Methodological Advice for the Student of Sunnah
نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية
خپرندوی
دار عالم الفوائد
د ایډیشن شمېره
الأولى ١٤١٨ هـ
د خپرونکي ځای
مكة المكرمة
ژانرونه
نصائح منهجية
لطالب علم السنة النبوية
تأليف
الشريف حاتم بن عارف العوني
الناشر: دار عالم الفوائد - مكة المكرمة
الطبعة: الأولى - سنة الطبع: ١٤١٨هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
إعداد: أبو عبد الرحمن حاتم بن حسن الحسيني - ملتقى أهل الحديث
1 / 1
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وصلى الله أفضل صلاة وأكمل تسليم على سيد ولد آدم المبعوث رحمة للعالمين محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه والتابعين:
أما بعد: فإن طلب العلم من أعظم العبادات، وثوابه يفضل ثواب أكثر القربات، وسبل تحصيله سبل الجنات، تظله الملائكة فيها بأجنحتها خاضعات، وتنزل على مجالسه السكينة والرحمات.
فرضي الله عن سهر تلك الليالي في الجد والتحصيل، وأنعم بتلك الخطى في طلب علوم التنزيل، وأعظم بالزاهدين إلا في ميراث النبوة، الهاجرين المضاجع والأوطان الآخذين الكتاب بقوة.
فإن عجب أحد من هذا الثناء القليل، في طالب العلم الجليل؛ سألته بالله:
ناپیژندل شوی مخ
هل دبت على وجه الأرض خطى أشرف من خطى طالب علم؟!
وهل حوت الأسحار والأبكار أجد منه في طلبه؟! وهل مر على الأسماع ألذ من دندنة المتحفظين وزجل القارئين؟! وهل امتلأت القلوب هيبة لمثل منكب على كتاب؟! وهل انشرحت الصدور إلا في مجالس الذكر؟! وهل انعقدت الآمال جميعها إلا على حلق التعليم؟! وهل نزلت السكينة والرحمة على مثل الدارسين لكتاب الله العظيم؟! وهل تضاءلت عروش الملوك إلا عند منابر العلماء؟! وهل عمرت المساجد في غير أوقات الصلوات بمثل مجالس التعليم؟!
أخبروني؟ بالله عليكم!!!
ثم أسألكم بالله: هل تعلمون خيرًا من شاب في هذا العصر، هجر الدنيا وزهد ملذاتها، ونأى بعيدًا عن شهواتها، وانعزل عن فتنها التي تستفز الحليم، وانقطع عن إغواءاتها التي تستخف بالرزين، وترك الناس على دنياهم يتكالبون، وهجر من أهله وإخوانه
1 / 2
تنافسهم على القصور والأموال والمناصب، فإن مر على اللغو مر مر الكرام، وإن تعرض له الجاهلون أعرض وقال: سلام؛ وهو مع ذلك شاب في عنفوان الشباب، أمامه مستقبل عريض، وعليه مسئولية بناء جديد، وينظر إلى الأفق البعيد نظرة ملؤها الآمال والأحلام، تفور فيه غرائز الشهوات، ويجيش فؤاده بالعواطف، وتتفجر دماؤه حماسًا؛ ثم هو هو ذلك الذي تجاوز هذا كله!! وجعله وراءه ظهريًا!! وأقبل على العلم.. على مرارته، وانكب على الكتاب.. على ملالته، وإذا حن إلى عناق كاعب..خالفته يدا كاتب، وإذا اشتهت شفتاه أن يرتشف الرضاب.. تمتم ملتذًا بقراءة كتاب؛ قطع الأيام في التحصيل، وسهر الليالي على الدرس والترتيل؛ يقرأ حتى تزوغ عينه، ويكتب حتى تكل يده، ويدرس حتى يكد ذهنه!!!
أخبروني.. من أفضل من هذا؟!!
مع ذلك فإنه يرى أن الذي هو فيه: هو الحياة حقًا، وجنة دار الفناء صدقًا، يرحم أهل الدنيا، ويحنو على أبناء الملذات؛ لأنه يعرف أنه على برنامج العلماء، ومنهج الأولياء، وخطة الفقهاء، وغاية الكبراء، ومعارج الأتقياء.
