مفتاح غيب الجمع والوجود
مخ ۱
مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم اللهم احمد (1) نفسك (2) عمن امرته ان يتخذك وكيلا، حمدا عائدا منك إليك، متحدا
مخ ۳
بك لا منقسما ولا مفصولا، مستوعبا فضيلة كل حمد ومكملة تكميلا. اللهم صل على من وجدنا في قصدك (1) نحوك به (2) إليك سبيلا، سيدنا محمد وآله كما صليت على من اتخذته لك خليلا (3) وجازه (4) عنا أفضل ما جازيت عن أمته رسولا، وارض عن سائر الصفوة من أمته رضا تبوئهم به عندك (5) مقعدا كريما ومستقرا جليلا، وكن جنان (6) سائل هذا التحميد ولسانه عند كل قصد له ومقالة (7) ليكون قلبه أنور كل قلب وقيله أقوم قيلا.
وبعد: فان العلوم منها أمهات أصلية وفروع تفصيلية (8)، وتشترك (9) في أن لك منها موضوعا ومبادئ ومسائل:
فالموضوع ما يبحث فيه عن حقيقته وعن أحوال (7) المنسوبة إليه (10) والأمور العارضة له لذاته، كالوجود في العلم الإلهي - على رأى (11) - وكالمقدار في كونه موضوع علم الهندسة ونحو ذلك.
والمبادى اما تصورات واما تصديقات:
اما التصورات فهي الحدود وتورد (12) لموضوع العلم المبحوث فيه أو (8) الصناعة وفروعه (13) وتفاصيله واجزائه واعراضه (9).
مخ ۴
واما التصديقات فهي المقدمات التي يبتنى عليها ذلك العلم، وهى مع الحدود تسمى أوضاعا، فمنها يقينية ومنها مسلمة ايمانا وعلى حسن الظن بالمخبر، وتقدم (1) في ذلك العلم وتسمى أصولا موضوعة ونحو ذلك (2) مما يدل على ما ذكرنا.
ومنها مسلمة في الوقت إلى أن يتبين في موضع آخر، وفي نفس السامع والمتعلم منها شك (3) حتى يتضح له فيما بعد، اما ببرهان نظري أو فطرى الهى ويسمى مصادرات. ومتى كان موضوع علم أخص من موضوع علم آخر يقال له انه تحته، كالعلم الكوني بالنسبة إلى العلم الرباني وكالعلم الطبي بالنسبة إلى العلم الطبيعي ونحو ذلك.
واما المسائل: فهي المطالب التي يبرهن عليها ويقصد اثباتها عند المخاطب، وهى (4) اما أصول حاصرة لما يحوى عليه (5) ذلك العلم - كالأجناس (6) بالنسبة إلى ما تحتها - واما فروع تحت الأصول - كالأنواع وأنواع الأنواع - فمتى عرفت الأصول والأمهات واحكامها واتضحت، عرفت نسبة الفروع إليها (7) وصورة تبعيتها لها واندارجها تحتها .
وإذا تقرر ذلك المذكور فنقول: العلم الإلهي له الإحاطة بكل علم - إحاطة متعلقة (8) - وهو الحق بكل شئ وله، أي وللعلم الإلهي موضوع ومباد ومسائل:
مخ ۵
وموضوع كل علم ومباديه ومسائله، فروع موضوع العلم الإلهي وفروع مباديه وفروع مسائله، فموضوعه الخصيص به وجود الحق سبحانه، ومباديه أمهات الحقائق اللازمة لوجود الحق وتسمى أسماء الذات. فمنها (2) ما تعين حكمه في العالم وبه (3) يعلم، اما من خلف حجاب الأثر - وهو حظ العارفين من الأبرار - واما ان يدرك كشفا وشهودا بدون واسطة ولا حجاب - وهو وصف المقربين والكمل - والقسم الاخر من الأسماء الذاتية ما لم يتعين له حكم في العالم، وهو الذي استأثر الحق به في غيبه كما أشار النبي صلى الله عليه وآله بقوله في دعائه: أو استأثرت به في علم غيبك - الحديث (4) وتلي هذه (5) الأسماء - أعني أسماء (6) الذات - أسماء الصفات التابعة، ثم أسماء الافعال والنسب والإضافات (7) التي بين أسماء الذات وأسماء الصفات وبين أسماء الصفات والأسماء الافعال.
