بين يدي ترجمة الإمام شعبة بن الحجاج
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
ثم أما بعد.
فلا زلنا بحمد الله ﷿ سعداء بصحبة العلماء الأعلام والأئمة الكرام، وهذه الحلقة من حلقات هذه السلسلة المباركة سلسلة التراجم التربوية (من أعلام السلف)، وشيخنا فيها إمام من أئمة الحديث من التابعين، ومن العلماء العاملين، إمام الحديث في أوانه، والمقدّم على سائر أقرانه، كان حماد بن زيد -وناهيك به شرفًا وفضلًا- شيخ ابن المبارك إذا حدّث عنه قال: حدّثنا الضخم عن الضخام شعبة الخير أبو بسطام، إنه شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام.
وقال بعضهم: وهل العلماء إلا شعبة من شعبة.
اشتهر بالزهد والعفاف والورع والكفاف، كان محبًا للمساكين معظمًا لأهل الدين، مع أنه كان فقيرًا من الفقراء، قوموا ثيابه وحماره وسرجه ولجامه ببضعة عشر درهمًا، كان إذا حك جلده تناثر منه التراب، ولكنه كان شديد الغيرة على حديث النبي ﷺ.
قال حماد بن زيد: رأيت شعبة قد لبب أبان بن أبي عياش يقول: أستعدي عليك إلى السلطان؛ فإنك تكذب على رسول الله ﷺ.
قال: فبصر بي.
فقال: يا أبا إسماعيل قال: فأتيته فما زلت أطلب إليه حتى خلّصته.
وكان شديد التحري، قال: لو حدثتكم عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثة.
وقالوا له مرة: حدثنا ولا تحدثنا إلا عن ثقة، فقال: قوموا.
فكأنه لم يجد شرطهم.
روى عنه مالك نجم السنن بواسطة، مع أن مالكًا لا يفعل ذلك إلا نادرًا، والإمام مالك من كبار أئمة أتباع التابعين، وشعبة من صغار التابعين، فالفترة قريبة بين مالك وشعبة، فإذا حدث عنه بواسطة فهذا يدل على حرص الإمام مالك على الرواية عن هذا الإمام.
قال العلماء: لولا شعبة لذهب حديث أهل العراق، ولما مات شعبة قال سفيان: مات الحديث.
قال الذهبي: كان أبو بسطام إمامًا ثبتًا حجة ناقدًا جهبذًا صالحًا زاهدًا قانعًا بالقوت، رأسًا في العلم والعمل منقطع النظير، وهو أول من جرّح وعدّل.
أخذ عنه هذا الشأن: يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وطائفة، وكان سفيان الثوري يخضع له ويجله ويقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث.
فلا يليق بطلاب العلم الشرعي أن يجهلوا مثل هذه القمم الشامخة، والأمثلة النادرة التي قل أن يسمع الزمان بمثلها.
لقد لمع نجمه في سماء كثرت فيها النجوم، واشتهر اسمه في أزمنة هي أزمنة العلم والخير والبركة، والعلماء العاملين، في زمن سفيان ومالك والأوزاعي والليث بن سعد وحماد بن زيد وغيرهم، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد:٢١].
وهذه فائدة جديدة من فوائد هذه السلسلة المباركة، وهي تبصير أجيال الصحوة بمن لم يشتهر عند العوام من العلماء الكرام والأئمة الأعلام؛ حتى يتقربوا إلى الله ﷿ بحبهم والنسج على منوالهم، نسأل الله ﷿ أن يرزقنا وإياهم جنة عالية قطوفها دانية!
9 / 2