فيترنم بقول القائل:
لمحبرة تجالسني نهاري ... أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي ... أحب إلي من عدل الدقيق
ولطمة عالم في الخد مني ... ألذ لدي من شرب الرحيق
ولست أنا بالذي يذكر فضل طالب العلم، إذ قد رددت ذلك المحاريب وأصداؤها، وضجت به أروقة المساجد وقبابها، وتعبد بترتيله المتهجدون، وتقرب بتدبره أهل العلم الراسخون؛ وقبل ذلك نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين ﷺ؛ وقبل ذلك تكلم به الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم؛ فقال تعالى: في الحث على سؤال التعلم - الذي هو أول درجاته - (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا
1 / 3
تعلمون) [النحل: ٤٣]، وقال ﷿ في الأمر بالرحلة لطلب العلم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) [التوبة:١٢٢]، وما أمر سبحانه نبيه ﷺ بطلب الزيادة في شيء في الدنيا، إلا من العلم، فقال تعالى: (وقل رب زدني علمًا) [طه:١١٤]؛ وأشاد سبحانه - أيما إشادة! - بفضل أهل العلم، ورفع من شأنهم، وأعلى من قدرهم، بما يعجز عن بيانه إلا البيان المبين، من كلام رب العالمين، فقال عز من قائل (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: ١٨]، وقال ﷾: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: ٢٨]، وقال سبحانه (يرفع الله الذين ءامنوا والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: ١١]، وقال عز شانه (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر: ٩] .
فلما كانت لطالب العلم مكانته التي نوهنا ببعضها، تبين أنه على صغر سنة طالب جليل، وعلى قلة عمله بسلوكه مسالك الطلب استحق التبجيل.
ومن حق هذا الذي يقفو آثار العظماء، ويلوث على رأسه عمامة العلماء؛ أن يكون له نصيب من التوجيه كبير، وحظ من النصح وفير. ولما طلب مني مكتب التوعية بمكة المكرمة أن ألقي كلمة على منهج القراءة في كتب الحديث والمصطلح، ورأيت أن الرفض لا يسعني، أجبتهم إلى رغبتهم، على ضعف وعجز. لكني من حين أجبت، عزمت على أن أجعل المنهج المطروح منهجًا مستقى من مناهج العلماء، ودربًا نص الأئمة على أنهم قد ساروا عليه، أو دلت سيرهم وأخبارهم وعلومهم على أنهم قد طرقوه. وإنما عزمت على هذا العزم، لأن منهج تعلم أي علم يجب أن يؤخذ عن العلماء بذلك العلم، الذين عرفوا دروبه، وأحاطوا بسبله، وملأتهم الخبرة به بصيرة بالأسلوب الصحيح في تلقيه، وأشبعتهم فنونه بالوسائل المبلغة إليه.
وتم ما أعددته لتلك الكلمة في الشهر الأول من عام (١٤١٨هـ)، وألقيتها في هذا التاريخ.
1 / 4
ثم تكرر إلى الطلب بنشرها مكتوبة، حسن ظن من الطالبين، فرأيت أن إجابة سؤالهم فيه تحقيق فائدة وإن صغرت، وتوجيه نصيحة لطلبة العلم لا تخلو من نفع.
وعلى هذا فهذه الرسالة في أصلها كلمة ملقاة، ضمن سلسة من الكلمات نظمتها إدارة مكتب التوعية بمكة المكرمة مشكورة مأجورة إن شاء الله تعالى. وقد سبقت هذا الكلمة كلمات حول آداب العلم وطلبه ومناهجه عمومًا، ثم خصصت علوم الحديث بالدرس الذي أقوم بنشره اليوم. وعلى هذا فرسالتنا هذه مسبوقة بما يغني عن تكراره هنا، ولذلك فقد جاءت مقتصرة على الوسائل المبلغة لطالب العلم إلى أن يصبح محدثًا عارفًا بسنة النبي ﷺ، دون التطرق إلى أبواب العلم الأخرى على جلالتها وفضلها.
فأسأل الله ﷿ أن ينفع بهذه الورقات وأن يستخرج بها من قلب مؤمن بظهر الغيب دعوات صالحات، وأن يجعلها في موازين الحسنات.. آمين.
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب
الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العبدلي العوني
1 / 5
تمهيد
هناك مبادئ عامة ينصح بها كل طالب علم، ليضعها أمام عينيه عند أول ما ينوي السير في طريق العلم الطويل. وبعض هذه المبادئ العامة سوف تكون مدخلنا إلى الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه قارئ هذه الورقات، وهو: كيف أصبح محدثًا عارفًا بسنة النبي ﷺ؟
فلا شك أن أول ما يلزم من أراد أن يكون طالب علم (أي علم من العلوم)، أن يتعرف على العلوم من جهة موضوعاتها وغاياتها والثمرة الناتجة عنها. لأنه بذلك يعرف شرف كل علم وفضله، ومنقبة حملة ذلك العلم ورفعة قدرهم. وهذا يجعله قادرًا على ترتيب العلوم على حسب أهميتها، ووضعها في مراتبها من أولوية التعليم.
