بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله الذي فتح من قلوب مريديه مغالق أقفالها، وحدا بها إلى حضرات قدسه من علائقها وأغلالها وجمع في الملأ الأعلى بين أرواحها وأرواح أشكالها وقدس عزائمها عن الشوائب القادحة وزكى بالقبول جميع أعمالها وخلع عليها هنالك من خلع الأسماء العلية والصفات المقدسة الجلالية حللا بهية فهم يرفلون في أذيالها أولئك قوم اختصهم الله برحمته وسقاهم بكأس محبته من أنهار الاجتباء وعيون الاصطناع رائق الأشربة وعذب زلالها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد بالوحدانية لنفسه وأولوا العلم من خلقه.
ونشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أرسله لهذه الأمة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله صلاة تكون لصاحبها يوم العرض والنشور برهانا ونورا.
وبعد: فإن الموجب لتعليق هذه الكلمات: هو ما أودع الله تعالى في قلبي
مخ ۳۷
من المودة والرحمة والشفقة لإخوان التجريد - أهل التخلي والانفراد لطلب التوحيد - ، الذين قطعوا العلائق ؛ وانفردوا عن الخلائق ؛ وطلبوا الحقائق : بالجهد الجهيد.
هجروا الأوطان؛ وفارقوا الإخوان ، تجرعوا مرارات الفاقات ؛ وكابدوا مضض التقطع في طلب الله سبحانه بالمجاهدات والرياضات، واستبدلوا من العز ذلا ، ومن الغنى فقرا، درسوا أنسابهم في الله وطمسوا فيه أحسابهم، وفارقوا في حبه أترابهم بقلوب لها بنار الوجد زفير، وأكباد بها لفحات الشوق كحر الهجير، تحركهم هبوب الرياح في الأصائل، ينبعثون إذا أظلم عليهم الدياجي بالأحزان والبلابل، يقول قائلهم: أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا قضيت من فرط حبك أوطاري وقال: قوم همومهم بالله قد علقت فما لهم همة تسمو إلى أحد
مخ ۳۸
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم يا حسن مطلبهم للواحد الصمد ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف من المطاعم واللذات والولد بلبلت قلوبهم بلابل الأحزان، وطرقها طارق الفقد والأشجان: أن هبت من الغور نسمة تمر على أسرارهم من شدي الحب، لسان حالهم فيما يجدون، وعبادتهم عما يستجن في سرهم المكنون: إذا غبت عن عيني تملا بك الفكر وإن لم يزرني الطيف طاف بك السر وكلي لسان عن هواك مخبر وكلي قلب أنت في طيه نشر برقت على قلوبهم بوارق المطلوب، وتدلت عليها لوامع من سر الغيوب، فأصبحوا بها هائمين، وفي ابتداء الطلب تائهين.
والله لو حلف العشاق أنهم سكرى من الوجد يوم البت ما حنثوا، ومن العجب العجيب أن أحدا منهم لا يدري ما به وما السبب لهيمانه ? وما الوجه الذي إذا أمه وتوجه إليه ظفر بمرامه ?
مخ ۳۹
فمنهم من تقطعه السياحات، وتتزل به في أسفاره نوازل الفاقات، ومنهم من يعانق الجوع والضر والزهد والتقشف والفقر، غرباء بين الخلق، يظن الناس أن بهم جنونا وليسوا بمجانين، غير أن الطلب استولى على عقولهم فهيمها وبلبل أسرارها وأزعجها، وهم مع ذلك يشتاقون إلى لقاء دليل ناصح يدلهم على نهج السبيل، عساهم يظفرون بما عليه يهيمون، وإياه يؤملون.
فمن أراد الله به خيرا ألقاه على دليل ناصح، متبع لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم على المنهج الواضح، يعرف أمراضهم وعللهم وترحهم ومضضهم، فيحضنهم كما تحضن الطير ولدها، ويرضعهم من لبان المعرفة ما يبرد به من قلوبهم لهبها، ويسد بأقوات المعارف فاقاتهم، ويروي بمياه الوصول ظمأ أكبادهم، فهم جياع بغير المعرفة لا يشبعون، عطاش بغير مياه الوصول لا يروون، أذلاء بغير مقاعد الصدق لا يعتزون، مفاليس بغير كنوز التقريب لا يستغنون، هذا شأنهم وهم الغرباء، وطوبى للغرباء.
