ملحوظة من المؤلفة
تمهيد
الجزء الأول: اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثاني: الجثة التي عثر عليها في الغابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث: الشرطة في بيمبرلي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الرابع: التحقيق
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الجزء الخامس: المحاكمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الجزء السادس: شارع جريستشرش
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
خاتمة
ملحوظة من المؤلفة
تمهيد
الجزء الأول: اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثاني: الجثة التي عثر عليها في الغابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث: الشرطة في بيمبرلي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الرابع: التحقيق
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الجزء الخامس: المحاكمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الجزء السادس: شارع جريستشرش
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
خاتمة
الموت يزور بيمبرلي
الموت يزور بيمبرلي
تأليف
بي دي جيمس
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هاني فتحي سليمان
إلى جويس مكلينان
صديقتي ومساعدتي الشخصية التي ظلت تكتب رواياتي طيلة 35 عاما.
مع كل الحب والامتنان.
ملحوظة من المؤلفة
أدين باعتذار إلى جين أوستن؛ لإقحام عزيزتها إليزابيث في مأساة تحقيق في جريمة قتل، خاصة أن السيدة أوستن أوضحت وجهة نظرها في الفصل الأخير من «مانسفيلد بارك» حين قالت: «سأدع الأقلام الأخرى تطيل الكتابة عن الشعور بالذنب والأسى. سأتوقف عن الحديث عن تلك الأمور البغيضة بمجرد ما يمكنني ذلك، وأتوق إلى إعادة كل شخص ليس مخطئا إلى العيش في هناء، وأن أفعل ذلك مع الباقين جميعهم.» ولا شك أنها كانت سترد على اعتذاري بأن تقول إنها كانت ستكتب هذه القصة بنفسها وكانت ستكتبها بشكل أفضل، لو أنها تمنت أن تتحدث عن تلك الأمور البغيضة.
بي دي جيمس، 2011
تمهيد
عائلة بينيت من لونجبورن
اتفقت النساء المقيمات في ميريتون فيما بينهن عموما على أن السيد بينيت وزوجته كانا محظوظين كثيرا في التخلص من أربع بنات لهما من أصل خمس بتزويجهن. وميريتون - وهي بلدة صغيرة للتسوق في هيرتفوردشاير - لا تعد وجهة لجولات الترفيه؛ ذلك أنها لا تمتاز بجمال المكان ولا تتمتع بتاريخ مميز، في حين أن المنزل الوحيد الرائع بها - وهو نيذرفيلد بارك - غير مذكور في الكتاب الذي يتحدث عن أبرز أشكال العمارة فيها رغم أنه مثير للإعجاب. وتتمتع البلدة بمكان لتجمع المواطنين بها، وتقام فيه حفلات الرقص بانتظام، لكن ليس بها مسرح، وتقام الأحداث الرئيسية للترفيه في المنازل الخاصة، حيث تقلل الثرثرة والنميمة من حدة الملل الذي يصاحب حفلات العشاء وألعاب الويست حيث لا تتغير الصحبة في كل مرة.
ومن المؤكد أن عائلة لديها خمس من البنات غير المتزوجات ستجذب اهتمام جيرانها وشفقتهم، خاصة حين تقل وسائل التسلية الأخرى، وكان موقف عائلة بينيت بائسا للغاية. ففي ظل غياب وريث ذكر، كانت أملاك السيد بينيت ستئول بالوراثة إلى ابن أخيه الموقر ويليام كولينز، الذي كانت السيدة بينيت تتذمر منه بصوت عال، وتقول بأنه سيخرجها وبناتها من المنزل قبل أن تبرد جثة زوجها في قبره. وفي واقع الأمر، حاول السيد كولينز بقدر ما أوتي من قوة أن يجبر شيئا كهذا. فقد اتخذ قرارا غير ملائم له، لكن وبموافقة راعيته الجليلة الليدي كاثرين دي بيرج، غادر السيد كولينز أبرشيته في مدينة هانسفورد بمقاطعة كنت؛ ليزور عائلة بينيت بهدف خير، وهو اختيار عروس له من البنات الخمس. وقد قابلت السيدة بينيت نيته تلك بترحاب وحماسة من جانبها، لكنها نبهته إلى أن الآنسة بينيت - وهي الابنة الكبرى - كانت على وشك عقد خطبتها في غضون وقت قصير. وكان اختياره لإليزابيث - وهي الابنة الثانية من حيث العمر ومستوى الجمال - قد قوبل برفض قاطع، فكان مضطرا إلى البحث عن استجابة ودية أكثر إزاء طلبه؛ وذلك من جانب الآنسة تشارلوت لوكاس صديقة إليزابيث. وقد قبلت الآنسة لوكاس عرضه بابتهاج أثلج صدره، وسوي الأمر بشأن المستقبل الذي يمكن للسيدة بينيت وبناتها أن يتطلعن إليه، ولكن ليس بالشكل التام مما أشعر جيرانهم بالأسف عموما. فعند وفاة السيد بينيت، سيودعهم السيد كولينز في أحد الأكواخ الكبرى التي تقع ضمن ملكية السيد بينيت حيث يتسنى لهم أن يحصلوا على الرعاية الكنسية من إدارته كما يمكنهم الحصول على قوتهم من بقايا مطبخ السيدة كولينز، ويزيد على ذلك هدايا من الطرائد أو من لحم الخنزير المقدد تقدم إليهم من آن لآخر.
لكن عائلة بينيت تمكنت لحسن حظها من الخروج من هذا المأزق. فبحلول نهاية عام 1799، كانت السيدة بينيت تهنئ نفسها لكونها أما لأربع بنات متزوجات. في حقيقة الأمر فإن زفاف ليديا - وهي الابنة الصغرى وعمرها 16 عاما فقط - لم يكن مبشرا بخير. فقد هربت ليديا مع الملازم جورج ويكهام، وهو ضابط بالقوة العسكرية المتمركزة في ميريتون، وكان من المتوقع لهروبها هذا أن ينتهي - كما تنتهي كل المغامرات من هذا النوع - بهجران ويكهام لها، وطردها من منزلها، ورفض المجتمع لها، وفي النهاية وصمها بأشياء يمنع الاحتشام السيدات من الحديث عنها. لكن الزواج تم على الرغم من ذلك، وأول من أتى بالخبر كان جارا لهم يدعى ويليام جولدنج، وذلك حين كان يمتطي حصانه ومر أمام عربة لونجبورن، فوضعت السيدة ويكهام المتزوجة حديثا يدها على النافذة حتى يتسنى له رؤية الخاتم فيها. وكانت أخت السيد بينيت - وتدعى السيدة فيليبس - حريصة على تمرير روايتها عن هذا الهروب، التي تقول بأن الزوجين كانا في طريقهما إلى جريتنا جرين، لكنهما توقفا وقتا قصيرا في لندن من أجل أن يتمكن ويكهام من إخبار أم له بالمعمودية بزفافه المنتظر، وحين وصل السيد بينيت أثناء بحثه عن ابنته، قبل الزوجان باقتراح الأسرة بأن الزواج يمكن أن يتم في لندن. ولم يصدق أحد هذا التلفيق من جانبها، لكن أقر الجميع بأن براعة السيدة فيليبس في حياكة خيوط تلك القصة كانت تستدعي التظاهر بتصديقها على الأقل. ولم يكن استقبال جورج ويكهام في ميريتون ممكنا إطلاقا بعد هذا بالطبع؛ حتى لا يتسنى له أن يسرق عذرية الخادمات، أو أرباح أصحاب المتاجر، لكن اتفق على أن ليديا إن حلت بينهم زوجة للسيد ويكهام، ينبغي استقبالها بسماحة ورحابة صدر كما كان يفعل معها حين كانت تدعى الآنسة ليديا بينيت.
وكان هناك الكثير من التكهنات حول الكيفية التي تم بها الزواج المتأخر. كانت قيمة تركة السيد بينيت بالكاد تساوي 2000 جنيه في العام، ويرى عموما أن السيد ويكهام كان يمتلك ما يساوي 500 جنيه مع دفع كل فواتيره، وذلك قبل إتمام الزواج. ولا بد أن أخا السيدة بينيت - وهو السيد جاردنر - هو من دبر المال. فقد كان من المعروف عنه أنه رجل طيب القلب، لكنه كانت لديه أسرة يعولها، ولا شك أنه كان يتوقع أن السيد بينيت سيرد إليه المال. وكانت عائلة لوكاس لودج تشعر بالكثير من القلق من أن ميراث صهرهم سيتقلص بسبب هذا العوز، لكن حين لم يتم قطع أي أشجار ولا بيع أي أرض ولا تسريح أي من الخدم، وحين لم يبد الجزار أي نفور من إرسال الطلب الأسبوعي للسيدة بينيت، كان من المفترض أنه لم يكن هناك ما يخشاه السيد كولينز وتشارلوت، وأنه حين يدفن السيد بينيت كما يليق، يمكن للسيد كولينز أن يستحوذ على ملكية لونجبورن وهو واثق تمام الثقة أنها لا تزال على حالها.
لكن الخطبة التي تبعت زواج ليديا بمدة قصيرة - وهي خطبة الآنسة بينيت والسيد بينجلي من نيذرفيلد بارك - لاقت إعجابا كبيرا. فقد كانت غير متوقعة إطلاقا؛ وكان إعجاب السيد بينجلي بجين واضحا منذ أول لقاء بينهما في إحدى الحفلات. وكان حسن الآنسة بينيت ورقتها وتفاؤلها الساذج حيال الطبيعة البشرية، الذي منعها من التحدث بسوء عن أي أحد، قد جعلت منها شابة محبوبة بوجه عام. لكن وفي غضون أيام من إعلان خطبة كبرى بناتها إلى السيد بينجلي، شاعت أخبار انتصار أكبر تحصلت عليه السيدة بينيت وقوبلت تلك الأخبار في البداية بجو من التشكك. ذلك أن الآنسة إليزابيث بينيت كانت ستتزوج من السيد دارسي وهو مالك بيمبرلي، وهو أحد أكبر المنازل في ديربيشاير، وترددت الشائعات أن دخله يساوي 10 آلاف جنيه في العام.