والمسائل (8) هي عبارة عما يتضح بأمهات الأسماء التي هي المبادى، من حقائق متعلقاتها (9) والمراتب والمواطن (10) ونسبة تفاصيل احكام كل قسم (11) منها ومحله (12) وما يتعين بها (13) وبآثارها، من النعوت والأوصاف والأسماء الفرعية وغير ذلك، ومرجع كل ذلك إلى أمرين وهما: معرفة ارتباط العالم بالحق والحق بالعالم، وما يمكن (14) معرفته من
مخ ۶
المجموع وما يتعذر، على ما سنشير إليه فيما بعد.
وهذه المبادى - أعني مبادى العلم الإلهي والمسائل أيضا - يأخذها من لا يعرفها مسلمة من العارف المتحقق بها إلى أن يتبين له وجه الحق والصواب فيها فيما بعد، اما بدليل معقول - ان تأتى ذلك (1) للعارف (2) المخبر واقتضاه (3) حكم حاله ووقته ومقامه الذي أقيم فيه - واما آن يتحقق (4) السامع صحة (5) ذلك ويلوح له (6) وجه الحق فيه (7) بأمر يجده في نفسه من الحق لا يفتقر فيه إلى سبب خارجي، كالأقيسة ونحوهما.
ولكل علم أيضا معيار يعرف به صحيح ما يختص به (8) من سقيمه وخطائه من صوابه، كالنحو في علم العبارة والعروض لمعرفة اوزان الشعر وبحوره والمنطق في العلوم النظرية والموسيقى لمعرفة النغم، هذا إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى التمثيل به.
ولما كان شرف كل علم انما هو بحسب معلومه ومتعلقه، كان العلم الإلهي أشرفها - لشرف متعلقه وهو الحق - فكانت (9) الحاجة إلى معرفة موازينه وتحصيل ضوابط أصوله وقوانينه أمس، وانه وان قيل فيه انه لا يدخل تحت حكم ميزان، فذلك لكونه أوسع وأعظم من أن ينضبط بقانون مقنن أو ينحصر في ميزان معين، لا لأنه لا ميزان له، بل قد صح عند الكمل من ذوي التحقيق من أهل الله ان له بحسب كل مرتبة واسم من الأسماء الإلهية ومقام وموطن وحال ووقت ونعم وشخص ميزانا (10) يناسب المرتبة والاسم وما عددناه وبه
مخ ۷
حصل التميز بين أنواع الفتح والعلوم الشهودية واللدنية (1) والالقاءات والواردات والتجليات الحاصلة لأهل المراتب السنية والأحوال والمقامات، وبه يتمكن الانسان (2) من التفرقة بين الالقاء الصحيح الإلهي أو الملكي وبين الالقاء الشيطاني ونحوه (3) مما لا ينبغي الوثوق به.
ولما ذكرنا طرق محصورة يأتي ذكرها، والغرض الان التنبيه على ما ييسر الحق ذكره من القواعد والضوابط والمقدمات وأمهات الأصول الوجودية والحضرات (4) الأصلية والمقاصد الغائية وايرادها على سبيل الاجمال والايجاز ليكون اسا ومفتاحا لمن وقف عليها وفك له ختامها في معرفة ما تحوى عليه من (5) أنواع التفاصيل والعلوم والأسماء والمراتب ونحو ذلك، والجميع يفتح بعضه بعضا بالفتح الآلي (6) والقدم الأصلي (7) وحسب
مخ ۸
ما يقتضى به المشيئة (1) الإلهية ويجرى (2) به القلم حالة التسطير.
فان كتابة هذا الفن لا يكون عن سابق تأمل ولا حق تدبر وتعمل، وما وقع فيه مما يوهم الاشتراك مع علماء الرسوم من (3) لفظ واصطلاح، فذلك ليس عن قصد التقيد بذلك الاصطلاح، بل لامرين آخرين: أحدهما ان تلك العبارة المصطلح عليها في ذلك الموضع تكون انسب وأتم تأدية للمعنى المراد بيانه من غيرها من العبارات بالنسبة لما في نفس المتكلم. والسبب الاخر فيما ذكرنا هو حيطة المقام المتكلم (4) منه واشتماله على ما يرد على المحجوب - المتوجه (5) بفكره - وعلى المعتنى به - المتوجه بقلبه - لكن يأخذه المتوجه بقلبه كشفا وشهودا (6) دون تعمل بمحل طاهر (7) لا شوب فيه، فتبقى طهارة الوارد على أصلها ويتلقى المحجوب الامر من خلف حجاب الفكرة والبشرية بتعمل ومحل غير ظاهر، فيكتسى الوارد الثوب والشين فيصير الامر ذا صورتين (8) ويتميز الكلمة إلى كلمتين (9)، لسعة العطاء الإلهي (10) وتحقيق حكم القبضتين لقوله تعالى: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20 - الاسراء) فمن رزق
مخ ۹
الطهارة حتى عن الاخلاص (1) فقد منح الخلاص (2)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (4 - الجمعة).
