Methods of Authorship Among Arab Scholars
مناهج التأليف عند العلماء العرب
خپرندوی
دار العلم للملايين
د ایډیشن شمېره
الخامسة عشرة آب/ أغسطس ٢٠٠٤
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
منذ سنوات عديدة كانت فكرة إصدار كتاب يعالج مناهج التأليف عند العلماء المسلمين تراودني وتروق لي، ولكن ما إن كنت أبدًا في التنفيذ حتى أراني أحجم وأتردد وقد تمثل أمامي خطر الموضوع الذي أحاول علاجه؛ لأنه من الاتساع والعمق بحيث يتناول تراث أمة عظيمة، تبلورت عظمتها في عقيدتها وتراثها: لغة وأدبًا وفكرًا. فلما كانت السنوات الأخيرة ألحت فكرة الكتاب على خاطري بحيث لم أستطع منها فرارًا على الرغم من اقتناعي بأن مثل هذا العمل يحتاج إلى فريق من العلماء يضطلعون به ويسهرون عليه ويولونه كل اهتمامهم ويضمنونه ثمرات تجاربهم وحصاد أفكارهم، فاستخرت الله وقررت أن أبدأ في إصدار هذا المجلد وجعلته خاصًّا بمناهج التأليف في الأدب، آملًا إن وهبني الله القدرة وفسحة الأجل أن أضطلع بمتابعة الجهد في إصدار كتب تالية تتناول مناهج التأليف في بقية موضوعات التراث.
أما وإني أقدم مناهج التأليف عند العلماء العرب والمسلمين في نطاق الأدب، فإنه يجمل بي أن أعرض منهجي في هذا الكتاب.
لقد حاولت أن أقدم منهجًا وسطًا بعيدًا عن التدخل بريئًا من التعقيد، بل هو أقرب إلى اليسر والبساطة، فقد جعلت الكتاب ينتظم أحد عشر بابًا، خصصت الباب الأول منه للحديث، عن فجر التحرك العقلي العربي والإسلامي والتدوين في نطاق العلوم القرآنية والحديث الشريف وألوان من العلوم والمعارف.
ولما كان المؤلف لا يستطيع أن يخط حرفًا دون أن يكون متقنًا للكتابة والإنشاء، وكلاهما ثمرة للتحرك الثقافي الإسلامي -إذ لم يكن العرب يقرأون أو يكتبون قبل الإسلام- فقد خصصت الباب الثاني للحديث عن حركة الكتابة والإنشاء وتطورها ومسيرتها في إيجاز مع ذكر مصادر النثر العربي على سبيل الإجمال.
وأما الفصل الثالث فقد أفردناه للحديث عن رواد التأليف الأدبي غير المتخصص، فقد كان المؤلفون آنئذ يجمعون بين الأخبار والأشعار والنوادر واللغة والتاريخ وقضايا النحو وانتجاع الحكمة بين دفتي الكتاب الواحد، وممن سلك هذا النهج على سبيل المثال النضر بن شميل وابن الكلبي وأبو عبيدة والأصمعي والهيثم بن عدي والمدائني. ونلاحظ أن أكثر هؤلاء العلماء قد عاشوا حياتهم العقلية في القرن الثاني الهجري.
1 / 7
وبمرور السنين أخذ التأليف الأدبي يتجه نحو المنهجية الواضحة والتخصص الموضوعي، الأمر الذي جعلنا نكرس الباب الرابع من كتابنا للتأليف الأدبي المنهجي، وقد شمل هذا الباب الحديث عن الجاحظ وابن قتيبة الدينوري وأبي حنيفة الدينوري والمبرد وثعلب وابن طيفور وأبي بكر الصولي والمرزباني والثعالبي، والموضوعات التي تناولوها، ومناهجهم في الكتب التي ألفوها.
ولما يتمتع به كل من العقد الفريد، والأغاني من مكانة عند صفوة العلماء وخاصة الباحثين في ميدان الدراسات الأدبية، خصصنا الباب الخامس للحديث عنهما في فصلين متتاليين حديثًا أقرب إلى الشمول وأدنى إلى الغاية.
والباب السادس جعلناه للحديث عن كتب الأمالي وما هو في حكمها، وذكرناها على الترتيب الزمني، ووقفنا وقفة مستأنية أمام كل كتاب.
ومن الأمالي انتقلنا إلى الحديث عن كتب طبقات الشعراء، فأفردنا الباب السابع لهذا الموضوع سالكين سبيل التدرج الزمني مبتدئين بابن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء الذي ألفه في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، منتهين بسلافة العصر لابن معصوم المتوفى على رأس السنة العشرين من القرن الثاني عشر الهجري.
والباب الثامن جعلناه للحديث عن كتب الاختيارات الشعرية والحماسات، وإذا كانت حماسة أبي تمام هي أشهر هذه الأنماط من الكتب، فإن مصنفها لم يكن صاحب السبق في التأليف في هذا النوع من الكتب، وإنما سبقه إلى ذلك أصحاب المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب وشعر الهذليين، غير أن أبا تمام قد ارتقى بهذا الفن من حيث الذوق في الجمع والانتقاء في الموضوع والعناية في التبويب ثم تبعه في ذلك بقية أصحاب الحماسات.
والباب التاسع من كتابنا هذا خصصنا به كتب التراجم ومناهجها ونظام ورود الأعلام فيها وابتدأنا بذكر الفهرست لابن النديم وانتهينا عند المحبي في "خلاصة الأثر".
ولما كان الأدب الأندلسي من الرقة والسمو والقرب إلى أنفسنا بحيث يحتاج إلى عناية خاصة، فقد أفردنا الباب العاشر من هذه الطبعة الثانية للحديث عن مصادره ومناهج العلماء الذين عكفوا على التأليف فيه من مشارقة ومغاربة وأندلسيين، وحاولنا قدر الاستطاعة أن نيسر على دارس هذا الأدب بوضع مصادره مدروسة بين يديه.
وأما الباب الحادي عشر والأخير في كتابنا هذا، فقد جعلناه للحديث عن الموسوعات بصفة عامة والمملوكية بصفة خاصة.
هذا ولا يفوتني أن أنوه بالجهد الذي بذله معي تلميذاي الأستاذان حسان ماضي وأحمد عبد العزيز عمرو في إعداد النصوص التي وجهتهما إلى جمعها والإسهام في مراجعة تجارب المطبعة وهي أعمال جديرة بالشكر حرية بالتقدير.
والله نسأل أن يهدينا إلى سبيل الرشاد ونهج السداد.