وكان من المعروف بصورة عامة في ميريتون أن الآنسة ليزي كانت تكره السيد دارسي، وكان ذلك الشعور يكنه بوجه عام كل الرجال والنساء الذين حضروا الحفل الأول الذي حضره السيد دارسي بصحبة السيد بينجلي وأختيه، وقد أظهر في ذلك الحفل لكل الحضور من الأدلة ما يكفي على تكبره وازدرائه المتغطرس؛ فقد أوضح تماما أنه لا توجد امرأة ممن يحضرن الحفل تستحق أن تكون شريكة له؛ وذلك رغم تشجيع صديقه السيد بينجلي له على البحث عن إحداهن. وبالفعل حين قدم السير ويليام لوكاس إليزابيث إلى السيد دارسي رفض أن يرقص معها، وقد أخبر السيد بينجلي أنها لم تكن جميلة بما يكفي لتجذبه للرقص معها. ولذا كان من المسلم به أن أي امرأة لن تكون سعيدة حين تتزوج بالسيد دارسي، وذلك كما أشارت ماريا لوكاس قائلة: «من سيرغب في أن يجلس أمام ذلك الوجه البغيض على الإفطار كل يوم لبقية حياته؟»
لكن لم يكن هناك داع لإلقاء اللوم على الآنسة إليزابيث بينيت لتبني وجهة نظر أكثر حكمة وتفاؤلا. فالمرء لن يحصل على كل ما يبتغيه في الحياة، وأي فتاة شابة في ميريتون على استعداد لأن تتحمل ما هو أكثر من مجرد وجه بغيض على طاولة الإفطار لتتزوج شخصا يتقاضى 10 آلاف جنيه في العام ولتصبح سيدة بيمبرلي. وكانت سيدات مدينة ميريتون - كما يقتضي الواجب - سعيدات لأن يتعاطفن مع المبتلى ويهنئن سعيد الحظ، لكن ينبغي أن يسود الاعتدال في كل شيء، وكان ما ظفرت به الآنسة إليزابيث كبيرا جدا. ورغم أنهن جميعا كن يجمعن على أن الآنسة إليزابيث جميلة بما يكفي، وتتحلى بعينين جميلتين، فإنها لم تكن تمتلك أي شيء آخر يزكيها لرجل يحصل على 10 آلاف جنيه في العام، ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت مجموعة من الشائعات المؤثرة في محاولة لتفسير الأمر؛ كانت الآنسة ليزي حريصة على أن تجذب السيد دارسي منذ اللحظة الأولى لأول لقاء بينهما. وحين اتضحت معالم استراتيجيتها، اتفق الجميع على أنها لعبت أوراقها بمهارة كبيرة منذ البداية. وعلى الرغم من أن السيد دارسي رفض أن يراقصها في الحفل؛ فإن عينه كانت تتبعها باستمرار هي وصديقتها تشارلوت التي أصبحت بارعة في تحديد الإشارات التي تدل على الانجذاب المحتمل - وذلك بعد أن قضت سنوات طوالا في محاولة الحصول على زوج لها - وقد حذرت تشارلوت صديقتها إليزابيث من أن تسمح لانجذابها الواضح نحو الملازم جورج ويكهام الوسيم والمحبوب أن يسيء إلى رجل يفوقه منزلة ب 10 أضعاف.
ثم كانت هناك حادثة عشاء خطبة الآنسة بينيت في نيذرفيلد حين أصرت أمها على أن تذهب على صهوة الجواد بدلا من الذهاب في عربة الأسرة، وحينها أصيبت جين بالأنفلونزا، وكما خططت السيدة بينيت، كانت جين مجبرة على البقاء عدة ليال في نيذرفيلد. وقد ذهبت إليزابيث إليها سيرا على الأقدام لتزورها، وقد فرض على الآنسة بينجلي بسبب أخلاقها الحسنة أن تعرض على الزائرة الثقيلة ضيافتها حتى تستعيد الآنسة بينيت عافيتها. ولا بد أن قضاء ما يقرب من أسبوع في صحبة السيد دارسي قد عزز من آمال إليزابيث في تحقيق النجاح، كما أنها لا بد أن تكون قد استغلت مثل هذه الألفة المفروضة أفضل استغلال.
ومن ثم وبإلحاح من صغرى فتيات عائلة بينيت، أقام السيد بينجلي حفلا في نيذرفيلد، وفي تلك المرة رقص السيد دارسي مع إليزابيث. وقد رفعت الوصيفات، الجالسات في كراسيهن المستندة إلى الحائط مناظيرهن ورحن، مثل بقية الحاضرين، يحملقن فيهما بإمعان وهما يشقان طريقهما عبر الصف. ولا شك أن هناك محادثة صغيرة دارت بينهما، لكن حقيقة أن السيد دارسي قد طلب من الآنسة إليزابيث أن ترقص معه، وأنها لم ترفض ذلك كان أمرا مثيرا للاهتمام والتكهنات.
وكانت المرحلة التالية في خطة إليزابيث هي زيارتها إلى السيد والسيدة كولينز في بيت القس في مدينة هانسفورد بصحبة السير ويليام لوكاس وابنته ماريا. كانت تلك دعوة من الطبيعي أن ترفضها الآنسة ليزي. فما هي أوجه المتعة التي يمكن أن تحصل عليها امرأة عاقلة من قضاء ستة أسابيع بصحبة السيد كولينز؟ وكان من المعروف بوجه عام أن الآنسة ليزي كانت اختياره الأول كعروس له قبل أن تقبل به الآنسة لوكاس. ومن ثم كان ينبغي أن تكون الكياسة - وبعيدا عن أي اعتبار آخر - هي السبب في عدم ذهابها إلى هانسفورد. لكنها كانت على علم بأن الليدي كاثرين دي بيرج كانت جارة السيد كولينز وراعيته، وأن ابن أخيها السيد دارسي سيكون في روزينجز بينما يوجد الزوار في بيت القس. أما تشارلوت - التي كانت تطلع أمها على كل تفصيلة من حياتها الزوجية، ويشمل ذلك صحة أبقارها ودواجنها وزوجها - فقد كتبت إلى والدتها تقول إن السيد دارسي وابن عمه الكولونيل فيتزويليام - الذي كان في زيارة إلى روزينجز أيضا - كانا يزوران بيت القس باستمرار أثناء وجود إليزابيث، وأن السيد دارسي ذات مرة جاء إلى بيت القس من دون ابن عمه حين كانت إليزابيث وحدها. وكانت السيدة كولينز واثقة تماما من أن هذا التمييز يؤكد أن السيد دارسي وقع في غرام إليزابيث، وكتبت قائلة إنها تعتقد أن صديقتها سرعان ما ستقبل بأي من الرجلين إذا ما عرضا عليها؛ لكن الآنسة ليزي عادت إلى منزلها من دون الاستقرار على شيء.
لكن في النهاية آلت الأمور إلى مآلها الصحيح حين دعت السيدة جاردنر وزوجها - وهو أخو السيدة بينيت - إليزابيث لتصحبهما في جولة استمتاع صيفية. كان من المفترض أن تكون الرحلة إلى البحيرات، لكن من الواضح أن مسئوليات أعمال السيد جاردنر كانت تملي أن تكون الرحلة أكثر محدودية، وأنهم لن يذهبوا شمالا إلى ما هو أبعد من ديربيشاير. وكانت كيتي - وهي الابنة الرابعة من بنات عائلة بينيت - هي من نقلت تلك الأخبار، لكن لم يصدق أحد في ميريتون تلك الأعذار. فأسرة ثرية كتلك يمكنها أن تسافر من لندن إلى ديربيشاير في إمكانها أيضا أن تطيل رحلتها لتصل إلى البحيرات إذا ما أرادوا ذلك. كان من الواضح أن السيدة جاردنر - باعتبارها شريكا في مخطط ابنة أختها للزواج - قد اختارت ديربيشاير لأن السيد دارسي سيكون في بيمبرلي، وبالفعل كانت عائلة جاردنر وإليزابيث يزوران المنزل حين عاد السيد دارسي، ولا شك أنهم في أثناء ذلك سألوا في الفندق عن موعد وصول سيد منزل بيمبرلي. وكان من الطبيعي - على سبيل المجاملة - أن يتم تقديم عائلة جاردنر ودعوتهم إلى العشاء في بيمبرلي، وإن كان هناك أي شكوك تساور الآنسة إليزابيث حيال حصافة مخططها للإيقاع بالسيد دارسي، فإن أول نظرة منها على بيمبرلي كانت كافية للتأكيد على إصرارها على الوقوع في حبه في أول لحظة مناسبة. ومن ثم فقد عاد السيد دارسي وصديقه السيد بينجلي إلى نيذرفيلد بارك ولم يضيعا وقتا في الذهاب إلى لونجبورن حيث ظفرت الآنسة بينيت والآنسة إليزابيث بالسعادة أخيرا. وكانت الخطبة أقل إمتاعا من خطبة جين، على الرغم من فخامتها. فإليزابيث لم تكن شهيرة من قبل، وكانت سيدات ميريتون الأكثر إدراكا يساورهن الشك أحيانا أن الآنسة ليزي كانت تضحك عليهن سرا. كما اتهمنها أيضا بأنها تهكمية وساخرة، ورغم أنهن لم يكن واثقات تماما من معنى الكلمة، فإنهن كن يعلمن أن تلك الصفة مذمومة في النساء، ذلك أنها صفة لا يحبها الرجال في نسائهن. أما الجيران الذين فاقت غيرتهم مما ظفرت به إليزابيث حدود أي اقتناع بنجاح تلك الزيجة، فكانوا يواسون أنفسهم بأن غرور السيد دارسي وتكبره ولذاعة سخرية زوجته هي أشياء تكفي ليعيشا معا في شقاء وبؤس شديدين لا يمكن أن يعوض عنهما الحصول على بيمبرلي وعلى 10 آلاف جنيه كل عام.
وبالسماح لتلك الرسميات التي لا تكون الأعراس الكبرى وجيهة إلا بها - مثل رسم الصور، وانشغال المحامين، وشراء عربات وأزياء الزفاف الجديدة - زفت الآنسة بينيت على السيد بينجلي والآنسة إليزابيث على السيد دارسي في اليوم نفسه في كنيسة لونجبورن مع القليل من التأخير المفاجئ. كان اليوم سيغدو أفضل أيام حياة السيدة بينيت لو أنها لم تصبها نوبات زيادة سرعة نبضات القلب أثناء القداس، والسبب في ذلك كان خوفها من أن عمة السيد دارسي الشديدة البأس - وهي الليدي كاثرين دي بيرج - قد تظهر على باب الكنيسة لتمنع إتمام الزيجة، ولم تتمكن من أن تهنأ بما ظفرت به حتى تليت المباركة النهائية.