فإذا ما ابتدأ طلب علم من العلوم بعد ذلك، وقد عرف أنه فضائله ومناقب حملته، وعرف إنما ابتدأ به لأنه أحق من غيره ببداية التعلم، وأولى مما سواه بأن يكون باكورة الطلب؛ زاده ذلك إقبالًا على العلم، وحرصًا عليه، وصبرًا في تحصيله، وثقة بصواب خطواته، واطمئنانًا على صحة منهجه. فلا يزيده بعد ذلك طول الطريق إلا جلدًا، ولا وعورته إلا جدًا، ولا صعوبته إلا مثابرةً، ولا تعب جسده فيه إلا راحة نفسه، ولا اغترابه من أجله إلا أنسًا به، ولا قلة ذات يده إلا فرحًا بالاستكثار منه. حتى يبلغ المنى، ويحصد الجنى.
لذلك حرصت أن لا تخلو هذه الورقات من إلماحات عن شرف علم الحديث وبيان فضل المحدثين؛ وهذا هو العنوان الأول بعد هذا التمهيد.
وبعد أن تعرف طالب العلم على ما سبق، ينبغي عليه أن يستنصح أهل العلم الذي رأى أن يبدأ به، ويطلب منهم أن يوقفوه على خصائص ذلك العلم التي تميزه عن غيره من العلوم، وأن يقرأ بعض ما ألف في التعريف بذلك العلم وفي بيان مميزاته التي تختص به. حيث إن لكل علم ملامح كبرى تفارقه عن غيره من العلوم، وقسمات خاصة به كالتي تباين بين الأشخاص المختلفين. وهذه الملامح والقسمات هي في الحقيقة سر كل علم، وكاشف لغز كل
1 / 6
فن، ومفتاح كنوز دقائق العلوم. وتظهر آثار العلم بهذه الملامح (أو عدم العلم بها) على كل مسألة جزئية منه، لأن بصماتها لا تخلوا منها جميع جزئياته.
وتعرف أهمية الابتداء بإدراك خصائص علم ما، وضرورة فهم مزاياه من أول الإقبال عليه؛ من جهتين اثنتين:
الأولى: أن تلك المزايا والخصائص تمكن طالب العلم من أن يقدر إن كان باستطاعته استيعاب ذلك العلم وأن يبرع فيه، أولا يستطيع؛ على حسب مواهبه الفطرية وميوله العلمية. وذلك فيما إذا وازن طالب العلم - بصدق وموضوعية - بين تلك المميزات وقدرته على التعلم. فكم من طالب علم تعثر في حياته العلمية بسبب عدم قيامه بهذه الموازنة، وكم من طالب علم لو حاول إدراك تلك المميزات للعلوم لوضع قدمه في أول الطريق الصحيح لعلم منها، ثم برع وأبدع فيه بعد ذلك.
الثانية: أن تلك الخصائص والمميزات الكبرى لأي علم من العلوم تستلزم أسلوبًا خاصًا في طلبه؛ ولكل خصيصة منها منهج معين في التحصيل بمواجهتها. فإدراك طالب ذلك العلم، يجعله واعيًا للأسلوب الصحيح في طلب ذلك العلم، عارفًا بعقبات علمه وبوسائل تجاوزها بسرعة؛ فهو بهذا الوعي والمعرفة محيط بالغاية التي يريد، حتى كأنه بلغها (وإن لم يبلغها)، لشدة وضوح طريقها أمامه، ولعدم خوفه من حواجز تحول بينه وبينها. وهذا ما جعلني أثني (بعد ذكر شرف علم الحديث وشرف أهله) بأربع مميزات لعلم الحديث، هي في ظني أهم خصائصه، وأوضح ملامحه، تستوجب تجاهها طريقة خاصة في الطلب ومنهجًا معينًا في تعلم علم الحديث.
ثم ختمت هذه الورقات بذكر خطة دراسية منهجية مختصرة للحديث النبوي الشريف ولعلومه، حاولت خلالها وضع مستويات دراسية مرتبة على نظرية التدرج في طلب العلم، من البداية بالمجملات إلى الوصول إلى المفصلات الموسعات من كتب العلم.
ومن خلال هذه العناصر أحسب أني قد ساهمت في الإجابة على سؤال يقول: كيف أصبح محدثًا عارفًا بسنة النبي ﷺ.
وإليك الإجابة (بعون الله تعالى) .
1 / 7
شرف علم الحديث وشرف حملته
لا يشك مسلم من المسلمين أن القرآن الكريم وعلومه أشرف العلوم على الإطلاق، وأنه أنفع العلوم وأجلها وأعظمها بلا استثناء.