مخ ۴۰
ومن أراد الله امتحانه منهم حجبه عن الدليل وطول عليه الطريق حكمة بالغة منه في حقه، يمحص بذلك أدناسهم، ويمحو به بقاياهم وأدرانهم.
وفي هذه الأزمنة في رأس السبعمائة من الهجرة النبوية: والزمان الذي عز فيه الأدلاء الناصحون؛ وكثرت فيه الأكاذيب والمدعون، واستعلن مذهب الوحدة والاتحاد، بدعواهم أنهم سبل الهدى والرشاد، والصادقون يلتزمون الخلوة والأذكار؛ والتقلل والانتظار.
فمنهم من ينتهي في سلوكه إلى مجرد فنائه في الذكر؛ وهمود خواطره في السر، بلا فرقان يلوح ببينة يتبعها شاهد من شواهد الفتوح.
فتراه جامد الظاهر، غايته فناء الخواطر، وربما فرحت نفسه بواقعة وجدها؛ أو رؤيا صالحة قنع بها وضبطها.
وفي الناقدين من أهل زماننا من يرد عليه حال يصطلمه ، تعجز عبارته عن تميزه، وتكل بصيرته عن تحديده وتقديره، لا يعرف العبادة ولا المعبود، إلا أنه مستغرق في مجمل الشهود، ولا شعور له بالصفات التي على صاحبها بالمعرفة الصحيحة تعود.
مخ ۴۱
فتراه أجنبيا عن السنة والقرآن، فهو عنهما معرض حيران، يتغير ذوقه عند القراءة، ويهرب من مجالس الحديث والإفادة، كأنه في طريق مغايرة لطريق الدين، كأنه ليس من جملة المسلمين.
وصاحب الذوق الصحيح إذا سمع القرآن طرب إليه، واتصل القرآن بذوقه اتصال الصفة بالموصوف، والكلام بالمتكلم المعروف، ولذلك إذا سمع الحديث يجيب قلبه لدواعي : (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
ويظهر بهذا أن الأذواق المجملة غير المفصلة - وهو التأله البسيط - : يشترك فيه متعبدو أهل جميع الملل من اليهود والنصارى والصابئين، إذ القدر المشترك بينهم مطلق التأله، وهذا حال لا يغني شيئا، حتى يتفصل على التفاصيل الإسلامية، فيعرف الله نعالى من التفاصيل التي تعرف إلينا بها من نعوته التامات؛ وصفاته الكاملات.
وفيهم من يجعل القرآن والسنة علما ظاهرا، والسلوك إلى الله تعالى من أحوال السرائر.
ومنهم من يسكره لائحة من التوحيد؛ فيغرق في بحر القدر والتفريد، فيغيب بفعل الخالق عن فعل المخلوق، ويسكر بعلم كلمات
مخ ۴۲
التكوين عن علم كلمات التكليف، فيبقى غائبا عن الأوامر والنواهي، يتطلع إلى صرف القدر المحض من جميع النواحي، وأنى تروي هذه الأشياء غليلا? ! أو تشفي بالمحبة الصادقة عليلا? !
فالصادق في ابتدائه في أوان غلبات وجده كالعطشان، كلما رأى سرابا مال إليه، وحام نحوه وعليه.
فإن وقع في كفة هؤلاء الأقسام المذكورين طالب صحيح الطلب - بحيث يلقوه في لفيفهم؛ ويحشروه في مضيفهم - ؛ وكان غرا جاهلا بمتاهات الطريق قد يسلك معهم برهة من الزمان حتى يصل إلى غاية أمدهم؛ أو منتهى حدهم ومددهم: فيظهر حينئذ أنه ليس على تحقيق وأنه تائه عن الطريق، فيتعب بهم دهرا طويلا؛ ويشقى بسببهم شقاء بعيدا، خصوصا إذا أذابوا مهجته بالرياضات، وطرحوه في مشابك التجوع والفاقات، فتضعف بذلك قواه البدنية، وتتغير لطيفته الذهنية فتروح حدته ونشاطه معهم ، ويضيع عنفوان شبيبته في طريق انحرافهم، حتى يصل إلى غاياتهم ؛ فيرى ما هم فيه سرابا (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءو لم يجده شيئا).
وقليل من السالكين يقف على عورهم، بل الغالب منهم ينقطعون معهم حيث انقطعوا، ويقفون في متاهاتهم متحيرين حيث وقفوا، ولا يقف على عورهم عند انتهاء سلوكه معهم إلا الصادقون؛ لأن الصادق لاحت له لوائح صادقة ؛ ولوامع صحيحة رائقة.