ومن غير المؤكد ما إذا كانت السيدة بينيت تفتقد صحبة ابنتها الثانية، لكن لا شك أن زوجها فعل. فلطالما كانت إليزابيث هي ابنته المفضلة. فقد ورثت ذكاءه وشيئا من خفة ظله واستمتاعه بنقائص جيرانهم وتناقضاتهم، وكان منزل لونجبورن يبدو موحشا أكثر وأقل عقلانية من دونها. وكان السيد بينيت رجلا ذكيا يحب القراءة وتشكل مكتبته ملاذا له ومصدرا لأسعد أوقاته. وسرعان ما وصل هو ودارسي إلى استنتاج أنهما أحبا أحدهما الآخر، وبعدئذ - وكما هو شائع بين الأصدقاء - تقبل كل منهما السمات الشخصية المختلفة للآخر كدليل على تفوقه الفكري. وكانت زيارات السيد بينيت إلى بيمبرلي - التي كان يقوم بها حين لا يكون من المتوقع منه ذلك - غالبا ما تقتصر على وجوده في غرفة المكتبة، التي كانت إحدى أفضل المكتبات الخاصة، وكان إخراجه منها صعبا حتى ولو كان من أجل تناول الطعام. وكانت زيارته لعائلة بينجلي في هايمارتن أقل وتيرة؛ حيث لم يكن هناك الكثير من الكتب والدوريات الجديدة لإغرائه؛ وذلك بعيدا عن انشغال جين المفرط براحة زوجها ورفاهيته، حيث كان السيد بينيت أحيانا ما يجد ذلك مضجرا. كان المصدر الأصلي لأموال السيد بينجلي هو التجارة. فهو لم يرث مكتبة عن الأسرة ولم يفكر في إنشاء واحدة إلا بعد أن اشترى منزل هايمارتن. وفي ذلك المشروع كان يسعد دارسي والسيد بينيت أن يقدما يد العون. فهناك القليل من الأنشطة التي تكون مقبولة جدا مثل إنفاق أموال صديقك فيما فيه رضاك ومنفعته ، وإن كان المشترون يشعرون بالإغراء بصفة دورية نحو التبذير في الإنفاق، فقد كانوا يجدون لأنفسهم عزاء في فكرة أن بينجلي يستطيع تحمل تلك التكاليف. وبالرغم من أن أرفف المكتبة - التي كانت مصممة وفقا لمواصفات وضعها دارسي ووافق عليها السيد بينيت - لم تكن قد امتلأت بأي شكل من الأشكال بعد، إلا أن بينجلي كان يفتخر بالترتيب الأنيق للكتب وبالجلد اللامع للكتب، بل وأحيانا كان يفتح كتابا منها، وشوهد وهو يقرأ حين لا يكون الموسم أو الطقس ملائما لصيد الطرائد أو صيد السمك أو الرماية.
ولم يصحب السيد بينيت زوجته إلى بيمبرلي إلا في مناسبتين اثنتين فقط. وقد استقبلها السيد دارسي بالترحاب والكرم، لكنها كانت تخشى زوج ابنتها كثيرا، فلم ترغب في تكرار التجربة. وبالفعل شكت إليزابيث أن أمها كانت تستمتع أكثر بإبهاج جيرانها بعجائب بيمبرلي وبحجم الحدائق وجمالها، وبعظمة المنزل وفخامته، وعدد الخدم وروعة طاولة الطعام أكثر مما تستمتع هي نفسها بهم. ولم يكن السيد بينيت ولا زوجته يترددان كثيرا على زيارة أحفادهما. فمسألة أن يولد لهما خمس بنات في تتابع سريع لم تخلف لديهما إلا ذكرى حية عن النوم المتقطع في الليل وصراخ الأطفال وكبيرة ممرضات كثيرة الشكوى، وعن تمرد خادمات الحضانة. وكان الفحص الأولي الذي يجرى بعد ولادة كل حفيد لهما بوقت قصير يؤكد زعم الوالدين أن الطفل جميل للغاية، ويظهر بالفعل قدرا كبيرا من الذكاء، وبعد ذلك كانا يقنعان بتسلم تقارير مرحلية منتظمة.
وفي حفلة نيذرفيلد أعلنت السيدة بينيت - مما أزعج ابنتيها الكبيرتين كثيرا - أنها كانت تتوقع أن زفاف ابنتها جين على السيد بينجلي سيفتح الباب أمام بناتها الأصغر للزواج برجال أثرياء، ومما أدهش الجميع أن ماري كانت هي من حققت تلك النبوءة الأمومية الطبيعية. فلم يكن هناك أحد يتوقع أن تتزوج ماري. كانت ماري مدمنة على القراءة لكن من دون تمييز أو فهم، وكانت مواظبة على عزف البيانو، لكنها كانت لا تتمتع بالموهبة، وتتحدث دوما بكلام مبتذل يفتقر إلى الحكمة والفطنة. ومما لا شك فيه أنها لم تكن تبدي أي اهتمام بالرجال. وكانت الحفلات بالنسبة إليها كفارة تتحملها فقط؛ لأنها تمثل فرصة لها لتحتل مركز الصدارة في عزف البيانو وتذهل الجمهور حد الخضوع عن طريق الدوس بحكمة على إحدى دواسات البيانو. لكن وفي غضون عامين من زواج جين، كانت ماري زوجة للقس ثيودور هوبكنز وهو رئيس الأبرشية المتاخمة لهايمارتن.
كان قس هايمارتن متوعكا، وتولى السيد هوبكنز أمر القداس لثلاثة أسابيع. كان رجلا نحيلا وسوداويا يبلغ من العمر 35 عاما، وذلك بالنظر إلى عظاته التي تتميز بإسهاب مفرط ونظريات لاهوتية معقدة، ومن ثم فقد اكتسب بطبيعة الحال سمعة كونه رجلا ماهرا، ورغم أنه يكاد يوصف بالثراء، فإنه كان يتمتع بدخل خاص أكثر من كاف، وذلك بالإضافة إلى راتبه. وفي أحد الأيام التي كان يقدم فيها عظاته، كانت ماري قد حلت ضيفة على هايمارتن وقد قدمتها أختها له عند باب الكنيسة بعد القداس، وسرعان ما أعجب بها بسبب إطرائها على كلامه، وإقرارها بتفسيره الذي استخرجه من النص وإشاراتها المتكررة إلى أهمية عظات فوردايس؛ مما جعل جين تدعوه إلى العشاء في اليوم التالي، وذلك بسبب تلهفها على تناول غداء يوم الأحد مع زوجها، الذي يتكون من اللحوم الباردة والسلطة. وتبعت تلك الدعوة دعوات أخرى، وفي غضون ثلاثة أشهر أصبحت ماري السيدة ثيودور هوبكنز، وكان اهتمام العامة بأمر زواجها محدودا، وقد دل على ذلك عدد الأشخاص الذين حضروا مراسم زفافها.
وكانت إحدى المميزات التي حظيت بها الأبرشية أن الطعام في مقر القس قد تحسن بصورة كبيرة. كانت السيدة بينيت قد ربت بناتها على تقدير أهمية طاولة طعام جيدة في تعزيز التناغم الأسري، وجذب الذكور من الزوار. وكان الجمع في عظاته يأمل أن تتسبب رغبة القس في العودة سريعا إلى حياته الزوجية السعيدة في تقصير مدة موعظته، لكن على الرغم من أنه أصبح بدينا أكثر، فإن عظاته الطويلة ظلت على حالها. وكان الزوجان قد استقرا معا في اتفاق مثالي، عدا في البداية حين طالبت ماري بأن يكون لها غرفة كتب خاصة بها يمكن لها أن تقرأ فيها بسلام. وقد حصلت على ذلك بتحويل غرفة النوم الإضافية الوحيدة؛ لتفي بغرضها، وفي ذلك ميزة تعزيز الوئام الأسري بينما كان من المستحيل عليهما دعوة أقاربهما للمكوث لديهما.
وبحلول خريف عام 1803، كانت السيدة بينجلي والسيدة دارسي تحتفلان بمرور ست سنوات على الزواج السعيد لكل منهما، لم تنجب السيدة بينيت سوى ابنة اسمها كيتي ولم تجد لها أي زوج. ولم تكن السيدة بينيت أو كيتي قلقتين كثيرا بشأن الفشل في الزواج. فقد كانت كيتي تستمتع بحظوة وتدليل لكونها الابنة الوحيدة في المنزل، وبزياراتها الكثيرة لجين - حيث كانت مفضلة كثيرا لدى الأطفال - كانت تستمتع بحياة لم تكن مريحة بهذا الشكل من قبل. وكانت زيارات ويكهام وليديا هي بالكاد دعاية للزواج. فكانا يصلان في صخب من روح الدعابة فتستقبلهما السيدة بينيت بسخاء؛ ذلك أنها كانت تفرح دوما برؤية ابنتها المفضلة. لكن تلك الرغبة الحسنة المبدئية سرعان ما تحولت إلى مشاجرات واتهامات وشكاوى حادة من الزوار عن فقرهما وشح إليزابيث وجين في دعمهما المادي، حتى إن السيدة بينيت أصبحت تفرح بمغادرتهما كما تفرح بقدومهما في زيارتهما التالية. لكنها كانت بحاجة إلى ابنة لها في المنزل، وكانت كيتي تبلي بلاء حسنا؛ فقد تحسنت كثيرا فيما يتعلق بأنسها والمنفعة منها منذ رحيل ليديا. ومن ثم بحلول عام 1803، كان من الممكن اعتبار السيدة بينيت امرأة سعيدة بقدر ما سمحت به طبيعتها، بل وعرف عنها أنها تجلس على العشاء إلى طاولة طعام تتكون من أربعة أطباق في حضور السير ويليام والليدي لوكاس من دون أن تشير مرة إلى جور تقسيم التركة.
الجزء الأول
اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
في الساعة الحادية عشرة من يوم الجمعة الموافق الرابع عشر من شهر أكتوبر لعام 1803، جلست إليزابيث دارسي إلى الطاولة في غرفة الجلوس في الطابق الأول من منزل بيمبرلي. لم تكن الغرفة كبيرة لكنها كانت جيدة بما يكفي، وكانت نافذتاها تطلان على النهر. كانت تلك هي الغرفة التي اختارتها إليزابيث لاستخدامها الخاص، وكانت مجهزة بكل ما أرادت من أثاث وستائر وسجاد وصور اختارتها من ثروات بيمبرلي ونظمتها على النحو الذي رغبت فيه. وكان دارسي نفسه يشرف على العمل، وقد أدركت من خلال نظرة السرور على وجه زوجها واهتمام الجميع بإطاعة رغباتها، المميزات التي تتمتع بها السيدة دارسي سيدة منزل بيمبرلي، وكان ذلك مدعاة للفخر أكثر حتى من تألق المنزل الذي يدعو إلى التفاخر كثيرا.