مخ ۱۰
التمهيد الجملي وها (1) انا ابتدأ الان بذكر تمهيد جملي ثم اتبعه ببيان الترتيب الوجودي الأصلي على حسب العلم السابق الأزلي. ثم يقع التعريف بجملة من الضوابط الأصلية وأمهات القواعد المهمة الكلية العلية الآلية (2). ويكون الختام بذكر بعض ما (3) اشتمل عليه حال الانسان الكامل ومرتبته (4) وعلاماته (5)، فإنه العلة الغائية وصاحب الاخرية ومن (6) برتبته يتعين الأولية، وهو مجمع البحرين الكوني والرباني ومرآة المقامين الوجوبي والامكاني، والله يقول (7) الحق وهو يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
مخ ۱۱
فمن ذلك: ان الكشف الصحيح والشهود الصريح أفاد ان الشئ إذا اقتضى أمرا لذاته لا بشرط، لا يزال عليه ما دامت ذاته. وإذا اقتضاه بشرط زائد على ذاته، فبحسب ذلك الشرط ودوام حكمه، سواء كان ذلك الشرط واحدا أو أكثر من واحد، وكان أمرا ثبوتيا ونسبة سلبية أو مركبا منهما في الذهن أو كان حكمه موقتا متناهيا أو غير موقت ولا متناه.
ومن ذلك (1) ان الشئ لا يثمر ما يضاده ويناقضه، على اختلاف صور الأثمار وأنواعه المعنوية (2) والروحانية والطبيعية الغير العنصرية والعنصرية، لكن من حيث هو هو وباعتبار وجه خاص يعرفه المحققون، ومتى يقع ما يوهم خلاف ما ذكرنا فليس الا بشرط خارج عن ذات الشئ أو شروط وبحسبها (3) وبحسب الهيئة الحاصلة من تلك الجمعية. قل كل
مخ ۱۲
يعمل على شاكلته (84 - الاسراء) ولا يثمر (1) شئ ولا يظهر عنه أيضا ما يشابهه كل المشابهة (2)، والا يكون الوجود قد ظهر وحصل في حقيقة واحدة ومرتبة واحدة على نسق واحد مرتين، وذلك تحصيل الحاصل وانه محال لخلو الفائدة وكونه من نوع العبث، وتعالى الفاعل الحق عن ذلك.
ومن هذا الباب (3) ما قيل: إن الحق سبحانه ما تجلى لشخص أو شخصين في صورة واحدة مرتين، بل لا بد من فارق واختلاف من وجه ما أو وجوه. فافهم.
ومن ذلك (4) ان كل ما هو سبب في وجود كثرة وكثير، فإنه من حيث هو كذلك لا يتعين بظهور من ظهوراته ولا يتميز لناظر في منظور (5).
مخ ۱۳
ومن ذلك ان كل مظهر لأمر ما كان ما كان لا يمكن ان يكون ظاهرا من حيث كونه مظهرا له، ولا ظاهرا بذاته ولا في شئ سواه، الا الذي ظهر بذاته في عين أحواله، وكان حكمها معه حكم من امتاز عنه من وجه ما، فصار مظهرا لما لم يتعين منه أصلا ولم يتميز، وهذا شأن الحق سبحانه، فله ان يكون ظاهرا حال كونه مظهرا ومظهرا حال كونه ظاهرا، وللكمل أيضا دون غيرهم من الموجودات منه نصيب.
ومن ذلك (1) انه لا يعلم شئ بغيره من الوجه (2) المغاير المباين ولا يعرف الواحد (3)
مخ ۱۴
من كونه واحدا بالكثير من كونه كثيرا وبالعكس، لكن في ذلك (1) سر وهو ان للكثرة وحدة تخصها (2) وللوحدة كثرة نسبية تتعلق وتتعين بها (3)، فمتى علمت إحديهما بالأخرى، فلما وبما فيها (4) منها، إذ لا بد من جامع، وهذا مما ليس له (5) في طور التحقيق دافع.