بيروت في ١/ ١٢/ ١٩٧٣ مصطفى محمد الشكعة
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
للأمة العربية قبل الإسلام خصائص تميزت بها دون غيرها من أمم العالم، من هذه الخصائص ما هو محبب مقبول، ومنها ما هو مستكره مرذول، شأن الأمم جميعًا في مراحل تاريخها ومسيرة حياتها، وإذا كانت هذه الدراسة ليست بذات طابع اجتماعي وإنما هي تعمد أول ما تعمد إلى دراسة العمق الثقافي لهذه الأمة العربية، فإننا لن نطيل في الوقوف أمام صفات الأمة العربية قبل الإسلام إلا بالقدر الذي يخدم هذه الدراسة.
كان من صفات العرب الكرم والشجاعة والحرية وإباء الضيم والفروسية والنجدة وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف. وقد تبلورت كل هذه الصفات وتلك المميزات فيما تركه العرب الجاهليون من شعر وخطابة، إذ لم يكن العرب يملكون من الملامح الثقافية البارزة غير هذين الفرعين من فن القول، فتركوا فيهما ثروة هائلة رائعة لم تكد تترك أمة أخرى تركة مماثلة لها كمًّا وكيفًا في مثل تلك الفترة القصيرة بين إنشاء القصيد ومجيء الرسالة السماوية الإسلامية.
ومن ثم فقد كان غرام العرب بالشعر يدفعهم إلى الاعتزاز بالشعراء، وكان الشاعر يحتل من قبيلته مكان الصدارة؛ لأنه المحامي عن كرامتها، الذائد عن حرماتها، المسجل لمفاخرها، الناطق بلسانها، حتى إن القبيلة كانت تقيم الاحتفالات عندما يبزغ بين أبنائها من تتفتق ملكته عن قول الشعر الجيد، ولذلك فقد أثر عنهم أنهم كانوا يحتفلون بمولد الشاعر أي ظهوره.
وقد قيل الشيء نفسه فيما يتعلق بالخطيب، ذلك أن القبيلة كانت تحتفل أيضًا بميلاد الخطيب احتفالها بمولد الشاعر، فهو الآخر لسانها في المفاخرات، وممثلها في المنافرات التي كانت تستمر أيامًا وأسابيع. وكانت المنافرات بصفة خاصة تحتل مقام الاهتمام لا بين قبيلتي الخطيبين المتنافرين وحسب، بل بين هذه القبيلة وحلفائها وتلك القبيلة ونصرائها، ومن أجل ذلك فقد تضاربت الآراء حول من هو أحق بالتفضيل والتقديم في نطاق القبيلة، أهو الشاعر أم الخطيب؟ والحق أن القبائل لم تكن -بحكم العادات العربية- في غناء عن
1 / 9
الاثنين. وكان كلاهما -أي الخطيب والشاعر- في مقام التقديم أو التأخير تبعًا للظرف الذي تعيشه القبيلة، فإن كانت طبيعة الظروف التي تجتازها أحوج إلى الشاعر منها إلى الخطيب كان الشاعر مقدمًا، وإن كانت الظروف التي بها محتاجة الخطيب أكثر من احتياجها الشاعر قدمت الخطيب.
وإذن فقد كان النتاج الثقافي للأمة العربية قبل الإسلام محصورًا في الشعر والخطابة ولا شيء غير ذلك من فنون القول، والأمة العربية كانت أمة غير كاتبة، الأمر الذي بسببه لم يسجل نتاجها من الشعر والخطب بالكتابة، وإنما اعتمد في ذلك على الرواية، فكان لكل شاعر رواية يحفظ كل شعره ويرويه عنه. وأحسب أن الأمر كان أيضًا فيما يتعلق بالخطيب، وإذن فقد كان التسجيل محكومًا بالذاكرة التي كان يتمتع بها الراوي والتي قد تتعرض للشيخوخة فيضيع الكثير من الكنوز التي وعت وفنون القول التي حفظت. وليس من شك في أنه كلما قدم العهد بالشاعر وزمانه كان المأثور من شعره أقل كثيرًا من القدر الذي أنشأه، وكذلك كان الأمر فيما يتعلق بالخطباء، فكان ما وصلنا من تراثهم هو الجزء وليس الكل، وما روي عنهم هو الأقل وليس الأكثر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد قامت فئة تشكك في التراث العربي بحكم أنه مروي وليس مسجلًا مسطورًا وذهب الأمر بالبعض منهم أن تقولوا كثيرًا حول التراث الأدبي الجاهلي، فمن قائل إن أكثره منحول، ومن قائل إنه منتحل كله وكتبوا في ذلك البحوث العديدة ودبجوا المقالات الطوال، وبالتالي قامت جماعة أخرى من الغيورين على تراثهم الثمين، تدحض ادعاءات الفئات الأولى أو افتراضاتها بالمنطق حينًا وبالبرهان حينًا آخر.
السبب في ذلك كله أن العرب لم تكن أمة كاتبة، وأمة غير كاتبة لا تستطيع أن تكون ذات حضارة فكرية أصيلة؛ لأن هذه الحضارة بحاجة إلى التسجيل والتسطير، فلما جاء الإسلام وشجع على التعلم ومعرفة القراءة والكتابة أصبحت هذه الأمة ومن اندرج تحت لواء العقيدة الجديدة من المسلمين تشكل أرقى مبادئ فكرية وأسمى حضارة أزلية. وقبل مرور قرنين من الزمان كانت من السعة في الحدود بحيث شملت ما يقارب نصف مساحة الكرة الأرضية المعروفة في ذلك الزمان، ومن الرحابة في العقول بحيث أغنت الفكر البشري بالعديد من المؤلفات والكتب في أكثر ميادين العطاء العقلي من ديني ودنيوي.
1 / 10
الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي
الفصل الأول: فجر الحركة العلمية
...
الباب الأول: فجر التحرك العقلي
الفصل الأول: فجر الحركة العلمية
ذكرنا قبل قليل أن العرب لم تكن أمة كاتبة، والذي لا يكتب لا يملك كتابًا، والذين لا يملكون كتبًا يكونون بعيدين عن نطاق الثقافة التي تؤهلهم للإنتاج العقلي الذي يسموا بهم على غيرهم من الأمم درجات.
لقد جاء الإسلام وليس في قريش -وهي أكثر القبائل تمدنًا- غير سبعة عشر فردًا يكتبون، هم على وجه التحديد: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة وطلحة، وأبو سفيان بن حرب، ويزيد ومعاوية ابناه، وأبو حذيفة بن عتبة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وجهيم بن الصلت، وعثمان بن عفان.
ومن النساء الكاتبات كانت حفصة وأم كلثوم من أمهات المؤمنين، كما كانت عائشة وأم سلمة تقرآن المصحف ولا تكتبان.
تلك كانت الشخصيات الكاتبة والقارئة في أكثر المجتمعات العربية أهمية قبل الإسلام وهو المجتمع المكي.