وأهم علوم القرآن الكريم وأعظمها، وما من أجله أنزل، هو تدبر آياته، وفهم معانيه؛ لأن الغاية العظمى من إنزال القرآن هي العمل به، والاعتبار بمواعظه، والاستضاءة بحكمه؛ وذلك لا يحصل أبدًا قبل فهم معانيه وتدبر آياته؛ وإلا فكيف يعمل بالقرآن من لم يفهم القرآن؟!
ولا يتم فهم كلام الله تعالى، ولا يمكن أن ندرك معاني كتاب الله المجيد، وإلا بسنة النبي ﷺ وعلومها، لأن السنة هي الشرح النظري والعملي للقرآن الكريم.
ومن هنا ندخل إلى أعظم ما يبين مكانه السنة وعلومها، وإلى منزلتها بين العلوم على الإطلاق؛ وهو أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم، وإلى معرفة دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى سواه، إلا بسنة النبي ﷺ وعلومها!!
أو بعبارة أخرى: بما أن القرآن الكريم أشرف العلوم، وأشرف علومه فهم معانيه لا يكون إلا بالسنة؛ فالسنة إذا أشرف علوم القرآن، أو قل: أشرف العلوم!!
قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل:٤٤]، فمنطوق هذه الآية الكريمة يخبر أن إنزال القرآن الكريم كان من أجل بيان النبي ﷺ له؛ بسنته القولية والفعلية والتقريرية!! وهذا المنطوق غريب جدًا لمن تأمله، لأنه يخالف المتبادر إلى الذهن، من أن سنة النبي ﷺ إنما كانت من أجل أن تبين القرآن الكريم، أي أن القرآن هو الغاية التي من أجلها جاءت السنة، أما الآية فقد قالت بضد ذلك، حيث جعلت السنة وبيانها غاية من أجلها انزل القرآن!!!
وهذا من إعجاز القرآن في الإشادة بمكانة السنة من القرآن، وفي التأكيد على عدم استغناء القرآن عنها، بل وعلى بطلان مثل ذلك الاستغناء.. إن زعم!!
1 / 8
ولهذه المنزلة العليا للسنة، ولعلاقتها القوية الوشائج والصلات بالقرآن الكريم، كان يقول غير واحد من السلف، منهم مكحول الشامي (ت ١١٨ هـ): (القرآن أحوج للسنة من السنة للقرآن) (١) . وذلك لأن إجمال القرآن يحتاج إلى تفصيل السنة، ومتشابه القرآن تفسره السنة؛ في حين أن السنة - غالبًا - مفصلة مبينة واضحة.
ولهذا يصح أن يقال عمن يتعلم السنة: إنه يتعلم القرآن، ولمن يقرأ السنة: إنه يقرأ تفسير القرآن!!
وقد كان ذلك واضحًا تمام الوضوح عند السلف، ولهذا لما قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير (ت ٩٥ هـ): (لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا) (٢) .
ويجب التنبه إلى أن تفسير السنة للقرآن ليس هو وحده التفسير الصريح لمعانيه من النبي ﷺ، كأن يذكر النبي ﷺ آية ثم يشرحها شرحًا مباشرًا. نعم هذا من تفسير السنة للقرآن، لكن الخضم الأعظم منه هو جميع سنة النبي ﷺ القولية والفعلية والتقريرية وسيرته ومغازيه وحياته. ولهذا لما سئلت عائشة ﵂ عن خلق النبي ﷺ، أرشدت السائل إلى النظر في القرآن، عندما قالت: (كان خلقه القرآن) (١) وعلى هذا يحق لمن سأل عن القرآن أن يحال إلى سنة النبي ﷺ، كما أحالت عائشة السائل عن السنة إلى القرآن!
وهذا أكبر ما يبين مكانة السنة، وعظم أهميتها، وأولويتها على غيرها من العلوم.
ولقد بين الله ﷿ مكانة السنة وشرفها في القرآن العظيم، في آيات كثيرات؛ منها آيات كثيرة في الأمر بطاعة النبي ﷺ والتحذير من مخالفته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. كقوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) [آل عمران: ١٣٢ [، وكقوله ﷿: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: ٨٠]، وكقوله سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
_________
(١) جامع بيان العلم وفضله: لابن عبد البر. بتحقيق أبي الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي: الدمام، الطبعة الأولى (١٤١٤ هـ) = (رقم ٢٣٥٢، وانظر رقم ٢٣٥١ - ٢٣٥٤) .
(٢) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (رقم ٢٣٤٩) .
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه.
1 / 9
أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا) [النساء:٦٥]، وكقوله عز شأنه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: ٣١]، وكقوله عز من قائل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: ٦٣]، وكقوله عز حكمه: (وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:٧]، وكقوله لا رب سواه: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) [الأحزاب:٢١]، في غيرها من آيات مباركات كثيرات.