ومنه (6) انه لا يؤثر مؤثر فيما لا نسبة بينه وبينه، فإذا اثر فيما له فيه جزء (7) أو معه (8) نسبة فتلك (9) النسبة هي محل الأثر ومستدعيه، فالشئ اذن هو المؤثر في نفسه ولكن (10) باعتبار ما منه فيما يغايره من وجه (11) واعتبار ما، أو فيما (12) لا يغايره الا من كونه ظهورا خاصا منه في مرتبة أخرى أو موطن اخر أظهر (13) اختلافا ما، وأوجب تنوعا مع بقاء العين وأحديتها في نفسها على ما كانت عليه.
وهذا سر الوجود والعلم ونحوهما من أمهات الحقائق على ما بينها (14) من التفاوت - وسيقرع (15) سمعك سر ذلك - بالنسبة إلى (16) المرتبة الربانية ثم يتنزل إلى الغير، و
مخ ۱۵
معرفته (1) من كونه غيرا ومن كونه عينا. فافهم.
ومنه (2) انه لا يؤثر حتى يتأثر، وأقل (3) ذلك استحضاره (4)، أو علمه (5) في نفسه ما يريد ايقاعه (6) بالمؤثر فيه، أو حضوره معهما - أي مع الأثر والمؤثر فيه (7) - سواء كان هذا الحال طارئا أو لم يكن.
ومراتب التأثير أربعة: رتبة في نفس المؤثر، والثانية في الذهن، والثالثة في الحس، والرابعة الجامعة المشتملة على الثلاثة المذكورة فوقها (8)، وهذه بعينها مراتب التصورات، فأوليها التصور المطلق الروحي والفطري البديهي، ثم التصور الذهني الخيالي، والثالث الحسى، والرابع الجامع للكل. وأضفت ذكر مراتب التصورات إلى مراتب التأثر لتساوى مراتبهما في العدد ولسر جامع أقوى بينهما، لولا أن بيانه يحتاج إلى فضل بسط لبينته، ولكن في هذا التنبيه غنية لكل محقق نبيه.
ومنه (9) ان الأثر لا يكون لموجود ما أصلا من حيث وجوده فقط، بل لا بد من انضمام أمر اخر خفي إليه يكون هو المؤثر أو عليه يتوقف الأثر، والأثر نسبة بين أمرين مؤثر
مخ ۱۶
فيه ومؤثر، ولا تحقق لنسبة ما بنفسها فتحققها بغيرها، ولا يجوز ان يكون ذلك الغير هو الوجود فحسب، فان الوجود لا يظهر عنه مالا وجود له ولا يظهر عنه أيضا عينه على النحو الحاصل لما تقرر من قبل.
ولما كان أمر الكون كما سنبين محصورا بين وجود ومرتبته، وتعذر إضافة الأثر إلى الوجود الظاهر لما مر، تعين اضافته إلى المرتبة ومرتبة الوجود المطلق الألوهية، وإليها وإلى نسبها المعبر عنها بالأسماء يستند الآثار، والمراتب كلها أمور معقولة غير موجودة في أعيانها، فلا تحقق لها الا في العلم، كاعيان الممكنات قبل انصباغها بالوجود العالم المشترك بينها، وبما ذكرنا من أمر المراتب تتميز عن الأرواح والصور، فان الأرواح والصور، لها وجود في أعيانها، بخلاف المراتب، وكذلك سائر النسب فافهم. فلا اثر الا لباطن، وان أضيف إلى ظاهر لغموض سره وصعوبة ادراكه بدون ظاهر، فمرجعه في الحقيقة أعني الأثر إلى أمر باطن من ذلك الظاهر أو فيه، فاعرف وسنذكر تتمة سر الأثر في اخر هذا الكتاب في فصل الانسان الكامل إن شاء الله.
ومنشأ الأثر الإلهي لإيجاد العالم الذي هو ينبوع سائر الآثار هو باعث المحبة الإلهية الظاهر الحكم في الوجود المقترن بأعيان الممكنات الآتي حديثها، وذلك بحسب مرتبة الألوهية وبحسب (1) نسبها المتعينة في مرتبة الامكان بأعيان المكونات فرعا واصلا، جزء وكلا، والمحبوب (2) والكمال الذي سيشار إليه وإلى حقيقة المحبة وحكمها في الموضع الأليق بذلك كله إن شاء الله.