فإذا انتقلنا إلى الأوس والخزرج، وهما القبيلتان اللتان ناصرتا الرسول ﷺ في يثرب وكانتا من سعة الأفق ورحابة التفكير بحيث رحب شعباهما بالإسلام قبل أن تكون مدينتهما دارًا للهجرة، هاتان القبيلتان لم يكن بينهما ممن يستطيعون الكتابة غير أحد عشر فردًا.
كان الرسول ﷺ لا يقرأ ولا يكتب -وذلك في حد ذاته معجزة كبرى- فهو في حاجة إلى من يكتب له الوحي، فكان أول من كتب ما ينزل على الرسول الكريم من الآيات البينات في المدينة أبي بن كعب الأنصاري، فإذا غاب استدعى الرسول زيد بن ثابت الأنصاري. ثم
1 / 15
توالى على كتابة الوحي عدد غير قليل من الصحابة، منهم عثمان بن عفان، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ثم حنظلة بن الربيع الذي عرف من أجل ذلك بحنظلة الكاتب، على أن كتابة هذا الرعيل الأول من الكاتبين لم تكن تخلو من بعض الأخطاء الإملائية التي لم تكن من الجسامة بحيث تفسد التلاوة.
إن الرسالة السامية الجديدة تؤمن بالعلم، وتمهد لتنوير القلوب والعقول، وإن أولى آيات كتابها العزيز لفظ اقرأ وهي تمجد القلم وما يسطر: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ١ وهي تخاطب العقل وتطلب إليه أن يتأمل: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ٢ وتدفع به إلى يتدبر، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ ٣ ثم تسوقه وتشوقه إلى متابعة أحداث الكون المعجزة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ ٤ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ ٥ ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ٦.
كان طبيعيًّا أن يهدف الإنسان إلى المعرفة في نور الدين الجديد، وتحصيل المعرفة محتاج إلى القراءة والكتابة، فدعا الرسول ﷺ إلى تعلم الكتابة حتى إنه كان بعد غزوة بدر يطلق سراح الأسير إذا علم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة.
بل من المأثور أن الرسول كان يدعو إلى تعلم اللغات الأجنبية، فقد قال لزيد بن ثابت: "تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي" كما أمره بتعلم السريانية فتعلمها.
وفي نطاق هذه التوجيهات، وبسبب انتشار الإسلام، ما فتئ الداخلون في الدين الجديد من غير العرب يتعلمون العربية ليتعرفوا إلى أصول دينهم، وانتشرت اللغة العربية بينهم وانتشر معها تعلم الكتابة والقراءة، وتبع ذلك تعلم النحو النظر في الأحكام العامة من زواج وطلاق ومعاملات ونظم عامة، فبدأت المعرفة توطد أسسها وتعلي بنيانها، وأمكن
_________
١ سورة القلم الآية "١".
٢ سورة الطارق الآية "٥".
٣ سورة عبس الآية "٢٤-٣٠".
٤ سورة آل عمران الآية "١٩٠".
٥ سورة الروم الآية "٢٢".
٦ سورة يس الآية "٤٠".
1 / 16
قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها وسعى إلى تعزيزها ونشرها، فكان لا بد لذلك من خلق حركتين أساسيتين هما: الحركة الدينية والحركة الثقافية.
فأما الحركة الدينية فقد كانت أوسع الحركات، إذ إنها تضم في عطفيها علوم القرآن والحديث والفقه من معاملات وعبادات وأحكام.
لقد بدأت هذه الحركة بالقرآن الكريم، ثم بالحديث الشريف جمعًا وفهمًا وشرحًا وتفسيرًا وتأويلًا. وقد كان على رأس هذه الحركة في أول أمرها عدد من علماء الصحابة الذين كانوا على مرتبة سامية من العلم والفطنة، كان أشهرهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت وأم المؤمنين السيدة عائشة، وقد يضاف إليهم معاذ وأبو الدرداء، على أن أوفرهم علمًا فيما تكاد تجمع عليه الروايات علي وعبد الله بن عباس ١.
على أن الصحابة ينقسمون من حيث أقدارهم العلمية إلى طبقات متفاوتة، وقد ألفت في ذلك كتب كثيرة لتضع كل صحابي في طبقته أو درجته، ولعل أشهر الكتب التي اهتمت بالكتابة عن الصحابة وإيفاء كل واحد منهم قدره وإعطائه حقه هي "الطبقات الكبرى" لابن سعد و"أسد الغابة" وغيرها.
فمثلًا عند الكلام على ابن عباس فإنه يوصف بكونه أكثر الصحابة قدرة على التأويل والفتيا وما ورد في تفسير القرآن وأسباب النزول وحساب الفرائض والمغازي، كما أنه على إلمام بمعرفة الكتب الدينية الأخرى كالتوراة والإنجيل، وهو إلى ذلك عالم بأنساب العرب وأيامهم.
وإذا كانت هذه ثقافة عبد الله بن عباس، فإنه يقابله في الناحية الأخرى عبد الله بن عمر الذي يعتبر أكثر الصحابة قدرة على جمع الحديث ومعرفته وتمييزه وتصحيحه.
فإذا ما اتصلت الأمور بالقضاء فإن أكبر عقليتين قضائيتين بين الصحابة كانتا ممثلتين في عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقد بلغ علي في ذلك مبلغًا لم يصل إليه أحد من الصحابة، حتى إنه كان حلال المشاكل مذلل المعضلات، الأمر الذي نتج عنه قول الحكمة المأثورة حين تتعقد الأمور: "قضية ولا أبا حسن لها"، وأبو حسن كنية الإمام علي، وكان يحلو للصحابة أن ينادوه بها تحببًا وتوقيرًا.
إن عليًّا يصف الصحابة ويحدد القدرة العلمية لكثير منهم، فيجعل قدرة عبد الله بن
_________
١ طبقات ابن سعد "٢/ ١٠١".
1 / 17
مسعود في القرآن والسنة، ويقول عن أبي موسى إنه صبغ في العلم ثم خرج منه، ويقول عن عمار بن ياسر إنه مؤمن نسي وإذا ذكر ذكر، ويقول عن حذيفة إنه أعلم أصحاب رسول الله بالمنافقين، ويقول عن أبي ذر إنه وعى علمًا ثم عجز عنه، ويقول عن سلمان: أدرك العلم الأول والآخر، بحر لا ينزح قعره، منا أهل البيت١.
وسئل علي عن نفسه، وهو مدينة العلم، فماذا تنتظر منه أن يقول عن نفسه، إنه يقول بكل لباقة وتواضع: كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتدئت.