ففي هذه الآيات حث على تعلم سنة النبي ﷺ، بتعلم أصولها ومصطلحها، من العلوم التي يميز بها صحيح السنة من سقيمها. لأن الأمر بطاعة النبي ﷺ والترغيب في الاقتداء به لا يمكن امتثاله (بعد وفاة النبي ﷺ إلا بالنقل والإسناد اللذين اجتمعت فيهما شروط القبول، وشروط القبول (تحققها أو عدم تحققها) في النقل عن النبي ﷺ لا يمكن أن يتوصل إلى إدراكه إلا بالعلوم التي تخدم ذلك، وهي علوم الحديث: أصوله ومصطلحه. إذن فالأمر الإلهي بطاعة النبي ﷺ والاقتداء به متضمن أمرًا إلهيًا بتعلم علم الحديث، لأنه لا سبيل إلى امتثال الأمر الأول إلا بعد امتثال الأمر الثاني، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وإذا كان فهم القرآن الكريم، وطاعة الله تعالى ورسوله ﷺ، والعلم بأحكام هذا الدين (دين الإسلام) وشرائعه وآدابه = لا يكون إلا بعلوم الحديث؛ علمت ما هي مكانة هذه العلوم!! وفي أي قمة من مراتب العلوم تكون!! ثم علمت شرف أهل الحديث!! وعظيم فضلهم وكبير أثرهم في الأمة!!!
وقد جاءت السنة نفسها ببيان فضل أهل الحديث وشرفهم، في أحاديث كثيرة وآثار ذوات عدد؛ حتى صنف الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ) كتابًا في ذلك بعنوان (شرف أصحاب الحديث) .
ومن هذه الأحاديث قول النبي ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة) (١) .
_________
(١) حديث صحيح متفق عليه، صح عن جمع من الصحابة ﵃.
1 / 10
قال عبد الله بن المبارك (ت ١٨١ هـ)، ويزيد بن هارون (ت ٢٠٦هـ)، وعلي ابن المديني (ت٢٣٤ هـ)، وأحمد بن حنبل (ت ٢٤١هـ)، والبخاري (ت ٢٥٦ هـ)؛ قال هؤلاء الأئمة كلهم في بيان الطائفة المنصورة: (هم أصحاب الحديث) (١) . بل عبارة الإمام أحمد، وقبله يزيد بن هارون: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم) .
وأي طائفة أحق بأن يكونوا هم تلك الطائفة الظاهرة المنصورة، من الذين حفظوا الدين، ونقلوا الملة، ونشروا السنة، وقمعوا البدعة؛ وهم أصحاب حديث النبي ﷺ، وحراسه، أهدى الناس بالسنة، وأتبعهم للأسوة الحسنة، بقية الأصحاب، ومرآة الرسول ﷺ!! فلولا هم لما كان هناك فقيه ولا مفسر، ولا عالم ولا فاضل!! بل لولاهم لما كان هناك مسلم موحد!!!
ولما قال النبي ﷺ: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة) (٢)، وذكر أهل العلم أن أسعد الناس بهذا الحديث هم المحدثون!
قال ابن حبان (ت ٣٥٤هـ) بعد إخراجه هذا الحديث في صحيحه: (في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسوله ﷺ في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه ﷺ منهم) (٣) .
وقال أبو نعيم الأصبهاني (ت ٤٣٠هـ): (وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله ﷺ أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخًا وذكرًا) (٤) .
ومن تردد في هذا الذي ذكراه (عليهما رحمة الله)، فليوازن بين صفحة أو صفحات من صحيح البخاري مثلًا وصفحة أو صفحات من أي كتاب في أحد العلوم الفاضلة (مما سوى الحديث)، كالتفسير والفقه وأصوله والعقيدة، لتظهر مصداقية قول
_________
(١) انظر: شرف أصحاب الحديث، للخطيب. تحقيق محمد سعيد خطيب أو غلي، الطبعة الأولى، نشر دار إحياء السنة النبوية (رقم ٤٦ - ٥١) .
(٢) أخرجه الترميذي وحسنه (رقم ٤٨٤)، وابن حبان في صحيحه (رقم ٩١١)؛ وحسنه وصححه غير ما واحد من الأئمة، كما تراه في تخريج الإحسان، والمعجم الكبير للطبراني (١٠/٢١ رقم ٩٨٠٠)
(٣) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (رقم ٩١١)
(٤) شرف أصحاب الحديث للخطيب (٣٥) .
1 / 11
ذينك الإمامين (عليهما رحمة الله)، ليعرف حقًا أن أهل الحديث هم أولى الناس بالنبي ﷺ يوم القيامة!!