مخ ۴۳
والبارقة وإن كانت شعلة من وقود؛ وقبسا لطيفا من الأمر الكلي الموجود: فإنها دالة على ما وراءها من الكمالات، وهي أنموذج صغير من ذلك الأمر الكبير.
فإذا أداه السلوك السقيم؛ والطريق الذي هو ليس بمستقيم: إلى غايته ومنتهى أمده ؛ عرف بما عنده من البوارق الصحيحة أنه على غير طريق، وأن بلوغه ليس ببلوغ أهل التحقيق ثم غالب المصنفين لكتب الرقائق: تجدهم يصفون الطريق من الابتداء إلى الانتهاء؛ ومن التوبة إلى الفناء والبقاء، ولا يبينون الأمر الذي به يتم السير والسلوك، ولا ينبهون على الأمر - الذي تتدرج هذه المقامات فيه تدريجا - تنبيها تمتحي معه الشكوك.
ففيهم من أشار إلى مجرد الذكر البسيط أو المركب مع الخلوة والتقلل، وذلك يعطي حالا مجملا لا تمييز شرعي فيه، فيبقى بينه وبين ذائقي أهل الملل قدرا مشتركا، غير أنه يصدق بصاحب الشريعة وهم به مكذبون، والقدر الجامع بينهم مطلق التأله كما ذكر أولا.
ومنهم من أشار إلى العبادة والتلاوة بالتدبر، وإنما ينفذ في التلاوة حقيقة النفوذ الموصل إلى المطلوب : من عرف المقدمات - التي هي بمثابة الأساس للبنيان - من معرفة الأيام النبوية ؛ والسير الصحابية، وكيف كان ابتداء الإسلام وطلوع شمسه وبزوغ قمره? وكيف أينع غصن الإيمان وأينق؛ وسطع نوره وأشرق ?
مخ ۴۴
فمن عرف ذلك وتحقق بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسمل وعرف دلائل نبوته وقام برهان ذلك في سره حتى صار علمه بذلك ضروريا؛ ثم عرف نبوة الأنبياء من قبله بوقوفه على قصصهم المطابقة لما نطق به الكتاب العزيز والسنة المأثورة وذاق طعم الإيمان بصدقهم؛ ثم وجد في ذوقه ووجده أن الذي جاء به هذا النبي الخاتم للنبوة وما جاءت به الرسل والأنبياء من قبله هو من عين واحدة ونورهم جميعا من مشكاة الربوبية - فدينهم واحد وشرائعهم مختلفة؛ والرب الذي يدعون إليه إله واحد-؛ ثم وجد نفس الرحمن وذوق الحق ظاهرا في جميع مللهم وشرائعهم بذوقه الصحيح وكشفه البين المنير : انتفع حينئذ بالتلاوة حقيقة الانتفاع وصارت طريقا للطالب يوقعه على مطلوبه، وسبيلا يوصل المحب إلى معرفة محبوبه، ومع ذلك لا بد من شيخ يريك شخوصها؛ أو صاحب ذائق ينبهك على رموزها.
وفي الجملة؛ فالكتاب لا يستغني عن السنة في البيان، والسنة لا تستغني عن الكتاب، كلاهما من الله تعالى، وكل منهما يبين الآخر ويوضحه ويدل على حقائقه.
فلما وجدت الطالبين في زماني على هذا المنهج سائرين؛ قد قطعتهم الإرادات؛ وجحفت بهم الانحرافات: استخرت الله تعالى
مخ ۴۵
في تعليق كلمات موجزات تكون للطالب الصادق أنموذجا يستدل بها على ما وراءها من حقائق المطالب العالية، وترشده إلى سبيل الصادقين من أمة هذا النبي الكريم أهل المشاهد الكاملة غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فتحها الله تعالى علي علما قطعت بصحته وأرجو من كرم الله تعالى أن يحققها لي حالا أتصف بها بين أهل ولايته، فالناطقون عن علم لهم مرتبة الإخبار من علم اليقين، والواجدون لهم مرتبة التحقيق من عين اليقين، ويجب البيان كيلا يلتبس المتكلم بالعلم: بالمتكلم بالحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
مخ ۴۶
الفصل الأول: في المبادئ
إذا أراد الله بعبد خيرا : أيقظه من سنة الغفلة للتخلص من موبقات الآثام والورطة.