لقد كان لا بد للمسلمين في البلاد الجديدة المفتوحة من معلمين ومرشدين، فكان طبيعيًّا أن يتفرق الصحابة في الأمصار معلمين ومرشدين ومثقفين، وكان عمر حينما يبعث صحابيًّا إلى بلد ما فإنه كان يزوده بخطاب يقدمه به إلى الناس الذين ربما وجدت كثرة بينهم لا تعرف قدره. وكان هذا الخطاب من الخليفة بمثابة تقديم وتكريم للصحابي المبعوث، فحينما بعث عمر عبد الله بن مسعود إلى الكوفة، وهو من خيرة الصحابة علمًا وفضلًا، بعث الخليفة إلى أهل الكوفة يقول لهم: إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وآثرتكم به على نفسي فخذوا عنه.
أرأيت إيجازًا أبلغ من هذا الإيجاز وتكريمًا أطيب من هذا التكريم؟ إن أمير المؤمنين عمر -وهو من هو- يقول لأهل الكوفة في مقام تكريم عبد الله بن مسعود: لقد آثرتكم به على نفسي، إن المسألة في الواقع لا تكمن في تكريم ابن مسعود بقدر ما تهدف إلى تكريم العلم نفسه، أما وأن عبد الله بن مسعود من العلماء، فهو لعلمه وفضله جدير بالإجلال والتكريم.
لقد توزع الصحابة في الأمصار معلمين للناس ومستشارين وحكامًا ومفتين، ثم كان لكل صحابي مدرسة من مريديه، وهؤلاء المريدون هم التابعون، وكان للتابعين مريدون أيضًا فعرفوا بتابعي التابعين، وهكذا اتسع نطاق الثقافة الدينية ورحبت آفاقها على يد هؤلاء وأولئك في هذا المصر أو ذاك، فنشأت نواة الحركة العلمية العقلية بعد جيلين أو ثلاثة من جيل الصحابة والتابعين.
وواضح أن علماء الدين كانوا جميعًا -في أول الأمر- من العرب، غير أن الإسلام لا يفرق بين عربي وغير عربي، والعلم ملك للجميع، يسموا قدر المرء بقدر ما يغترف من علم وبقدر ما يتحلى به من مكرمات، وكان طبيعيًّا أن يقدم الموالي على التعلم، فلا تلبث طبيعة العلم أن تجعل رءوس العلماء في الأمصار الإسلامية منهم.
_________
١ فجر الإسلام "ص ١٥٠".
1 / 18
ففي مكة نجد مجاهد بن جبر وكان مولى ابن عباس، وعطاء بن رباح مولى فهر وكان أسود اللون، ولكن الإسلام الذي لا يعترف بالألوان ولا بالأحساب وضعه في مكانه الطبيعي وهو مكان العلماء، وأبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مولى حكيم بن خزام، ولقد كان هؤلاء وهم من الموالي يجعلون العلم ميسرًا في مكة لكل طالب وكانوا مراكز إشعاع عقلي وإنعاش روحي.
فإذا نظرنا إلى الكوفة وجدنا على رأس علمائها سعيد بن جبير، وكان صاحب علم وفضل، وكان هو الآخر أسود اللون.
وكانت البصرة تتضوع علمًا وتزدان بالعلماء وكانت من أكثر الأمصار إشعاع ومنطلق تفكير وكان علماؤها أيضًا من الموالي، فمنهم محمد بن سيرين وكان أبوه من سبي ميسان وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق، هذا ولا يستطيع الخاطر إعفال الحسن البصري كبير علماء البصرة وعظيم مفكريها وسيد فقهائها وكان أبوه أيضًا من سبي ميسان ومولى لزيد بن ثابت.
فإذا ما انتقلنا إلى مصر وجدنا فيها يزيد بن حبيب مولى الأزد، وهو من أصل سوداني فأبوه من دنقله. ولقد كان يزيد مفتي أهل مصر وكبير علمائها، وهو أستاذ الليث بن سعد الإمام العالم الذي جرت بينه وبين الإمام مالك مساجلات ومكاتبات، وذهب بعض أهل الذكر إلى أن الليث كان أفقه من مالك ولكن ضيعه قومه، أي أن قومه في مصر لم يعطوه حقه، ولم يقبلوا على علمه الغزير إقبالهم على علم غيره من علماء المسلمين.
إنها ليست مصادفة أن يكون على رأس المفكرين المسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الموالي، كما أنه ليس أيضًا من قبيل التصنع والافتعال، ولكن ذلك أمر طبيعي تمامًا؛ أن الذي يقبل على العلم من أبناء المسلمين يغض النظر عن عروبته أو مولويته -يحتل المكانة اللائقة به كواحد من أهل العلم، فالطريق مفتوح والفرصة سانحة لصاحبها أن يبرز ويلمع طالما كان لذلك أهلًا وبالاحترام جديرًا.
وتتسع الحركة العلمية الدينية بعد ذلك فتنشأ علوم القرآن من تفسير وتأويل وقراءات وتجويد، وتنشأ علوم الحديث أيضًا، ويستتبع ذلك ظهور علوم الفقه والتوحيد والأصول، وترتبط بها علوم اللغة من نحو وصرف، ثم علوم الأخبار وهو ما يمكن أن نسميه ببداية الحركة التاريخية الأدبية.
وإذن فقد كانت الحركة في أول أمرها مستهدفة تجلية العلوم الدينية من تفسير وحديث وعلوم قرآنية وفقه وتوحيد وأصول، وهذا استتبع بدوره العناية باللغة العربية وفروعها من رواية واشتقاق ونحو وشواهد من شعر ونثر، ثم كانت مادة الأخبار والنوادر والأسماء التي
1 / 19
شكلت الحركة الأدبية التاريخية.
وكان من الطبيعي أن تتمايز الحركتان، فالحركة الأدبية على ما فيها من أخبار ونوادر وسير وأسماء تركز على اللغة والشعر والنثر والخطب، والحركة التاريخية على ما اهتمت به من خطب وشعر اهتمت أيضًا بسيرة الرسول ﷺ والخلفاء والمغازي والفتوح وسير الأقدمين وأخبارهم.
وهكذا تسير الحركة العلمية وئيدة في أول أمرها مستهلة نشاطها بالتدوين، ثم بالجمع والرصد والتصنيف والتأليف والإبداع.
على أن الأمر الجدير بالتسجيل هو أن الثورة العلمية الفكرية قد انبثقت من الصحابة أنفسهم حين نبغ غير قليل منهم في أصول المعرفة وأصبحوا أصحاب امتياز في ميادين بعينها، فقد نبغ الإمام علي في القضاء، ونبغ معاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، ونبغ زيد بن ثابت في المواريث وتقسيم الغنائم، ونبغ أبي بن كعب في قراءة القرآن.
1 / 20
الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية
لم يعرف "التاريخ" عند العلماء القدامى بادئ ذي بدء كعلم محدد الوظيفة الثقافية كما هو الحال بعد ذلك بفترة طويلة من الزمان، وإنما كانت هناك حاجة إلى المعرفة العامة في نطاق التطور الجديد للمجتمع الإسلامي الواسع المترامي الأطراف الذي ضم أممًا عديدة وعناصر شتى.