وكانت الغرفة التي تبهجها بقدر ما تبهجها غرفة الجلوس هي غرفة المكتبة بمنزل بيمبرلي. كانت تلك المكتبة نتاج عمل أجيال، والآن أصبح زوجها يستمتع ببهجة الإضافة إلى كنوزها. وكانت المكتبة في لونجبورن هي ملكية للسيد بينيت فقط، ولم تكن إليزابيث - وهي ابنته المفضلة - تدخلها إلا بدعوة منه. وكانت المكتبة في بيمبرلي مفتوحة لها كما كانت مفتوحة لدارسي، وبهذا التشجيع اللبق الرقيق تعمقت هي في القراءة كثيرا واستمتعت وفهمت في آخر ست سنوات أكثر مما فعلت في السنوات الخمس عشرة السابقة، فازدادت علما، فهمت الآن بأنه لم يكن سوى بدائي. ولم تكن حفلات العشاء في بيمبرلي أكثر اختلافا من الحفلات التي حضرتها في ميريتون حين تنشر المجموعة نفسها من الناس الشائعات نفسها، ويتبادلون وجهات النظر نفسها، ولم تكن تلك الحفلات لتصبح مفعمة بالحيوية إلا حين يتحدث السير ويليام لوكاس بإسهاب عن تفاصيل رائعة من منصبه في محكمة سانت جيمس. والآن كانت إليزابيث دائما ما تندم على لفت عيون السيدات وتترك الرجال وشئونهم الذكورية. لقد تكشف لإليزابيث أن هناك رجالا يقدرون صفة الذكاء في النساء.
كان اليوم هو السابق لحفل الليدي آن. وعلى مدار الساعة الأخيرة المنصرمة، كانت إليزابيث ومدبرة المنزل السيدة رينولدز تتأكدان من أن الترتيبات والتجهيزات تتم بشكل مناسب حتى تلك اللحظة وأن كل شيء يسير بسلاسة، والآن كانت وحدها إليزابيث. كانت الحفلة الأولى قد أقيمت حين كان دارسي يبلغ من العمر عاما واحدا. وكانت الحفلة تقام للاحتفال بيوم ميلاد أمه - وهي حفلة تقام في كل عام - عدا في فترة الحداد على زوجها حين توفي، وذلك حتى وفاة الليدي آن نفسها. وحيث إنها كانت تقام في يوم السبت الأول بعد اكتمال قمر شهر أكتوبر، فإنها كانت تقام في غضون أيام من ذكرى زواج دارسي وإليزابيث السنوية، لكنهما كانا يخططان دوما لتمضية ذكرى زواجهما في هدوء مع بينجلي - الذي تزوج في اليوم نفسه - وكانا يشعران بأن تلك المناسبة أكثر حميمية وقيمة من أن يحتفلا بها مع العامة، وكانت حفلة الخريف - نزولا على رغبة إليزابيث - لا تزال تسمى على اسم الليدي آن. وكانت المقاطعة ترى أن تلك الحفلة هي الحدث الاجتماعي الأهم خلال العام. وقد أعلن السيد دارسي عن قلقه بأن هذا العام قد لا يكون مناسبا لتقام فيه الحفلة؛ حيث أعلنت بالفعل الحرب المتوقعة مع فرنسا إضافة إلى الخوف المتنامي في جنوب البلاد حيث كانوا يتوقعون أن يغير عليهم بونابرت في أي يوم. كما أن الحصاد كان ضعيفا دون المستوى، مع كل ما يعنيه هذا بالنسبة إلى حياة الريف. وكانت هناك مجموعة من الرجال الذين يميلون للاتفاق على أنه لا ينبغي أن يقام حفل هذا العام وذلك لشعورهم بالقلق بعد النظر في دفاتر حساباتهم، لكن رأيهم هذا قوبل بالغضب من زوجاتهم وبيقين أنهم سيواجهون مزاجا نكدا منهن لمدة شهرين على الأقل، فاتفقوا في النهاية على أنه لا شيء ملائم لرفع الروح المعنوية أكثر من حدث ترفيهي صغير وغير ضار، وأن باريس ستفرح كثيرا وسيذوب قلبها إذا ما عرفت تلك المدينة المظلمة بظلام الجهل أن حفل بيمبرلي الراقص قد ألغي.
أحداث الترفيه واللهو الموسمية في حياة الريف لا تكون كثيرة ولا مغرية بالقدر الذي يجعل من أحد الالتزامات الاجتماعية لدى إحدى العائلات الكبيرة مسألة عدم اكتراث بالنسبة إلى الجيران الذين يحققون الاستفادة من تلك الفعاليات، كما أن زواج السيد دارسي - بمجرد أن تزول روعة اختياره لزوجته - كان يبشر على الأقل بأنه سيوجد في منزله بشكل أكبر من ذي قبل؛ وكان ذلك يعزز آمال أن تعرف زوجته الجديدة مسئولياتها. وحين عادت إليزابيث ودارسي من رحلة زواجهما - التي كانت إلى إيطاليا - كان عليهما أن تتحملا تلك الزيارات الرسمية المعتادة والتهاني المألوفة والأحاديث الصغيرة بكياسة، بقدر ما يمكنهما. وبعلم دارسي منذ صغره أن بيمبرلي تمنح مكاسب أكثر مما تتلقى، فقد تحمل تلك اللقاءات برباطة جأش جديرة بالإجلال، ووجدت فيهم إليزابيث مصدرا سريا للتسلية حيث كان جيرانها يجاهدون ليرضوا فضولهم فيما يحافظون في الوقت نفسه على سمعتهم بأنهم يتمتعون بالأدب. وكان الزوار يحصلون على متعة مضاعفة، وهي استمتاعهم بقضاء نصف الساعة في فخامة وأبهة غرفة صالون السيدة دارسي قبل أن ينخرطوا مع جيرانهم فيما بعد في محاولة الوصول إلى حكم بشأن فستان العروس وجدارتها وملاءمتها، وفرصة الزوجين في العيش في سعادة. وفي غضون شهر تم التوصل إلى اتفاق جامع، وهو أن الرجال كانوا معجبين بجمال إليزابيث وفطنتها، وكانت نساؤهم معجبات بأناقتها وظرفها وبجودة المرطبات التي تقدم لهم. وتم الاتفاق على أن منزل بيمبرلي الآن استبشر خيرا بأنها ستحتل مكانتها المستحقة في الحياة الاجتماعية للمقاطعة كما حدث في أيام الليدي آن دارسي؛ وذلك بالرغم من الهوية السابقة غير الملائمة للسيدة الجديدة.
وكانت إليزابيث واقعية جدا بحيث كانت تعلم أن تلك السوابق لم تذهب طي النسيان، وأن أي أسرة جديدة لا يمكن أن تنتقل إلى الحي من دون أن تبتهج إعجابا باختيار السيد دارسي لعروسه. كان المعروف عن الرجل أنه ذو كبرياء، وتحتل لديه تقاليد العائلة وسمعتها المكانة العليا، كما أن أباه رفع من شأن العائلة اجتماعيا من خلال الزواج بابنة إيرل من طبقة النبلاء. وقد بدا أن أي امرأة لا تعد جديرة بأن تصبح زوجة السيد فيتزويليام دارسي، إلا أنه اختار الابنة الثانية لرجل كانت أملاكه - التي كانت مقيدة بوصية تحرم أبناءه الكثير منها - كانت أكبر بقليل من حدائق بيمبرلي الترفيهية، وهي امرأة شابة يشاع أن ثروتها لم تكن سوى 500 جنيه فقط، ولها أختان غير متزوجتين وأم سوقية ثرثارة بحيث لا تصلح للعيش في المجتمعات الراقية. والأسوأ من ذلك أن إحدى الفتيات اللائي يصغرنها تزوجت من جورج ويكهام - وهو الابن الذميم لرجل كان يعمل مدير أعمال لدى السيد دارسي - في ظل ظروف يملي الأدب عدم الخوض فيها والتحدث بشأنها إلا همسا، وبهذا أثقلت السيد دارسي وعائلته برجل مكروه بشدة بينهم حتى إن اسم ويكهام لم يكن يذكر قط في منزل بيمبرلي، وتم إبعاد الزوجين تماما عن المنزل. وعلى نحو لا يمكن إنكاره، كانت إليزابيث نفسها تتمتع بالرقي وقد اتفق حتى المشككون بشأنها أنها كانت جميلة بما يكفي، وتتحلى بعينين رائعتين، لكن الزيجة كانت لا تزال مصدر تعجب واستياء من قبل عدد من الشابات اليافعات اللائي رفضن - عملا بنصيحة أمهاتهن - أن يوافقن على عدة عروض زواج لا بأس بها ليكن متاحات أمام الجائزة المتألقة، وأصبحن الآن يقتربن من عمر الثلاثين الخطر من دون أن تكون هناك فرصة لائحة في الأفق. وسط كل ذلك كانت إليزابيث قادرة على أن تعزي نفسها بتذكر ردها على الليدي كاثرين دي بيرج حين أشارت تلك الأخت الغاضبة لليدي آن إلى السلبيات التي ستلحق بإليزابيث إن كانت متعجرفة بما يكفي لتحمل لقب السيدة دارسي. «تلك بلايا ثقيلة، لكن لا بد لزوجة السيد دارسي أن تتحلى بمصادر غير عادية للسعادة التي تكون مرتبطة بالضرورة بموقفها بأنها ليس لديها، على العموم، أسباب للتبرم.»