فأول ذلك : عند ظهور الإنابة إلى الله ترد على العبد جذبات تجذب قلبه وهو في غمار الغفلة، تتلاطم عليه فيه أمواج الطبيعة والهوى ، ويستبين له الرشد والهدى، على قدر استمرار تلك الجذبات التي تجذب قلبه من عوالمه الأرضية إلى مقر روحه، فيشرق له في ذلك الحال بنور عقله ضياء الطريق، ثم يعود عليه عوالمه الأرضية، فيبقى متحيرا في ظلماتها.
فمنهم من يتعاطى في تلك الظلمة ما يتقاضاه الطبع والهوى ؛ إلا أن يعصمه الله تعالى، فلا يزال كذلك صاعدا مرة إلى أوجه؛ وتارة أخرى إلى حضيضه، فيكون في أول الأمر أوقات صعوده نادرا، ثم تتوالى عليه الجذبات ؛ إلى أن يبقى الصعود والنزول متساويين، ثم تغلب أوقات الصعود على أوقات النزول، ثم تندرأوقات النزول كما كانت أولا أوقات الصعود نادرة.
مخ ۴۷
فهو بين ظهور القلب والروح: هما أوجاه؛ الذي تصعده الجذبة إلى مقرهما العلوي، والطبع يحطه عن أوجه إلى حضيضه الذي هو مركز النفس والشهوات والحظوظ الدنيوية فصاحب القلب الذي أغلب أوقاته يظهر عليه حكم القلب إذا سقط : وقع على أرض طبيعته، وصاحب الروح الذي أغلب أوقاته يظهر عليه أحكام الروح إذا سقط : وقع على القلب، فيكون محفوظا بنور قلبه.
وقد يسقط في بعض الأحيان على طبعه؛ لكن يكون ذلك نادرا، ومن وقع على طبعه : فحكمه ضبط نفسه عن أن ينصرف بحكم نفسه وطبعه، إذ لا يبقى معه نور يحرسه ويتغذى به.
مخ ۴۸
الفصل الثاني: في الأمور التي يعتني بها صاحب هذا الحال
لا شك أن من هذا شأنه يكون غالبا تارة؛ ومغلوبا أخرى ، تارة يقهر جند القلب والروح؛ فتكون كلمة الله العليا على باطن الشخص وظاهره، وتارة يغلب جند النفس والهوى والشيطان؛ فتكون الشهوات والإرادات النفسانية حاكمة على الشخص غالبة عليه، فهو في كل وقت في حرب وجهاد، يرد عليه في كل يوم من العوارض المحمودة والمذمومة من ظاهره وباطنه من الخلائق أمور متعارضة متقابلة، ومثل هذا لا بد أن يبتلى بقواطع وموانع ليمتحن صبره فيها.
وقد جعل في الكون جنودا تتقوى بها جنود القلب والروح وجنودا تمدح الطبع والهوى والشيطان من الجن والإنس ، فالعلماء والصالحون والأولياء والمقربون والعبادات والقربات والدعاء والالتجاء: جنود تمدح القلب والروح، والبطالون والغافلون وتعاطي الشهوة والغفلة عن الله تعالى : يتركب منها جنود يتقوى بها جنود الطبع والهوى.
ولا بد أن تعرض له فتن كقطع الليل المظلم، وتدعوه الشياطين إلى طرق الضلالات وسبيل المتاهات، فليستعن بالله ويكثر الدعاء
مخ ۴۹
والتضرع والابتهال في طلب النصرة منه، كما قال الله تعالى : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم). وقال : (واعتصموا بالله هو مولاكم).
ثم أنفع ما له: الاشتغال بمواد تقوي جنود قلبه وتسهل له سبيل رشده لتغلب جنود الرحمن جند الشيطان، وتصير كلمة الله هي العليا، وتفتح عكا النفس؛ وطرابلس الهوى، وتكسر الصلبان؛ ويوحد الرحمن، وتتدلى على القلب أسباب الهدى؛ وتفتح مغالق المطالب التي إليها المنتهى، كما قال تعالى: (وأن إلى ربك المننهى ).
وأهم ما له بعد القيام بالأوامر واجتناب النواهي: رعاية الجوارح عن المحرمات والمكروهات، والتخلص من قضاء الصلوات الفائتات، والحقوق الواجبات فيما بينه وبين الله تعالى؛ وبين الخلق، حتى لا يبقى قلبه مظلما.