لم يكن هناك تسمية واضحة لجميع المعارف عن هذه الأمم وعن تلك العناصر الجديدة، ولكن كان لا بد من جمع معارف عن المملكة الإسلامية وماضي شعوبها والممكن من أخبارها، وكانت هناك ضرورات لهذا الجمع لعلها تتمثل في النقاط الآتية:
- إن اتساع الدولة جعلها في حاجة شديدة إلى العلم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، والإدارة والتنظيم وطريقة الحكم، وسير رجال الأمم، والسياسات والحروب والمكايد، وكانت هذه هي الطريقة التي يثقف معاوية بها نفسه على سبيل المثال.
- هناك فئات كثيرة دخلت الإسلام بعاداتها وتقاليدها وعقائدها وتاريخها، فاليهود مثلًا نشروا أخبارهم بين المسلمين وهو ما يسمى بالإسرائيليات، والنصارى فعلوا الشيء نفسه، والفرس دخلوا بتاريخهم وأساطيرهم، وكانت كثير من الأخبار التي يحفظونها ويرددونها لا تخلو من عصبية لأصحابها.
- الاهتمام بجمع الحديث؛ لأن فيه كل ما كان يفعله الرسول من عبادات وتشريع ومعاملات، وفيه وعظ وإرشاد. وفيه كل ما يتعلق بحياة الرسول في مكة والمدينة وتحركاته وغزواته.
- ضرورة الاهتمام بأعمال الخليفة الأول أبي بكر وتسجيل فتوحات الخليفة الثاني عمر وما اتصل بحكم كل منهما من أحداث هامة وما أكثرها وأجلها.
1 / 23
لقد كانت الأقسام التاريخية هي الأساس الحقيقي لكتب السير والمغازي التي لم تلبث أن تمخض عنها علم التاريخ.
وهناك حقائق كبرى عن فجر تدوين كتب غير قليلة في المغازي، منها على سبيل المثال:
١- عروة بن الزبير بن العوام ٢٣ - ٩٤هـ هو أقدم من ألف في سيرة الرسول.
٢- وهب بن منبه ٣٤- ١١٠هـ ألف كتابًا في المغازي.
٣- أبان بن عثمان بن عفان ٢٢ - ١٠٥هـ جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة المتوفى ١٠٥هـ كتابًا في السير.
٤- ابن شهاب الزهري جمع كتابًا في المغازي.
٥- موسى بن عقبة ت ١٤١هـ جمع كتابًا في المغازي.
وقد عثر على قطعة منه طبعت سنة ١٩٠٤. ١
القضية إذن ليست بدوات أو أفكارًا تروح وتجيء وإنما هي عملية تأليف منظمة أو تصنيف معتنى بها، لنا أن نسميها ما شئنا ولكنها في حقيقتها عملية علمية تاريخية واضحة المعالم ملموسة الأسباب نشأت مبكرة، وكانت في بكورها أقدم مما يتصور الكثيرون من الدارسين.
على أن هذا النهج لا يلبث أن يربطنا بنهج آخر كل منهما يتمم صاحبه، ونعني به القصص.
والقصص بفتح القاف عرف قديمًا منذ الأيام الأولى لفجر الإسلام، وهو لا شك مصدر من مصادر المعرفة العامة، وليس القصص الذي نقصد إليه هو هذا المتعارف عليه في أيامنا المعاصرة، وإنما القصد منه عند نشأته كان الوعظ وتذكير الناس بالآخرة وصرفهم عن ضروب الملاذ التي إذا ما أغرقوا أنفسهم فيها أدى ذلك إلى فساد دينهم ودنياهم. ومن هنا كان القاص في حقيقته واعظًا، وإنما هو يستعمل أساليب القصص في وعظ الناس وهدايتهم عن طريق أخبار الأولين وقصص الأقدمين، فما من جبابرة إلا زالوا ولا أباطرة إلا ماتوا، الذكر الجميل أولى بصاحبه من الذكر القبيح وسوء ترديد السيرة. لقد كان القصص يتم في المسجد، وأول قاص في الإسلام هو تميم الداري، وقد أغرم بإرشاد الناس وهدايتهم واستأذن عمر في ذلك فرفض أول الأمر، ثم ما لبث أن وافق
_________
١ فجر الإسلام "ص ١٥٨".
1 / 24
وأذن له، على أن تكون حلقته يوم الجمعة من كل أسبوع، وهناك قول بأن تميمًا بدأ وعظه كقاصٍّ على عهد عثمان، على أن هذا لا يعنينا إلا من ناحية واحدة هي أن القصص بدأ مبكرًا في الإسلام، وأنه كان وعظًا خالصًا يتتبع فيه القاص طريقة هداية الناس بذكر أحاديث الأقدمين، وأن ذلك كان يتم في مسجد رسول الله في المدينة مرة كل أسبوع أول الأمر، وأن أول قاصٍّ في الإسلام هو تميم الداري.
ومن الطريف أن نعرف أن تميمًا كان نصرانيًّا وأسلم سنة ٩هـ، وكان ذا مكانة دينية عند نصارى نجران، وربما كانت نزعته إلى الترهب والوعظ من بقايا أثر المسيحية فيه، ولذلك فقد سمي: راهب أهل عصره.
ولم يكن القاص يؤلف الأخبار التي يستعين بها على وعظ الناس، وإنما كان يستعين بالقصص المتوارثة والأساطير القديمة معتمدًا في أقواله على الترغيب والترهيب.
وينشط القاصون ويتقنون فنهم وينجحون في إشاعة جو روحي بين الناس فتعمد الدولة إلى جعل القصاص موظفًا رسميًّا، فإذا انتهت صلاة الصبح جلس القاص -في المسجد على ما مر بنا- ودعا للخليفة وأنصاره، ودعا على أعدائه وذكر بعض المواعظ.
على أن الأمر بعد ذلك لم يلبث أن شابه بعض الشوائب حين كان القاص لا يتحرى الأخبار التي يحكيها ويقدمها للناس، فشاع الكذب بين بعض القصاص باستثناء الحسن البصري.
وتتسع مهام القاص فيجمع إلى عمله عملًا آخر على جانب آخر من الأهمية وهو القضاء، فقد كان القاضي بعد ذلك قاصًّا رسميًّا. وقد قيل في هذا السبيل إن أول قاص في مصر هو سليمان التجيبي سنة ٣٨هـ جمع القصص إلى القضاء، ثم ما لبث أن تخلى عن القضاء وتفرغ للقصص١.