وكان الحفل الأول لإليزابيث كمضيفة، الذي وقفت فيه مع زوجها على قمة الدرج لتحية الضيوف القادمين يمثل اختبارا من نوع ما، لكنها تخطت تلك المناسبة منتصرة. كانت تحب الرقص كثيرا، ويمكنها الآن أن تقول بأنها استمتعت بالحفل بقدر ما استمتع به الضيوف. وكانت الليدي آن قد وضعت بخط يدها الأنيق خطة الحفل بدقة وعناية، وكان دفترها لا يزال مستخدما - بغلافه الجلدي الراقي المختوم بشعار دارسي - وفي ذلك الصباح كان مفتوحا أمام إليزابيث والسيدة رينولدز. وكانت قائمة الضيوف لا تزال كما هي في الأساس لكن تمت إضافة أسماء أصدقاء دارسي وإليزابيث، بما في ذلك عمتها وعمها - من عائلة جاردنر - فيما كان حضور بينجلي وجين أمرا مفروغا منه، وفي ذلك العام، مثل العام الماضي، كان حضور ضيفهم هنري ألفيستون - وهو محام يافع ووسيم ومفعم بالحيوية - مرحبا به في منزل بيمبرلي كما كان مرحبا به في منزل هايمارتن.
ولم تكن إليزابيث قلقة بشأن نجاح الحفل. حيث كانت تعلم أن كل التحضيرات قد جرت. فقد تم تقطيع الحطب بكميات كافية لضمان إبقاء النار مشتعلة، خاصة في قاعة الرقص. وسينتظر طاهي المعجنات حتى الصباح ليعد الفطائر الرقيقة والمتبلة التي تستمتع بها النساء كثيرا، في حين تم ذبح الطيور والحيوانات وعلقت لتقديم الوجبة الأكثر أهمية التي ينتظرها الرجال. كما تم إحضار النبيذ بالفعل من الأقبية وطحن اللوز لصنع الحساء الأبيض بكميات كافية. وسيتم إضافة مشروب النيجوس في آخر لحظة، الذي سيحسن من مذاق الحساء كثيرا وسيزيد مفعوله وسيسهم بصورة كبيرة في إضفاء البهجة على الحفل. وتم اختيار الأزهار والورود من الصوبات وهي جاهزة ليتم وضعها في دلاء في المستنبت الزجاجي لأجل أن تشرف كل من إليزابيث وجورجيانا - وهي أخت دارسي - على تنسيقها في ظهيرة اليوم التالي؛ وكان توماس بيدويل - الذي يسكن في كوخ في الغابة - يجلس الآن في غرفة المؤن يلمع العشرات من الشمعدانات التي ستكون مطلوبة في غرفة الرقص والمستنبت الزجاجي وغرفة الجلوس الصغيرة المحجوزة للنسوة من الضيوف. كان بيدويل هو كبير سائقي عربات السيد دارسي الراحل، كما كان والده يعمل بالوظيفة نفسها لدى السيد دارسي الأسبق. والآن وبسبب داء التهاب المفاصل في كلتا ركبتيه وظهره أصبح من المستحيل عليه أن يعمل مع الجياد، لكن يديه كانتا لا تزالان قويتين وكان يمضي كل مساء من الأسبوع السابق للحفل في تلميع الفضة والمساعدة في نفض الغبار عن الكراسي الإضافية المطلوبة لأجل جلوس المرافقين فكان وجوده لا غنى عنه. فغدا ستتجمع عربات الإقطاعيين والعربات المستأجرة للضيوف الأقل شأنا في الممر لينزل منها ركابها الثرثارون بملابسهم المصنوعة من الأنسجة القطنية وأغطية رءوسهم المتألقة ومعاطفهم التي تقيهم برد الخريف، وهم متحمسون مرة أخرى لملذات حفل الليدي آن.
وفي كل التحضيرات كانت السيدة رينولدز مساعدة موثوقة لإليزابيث. وقد التقتها إليزابيث أول مرة حين زارت بيمبرلي - بصحبة عمها وعمتها - واستقبلتها مدبرة المنزل واصطحبتها في جولة، وكانت مدبرة المنزل تعرف السيد دارسي منذ كان صبيا وقد أسرفت في مدحه، كسيد لها وكرجل بصورة عامة، حتى إن إليزابيث كانت تتساءل للمرة الأولى ما إن كان في تحيزها ضده ظلم له. ولم تتحدث إليزابيث قط عن الماضي إلى السيدة رينولدز، لكنها ومدبرة المنزل أصبحتا صديقتين وأصبحت السيدة رينولدز - من خلال تقديم المساعدة ببراعة - مصدر عون لا غنى عنه بالنسبة إلى إليزابيث التي أدركت حتى من قبل وصولها الأول إلى منزل بيمبرلي كعروس أن كونها سيدة منزل كهذا - أي أن تكون مسئولة عن هذا العدد الكبير من الموظفين - سيكون أمرا مختلفا تماما عن مهمة والدتها في إدارة شئون منزل لونجبورن. لكن طيبتها واهتمامها بحياة خدمها رسخت يقينا في نفوسهم بأن سيدتهم الجديدة تهتم لخيرهم وصالحهم، وكان كل شيء يسير بشكل أسهل مما توقعت هي، بل وفي الواقع كانت الأمور تسير بمجهود أقل من المجهود المبذول لإدارة منزل لونجبورن؛ ذلك أن الخدم في منزل بيمبرلي - الذين كان غالبيتهم يخدمون منذ مدة طويلة - كانوا قد تدربوا على يد السيدة رينولدز وستاوتون كبير الخدم على العرف الذي يتعين الالتزام به وهو عدم إزعاج العائلة وضمان حصولها على خدمة جيدة للغاية.
شعرت إليزابيث بأنها تفتقد حياتها السابقة، لكن أفكارها في معظم الأحيان كانت تتجه نحو الخدم في لونجبورن؛ هيل مدبرة المنزل التي كانت كاتمة جميع أسرارهم - بما في ذلك فرار ليديا الشائن - ورايت الطباخ الذي لم يكن يشتكي من طلبات السيدة بينيت غير المنطقية إلى حد ما، والخادمتين اللتين كانتا - إلى جانب عملهما - وصيفتين لها ولجين، فكانتا تصففان لهما شعريهما قبل الحفلات. لقد أصبح أولئك الخدم جزءا من العائلة على نحو يتعذر على الخدم في منزل بيمبرلي أن يكونوا عليه، لكن إليزابيث كانت تعلم أن منزل بيمبرلي نفسه - متمثلا في المنزل نفسه وفي عائلة دارسي - هو الذي كان يجمع العائلة بالخدم والمستأجرين في علاقة ولاء متبادل. وكان الكثيرون من الخدم هم أبناء وأحفاد السابقين من الخدم، وكان المنزل وتاريخه يجريان في دمائهم. وكانت إليزابيث تعلم أيضا أن مولد الصبيين الجميلين اللذين يتمتعان بالصحة في غرفة نوم الأطفال بالطابق العلوي - وهما فيتزويليام الذي تقارب سنه الخامسة، وتشارلز وعمره عامان فقط - هما آخر ما تظفر به، فهما يمثلان ضمانا بأن العائلة وإرثها سيستمران في توفير العمل للخدم وأطفالهم وأحفادهم وأن وجود عائلة دارسي في منزل بيمبرلي مستمر.
وقبل نحو ستة أعوام قالت السيدة رينولدز لإليزابيث وهي تتداول قائمتي الضيوف والطعام والأزهار من أجل حفل عشاء إليزابيث الأول: «كان يوما سعيدا لنا جميعا يا سيدتي، حين أحضر السيد دارسي عروسه إلى المنزل. كان ذلك هو أكثر ما تتمنى سيدتي، وهو أن تعيش لترى ابنها متزوجا. لكن للأسف، لم يكن مقدرا لها ذلك. كنت أعلم كم كانت تتوق لأن يكون سيدي هانئا مستقرا، وذلك من أجل صالحه هو وصالح منزل بيمبرلي.»
وقد تغلب فضول إليزابيث على حذرها. فقالت بطريقة طائشة ومن دون أن ترفع نظرها وهي مشغولة في نقل الأوراق على مكتبها: «لكن ربما ليس بهذه الزوجة. ألم تستقر السيدة آن دارسي وأختها على أن يتم تزويج السيد دارسي بالآنسة دي بيرج؟» «لا أقول يا سيدتي إن الليدي كاثرين لم تكن تفكر في مثل هذه الخطة. فقد كانت تحضر الآنسة دي بيرج إلى منزل بيمبرلي كثيرا حين يكون السيد دارسي موجودا هنا. لكن ذلك الزواج لم يكن ليحدث قط. فقد كانت الآنسة دي بيرج المسكينة مريضة باستمرار، وكانت الليدي آن تولي اهتماما كبيرا إلى ضرورة أن تتمتع العروس بالصحة. وقد سمعنا أن الليدي كاثرين كانت تأمل أن يتقدم الكولونيل فيتزويليام - وهو ابن العم الثاني للآنسة دي بيرج - للزواج منها، لكن ذلك لم يحدث.»
وبعد أن عادت بوعيها إلى الوضع الراهن، دست إليزابيث دفتر الليدي آن في الدرج، وكانت مكرهة على أن تترك أجواء الهدوء والعزلة التي انقطع أملها في أن تستمتع بها من ذاك الوقت حتى نهاية الحفل، ثم سارت نحو إحدى النافذتين اللتين كانتا تطلان على الطريق أمام المنزل والنهر، وكان ذلك الطريق مزدانا بأشجار منزل بيمبرلي الشهيرة . وقد زرعت تلك الأشجار تحت إشراف بستاني بارز في مجال تنسيق الحدائق قبل عدة أجيال. وكانت كل شجرة على حافة الطريق مثالية في شكلها ومعلقا عليها رايات الخريف ذات اللون الذهبي وتقف على مسافة من الأخرى، وكأنها تؤكد على تفرد جمالها، وكانت كثافة الأشجار تزداد كلما اتجهت الأعين صوب جوف الطريق الذي تفوح منه رائحة الطين. وكانت هناك مجموعة أخرى من الأشجار لكنها أكبر حجما، باتجاه الشمال الغربي، وقد نمت تلك الأشجار بشكل طبيعي وكانت مكانا يلعب فيه دارسي أثناء صغره وملاذا سريا له من الحضانة. وقد بنى جده الأكبر بعد أن ورث التركة - وأصبح ناسكا منعزلا - كوخا هناك وسط تلك الأشجار وأطلق فيها النار على نفسه، وأصبحت تلك الأشجار - التي أطلق عليها الغابة من أجل التفريق بينها وبين الحديقة الشجرية الأولى - تبث في نفوس الخدم والمستأجرين في منزل بيمبرلي شعورا خرافيا بالخوف، وكان من النادر أن يزورها أحد. وفي تلك الغابة كان هناك طريق ضيق يمر عبرها ويؤدي إلى مدخل آخر إلى منزل بيمبرلي، لكن ذلك الطريق كان يستخدمه في الأساس التجار، ويسلك ضيوف الحفل الطريق الرئيسي، وتمكث جيادهم وعرباتهم في الإسطبل بينما يستضاف سائقوهم في المطبخ حين يكون الحفل جاريا.
