بقيمه في سائر محن الحياة. وأعلم أنه حتى في ظروف حياة الفلاح الخشنة سواء كان (يحياويًا أو ليموشيًا) من نواحي تبسة، فالإسلام قد صقل الإنسان في شروط أقرب ما تكون إلى أخلاق حضارة.
وحينما تكون هناك حقيبة جلدية تحفظ مستندات المحكمة يخرج منها سي (الجودي) الحكم، فالرجل بوجه عام يحمل إلينا في هذه اللحظة شيئًا من الحليب الطازج يفوح منه عطر (العبيتران) الذي يميزه عن ذلك الحليب الذي نشربه في المدن.
وحينما تنتهي الإجراءات القضائية فمن النادر أن يتركنا الرجل نذهب فهو ينسحب قليلًا. وحين نُهمُّ بالرحيل يقول: «لا والله! لن تذهبوا قبل الغداء». فتنفيذ الحكم لم يكن غير حادث عابر ثم يستأنف الحديث شجونه دون إشارة إلى الإجراءات القضائية.
وإن هذا هو الذي حدا ببعض المراقبين السطحيين من الغربيين وبعض تلاميذهم في بلادنا أن يقولوا: «إن ابن المستعمرات (indigène) - وهم يقصدون بصورة خاصة الفلاح الجزائري- هو جامد أوسلبي تجاه ما يصيبه» وفق التعبير الأدبي الذي يستعمله كل منهم.
والعلماء والمطّلعون والمدّعون (صدفة كل شيء) في مادة السياسة الاستعمارية يفسرون ذلك كله بكلمة واحدة (مكتوب)، أي: كتب علينا بقدر الله، والمستعمر الجزائري بالنسبة إليهم فقير أمي في شروط بائسة لأنه (قدري) و(يؤمن بالمكتوب) كما يقولون.
الحديث إذن مع مضيفنا استأنف طريقه حول الشؤون العادية للحياة واهتمامات الريف. ولأنه منغمس في تلك الاهتمامات فإنه لم يكوّن فكرة عن ذلك الذي بدأ يثير الرأي العام في المدن في ذلك الزمن. فالموجة الإصلاحية والسياسية التي بدأت تحرك تِبِسَّة لم تقتحم بعد حدوده.