على أن هذا الطريق كان محفوفًا بالمكاره؛ لأن كثيرًا من الأساطير اليهودية والنصرانية أفسدته وشكلت بابًا خطيرًا على جوهر العقيدة الإسلامية حين فتحت الطريق لبعض الغلاة فأنشئوا أحاديث مزيفة ونسبوها إلى الرسول قاصدين منها الترغيب والترهيب. ثم ما لبث فساد القصص أن شكل عاملًا آخر في إفساد التاريخ.
والقصاصون من الكثرة بمكان، وقد كان منهم البارعون في سوق أحاديثهم وتنغيمها علوًّا وانخفاضًا، وترديدها إيجازًا وإطنابًا إلى الحد الذي كانوا يتمكنون من خلاله من استدرار دموع التوبة من السامعين، وإبكاء بعض من يعظونهم من الخلفاء حتى تبلل الدموع
_________
١ راجع فجر الإسلام "ص ١٥٨" وما بعدها.
1 / 25
لحاهم. لقد كانوا -والحال كذلك- على قدر كبير من البراعة في تقديم ما لديهم من مواعظ ربما استعملوا معها شيئًا من الحركات التمثيلية.
وإذا كان تميم الداري هو أول قاص في الإسلام على ما مر بنا، فإن أشهر قاصين هما: وهب بن منبه وكعب الأحبار. ووهب وكعب يعتبران في الوقت نفسه أشهر منبعين للقصص الديني.
فأما وهب بن منبه فهو يمني من أبناء الفرس الذين زود بهم كسرى سيف بن ذي يزن حتى يسترد ملكه من نجاشي الحبشة الذي كان قد استولى على اليمن واحتلها. فاستنجد سيف بكسرى، الذي أمده ببضعة آلاف من الجنود استردوا له عرشه، وظل عدد كبير من هؤلاء الجنود يقيم في اليمن.. فكان وهب واحدًا من سلالة هؤلاء الفرس.
ويذكر ابن قتيبة أنه رأى لوهب كتابًا ترجم فيه للملوك المتوجين من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم.
وكان وهب قبل إسلامه من أهل الكتاب، وكان يقول: سمعت اثنين وتسعين كتابًا كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس وعشرون في أيدي الناس لا يعلمها إلا قليل، وقد نسب إليه صاحب كشف الظنون كتابين هما قصص الأنبياء وقصص الأخبار.
ولقد كان وهب واسع الثقافة الدينية من إسلامية وكتابية، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء الذي ولد ومات فيها سنة ١١٤هـ وقيل سنة١٢٠ بعد أن عمر تسعين سنة١.
وأما كعب الأحبار واسمه الحقيقي كعب بن ماتع فأصله من اليمن أيضًا وكان يهوديًّا وأسلم في خلافة أبي بكر، وكان كعب الأحبار كثير التنقل، ويعتبر هذا الرجل المعين الأول للإسرائيليات التي تفشت في كثير من الكتب الإسلامية. ولقد تأثر به كل من ابن عباس وأبي هريرة، ويبدو أن كعب الأحبار هذا كان من اللباقة وسرعة البديهة وغزارة المعلومات بحيث استطاع أن يخلب لب غير قليل من أعلام المسلمين الأولين. هذا فضلًا عن جرأة غريبة كانت فيه، فابن سعد يقول إن كعب الأحبار كان يجلس في المسجد وأمامه أسفار التوراة يقرؤها غير متحرج من ذلك٢.
وقد روي أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنك ميت بعد ثلاثة أيام، فيقول له عمر: وما أدراك؟ فيقول: أجده في كتاب الله ﷿ التوراة. فيقول عمر في شيء من
_________
١ راجع المعارف "٢٠٢" وطبقات ابن سعد "٥/ ٣٩٥" والذهبي "٥/ ١٤-١٦".
٢ الطبقات "٧/ ٩٧".
1 / 26
الاستنكار: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ فيقول كعب: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك١.
هذا وقد أخذ كثير من علماء المسلمين روايات كعب الأحبار بكثير من الحيطة، بل إن من بينهم من امتنع عن الرواية له مثل ابن قتيبة والنووي، والبعض روى عنه بشيء من التحفظ مثل ابن جرير الطبري، وهناك من نقل عنه قصص الأنبياء مثل الكسائي.
ويكنى كعب الأحبار بأبي إسحاق، وهو على إسرائيلياته أخذ عن الصحابة بقدر كبير من الكتاب والسنة، وقد استقر في حمص وتوفي فيها سنة٣٢ هـ عن مائة سنة وأربع سنين٢.
هذا والجدير بالذكر أن مجالس القضاء لم تكن تشتمل على الحكاية الدينية وحدها، بل كان في مجالسهم التفسير والحديث والفقه واللغة والجدل الديني، ولعل مجالس الحسن البصري دليل على ذلك، والحسن واحد من أشهر قصاصي المسلمين، وكانت مجالسه في مسجد البصرة بجوار اسطوانته الخاصة به حافلة بكل أنواع المعرفة مليئة بألوان من الجدل العقلي الذي من خلاله انبثقت مدرسة المعتزلة في الإسلام.
ولذلك فإن الغزالي حينما أنحى على هؤلاء القصاص باللائمة واعتبر عملهم شيئًا منكرًا لا يليق بحرمة المساجد استثنى من بينهم الحسن البصري الذي كان الغزالي يكن له كل تقدير واحترام.
على أن الغزالي برأيه في القصاص لا يجعلنا نغفل قدر عدد من علماء المسلمين الذين كانوا يجعلون من القصص وسيلة لإفشاء علمهم على الناس وترغيبهم فيه وتقريبهم إليه. وكانت هناك حلقات كبرى لكثير من أئمة المسملين وعلمائهم، فهذا عبد الله بن عباس يجلس في الكعبة وحوله عدد كبير من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس وافرة العدد تجمع بين الصفوة والعامة والصغار والكبار، فالإمام الحسن بن علي يفد إليه مستمعًا فيمن يفد، والإمام مالك يتردد عليه وهو لا يزال صبيًّا يريد أن يغترف من بحر علمه.
وفي مسجد الرسول أيضًا يجلس الإمام جعفر الصادق بعد فترة من الزمن واسعة تفصل بين مجلسه ومجلس ربيعة الرأي يفيض على الناس من علمه وفقهه وفضله.
وفي مسجد البصرة يجلس الحسن البصري في مجلسه الذي مر ذكره قبل قليل، ذلك
_________
١ فجر الإسلام "١٦١".
٢ حلبة الأولياء "٥/ ٣٦٤" وتذكرة الحفاظ "١/ ٤٩".
1 / 27
المسجد الذي كانت تتعدد حلقات الدرس فيه.