وقفت إليزابيث طويلا أمام النافذة ونحت جانبا كل الشواغل التي تساورها، وأرخت عينيها على ذلك الجمال المألوف الهادئ الذي كان يتسم أيضا بدوام التغير. كانت الشمس تسطع في السماء بلون أزرق بهي تتناثر فيها عدة سحب خفيفة، وكأنها خيوط من دخان. وكانت إليزابيث تعرف من خلال النزهة القصيرة التي كانت تقوم بها وزوجها في بداية كل يوم أن سطوع شمس الشتاء خادع، وكان النسيم البارد يعيدهما سريعا إلى المنزل حيث لا تكون مستعدة له. والآن رأت إليزابيث أن الرياح كانت تشتد. وكان سطح ماء النهر مجعدا بأمواج صغيرة راحت تتخلل العشب والشجيرات التي تحد مجرى النهر، وكانت الظلال المتقطعة للعشب والشجيرات تهتز على سطح الماء المضطرب.
ورأت إليزابيث أن هناك اثنين من الأشخاص يتنسمان هواء الصباح البارد؛ كانت جورجيانا والكولونيل فيتزويليام يسيران بجوار النهر، وكانا الآن يلتفتان نحو الأشجار والدرجات الحجرية التي تؤدي إلى المنزل. كان الكولونيل فيتزويليام يرتدي زيه الرسمي، فكانت سترته الحمراء تشكل دفقة من لون زاه في مقابل معطف جورجيانا ذي اللون الأزرق الخافت. وكانا يسيران وبينهما مسافة صغيرة، لكن إليزابيث رأت أنهما يسيران أحدهما برفقة الآخر، وكانا يتوقفان بين الحين والآخر بينما تمسك جورجيانا بقبعتها المهددة بأن يجرفها الهواء بعيدا. وبينما كانا يقتربان، انسحبت إليزابيث من أمام النافذة وعادت إلى مكتبها، وكانت متوترة بسبب أنها ترى أنه ينبغي ألا يساورهما الشعور بأن ثمة شخصا يتجسس عليهما. كانت هناك خطابات ينبغي كتابتها، ودعوات يتعين الرد عليها، وقرارات يجب أن تتخذها بشأن ساكني الأكواخ الواقعين تحت وطأة الفقر والأسى الذين سيرحبون بزيارة منها تعبر فيها عن تعاطفها معهم أو ربما تقدم لهم فيها مساعدة عملية.
وما كادت تمسك بقلمها حتى سمعت طرقا خفيفا على الباب حيث عادت السيدة رينولدز. «عذرا سيدتي على إزعاجك، لكن الكولونيل فيتزويليام عاد لتوه من نزهة وسأل إن كان بإمكانك أن تقابليه لبضع دقائق، إن لم يكن في هذا إزعاج كبير لك.»
قالت إليزابيث: «لست مشغولة الآن، إن كان يريد أن يأتي.»
ظنت إليزابيث أنها تعرف ما يريد أن يتحدث بشأنه، وأن هذا سيكون مزعجا لها وأنها كانت لتسعد كثيرا لو استطاعت تجنبه. كان لدارسي عدد قليل فقط من العلاقات الوثيقة، ومنذ الصبا وقريبه الكولونيل فيتزويليام يزوره باستمرار في بيمبرلي. وخلال بداية حياته المهنية في الجيش لم يكن يأتي للزيارة كثيرا، لكن خلال الثمانية عشر شهرا المنصرمة أصبحت زياراته أقصر في المدة، لكن أكثر تواترا، ولاحظت إليزابيث أن هناك فرقا - ضعيفا لكن لا لبس فيه - في تصرفاته نحو جورجيانا، فكان يبتسم أكثر حين تكون حاضرة ويظهر استعدادا أكبر من ذي قبل ليجلس إلى جانبها حين يمكنه ذلك، ويدخل معها في محادثة. ومنذ زيارته العام الماضي لحضور حفل الليدي آن أصبح هناك تغيير حقيقي في حياته. كان أخوه الأكبر - وهو وريث الإيرلية - قد توفي خارج البلاد، وورث هو الآن لقب الفيكونت هارتلب وأصبح هو الوريث الشرعي. وكان يفضل ألا يستخدم لقبه الحالي خاصة حين يكون بين أصدقائه، وقرر أن ينتظر حتى ينجح قبل أن يضطلع بلقبه الجديد وبالمسئوليات العديدة التي تأتي معه، وكان لا يزال معروفا بوجه عام باسم الكولونيل فيتزويليام.
بالطبع سيريد الكولونيل فيتزويليام أن يتزوج، خاصة الآن حيث إن إنجلترا في حالة حرب مع فرنسا، وربما يلقى هو حتفه من دون أن يترك وريثا. ورغم أن إليزابيث لم تشغل بالها قط بشجرة العائلة، فإنها كانت تعلم أنه لا يوجد له قريب ذكر، وأن الكولونيل إذا مات من دون أن يترك طفلا ذكرا فإن الإيرلية ستزول عنه. وكانت تتساءل - ولم يكن ذلك للمرة الأولى - ما إن كان يبحث عن زوجة له في بيمبرلي، وإن كان يفعل، فكيف سيتصرف دارسي تجاه ذلك. لا بد أن يكون مقبولا له أن أخته ستكون كونتيسة، وأن زوجها سيكون عضوا في مجلس اللوردات ومشرعا للبلاد. كان كل هذا سببا ومدعاة للفخر في العائلة، لكن هل ستشارك جورجيانا ذلك؟ هي الآن امرأة راشدة ولم تعد تخضع للوصاية، لكن إليزابيث كانت تعلم أن جورجيانا ستحزن كثيرا إن اعتزمت الزواج من رجل لا يوافق عليه أخوها؛ ثم كان هناك مسألة هنري ألفيستون المعقدة. وقد رأت إليزابيث ما يكفي لكي تتأكد من أنه واقع في الغرام، أو أنه على وشك الوقوع فيه، لكن ماذا عن جورجيانا؟ كانت إليزابيث واثقة من شيء واحد فقط، لن تتزوج جورجيانا دارسي من دون أن تحب، أو من دون انجذاب قوي وعاطفة واحترام يمكن للمرأة أن تطمئن نفسها بأن تلك العواطف ستتعمق لتصبح حبا. ألم يكن هذا ليصبح كافيا بالنسبة إلى إليزابيث لو أن الكولونيل فيتزويليام تقدم للزواج منها بينما كان يزور عمته الليدي كاثرين دي بيرج في روزينجز؟ ففكرة أنها كانت لتخسر دارسي من غير قصد منها وسعادتها الحالية لتتمسك بعرض من قريبه كانت مهينة أكثر من ذكرى تحيزها لجورج ويكهام الشائن، فنحت تلك الفكرة جانبا عنها بكل حزم.
كان الكولونيل قد وصل إلى بيمبرلي في المساء السابق وقت العشاء، لكن بخلاف تحيته لها فلم يمكثا معا وقتا طويلا. والآن وبينما كان يطرق الباب في هدوء ويدخل إلى الغرفة ويجلس في الكرسي المقابل لها بجوار المدفأة، الذي عرضته هي عليه، بدا لإليزابيث أنها كأنها تراه للمرة الأولى. كان يكبر دارسي بخمس سنوات، لكنهما حين التقيا للمرة الأولى في غرفة الصالون في روزينجز كان حس دعابته المبهج وحيويته الجذابة يؤكدان اتصافه بالصمت وقد بدا الأصغر سنا. لكن كل هذا قد اختفى. فقد أصبح الآن يمتلك نضجا وجدية جعلاه يبدو أكبر من سنه الحقيقية. وفكرت إليزابيث أن جانبا من هذا ينبغي أن يكون مرده إلى خدمته في الجيش والمسئوليات الكبيرة على عاتقه كقائد للرجال، فيما صحب تغير حالته ليس فقط جاذبية أكبر، وإنما فخر عائلي واضح أكبر، وكذا بالطبع لمحة من الغطرسة، التي كانت أقل جاذبية من الصفات الأخرى.
لم يتحدث هو من فوره وساد الصمت برهة قررت خلالها أن عليه هو أن يتحدث أولا؛ لأنه هو من طلب اللقاء. وبدا الكولونيل وكأنه لا يعرف أفضل طريقة لبداية الحديث، لكن لم يبد عليه ارتباك أو اضطراب. وفي النهاية، مال إلى الأمام نحوها وقال: «أنا واثق يا قريبتي العزيزة، أنك تمتلكين عينين ذكيتين، وتهتمين بحياة الآخرين وشواغلهم؛ ولذا فإنك لا تجهلين تماما ما أريد أن أتحدث بشأنه. إنني كما تعلمين منذ وفاة عمتي الليدي آن دارسي وأنا أتمتع بامتياز مشاركة دارسي في الوصاية على أخته، وأعتقد أنني أستطيع أن أقول بأنني أديت واجبي بإحساس عميق بالمسئولية، وعاطفة أخوية تجاهها لم تتغير قط. وقد تحولت تلك العاطفة إلى حب من النوع الذي يكنه الرجل للمرأة التي يرغب في أن يتزوج بها، وإن أكثر ما أتمنى الآن هو أن تقبل جورجيانا بأن تكون زوجتي. أنا لم أتقدم رسميا إلى دارسي لكنه يتمتع بالبصيرة، ويحدوني الأمل أن يحظى عرض زواجي بموافقته وقبوله.»
رأت إليزابيث في نفسها أنه من الحكمة أكثر ألا تخوض في هذه الجزئية؛ وذلك لأن جورجيانا بلغت سن الرشد. فقالت: «وماذا عن جورجيانا؟» «لا يمكنني أن أجد مبررا لحديثي إليها إلا بعد موافقة دارسي. في الوقت الراهن أدرك أن جورجيانا لم تقل شيئا يعزز الأمل بداخلي. وسلوكها تجاهي كالعادة هو سلوك ينم عن الصداقة والثقة، وأعتقد أنها تكن لي العاطفة. وآمل أن تتحول تلك الثقة والعاطفة إلى حب إذا ما كنت صبورا تجاه ذلك. وأنا أومن أن الحب بالنسبة إلى المرأة يأتي بعد الزواج أكثر مما يكون قبله، ويبدو لي أنه من الصواب والطبيعي أن يحدث ذلك. ففي النهاية أنا أعرفها منذ ولادتها. وأنا أدرك أن فارق العمر بيني وبينها قد يمثل مشكلة، لكنني أكبر دارسي بخمس سنوات فقط، ولا أرى أن فارق العمر هذا يشكل مانعا.»