ولزوم المحاسبة: يحاسب النفس على كل قول يقوله أو عمل يعمله، فلا يعمل شيئا إلا لله عز وجل، مثلا : لا يتكلم إلا لله؛ و لا يتحرك إلا لله، يقدم النية الصالحة على كل عمل من أعماله، وأي حركة أو عمل خلت من نية صالحة: استغفر الله منها.
ولزوم المراقبة على الهموم والإرادات، فلا يهم إلا بخير، ولا ينوي إلا خيرا، فإن الهموم مقدمات الأعمال، فمتى صلحت
مخ ۵۰
الهموم: صلحت الأعمال، ومتى فسدت: فسدت الأعمال، ويراقب نظر الله تعالى إلى قلبه، ويستشعر علمه به وقيامه عليه، كما قال تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه). وقال تعالى : (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور).
فيراقب علم الله تعالى في سويداء قلبه فيتقيه ويخشاه في ضميره، فهذا كله مهم وقته وواجب حاله؛ لا غناء له عنه البتة، ولا يستقيم إلا به ولا ينفذ إلا به، فإن باستعمال ذلك: تذوب طبيعة النفس؛ ويضعف الشيطان وتقوى جنود القلب والروح بالمحبة والعرفان.
فأهم ما له مع ذلك : الاعتناء بعلم الحديث؛ والسير النبوية؛ والأيام الصحابية، كالسيرة لابن إسحاق والواقدي وغيرهما، والصحاح الستة، والاعتناء بالمرور عليها، ويطالع المسانيد الكبار كمسند الإمام أحمد بن حنبل وعبد بن حميد وغيرهما، ويطالع كتب دلائل النبوة كدلائل النبوة للبيهقي ولأبي نعيم الإصفهاني والقاضي عياض المغربي وشرف المصطفى لابن الجوزي وغير ذلك، ومطالعة قصص الأنبياء كالمبتدى الذي للكسائي أو غيره.
مخ ۵۱
فيعرف كيف بعثت الأنبياء ? وكيف عالجوا الكفار? فيعرف من السيرة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم - ويتحقق بقلبه أنه بعث كما بعثوا، وأن الذي جاؤوا به جميعا من مشكاة واحدة.
وكذلك يعتني بعلم أيام الصحابة، كالطبقات لابن سعد والاستيعاب لا بن عبد البر، وعلم أسباب النزول، وعلم التفسير والتأويل للقرآن بعد معرفة محمد، وواجبات الوضوء والصلاة وشرائطهما، وعلم واجبات ما يخصه من الأمور التي يبتلى بها دون أمر العامة؛ إلا أن يستعد له ويتسع لتحصيله مع حفظ مهمات حاله وواجبات وقته.
ولا بد من شيخ نافذ إلى الله؛ يعرف الله تعالى من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، يكون علمه خالصا عن شوب العلوم الفاسدة المنحرفة، قد ارتضع من لبان الرسول صلى الله عليه وسلم وتضلع من رضاعه، فيأخذ عنه مقاصد الكتاب والسنة؛ بلا تأويل ولا تحريف، فإن رزق مثل هذا الشيخ: فهو من ألطاف الله، وذلك من جملة التوفيق.
مخ ۵۲
الفصل الثالث: في بيان المطلوب حقيقة هو في الكتاب والسنة دون غيرهما من الأشياء والطرق
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أكمل هذا الدين ولم يجعله معوزا فيتمم من غيره كما يعمله أهل هذا الزمان، يجعلون الكتاب والسنة علما ظاهرا يستعملونه في ظواهر العبادات والمعاملات والعادات.
فإذا طلبوا معرفة الله والنفوذ إليه والوصول إلى الحقائق والأسرار الإلهية: صرفوا وجوههم عن الكتاب والسنة، وطلبوا ذلك من علوم الصوفية والفقراء؛ ومن الرياضة والتجوع والعزلة والانفراد؛ أو من قطع الأسباب والتجرد عما لا بد منه، فيفتح لهم أمر مجمل لا تفصيل فيه - كما ذكر أولا -.
فمن جعل علم الصوفية قبلة قلبه: أعطته حالا مجملا لا تفصيل فيه، ومن جعلها طريقا إلى أن يستنبط بها من الكتاب والسنة الحقائق التي أشارت علوم الطائفة إليها : فقد وفق وهدي إلى طريق مستقيم.
