لقد أزف يوم الرحيل إلى قسنطينة، وأمي أمضت تلك الليلة في تحضير الحقيبة التي سوف أحملها معي. فقد قرر أهلي أن يرسلوني إلى بيت عمي محمود لأن جدي (الخضير) قد مات، لذلك لم يفكروا بإرسالي إلى أمي بهيجة التي لن تستطيع مراقبة تصرفاتي ومتابعتي في الدراسة.
أما أنا فقد قضيت عشية الرحيل ليلة بيضاء لا أطيق صبرًا على ساعاتها من الأرق. وأخيرًا حَلَّت اللحظة المنتظرة، وجاءت أمي لتوقظني الساعة الخامسة لأن الأوتوبيس يترك تبسة في السادسة.
لقد جاء عمي إسماعيل ليصحبني معه. وكان أبي نائمًا حينما شيعتني أمي حتى السلّم. وهناك بعيون ممتلئة بالدموع حمّلتني حقيبتي وهي توصيني بالجد والاجتهاد، ثم أسلمتني لعناية الله بعد أن صبّت على قدمي كما تقضي التقاليد ماء العودة.
وتولى عمي حجز مكان لي في السيارة ثم أصعدني إليها. وعندما خرجت من باب قسنطينة كان لدي شعور بأن شيئًا قد بدأ في حياتي.
الاوتوبيس في ذلك العصر لم يكن سريعًا، لذلك فقد أضاع وقتًا طويلًا من الوقوف غير المفيد، وخصوصًا في عين البيضاء. وهكذا وصل السادسة مساء إلى قسنطينة.
وعمي محمود الذي كان قد أخطر برقيًا على ما أعتقد، انتظرني في مكتب السفر حيث كانت تقف قديمًا العربة القادمة من عين البيضاء.
لقد بدا لي وجه قسنطينة ووجه عمي جميلين. وبمرورنا بالقرب من مقهى (بن يمينة) رأيت من بعيد الرجل العجوز، يقدم قهوته لزبائنه من أصحاب العربات وتجار الخيول الذين كنت أعرفهم لسنوات سابقة.