مخ ۱۷
ومن جملة قوانين التحقيق المدركة كشفا وشهودا، العظيمة الجدوى لسريان حكمها في مسائل شتى من أمهات المسائل العزيزة، وهو ان كل ما لا تحويه الجهات وكان في قوته ان يظهر في الاحياز، فظهر بنفسه أو توقف ظهوره على شرط أو شروط عارضة أو خارجة عنه، ثم اقتضى ذلك الظهور (1) واستلزم انضياف وصف أو انضياف أوصاف إليه ليس شئ منها يقتضيه لذاته، فإنه لا ينبغي ان ينفى عنه تلك الأوصاف مطلقا ويتنزه عنه وتستبعد في حقه وتستنكر، ولا ان تثبت له أيضا مطلقا ويسترسل في اضافتها إليه، بل هي ثابتة له بشرط أو شروط ومنتفية عنه كذلك، وهى له في الحالتين، وعلى كلا التقديرين أوصاف كمال لا نقص لفضيلة الكمال المستوعب والحيطة والسعة التامة مع فرط النزاهة والبساطة، ولا يقاس غيره مما يوصف بتلك الأوصاف عليه لا في ذم نسبى - ان اقتضاه بعض تلك الأوصاف التي يطلق عليه لسان الذم أو كلها - ولا في محمدة، فان نسبة تلك الأوصاف واضافتها إلى ذات شأنها ما ذكرنا تخالف نسبتها إلى ما يغايرها من الذوات والشروط اللازمة لتلك الإضافة، يتعذر وجدانها في المقيس عليه، وهذا الامر شائع في ما لا يتحيز، سواء كان تحققه بنفسه - كالحق سبحانه وتعالى - أو بغيره - كالأرواح الملكية وغيرها من المتروحين - وهذه قاعدة من عرفها وكشف له عن سرها، عرف سر الآيات والاخبار التي توهم التشبيه عند العقول الضعيفة واطلع على المراد منها، فسلم من ورطتي التأويل والتشبيه وعاين الامر كما ذكرنا مع كمال التنزيه، وعرف أيضا سر تجسد الأرواح الملكية وكون جبرئيل وميكائيل يبكيان ويحملان السلاح للحرب، ويسع كلاهما أو أحدهما في أيسر جزء من الأرض - كحجرة عائشة وغيرها من البقاع - هذا مع اتفاق
مخ ۱۸
محقق العلماء على أن البكاء على الوجه المعلوم عندنا لا تقتضيه نشأة الملائكة، واتفاقهم أيضا على أن الأرواح لا تتحيز، ووجوب الاعتراف أيضا بان الداخل لحجرة عائشة وغيرها من الأماكن المذكورة هو جبرئيل حقيقة، إذ لو لم يكن الامر كذلك لزم منه من المفاسد ما لا يخفى على الألباء المنصفين، ويشتمل هذه القاعدة على فوائد عزيزة جدا:
منها ما أوجب سكوتي عنه وفرط عزته وغموضه.
ومنها ما تركته اختصارا واكتفاء بيقظة أهل الاستبصار من الاخوان الإلهيين الأبرار فالق سمعك لغريب ما تسمع، تجد العلم الأنفع. والله المرشد.
فصل شريف يشتمل على علم عزيز خفي لطيف اعلم أن الحق هو الوجود المحض الذي لا اختلاف فيه، وانه واحد وحدة حقيقية لا يتعقل في مقابله كثرة، ولا يتوقف تحققها في نفسها ولا تصورها في العلم الصحيح المحقق على تصور ضد لها، بل هي لنفسها ثابتة مثبتة لا مثبتة، وقولنا: وحدة، للتنزيه والتفخيم، لا للدلالة على مفهوم الوحدة على نحو ما هو متصور في الأذهان المحجوبة.