وإنما الطريقة الكاملة الجامعة المستقيمة التي لا زيغ فيها ولا انحراف : أن تطلب معرفة الله من حيث تعرف إلينا من أسمائه العلية؛ وصفاته الجلالية والجمالية؛ التي نطق الكتاب العزيز بها، ونص
مخ ۵۳
الرسول صلى الله عليه وسلم عليها: من أخبار الصفات وآياتها التي يدل كل خبر منها على سر عظيم من أسرار المعرفة؛ وشأن كبير من شؤون العظمة، يفتح به على الطالبين أبواب المعارف؛ وتحف اللطائف، عرف ذلك من عرفه ؛ وجهله من جهله .
والسر في إظهارها لنا وخطابنا بها: هو أن نعرف الموصوف بها فنعبده ونتوكل عليه؛ ونتألهه ونشتاق إليه، ونراقبه ونعظم حرماته، فيكون لقلوبنا بالمرصاد.
فبعض الناس يتخذ آيات الصفات وأخبارها من قبل الحروف والمتشابهة الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وحقيقة: لا يعلم تأويل آيات الصفات وأخبارها إلا الله، لكن ما الحكمة في خطابنا به وإظهارها لنا ? فما هو إلا لنذوق منها أذواق المعارف ؛ ونحب الموصوف بها صاحب المكرمات واللطائف، وننفي عنها التمثيل والتكييف؛ والتأويل والتحريف.
فمن المحال أن يبين الله تعالى في كتابه العزيز وفي سنة رسوله صلى الله عليه و سلم كل شيء - كما ورد : (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) - ويترك شؤون المعرفة وطريق الوصول إلى الله
مخ ۵۴
تعالى مبهمة؛ فنفتقر إلى المعرفة بها إلى علم آخر غير الكتاب والسنة! بل ذلك في الكتاب والسنة، عرف ذلك من عرفه؛ وجهله من جهله.
ثم اعلم أن الله تعالى تعرف إلينا وأعلمنا بأنه فوق كل شيء عرشه، وفوق سبع سماواته، في قوله : (الرحمن على العرش استوى) وبقوله : (يخافون ربهم من فوقهم ). وبقوله : (إليه يصعد الكلم الطيب) وبقوله : (سبح اسم ربك الأعلى) . وبقوله : (وهو القاهر فوق عباده) وبقوله : (أأمنتم من في السماء). وبقوله : (إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلي ) . وقوله : (بل رفعه الله إليه).
وقوله حكاية عن فرعون : (وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) . وهذا يدل على أن موسى عليه السلام أخبره بأن إلهه فوق السماوات، ولأجل ذلك قال: (وإني لأظنم كاذبا).
مخ ۵۵
فمجموع ذلك؛ ومعراج النبي صلى الله عليه وسلم من سماء إلى سماء إلى أن أوحى إليه ما أوحى: دلائل قطعية؛ وعلوم ضرورية بأن ربنا سبحانه فوق عرشه؛ وفوق سبع سماواته؛ وفوق الأشياء كلها، متنزه عن الدخول في خلقه، ووجوده سبحانه بائن عن وجود خلقه، منفرد بنفسه وبجميع صفاته عن خلقه، وفوقيته سبحانه فوقية مختصة به؛ لا كفوقية الجسم المخلوق على الجسم المخلوق المحصور المحدود - تعالى الله عن ذلك -، فإن العرش المجيد لا يقله ولا يحيط به، وهو الحامل للعرش المحيط به، فعلوه وفوقيته واستواؤه مختصة به؛ صفات تليق به، منزه عن صفات الحدث، كما أن سمعه العظيم منزه عن سمع المخلوق، وبصره العظيم منزه أن يكون كبصر المخلوق، وعلمه الكريم منزه عن أن يكون كعلم المخلوق.
فكذلك علوه واستواؤه منزه أن يكون كعلو المخلوق واستوائه، فافهم ذلك وأثبت الصفة ونزه الموصوف عن صفات الحدث.
وقوله تعالى : (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) . أي : من على السماء، كما قال تعالى : (فسيحوا في الأرض) . أي : على الأرض وقوله : (ولأصلبنكم في جذوع النخل) . أي : على جذوع النخل فهذه مسألة العرش، فافهمها وحققها: تفز بالكنز الأكبر؛ والسر العظيم.
مخ ۵۶