كانت أحاسيسي في تبسة تختلف عنها في قسنطينة، فهناك الحياة الطبيعية والرجل البسيط الجاف، كان هؤلاء جميعًا يحاورون روحي. أما قسنطينة فالتاريخ والمجتمع ومأساته الواضحة الماثلة بشكل ظاهر، تسائلني دون أن أدري في الغالب تساؤلاتها ولكنني مع ذلك أشعر بها.
ولكن هناك أيضًا في قسنطينة جانب (المدرسة) الذي كان يحدثني عن المستقبل. خاصة عندما بات الاتصال بين المدرسيين وتلاميذ الشيخ (بن باديس) أقرب في مقهى بن يمينة. لقد ورث بن يمينة والده بعد أن مات منذ فترة يسيرة فأدخل على المقهى بعض التجديد. لقد ألقى بالحصر جانبًا، ورأيت لأول مرة في مقهى عربي آلة كبيرة لغلي القهوة (Percolateur)، كان ذلك ثورة. وقد أحدثت من ناحية أخرى ضجة في وسط المعمرين الأوربيين الذين كانوا يريدون المحافظة على خصائصنا (نحن أبناء المستعمرات Indigène)؛ أي المحافظة على الحصيرة التي تستعمل في الوقت نفسه للبصاق حينما يستدير لاعب الدومينو ويرفع طرفها ليبصق تحتها، ثم يتنحنح بصوت مرتفع ليريح حنجرته ورئته.
في النهاية أصبح مقهى بن يمينة الحي العام للمدرسيين. وعلى بعد خطوات منها كان مكتب الشيخ (بن باديس). كان يستقبل فيه أصدقاءه وتلاميذه ويدير مؤسسته الصغيرة، التي اتخذت شكل شركة ذات أسهم تصدر مجلة (الشهاب)، التي جاءت في أعقاب احتجاب (المنتقد)، ولم تكن قد ظهرت إلا لفترة قصيرة ثم منعت الإدارة المحلية صدورها.
إذن كان حي الطلبة العام مجاورًا لذلك المكان الذي سوف يصبح مهد (حركة الإصلاح)، وكان مرور تلاميذ الشيخ بن باديس أمام مقهى بن يمينة يوثق عرا الصلات بيننا وبينهم.