاول أن نسمع بها، وإما لأننا نضع أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمع بها، فنحتاج إلى أن ننفق المال في جلبها إلى بلادنا، ولكني واثق بأن لونا من ألوان البدع في الحلي أو الملابس أو السيارات أو الأزرار لا يكاد يظهر في باريس أو في نيويورك حتى نسمع به، ونرغب فيه، ونتهالك عليه، والنتيجة أننا في حياتنا الظاهرة كأرقى الشعوب مدنية وحضارة، وربما كنا أفخر لباسا وزينة من أغنياء باريس ونيويورك ولندرة، فإذا رآنا الأوروبي خيل إليه أننا ناس مثله نلبس كما يلبس بل خيرا مما يلبس، ونزدان كما يزدان بل خيرا مما يزدان، يحسبنا مثله إذا رآنا، ولكنه لا يكاد يمتحننا ويخبرنا حتى يشعر بأن وراء هذه الزينة وهذه المظاهر الفناء أو شيئا يشبه الفناء، وماذا تريد من قوم يجلبون من أوروبا كل ما ييسر عليهم الحياة المادية، ويمكنهم من الاستمتاع بلذاتها المادية، فإذا ذكر العلم والأدب والفن هزوا الرءوس والأكتاف، بل هم يفعلون شرا من هذا، فالعلم في بلادهم ولكنهم يعمون أو يتعامون عنه، لا يرونه ولا يشعرون به، ويحسه الأوروبيون والأمريكيون على بعد الشقة فيسعون إليه ويحملونه إلى بلادهم، حتى إذا نبه منا نابه فأحس كما يحس الناس، واشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس، وأراد أن يكون مصريا يعرف مصر كما يعرف الفرنسي فرنسا، اضطر إلى أن يبحث عن مصر في باريس أو لندرة أو برلين، يا للخزي! بل قد يحتاج إلى أن يبحث عن مصر في أثينا!
لقد قلنا هذه الأشياء، وقلناها وسنقولها ونقولها، فلم يحفل بنا أحد، ولن يحفل بنا أحد، اللهم إلا جماعة الراغبين اليائسين وهم قليلون، فأما القادرون على أن ينفعوا، فأما القادرون على أن يفيدوا بلادهم، فهم عن النفع والفائدة في شغل، وما أنت والعلم تحدثهم به وتثقل عليهم فيه، وهم أرغب في هذا المتاع الباطل الذي يبهر العين ويخلب النظر ويحمل فلانا على أن يقول: لقد رأيت سيارة فلان فأعجبتني ولأشترين مثلها! رأيت عالما مصريا أو أديبا مصريا أو فنيا مصريا يروقنا أن يكون لدينا مثله، فذلك شيء لا يخطر لأغنيائنا على بال، ولقد أكتب هذه الكلمة وأنا أثق الثقة كلها بأن كثيرا من أغنيائنا سيقرءونها، وينالون كاتبها بالسخط والنعي؛ لأنه يحدثهم بما لا خير فيه.
لدينا جامعة أنشئت منذ خمس عشرة سنة، ولولا لطف الله بها لماتت، على أنها ليست بعيدة من الموت، ولقد أظهر أغنياؤنا ميلا شديدا إلى تأييد هذه الجامعة وإعانتها؛ لأن ذلك كان بدعا يومئذ وكان فيه فخر للباذلين. فلما انقضى البدع هبطت الرغبة، وفتر الميل، وحبس الذين بذلوا المال أموالهم فلم يعطوا، ولم يفوا بما وعدوا أن يعطوا. لا تذكر الحرب فإن الحرب لم تسئ إلى مصر، ولم تنزل الفقر بأهلها، ولقد أساءت الحرب إلى فرنسا فزعزعت ثروتها وخربت جزءا عظيما منها، بل زعزعت نظامها الاجتماعي فلم يزدها ذلك إلا حبا للعلم وتشجيعا للعلم وإعانة للعلماء، ولم يضع عليها من ذلك شيء؛ فقد أتاح لها العلم أن تنتصر، أما أغنياؤنا فقد ضاعف الله عليهم ثروتهم أضعافا مضاعفة، فلم يزدهم ذلك إلا ضنا وحبسا للمال عن وجوه الخير، وتهالكا على اللذات المادية، والحكومة والأفراد في ذلك سواء، فلست أنسى الوزارة النسيمية الأولى وما أنفقت من المال لإصلاح سيارات الحكومة، فقد كان ذلك يكاد يبلغ نصف المليون من الجنيهات، أما الجامعة، فكانت الحكومة تعينها بألفي جنيه قبل أن تبلغ ميزانيتها عشرين مليونا، فبلغت هذه الميزانية أربعين مليونا، ولم تزد إعانة الجامعة، وإنما أنذرت الجامعة مرات بقطع هذه الإعانة ! وكانت وزارة الأوقاف تمنحها معونة قدرها خمسة آلاف جنيه أيام النظام القديم، فلما أقبل النظام الجديد نقصت هذه الإعانة حتى بلغت 1800 جنيه! ولست أدري أفتقرت وزراة الأوقاف، ولعل افتقارها كافتقار الحكومة المصرية؟ ثم نحن نطلب الاستقلال، نزعم أن ليس بيننا وبين أهل أوروبا فرق، وأن من حقنا أن نستمتع بنظام الحياة الذي يستمتعون به، وقد يكون هذا حقا، ولكن يجب أن نعترف بأن أهل أوروبا وأمريكا لم يصلوا إلى حياتهم الراقية الحرة بالتهالك على السيارات والحلي وملابس الحرير وما يشبهها، وإنما وصلوا إليها بالتهالك على العلم والرغبة فيه، يجب أن نحمد الله على أن الدستور قد صدر، فلئن يئسنا من الحكومة ومن الأفراد فلن نيأس من الأمة ممثلة في البرلمان، ويقيننا أن هذا البرلمان لن يغفر في المستقبل لوزارة المعارف مثل هذه الأغلاط المنكرة، لن يغفر لوزارة المعارف ما وصلت إليه حال التعليم في مصر من ضعف وفساد، ولن يغفر لوزارة المعارف أن تظل مصر من الجهل والضعف بحيث توجد علوم لا تسمع بها مصر ولا يأخذ المصريون منها بنصيب.
باريس في 11 مايو سنة 1923
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
1
مؤتمر العلوم التاريخية
كنا ألفا أو نزيد على الألف، كلنا يعنى بالتاريخ أو بعلم أو فن من هذه العلوم والفنون التي يحتاج إليها التاريخ، وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا، وأدياننا، ولغاتنا، ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلا شيء واحد، هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفن يتصل بالتاريخ.
كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا مختلفين مؤتلفين، مفترقين متفقين، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا المؤتمر، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا الأسبوع الذي قضيته في بلجيكا، ولكني لا أدري كيف أحدثك؛ لأني لا أدري كيف أبدأ الحديث.
في نفسي أشياء كثيرة، كثيرة جدا، أريد أن أتحدث بها إليك، ولكني أشعر بشيء من الاضطراب في تنظيم هذه الأشياء الكثيرة وترتيبها، وتقديم بعضها على بعض، كل هذه الأشياء خليقة أن تقال، وكل هذه الأشياء جليلة الخطر، فلأتحدث إليك كما تلهمني المصادفة على غير نظام، وفي غير ترتيب.
ناپیژندل شوی مخ