و(الجزاء من جنس العمل)، فكما كان أهل الحديث أهل حديث النبي ﷺ في الدنيا، وأولى الناس به ﷺ فيها؛ كانوا أيضًا أولى الناس به يوم القيامة!!
وياله من شرف ومكانة وفضل!! لا يدانيه شيء أبدًا!!!
ولله در القائل:
دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى الآثار
لا تخدعن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى سبل الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار (١)
ورحم الله القائل:
دين الرسول وشرعه أخباره ... وأجل علم يقتنى آثاره
من كان مشتعلًا بها وبنشرها ... بين البرية لا عفت آثاره
ثم إن مكانة السنة تزداد أهمية فوق ما سبق كله، وتشتد حاجة الأمة لها زيادة على ما تقدم، عند ظهور الفتن وكثرة البدع والمحدثات.
ولذلك لما أوصى النبي ﷺ أصحابه، ووعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت لها العيون؛ قال في وصيته تلك ﵊:
_________
(١) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم ١٦٣) .
1 / 12
(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدبين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) (١) .
ويقول أحد أتباع التابعين، وهو يحيى بن يمان (ت ١٨٩هـ): (ما كان طلب الحديث خيرًا منه اليوم. قيل له: يا أبا عبد الله، إنهم يطلبونه وليس لهم نية؟ قال: طلبهم إياه نية) (٢) .
فينبه هذا الإمام ﵀ على ازدياد فضل طلب الحديث في زمانه، عن الأزمان التي سبقته؛ وهو من أتباع التابعين!! وفي القرون الفاضلة!! فكيف بزماننا!! وقد عمت الفتن، وكثرت، وتتابعت، واستحكمت الأهواء والبدع وطمت، واحلولكت ليالي الأمة.. وإلى الله الملتجأ وهو المستعان!
وأما قوله ﵀ لمن قال له عن أهل الحديث: (إنهم يطلبونه وليس لهم نية، فقال: طلبهم إياه نية)، فهو ينبه إلى فقه دقيق، إذ يجيب ذاك الذي اتهم طلبة الحديث بقلة الإخلاص في طلبهم، بأن مجرد طلبهم للحديث عمل فاضل يؤجرون عليه بإذن الله تعالى. لأن الأعمال الفاضلة، وخاصة التي يتعدى نفعها نفس العامل، إذا لم يكن الدافع للقيام بها نية سيئة، كالرياء والسمعة ومطامع الدنيا، فإن صاحبها مأجور بالعمل نفسه إذا كان الدافع للقيام به محبة العمل والتعلق به (وهو عند أهل الحديث شهوة الحديث ومحبته)، مثاب وإن غفل العامل عن الإخلاص لله تعالى وابتغاء ثوابه!! وذلك لأن العمل ذاته فاضل مصلح، لا يخلو من أن ينتفع به غيره، وتتعدى فائدته إلى من سواه.
أو لعله يقصد أن طلب الحديث يوصل إلى حسن النية ويلجئ صاحبة إلى الإخلاص، كما كان يقول غير واحد من السلف: (طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) (٣) .
وأي المعنيين قبلت - وكلاهما مقبول - فهو وجه آخر لشرف أهل الحديث!!
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، أكتفي منها بما سبق.
_________
(١) حديث أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وغيره. وهو من أصول الدين، ومن قواعد السنة.
(٢) الجامع للخطيب (رقم٧٧٩) .
(٣) انظر الجامع الخطيب (رقم ٧٨٠-٧٨٢)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم٥٢٠ - ٥٢٢)، والموقظة للذهبي (٦٥) .
1 / 13
أهم مميزات علم الحديث
وأوضح خصائصه
تقدم في (التمهيد) أن لكل علم خصائص، وأن للعلم بهذه الخصائص فائدتين، ذكرناهما هناك. ويهمنا هنا إحدى الفائدتين، وهي: أن العلم بخصائص علم ما يوقفنا على الأسلوب الصحيح في تحصيله، وعلى العوائق الحائلة دون بلوغ غايتنا منه، وعلى وسائل تجاوزها؛ لأن كل ميزة لذلك العلم ينبه إدراكها إلى سبيل احتوائها، في حين أن عدم إدراكها أكبر عقبة (أو يكاد يكون كذلك) دون فهم ذلك العلم والوصول إلى مرادنا منه.
وقد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزمانًا (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.
وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي؛ متبعًا كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.
الميزة الأولى:
من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.