شعرت إليزابيث بخطورة الحديث. فقالت: «قد لا يشكل فارق العمر مانعا، لكن انحيازا من جانبها قد يكون عائقا.» «أتقصدين هنري ألفيستون؟ أنا أعرف أن جورجيانا تميل إليه، لكنني لا أرى شيئا يوحي بأن هناك ارتباطا على مستوى أعمق. إنه شاب مقبول وماهر ومميز. ولا أسمع عنه سوى كل خير. وربما كان لديه آماله أيضا. ومن الطبيعي أن يبحث عن الزواج بالمال.»
أشاحت إليزابيث بعيدا. فأضاف هو مسرعا: «لا أقصد بذلك الجشع أو النفاق، لكن بالنسبة إلى مسئولياته واعتزامه على إعادة إحياء ثروة العائلة وجهوده الكبيرة التي يبذلها من أجل استعادة ممتلكاته، وأحد أجمل المنازل في إنجلترا، فإنه لا يستطيع أن يتزوج من امرأة فقيرة. حيث إن ذلك سيؤدي بهما إلى الشقاء والفقر.»
كانت إليزابيث صامتة. وكانت تفكر مرة أخرى في ذلك اللقاء الأول في روزينجز، وفي حديثهما معا بعد العشاء، وفي الموسيقى والضحك وفي زياراته الكثيرة لبيت القس، وفي اهتمامه بها الذي كان واضحا وضوح الشمس، فلا يمكن إغفاله. وفي مساء يوم حفل العشاء كانت الليدي كاثرين قد رأت ما يكفي ليثير قلقها. لم يكن هناك شيء تغفل عنه عيناها الثاقبتان الفضوليتان. وتذكرت إليزابيث ما قالته: «فيم تتحدثان؟ أشركوني معكما في حديثكما .» كانت إليزابيث تعرف أنها بدأت تتساءل إن كانت ستعيش حياة سعيدة مع ذلك الرجل، لكن الأمل - لو كان قويا بما يكفي لنطلق عليه أملا - كان قد خبا وانطفأ حين التقيا بعد ذلك بمدة ليست بطويلة - ربما من قبيل الصدفة وربما كان اللقاء من ترتيبه هو - حين كانت تسير وحيدة في روزينجز، فرافقها في طريق عودتها إلى مقر القس. كان يأسى على فقره وكانت تمازحه بأن تسأله عن السلبيات التي جلبها الفقر على الابن الأصغر لأحد حاملي لقب إيرل. وكان رده بأن الأبناء الصغار «لا يمكن لهم أن يتزوجوا حيث شاءوا.» في ذلك الوقت كانت تتساءل ما إن كان ذلك الرد يمثل رسالة تحذير، وتسبب شكها في أن تشعر بشيء من الارتباك الذي قررت أن تخفيه بتحويل المحادثة إلى شيء من الهزل أو المزاح. لكن ذكرى تلك الواقعة كانت أبعد ما تكون عن الهزل والمزاح. لم تكن إليزابيث في حاجة إلى تحذير الكولونيل فيتزويليام ليذكرها بما يمكن أن تتوقعه فتاة لديها أربع من الأخوات غير المتزوجات ولا تمتلك ثروة من الزواج. فهل كان يقصد أنه كان من الآمن لشاب محظوظ أن يتمتع برفقة امرأة مثلها، أو يغازلها في سرية، لكن الحكمة تقتضي بألا تأمل هي في أكثر من ذلك؟ ربما كان التحذير ضروريا، لكنه لم يرسل بالشكل الملائم تماما. لو أنه لم يفكر فيها قط ولو أنه كان أقل إظهارا لاهتمامه تجاهها لكان وقع الأمر أقل وطأة.
كان الكولونيل فيتزويليام مدركا لصمتها. فقال: «هل لي أن آمل في الحصول على موافقتك؟»
التفتت إليزابيث له وقالت بنبرة صارمة: «أيها الكولونيل، لا يمكنني أن أضطلع بأي دور في هذا الأمر. لا بد أن تقرر جورجيانا بنفسها أين ستكون سعادتها. جل ما يمكنني قوله أنها إذا وافقت على الزواج منك فإنني سأشارك زوجي سروره برباط كهذا. لكن هذا ليس أمرا يمكنني التأثير فيه. الأمر كله في يد جورجيانا.» «كنت أعتقد أنها ربما حدثتك؟» «لم تبح لي بأي شيء، ولن يكون من اللائق بالنسبة إلي أن أطرح هذا الأمر للنقاش معها حتى تختار - أو إذا ما اختارت - هي ذلك.»
بدا للحظة أن حديثها يبث فيه شعورا بالارتياح، لكنه عاد للحديث عن الرجل الذي يعتقد بأنه منافسه، وكأنه كان مكرها على ذلك. «إن ألفيستون شاب وسيم ومقبول، ويتحدث بطريقة لبقة. لا شك أن الوقت والمزيد من النضج سيهدئان من ثقته المفرطة ونزعته لإظهار احترام أقل لمن يكبرونه سنا وذاك أمر مؤسف بالنسبة إلى شخص مثله. ولا شك عندي أنه ضيف مرحب به في هايمارتن، لكنني مندهش كثيرا من أنه يستطيع تكرار زيارة السيد والسيدة بينجلي بهذه الكثرة. فالمحامون الناجحون لا يبددون أوقاتهم بهذا الشكل.»
لم ترد عليه إليزابيث واعتقد هو أن توجيه النقد - بشكليه الصريح والضمني - ربما كان تصرفا طائشا. فأضاف: «لكنه عادة ما يكون في ديربيشاير في أيام السبت أو الأحد أو حين لا تكون المحاكم منعقدة. وأعتقد أنه يستغل الوقت في الدراسة متى ما أتيح له ذلك.»
قالت إليزابيث: «تقول أختي إنها لم يأتها زائر قط يقضي مثل ما يقضي هو من وقت في المكتبة.»
ساد الصمت لحظة أخرى ثم قال هو: «هل أستنتج من ذلك أن جورج ويكهام لا يزال غير مرحب به في بيمبرلي؟» وقد أثار ذلك دهشتها وانزعاجها. «لا، إطلاقا. لم أره أنا ولا السيد دارسي ولم نتواصل معه منذ كان في لونجبورن بعد زواجه من ليديا.»
ساد الصمت بينهما مرة أخرى وقتا أطول ثم بعد ذلك قال الكولونيل فيتزويليام: «من المؤسف ما حدث مع ويكهام حين كان صغيرا. لقد تربى مع دارسي كأخ وأخت. وربما كان هذا مفيدا لهما كليهما حين كانا طفلين؛ وبالنظر إلى عاطفة السيد دارسي الراحل تجاه خادمه، كان من الإحسان الطبيعي بعد وفاة الأخير أن يتحمل بعض مسئوليات الطفل. لكن بالنسبة إلى صبي بطباع ويكهام - بجشعه وطموحه ونزعته إلى الحسد - كان من الخطر عليه أن يتمتع بثروة لم يكن بمقدوره أن يتشارك فيها بمجرد انتهاء مرحلة الصبا. وفي فترة الجامعة ارتاد كل منهما كلية مختلفة، وبالطبع لم يشارك في رحلة دارسي إلى أوروبا. ربما حدثت التغيرات في أوضاعه وتوقعاته بصورة جذرية ومفاجئة للغاية. ولدي أسبابي التي تدفعني لأن أعتقد أن الليدي آن دارسي كانت ترى ذلك الخطر قادما.»
قالت إليزابيث: «لا يمكن أن يكون ويكهام قد توقع أن يشارك في الجولة الكبرى.» «ليس لدي علم بما توقع ويكهام، عدا أنه كان دوما يفرط في توقعاته.»
قالت إليزابيث: «ربما كانت المنن الأولى التي حصل عليها في البداية غير حكيمة بدرجة ما، ومن السهل دوما أن يشكك المرء في حكم الآخرين في أمور ينقصنا فيها الكثير من المعرفة.»
تململ الكولونيل في كرسيه. وقال: «لكن لا يمكن أن يكون هناك عذر لخيانة ويكهام للثقة التي يحظى بها من خلال محاولة إغواء الآنسة دارسي. كان ذلك عملا شائنا لا يمكن لأي اختلاف في ظروف الميلاد أو التربية أن يشكل مبررا له. وبصفتي وصيا مشاركا على الآنسة دارسي، فإنني علمت بالطبع بتلك العلاقة الشائنة، لكنها أصبحت أمرا أبعدته عن تفكيري. وأنا لم أتحدث عن الأمر مع دارسي قط، وأعتذر عن الحديث بشأنه الآن. لقد أظهر ويكهام أنه ينتمي إلى الجانب الأيرلندي، وهو الآن بطل قومي من نوع ما، لكن لا يمكن لذلك أن يمحو ما حدث بالماضي، رغم أن ذلك قد يمده بالفرص ليعيش حياة أكثر احتراما ونجاحا في المستقبل. وقد ترك الخدمة في الجيش - بصورة غير حصيفة في رأيي - لكنه لا يزال صديقا لرفاقه العسكريين كالسيد ديني، الذي ستذكرين أنني عرفتك به للمرة الأولى في ميريتون. لكن لم يكن ينبغي لي أن أذكر اسمه في حضورك.»
لم يصدر عن إليزابيث أي رد، وبعد برهة قصيرة من الصمت، نهض الكولونيل على قدميه وانحنى ثم غادر. كانت إليزابيث على علم أن أيا منهما لم يجد ارتياحا في هذه المحادثة. فالكولونيل فيتزويليام لم يجد ما كان يأمل من موافقتها الصادقة والتأكيد على دعمها وخشيت إليزابيث من أن تدمر الإهانة والإحراج صداقة دامت منذ الصبا، وتعز على زوجها، وهذا إذا ما فشل الكولونيل فيتزويليام في أن يظفر بجورجيانا. ولم يكن لدى إليزابيث أي شك في أن دارسي سيقبل بالكولونيل فيتزويليام زوجا لجورجيانا. فما كان يطمح إليه قبل كل شيء هو الأمان لها، ومعه ستكون جورجيانا في مأمن؛ وحتى فرق السن سيرى على أنه ميزة على الأرجح. وبمرور الوقت ستحصل جورجيانا على لقب كونتيسة، ولن يكون المال أمرا يقلق الرجل المحظوظ الذي سيتزوجها. وتمنت إليزابيث أن تسوى هذه المسألة بطريقة أو بأخرى. ربما ستصل الأحداث إلى ذروتها غدا أثناء الحفل الراقص الذي ستزداد فيه احتمالية أن يجلسا معا، وستتاح فيه فرصة أن يهمس الراقصون بعضهم إلى بعض أثناء الرقص، فمن المعروف أن الحفلات تتسبب في أن تصل الأحداث السعيدة منها وغير السعيدة إلى خاتمة لها. كل ما أملت به إليزابيث هو أن يرضى كل المعنيين، ثم ابتسمت بسبب فرضية أن هذا يمكن أن يحدث.
