لذلك أشكر أخي زهيرًا أن أرجعني القَهقرى في طريق العمر حتى لقيت ما أضعت من نفسي، حين ألزمني كتابة هذه الذكريات، وغرّه مني شيبي وشبابه فأمسك بي بقبضة لم أستطع الإفلات منها، وبعث في أثري شرطيًا عنيفًا هو إبراهيم سرسيق، رجل له لسان طريّ ليّن ويد طويلة قاسية، فسحبني بلسانه ولفّ عليّ يده. ولو جاءاني من أربعين سنة وأنا في مثل سنهما لما قدرا عليّ، ولو كانت هذه الكتابة يومئذٍ لكتبت غير هذا الذي أكتبه الآن.
كنت أغرف من بحر وأنا اليوم أنحت في الصخر. كان الفكر شابًا فشاخ، فمَن قال لكم إن الفكر لا يشيخ فلا تصدّقوه. كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستطيع أن أجاريه، فأمسى كالحصان العجوز أجرّه فلا يكاد يُجَرّ. كانت المعاني حاضرة والقلم مستعدًا، ولكن الصحف مفقودة أو قليلة، وكنا نكتب بلا أجر فلا نجد من ينشر لنا فكثرت المجلات وزادت الأجور، ولكنْ كَلّ الذهن، وثَقُل القلم، وضعفت الذاكرة. كنا جياعًا فقدنا الطعام، فلما حضر الطعام فقدنا الشهية!
كنت كمن أقام مصنعًا جلب له أحسن الآلات وشغّل فيه أقدر العمال وأخرج منه أجود المنتَجات، فلم يجد لها شاريًا. وملّ الانتظار فباع البضاعة جزافًا، وسرّح العمال وباع الآلات، فأقبل عليه الشارون وتواترت الطلبات.
* * *