ومهما قيل في حلقات الدرس هذه التي كانت تسمى أحيانا بحلقات القصاص أو مجالسهم، فإنها خرجت عددًا كبيرًا من علماء المسلمين وأئمتهم كما نشطت العقل الإسلامي ودربته على الجدل الذي نشط لمناقشة اليهود والنصارى في محافل عامة، أو مجادلة الفرق الإسلامية بعضها بعضًا.
صحيح أنه كان بالقصص على بداية عهد بني أمية مسحة من سياسة، ولكنه في الوقت نفسه ساعد في نطاق المجالس المشار إليها على تنمية العلوم الدينية والعقلية وإنعاشها من تفسير وحديث وفقه، ومن لغة وجدل وبداية لعلم التاريخ تمهيدًا لظهور التأليف عند المسلمين.
على أن القصص كان في واقع أمره مرتبطًا بالفكرة الدينية أكثر من استهدافه تسجيل الحقائق التاريخية، ولكن الحاجة إلى معرفة الأمم الماضية -وبخاصة تلك التي فتح الإسلام أراضيها- كانت من الأهمية بالنسبة للحكام ولعامة المسلمين بمكان. وآية ذلك ما روي عن معاوية بن أبي سفيان من أنه كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم ينام طرفًا من الليل ولا يلبث أن يستيقظ، فتبسط أمامه الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب ومكايدها، ويقوم بقراءة ذلك عليه غلمان مرتبون لهذا العمل١.
_________
١ فجر الإسلام "١٥٦".
1 / 28
الفصل الثالث: حركة التدوين
مدخل
...
الفصل الثالث: حركة التدوين
إن للتدوين أهميته وخطره، ذلك أن المادة المدونة هي الأساس الذي منه يلتقط المرء صنوف المعرفة يثقف بها نفسه ويروض بها عقله، ثم تختمر فيه لكي تجعل منه بعد ذلك منبعًا معطاء سواء في مجال التصنيف أو في التأليف.
ولكن إذا سألنا أنفسنا عما إذا كان هناك تدوين قبل الإسلام في النطاق العربي فماذا يكون الجواب؟
الواقع أن التدوين بالشكل المألوف الذي يؤدي إلى صور المعرفة المتعددة الألوان لم يكن معروفًا قبل الإسلام، باستثناء حالات قليلة لا تنهض لكي تشكل أساسًا يمكن أن ننطلق منه إلى عطاء يؤدي إلى معرفة واسعة.
لقد أدت الاكتشافات الأثرية إلى أن الحميريين كانوا يدونون أخبارهم والكثير من حوادثهم على الأحجار بخطهم الخاص بهم، وعلى أطراف الجزيرة العربية عرف أهالي الحيرة الكتابة ولكن بشكل محدود، وفي الحجاز وجد عدد قليل من الناس يعرف الكتابة، وكانت قلة من الشعراء تعرف الكتابة، وكان بعضهم يكتب قصائد وينسقها بنفسه، وفي بعض الروايات أن الرسول "ص" لقي سويد بن الصامت ومعه مجلة لقمان يعني صحيفة كتب فيها حكم لقمان، إلا أن ذلك كله لا ينتهي بنا إلى نتيجة مريحة حول وجود تدوين قبل الإسلام. فوسائل التدوين إن وجدت كانت بدائية.
تدوين القرآن الكريم وتفسيره: ولما أنزل القرآن الكريم لم يكن بد من كتابته، وكان للوحي كتاب كما مر بنا، كانوا قلة من حيث عددهم، وكانوا يكتبون ما قد أنزل من الآيات على الرباع والأضلاع وسعف النخل والحجارة والرقاق البيض.
تدوين القرآن الكريم وتفسيره: ولما أنزل القرآن الكريم لم يكن بد من كتابته، وكان للوحي كتاب كما مر بنا، كانوا قلة من حيث عددهم، وكانوا يكتبون ما قد أنزل من الآيات على الرباع والأضلاع وسعف النخل والحجارة والرقاق البيض.
1 / 31
إنها وسائل بسيطة ابتدائية، ثم كان العمل الجليل الخطير الذي قام به أبو بكر في خلافته، بوصية من عمر، ونعني به جمع القرآن من صدور الحفاظ، ومن الرقاق والأضلاع والرقاع والسعف والحجارة التي كتب عليها، فبدأت عملية التدوين الكبرى الخالدة التي تخطئ قيد أنملة فيما قامت به من مهمة ليس لها مثيل في التاريخ.
إن تدوين القرآن الكريم بعد جمعه يعتبر البداية الفعلية الخطيرة لعلم التدوين.
والحق أن عملية جمع القرآن كانت من الدقة والعناية والحذق بمكان، ولكن الأمر لم يقف بالقرآن الكريم عند جمعه ولا بالمسلمين عند ذلك الجهد المخلص العظيم، وإنما احتاج المسلمون إلى فهم ما قد يستغلق عليهم فهمه من معاني آياته، فكان لا بد من وجود المفسر. ولما لم يكن كل مسلم صالحًا للتفسير، وإنما هي مؤهلات بعينها ينبغي لمن يتصدى لتفسير الكتاب العزيز أن يتحلى بها، فقد كان على صفوة الصحابة ممن عايشوا الرسول ﷺ أن يقوموا بتلك المهمة كل قدر استعداده. ولم يكن الصحابي يشعر بأي حرج إذا لم يفهم الآية، بل إن عمر العظيم كان في بعض الأحيان إذا استغلق عليه استخلاص حكم من آية، يسأل غيره من الصحابة عن تفسير آية بعينها مثل ما فعله مع عبد الله بن عباس١ فأصبح ذلك تقليدًا في نطاق علم التفسير لا يزال ساري المفعول إلى يومنا هذا وإلى كل يوم في المستقبل.
فالذي لا شك فيه أن في الكتاب العزيز آيات كثيرة تحتاج إلى تفسير، فهناك الآيات المحكمات، وفيه أيضًا الآيات المتشابهات، وفيه الآيات التي يحتاج تفسيرها إلى أسباب نزولها، وفيه آيات العبادة والتشريع والمعاملات. وفي الآيات من الألفاظ ما يحتاج فيه إلى معرفة اللغة وإتقان فهمها والإلمام بعلومها، كل ذلك حد من عدد المفسرين بحيث كان عدد الصحابة ممن تصدوا لتفسير الكتاب العزيز من قلة العدد بمكان، وأشهر الذين جلسوا للتفسير علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب.
ويمضي جيل الصحابة ويليه جيل التابعين الذين أخذوا عن الصحابة من علوم الدين ما أخذوا وبينها التفسير، ثم يلي ذلك جيل تابعي التابعين، ومع كل جيل تتسع آفاق المعرفة خاصة وأنهم كانوا قد تفرقوا في الأمصار حيث ألوان جديدة من الثقافات، ولكنهم في الوقت نفسه محافظون على ما في صدورهم من علم موروث بالرواية والدراية، وبالجهد المخلص المكتسب، حتى ظهرت التفاسير المكتوبة التي اعتمد المفسرون فيها على مؤهلات المفسر وفي مقدمتها الرواية الموروثة المتسلسلة عن الصحابة والتابعين. وهذا
_________
١ الموافقات للشاطبي "٣/ ٢٠١" وما بعدها.