ولهذا كان الإمام الزهري (ت١٢٤ هـ) يقول: (الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم) (١) . ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل في عزم
_________
(١) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (٦٤)، والمحدث الفاصل للرامهرمزي (١٧٩ رقم ٣١ - ٣٢)، والمجروحين لابن حبان (١/٦٢)، والكامل لابن عدي (١/٥٨ -٥٩)، والمدخل إلى الإكليل للحاكم (٢٧)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (٣/٣٦٥)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم١٥٠، ١٥١)، ومسألة العلو والنزول لابن طاهر (رقم ٩)، وترجمة الزهري من تاريخ دمشق - الترجمة المطبوعة المفردة - (١٥٠)
1 / 14
وحزمه وإصراره وقوته، ولا ينفع معه العقل الضعيف المتردد المتحير الملول؛ وهذا غير الذكاء وسرعة الفهم، فربما كان العقل ذكيًا لكنه ليس ذكرًا!!
ولذلك فقد قل من ينجب في علم الحديث ويتميز، يوم أن كان طالبو الحديث ألوفًا! ويوم كانت ألوفهم من الطراز الأول من طلبة العلم!!
يقول شعيب بن حرب (ت١٩٧ هـ): (كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب منا إلا أربعة) (١) .
ولما كثر من يطلب الحديث في زمن الأعمش، قيل له: (يا أبا محمد، ما ترى؟! ما أكثرهم!! قال: لا تنظروا إلى كثرتهم،، ثلثهم يموتون، وثلثهم يلحقون بالأعمال (يعنى الوظائف الحكومية)، وثلثهم من كل مائة يفلح واحد) (٢)
ولهذا العمق في علم الحديث نهى نقاد الحديث عن شرح كثر من علل الروايات إلا عند أهل الحديث، لما يخشى من شرح ذلك على غير أهل الحديث أن يكون سببًا في أن يفتتنوا أو يفتنوا!! من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) (٣)، وباب: (إنك لست محدثًا قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) (٤) !!
يقول الإمام أبو داود السجستاني (ت ٢٧٥هـ) في (رسالته إلى أهل مكة): (وربما أتوقف عن مثل هذه (يعني: إبراز العلل)، لإنه ضرر على العامة لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن ذلك (٥) .
ويقول الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ): (أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا تعرف جودة الدينار والدرهم بلون ولا مس، ولا طراوة ولا يبس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة؛ وإنما
_________
(١) الجامع للخطيب (رقم٩٣) .
(٢) الجامع للخطيب (رقم ٩٦)
(٣) أثر صحيح عن علي بن أبي طالب ﵁: أخرجه البخاري (رقم ١٢٧)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم ٦١٠)، والخطيب في الجامع (رقم ١٣٥٥) .
(٤) أثر صحيح عن عبد الله بن مسعود ﵁: أخرجه مسلم في مقدمة صحيحة (١/١١)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم ٦١١) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (رقم ٨٨٨)، والخطيب في الجامع (رقم ١٣٥٨) .
(٥) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (٣١-٣٢)
1 / 15
يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف والخالص والمغشوش. وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به) (١) .
وقلبهما يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت ١٩٨هـ): (معرفة الحديث إلهام) (٢)، ويقول أيضًا: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) (٣) . ولما أنكر ابن مهدي حديثًا رواه رجل، غضب للرجل جماعة، وقالوا لابن مهدي: (من أين قلت هذا في صاحبنا؟!) فلم يبين لهم العلة الحديثية التي جعلته ينكر على ذلك الرجل، وإنما قال لهم: (أرأيت لو أن رجلًا أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال الصيرفي: هو بهرج، يقول له: من أين قلت لي إنه بهرج؟ (فأجاب ابن مهدي على لسان الصيرفي): الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) (٤) .
ويؤكد أيضًا أحمد بن صالح المصري (ت ٢٤٨هـ) أن علم الحديث لا يفهمه إلا أهله، عندما قال: (معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما يبصره أهله) (٥) .
وبذلك يقرر هؤلاء العلماء وغيرهم من أئمة السنة أن علم الحديث علم تخصصي، لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى إلى صرف الهمة كلها له، ووقف الجهد جميعه عليه، وقصر الحياة على تعلمه وتحصيله؛ وما ذلك إلا لأنه علم شديد العمق بعيد الغور، كما سبق.
ومع ذلك:
لا يؤيسنك من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجًا وترتيبًا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تسمو فتنبت أنبوبًا فأنبوبا
وقال آخر
_________
(١) الجامع للخطيب (رقم ١٨٣٥) .
(٢) علل الحديث لابن أبي حاتم (١/٩)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (١١٣)، والجامع للخطيب (رقم ١٨٣٧) .
(٣) علل الحديث لابن أبي حاتم (١/٩)
(٤) الجامع للخطيب (رقم ١٨٣٨) .