إذا عرفت هذا فنقول: انه سبحانه من حيث اعتبار وحدته المنبه عليها وتجرده عن المظاهر وعن الأوصاف المنضافة إليه من حيث المظاهر وظهوره فيها، لا يدرك ولا يحاط به ولا يعرف ولا ينعت ولا يوصف، وكل ما يدرك في الأعيان ويشهد من الأكوان - بأي وجه أدركه الانسان وفي أي حضرة - حصل الشهود - ما عدا الادراك المتعلق بالمعاني المجردة والحقائق في حضرة غيبها بطريق الكشف - ولذلك قلت في الأعيان، أي ما أدرك في أي مظهر كان ما كان، فإنما ذلك المدرك ألوان واضواء وسطوح مختلفة
مخ ۱۹
الكيفية، متفاوتة الكمية، وأمثلتها تظهر في عالم الخيال المتصل بنشأة الانسان أو المنفصل عنه من وجه على نحو ما في الخارج أو ما مفرداته في الخارج، وكثرة الجميع محسوسة والأحدية فيها معقولة، والا فمحدوسة، وكل ذلك احكام الوجود أو قل: صور نسب علمه أو صفاته اللازمة له من حيث اقترانه بكل عين موجود لسر ظهوره فيها وبها ولها وبحسبها - كيف شئت واطلقت (1) - ليس هو الوجود الحق، فان الوجود واحد ولا يدرك بسواه من حيث ما يغايره على ما مر، ومن أن الواحد من كونه واحدا لا يدرك الكثير من حيث هو كثير وبالعكس.
ولم يصح الادراك للانسان من كونه واحدا وحدة حقيقية كوحدة الوجود، بل انما يصح له ذلك من كونه حقيقة متصفة بالوجود والحيوة وقيام العلم به والإرادة، وثبوت المناسبة بينه وبين ما يروم ادراكه، مع ارتفاع الموانع العائقة عن الادراك، فما أدرك ما أدرك الا من حيث كثرته، لا من حيث أحديته، فتعذر ادراكه من حيث هو ما لا كثرة فيه أصلا، وفيه اسرار نفيسة ذكرتها بتفصيل أكثر في كتابي المسمى ب (كشف سر الغيرة عن سر الحيرة) وسيرد أيضا في داخل الكتاب ما يزيد بيانا لما ذكرناه واصلناه إن شاء الله.
ثم نرجع إلى اتمام ما كنا بسبيله فنقول: الوجود في الحق عين ذاته وفيما عداه أمر زائد على حقيقته، وحقيقة كل موجود عبارة عن نسبة تعينه في علم ربه أزلا وابدا، ويسمى باصطلاح المحققين من أهل الله عينا ثابتة وباصطلاح غيرهم ماهية والمعلوم المعدوم والشئ الثابت ونحو ذلك.
والحق سبحانه من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه الا الواحد - لاستحالة اظهار
مخ ۲۰
الواحد غير الواحد - وذلك عندنا هو الوجود العالم المفاض على أعيان المكونات - ما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده (1) - وهذا الوجود مشترك بين القلم الاعلى الذي هو أول موجود المسمى أيضا بالعقل الأول وبين سائر الموجودات، ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة، فإنه ماثمة عند المحققين الا الحق والعالم، والعالم ليس بشئ زائد على حقائق معلومة لله تعالى أزلا معدومة أولا - كما أشرنا إليه من قبل - متصفة بالوجود ثانيا، والحقائق من حيث معلوميتها وعدميتها لا توصف بالجعل عند المحققين من أهل الكشف والنظر أيضا، إذ المجعول هو الموجود، فما لا وجود له لا يكون مجعولا، ولو كان كذلك لكان للعلم القديم في تعين معلوماته فيه أزلا اثر، مع أنها غير خارجة عن العالم بها، فإنها معدومة لانفسها لا ثبوت لها الا في نفس العالم بها، فلو قيل بجعلها لزم اما مساوقتها للعالم بها في الوجود أو ان يكون العالم بها محلا لقبول الأثر من نفسه في نفسه وظرفا لغيره وكل ذلك باطل (2)، لأنه قادح في صرافة وحدته سبحانه أزلا وقاض بان الوجود المفاض عرض للأشياء - موجودة لا معدومة - وكل ذلك محال من حيث إنه تحصيل للحاصل، ومن وجوه أخرى لا حاجة إلى التطويل بذكرها، فافهم.
بل الوجود واحد وانه مشترك بين سائرها مستفاد من الحق سبحانه.
ثم إن هذا الوجود الواحد العارض للمكنات المخلوقة ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحق الباطن المجرد عن الأعيان والمظاهر الا بنسب واعتبارات: كالظهور والتعين والتعدد
مخ ۲۱