1 / 32
النوع من التفسير هو التفسير بالمأثور. ولكن اتجاهًا آخر في نطاق التفسير عند جانب من علماء المسلمين وهو التفسير بالرأي، وكان المفسرون الذين اتخذوا هذا النهج طريقًا يعتمدون على عقولهم مع إتقانهم العربية وعلومها والحديث وأحكامه، فضلًا عن عدم الشذوذ عن روح التفسير المأثور.
هذا وقد ند عن هذا السبيل بعض من عرضوا للتفسير بغير عدة من روح الكتاب العزيز والسنة واللغة والإلمام بالأحداث المهمة التي تساعد على فهم القرآن مثل ابن جريج والسدي ومقاتل بن سليمان. ولقد تأثر هذا الأخير ببعض الإسرائيليات التي هي بعيدة كل البعد عن المقصد القرآني، هذا وإن عددًا آخر من الذين أثرت عنهم تفاسير لم تصل إلينا لحسن الحظ قد تورطوا فيما تورط فيه مقاتل بن سليمان من تأثر بالآراء اليهودية والنصرانية التي لم تتفق مع المعنى القرآني، ومن بين هؤلاء المفسرين محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار.
على أنه يمكن القول بأن أول من فسر القرآن تفسيرًا أمينًا، هو يحيى بن زياد بن عبد الله ابن منظور المشهور بالفراء، إمام الكوفيين الذي كان يلقب بأمير المؤمنين في النحو والمتوفى سنة ٢٠٧ هـ عن ثلاثة وستين عامًا، وكان المأمون قد اختاره لعلمه وفضله ودينه مؤدبًا لولديه. والتفسير الذي نقصده هو كتاب "معاني القرآن"١ ثم تتابع بعد ذلك المفسرون بمدارسهم العديدة ومناهجهم المتباينة، فكان أشهر مفسري المأثور ابن جرير الطبري وأبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، والقرطبي، وأشهر المفسرين بالرأي مفسرو المعتزلة ويمثلهم الزمخشري، والشيعة ويمثلهم الطبرسي.
تدوين الحديث: كان حديث رسول الله ﷺ، هو المصدر الثاني للعقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، وتدوينه أمر من الأهمية بمكان؛ لأنه يمثل الناحية التطبيقية للعقيدة والشريعة، ومن هنا فقد فطن بعض الصحابة إلى ذلك وأخذوا يدونونه من تلقاء أنفسهم، وكان على رأس الصحابة الذين دونوا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، وهو في ذلك قد قصد إلى الحفظ قصدًا، أو قصد إلى التسجيل تمهيدًا للرواية عنه كاتبًا أو حافظًا. وكان أبو هريرة المعروف بحفظه لأحاديث رسول الله وروايتها المشهور يشهد لعبد الله _________ ١ انظر وفيات الأعيان مادة يحيى بن زياد ومعجم الأدباء "٧/ ٢٧٦" والفهرست "ص ١٠٥".
تدوين الحديث: كان حديث رسول الله ﷺ، هو المصدر الثاني للعقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، وتدوينه أمر من الأهمية بمكان؛ لأنه يمثل الناحية التطبيقية للعقيدة والشريعة، ومن هنا فقد فطن بعض الصحابة إلى ذلك وأخذوا يدونونه من تلقاء أنفسهم، وكان على رأس الصحابة الذين دونوا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، وهو في ذلك قد قصد إلى الحفظ قصدًا، أو قصد إلى التسجيل تمهيدًا للرواية عنه كاتبًا أو حافظًا. وكان أبو هريرة المعروف بحفظه لأحاديث رسول الله وروايتها المشهور يشهد لعبد الله _________ ١ انظر وفيات الأعيان مادة يحيى بن زياد ومعجم الأدباء "٧/ ٢٧٦" والفهرست "ص ١٠٥".
1 / 33
ابن عمرو بن العاص، فيقول: ما أجد من أصحاب رسول الله ﷺ أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب.
ومعنى ذلك أن كبير رواة الحديث على عهد الرسول وبعده وهو عبد الله بن عمرو، ويأتي من بعده أبو هريرة وسائر الصحابة وأهل بيت الرسول.
ولما كان الحديث الشريف هو المكمل للأحكام التي لم تأتِ صريحة في القرآن الكريم، ولما كان يمثل الناحية التطبيقية في الدين، فقد كان الاهتمام به وبكتابته أمرًا على جانب كبير من الأهمية، ولكن الرسول ﷺ كان ينهى عن كتابته بل إنه قال ما معناه: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، لقد اقتضت حكمة الرسول ﷺ في هذا الحديث أنه لا شيء جدير بالكتابة والتسجيل إلا كتاب الله سبحانه تعزيزًا لقدره وتكريمًا لشأنه، وربما خطر للرسول ﷺ أنه بتدوين أحاديثه ربما وقع بعض الجهلاء في الخلط بين القرآن والحديث، وإن كان ذلك أمرًا بعيدًا كل البعد؛ لأن للصيغة الإلهية في القرآن الكريم بيانها وإعجازها وتميزها الذي لا يمكن أن يجعل هناك شبهة خلط بين القرآن الكتاب الإلهي، والحديث القول النبوي الإنساني، وإن كان ﷺ لا ينطق عن الهوى.
لكن بعض الأحكام التي لم تفصل في القرآن الكريم قد أوقعت الصحابة والخلفاء الراشدين في مواقف لم يكن الخروج منها والحكم فيها من اليسر بمكان، فعن الخمر مثلًا تكون صيغة التحريم القرآنية في نطاق الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ١. وفي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ٢. أما مقدار التحريم وكيفيته وهل هو تحريم كلي أو تحريم جزئي فإن ذلك لم يرد تفصيلًا في الكتاب العزيز وهناك يلجأ الحكام والفقهاء إلى حديث الرسول ﷺ فيجدون فيه الملجأ والعاصم وفصل الخطاب في الحديث الشريف: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وبذلك يقطع الشك باليقين ويصدر الحكم واضحًا لا لبس فيه ولا غموض.
ومثال آخر يتعلق بالمواريث، وآية المواريث في القرآن الكريم من التفضيل بمكان الكتاب العزيز٣: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ ... إلى قوله تعالى
_________
١ سورة المائدة: الآية "٩٠".
٢ البقرة: الآية "٢١٩".
٣ النساء: الآيتان "١١، ١٢".
1 / 34