(٥) الجامع للخطيب (رقم ١٨٣٩)
1 / 16
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر ... وبالرواح على الحاجات والبكر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها ... فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني رأيت - وفي الأيام تجربة - ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
ومن رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أن قرن بصعوبة علم الحديث وشدته لذة وشهوة ومتعة عارمة، تملك فؤاد طالبه، وتجعله ينسى الدنيا بما فيها، وتتركه بين رياض السنة جذلان هيمان. إنها (شهوة الحديث)، تلك الشهوة التي صنعت المستحيلات، وتضاءلت أمامها كل العقبات. ولولا هذه الشهوة لمات علم الحديث قبل أن يولد، ولتفتت همم الرجال على سفوح جباله، ولساحت العزائم العظام في صحاريه، ولغرقت عقول العباقرة في لجج بحاره. لقد بلغت هذه الشهوة الحديثية إلى درجة أن خاف بعض الأئمة على أنفسهم من أن تتجاوز بهم إلى طرف مذموم من الغلو في التعمق، إلى درجة التقصير في حقوق الخالق أو المخلوقين أو حق النفس، حيث إنها شهوة تفوق وله العاشقين (وهي أطهر)، وقد فعلت بأصحابها من عجائب الأفاعيل، ما قيدته حقائق التاريخ؛ فلئن هام العاشقون على وجوههم في الصحاري، فلقد كانت الصحارى بعض ما قطعه المحدثون في طلب الحديث، ولئن تعرض الولهون لغيرة أهل المحبوبة من أجل نظرة عابرة منها، فلقد ركب المحدثون الأهوال وعاشوا مع الأخطار من أجل كتابة حديث بإسناد عال كانوا قد كتبوه نازلًا، ولئن تغرب المدنفون وراء مرابع الأحباب، فلقد هجر المحدثون الأهل والأولاد والأوطان إلى غير رجعة، ولئن كان (مجنون ليلى) وأضرابه بالعشرات، فإن أهل الحديث بعشرات الألوف!!
إنها شهوة الحديث: التي حفظ الله تعالى بها الدين، وحمى بها السنة!!
1 / 17
يقول سفيان الثوري (ت ١٦١هـ): (فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة) (١) .
فأنعم بهذه الفتنة التي يحتقر معها الدينار والدرهم!!!
ولصعوبة علم الحديث قل أهله العارفون به كما سبق!
يقول الإمام البخاري (ت ٢٥٦هـ): (أفضل المسلمين رجل أحيى سنة من سنن رسول الله ﷺ قد أميتت؛ فاصبروا يا أصحاب السنن (رحمكم الله)، فإنكم أقل الناس) .
فقال الخطيب عقبه: (قول البخاري: إن أصحاب السنن أقل الناس عنى به الحفاظ للحديث، العالمين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق ﵀ في قوله؛ لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلدًا من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويعولون فتاواهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته. وقد كان العلم في وقت البخاري غضًا طريًا، والارتسام به محبوبًا شهيًا، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه!!! فكيف نقول في هذا الزمان؟!! مع عدم الطالب، وقلة الراغب!! وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين من أهل زماننا في قوله:
وقد كنا نعدهم قليلًا ... فقد صاروا أقل من القليل (١)
وأقول: رحم الله الخطيب! فقد قامت المناحة على أهل الحديث من قرون!!! وما عادوا قليلًا ولا أقل من القليل، بل هم عدم من دهور، تكاد - والله - آثارهم تنمحي، وأخبارهم تنسى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: ٢١] .
لكننا ننتزع من كلمة الخطيب السابقة الروح التي قد تبعث موتى أهل الحديث، وتنشرهم من القبور؛ إنه التخصص الدقيق العميق في علم الحديث. إذ إن صعوبة علم
_________
(١) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم ٢٧٧) .
(٢) الجامع للخطيب (١/١٦٨ رقم ٩١) .
1 / 18
الحديث وشدة مأخذه، لا يواجهها إلا التخصص، ولا يجاوزنا عقبتها إلا جمع الهمة كلها في تحصيله والتفرغ الكامل له.
وقبل الحديث عن حاجة علم الحديث إلى التخصص فيه، وأنه علم يستعصي على من قرن به غيره، ولا يقبل له عند طالبه ضرة، كالليل والنهار والدنيا والآخرة؛ قبل ذلك أتكلم عن أهمية التخصص في جميع العلوم، وبيان أن التخصص منهج ضروري لا حياة ولا بقاء للعلوم إلا به.
وقد نبه العلماء قديمًا على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠هـ): (إذا أردت أن تكون عالمًا فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديبًا فخذ من كل شيء أحسنه) (١) .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت ٢٢٤هـ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفننًا في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك) (٢) .
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئًا.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعبًا، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله
_________
(١) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم ٨٥٠)
(٢) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم ٨٥٢) .
1 / 19