وكانت إليزابيث تشعر بالامتنان والسرور بفعل التغيير الذي حدث لجورجيانا منذ أن تزوجت هي بدارسي. ففي البداية كانت جورجيانا مندهشة - إلى حد يقترب من الصدمة - من ممازحة زوجته له، ومن رده على ذلك بممازحتها. ففي بيمبرلي لم يكن هناك الكثير من الضحك قبل وصول إليزابيث، وبفعل تشجيع إليزابيث اللبق والدمث فقدت جورجيانا خجلها من دارسي. فقد أصبحت جورجيانا الآن واثقة في أخذها لمكانها حين يستضيفون الزوار، كما أصبحت أكثر استعدادا لإبداء رأيها حين يجلسون على طاولة العشاء. وحيث كان فهم إليزابيث لأخت زوجها يتنامى، ظنت أن جورجيانا تمتلك تحت ذلك الخجل والتحفظ صفة أخرى من صفات دارسي؛ الإرادة القوية. لكن ما مدى إدراك دارسي لهذا؟ أليست جورجيانا لا تزال جزئيا بالنسبة إليه تلك الفتاة الضعيفة ابنة الخمسة عشر ربيعا، تلك الطفلة التي تحتاج إلى حبه الآمن إذا ما كان يريد لها أن تبتعد عن المخاطر؟ لم يكن الأمر أنه لا يثق في شرف أخته أو عفتها - فمثل هذه الفكرة تكاد تقارب طعنه في دينها - لكن إلى أي مدى كان يثق في حكمها؟ وبالنسبة إلى جورجيانا، كان دارسي - منذ وفاة والدهما - هو كبير العائلة والأخ الأكبر الحكيم الذي يتمتع بشيء من سلطة الأب، كان هو الأخ الذي تحبه كثيرا ولا تخاف منه - حيث إن الحب والخوف لا يجتمعان في قلب واحد - وإنما كانت تهابه. ولم تكن جورجيانا لتتزوج من دون حب، لكنها أيضا لم تكن لتتزوج من دون موافقة أخيها. ولكن ماذا لو انتهى الأمر إلى الاختيار بين الكولونيل فيتزويليام، قريبه وصديق طفولته ووريث الإيرلية، ذلك الجندي الشجاع الذي عرف جورجيانا طوال عمرها، وبين المحامي الشاب الوسيم الجذاب الذي لا شك كان يصنع لنفسه مستقبلا، لكنهم لا يعرفون عنه سوى القليل؟ سيرث ذلك المحامي منزلا قديما، وحينها ستمتلك جورجيانا منزلا - حين يجمع ألفيستون المال ويرممه - سيكون أحد أجمل المنازل في إنجلترا. لكن دارسي كان يتمتع بقدر كبير من الفخر بعائلته، ولا يوجد شك أن أيا من المرشحين سيوفر أكبر قدر من الأمان ويمتلك مستقبلا أكثر إشراقا.
كانت زيارة الكولونيل لها قد دمرت سلامها النفسي، فتركها قلقة وبائسة بعض الشيء. وكان محقا في قوله إنه لم يكن ينبغي له أن يذكر اسم ويكهام. فدارسي نفسه لم يتواصل معه منذ أن تقابلا في الكنيسة وقت زواج ليديا، وتلك الزيجة لم تكن لتتم لولا إسرافه في إنفاق المال. كانت إليزابيث واثقة من أن هذا السر لم يكن قد انكشف للكولونيل فيتزويليام، لكنه بالطبع علم بأمر الزواج ولا بد أنه تشكك في الأمر. فتساءلت في نفسها، أكان يحاول أن يطمئن نفسه بأن ويكهام لم يكن له أي تأثير على حياتهما في بيمبرلي وأن دارسي اشترى صمت ويكهام ليضمن أن العالم لن يقول أبدا إن الآنسة دارسي من بيمبرلي لديها سمعة مدنسة؟ لقد جعلتها زيارة الكولونيل مضطربة وبدأت تذرع الأرض جيئة وذهابا، في محاولة لتهدئة مخاوف كانت تأمل أن تكون غير منطقية ومن أجل استعادة شيء من رباطة جأشها السابقة.
جلس الأربعة فقط على طاولة الغداء الذي كان وجيزا. فكان لدى دارسي موعد مع مدير أعماله، وقد عاد إلى غرفة مكتبه لينتظره. ورتبت إليزابيث لتقابل جورجيانا في المستنبت الزجاجي حيث سيفحصان الزهور والأغصان الخضراء التي أحضرها كبير البستانيين من الصوبات. كانت الليدي آن تحب الكثير من الألوان والترتيبات المعقدة، لكن إليزابيث فضلت أن تستخدم لونين فقط إضافة إلى اللون الأخضر وأن تنسق تلك الألوان في مجموعة متنوعة من المزهريات - الكبيرة منها والصغيرة - بحيث تحتوي كل غرفة على أزهار زكية الرائحة. ويوم غد ستكون الألوان المستخدمة هي الأبيض والزهري، وقد عملت إليزابيث وجورجيانا وتبادلتا الرأي حول الروائح النفاذة للأزهار الطويلة السيقان وأزهار الجرنوقي. وكان جو المستنبت الزجاجي الحار والرطب طاغيا فشعرت إليزابيث برغبة مفاجئة في تنفس الهواء الطلق والشعور بالنسيم ينساب على وجنتيها. هل كان هذا بسبب القلق الذي تسبب به وجود جورجيانا وسر الكولونيل، اللذين شكلا عبئا عليها في يومها؟
وفجأة انضمت السيدة رينولدز إليهم. فقالت: «سيدتي، إن عربة السيد والسيدة بينجلي تقترب من مدخل المنزل. وإذا ما أسرعت فستصلين إلى الباب في الوقت المناسب لاستقبالهما.»
أطلقت إليزابيث صيحة تنم عن السرور، وهرعت إلى الباب الأمامي وتبعتها جورجيانا. وكان ستاوتن هناك بالفعل ليفتح الباب فيما كانت العربة تتحرك ببطء حتى توقفت. هرعت إليزابيث إلى الخارج في الهواء البارد الآخذ حدته في الارتفاع. لقد وصلت عزيزتها جين وللحظة تلاشى كل شعورها بالقلق وراء شعورها بالسعادة تجاه لقائهما.
الفصل الثاني
لم يمكث بينجلي وزوجته في نيذرفيلد طويلا بعد زواجهما. كان بينجلي رجلا متسامحا حسن النية إلى حد بعيد، لكن جين أدركت أن القرب بهذا الشكل من والدتها لن يسهم في راحة زوجها أو راحة بالها. كانت جين تتسم بالحنان بطبيعتها كما كان حبها وولاؤها لعائلتها قويين، لكن سعادة بينجلي تأتي أولا. وكان كلاهما يتوق للاستقرار بالقرب من بيمبرلي، وحين انتهى عقد إيجارهما في نيذرفيلد، مكثا مدة قصيرة في لندن مع السيدة هيرست - وهي أخت بينجلي - ثم انتقلا في شيء من الارتياح إلى بيمبرلي، وكانت بيمبرلي بالنسبة إليهما تعد محورا ملائما للبحث عن منزل دائم لهما. وفي هذا كان دارسي قد شارك بفاعلية. كان دارسي وبينجلي يذهبان إلى المدرسة نفسها ، لكن الفارق في العمر بينهما - رغم أنه لا يتخطى العامين - كان يعني أنهما لم يريا من أحدهما الآخر الكثير في مرحلة الصبا. إنما أصبحا أصدقاء في أوكسفورد. كان دارسي متفاخرا ومتحفظا ولا يشعر بالراحة أثناء وجوده بين ناس كثيرين، ووجد الراحة في طبيعة بينجلي الكريمة السخية وروحه الاجتماعية السلسة، وافتراضه المبهج بأن الحياة ستحسن معاملته دوما، وكان بينجلي يؤمن كثيرا بحكمة دارسي الفائقة وذكائه بحيث كان مترددا في اتخاذ أي إجراء في أي مسألة مهمة من دون موافقة صديقه واستحسانه.
كان دارسي قد نصح بينجلي بأن يشتري منزلا بدلا من أن يبني واحدا، وحيث إن جين كانت حبلى بالفعل في طفلهما الأول، فقد بدا من المحبب أكثر أن يجد منزلا بشكل عاجل، وأن يكون المنزل قابلا لانتقالهما فيه ولا يوجد به سوى أقل قدر من العوائق. وكان دارسي هو من وجد منزل هايمارتن - إذ سعى في ذلك نيابة عن صديقه - وكانت جين وزوجها كلاهما مسرورين به منذ أن وقع بصرهما عليه للمرة الأولى. كان المنزل جميلا وعصريا ومبنيا على أرض مرتفعة، ويطل على مناظر جذابة من كل نوافذه، وكان المنزل مريحا كثيرا للحياة الأسرية، وبه حدائق جيدة التصميم، وعزبة كبيرة بما يكفي لكي يتمكن بينجلي من عقد حفلات صيد من دون أن يستدعي ذلك مقارنات غير مواتية مع بيمبرلي. وكان الدكتور ماكفي - الذي كان يرعى عائلة دارسي وسكان بيمبرلي سنوات طوالا - قد زار المنزل وصرح بأنه صحي وأن الماء به نقي، فسويت الأمور الرسمية سريعا. وكانت المتطلبات قليلة عدا شراء الأثاث وعملية تجديده، وكانت جين - بمساعدة إليزابيث - مسرورة كثيرا أثناء الانتقال من غرفة إلى أخرى وتحديد ألوان ورق الحائط والدهان والستائر. وفي غضون شهرين من إيجاد المنزل، سكنته أسرة بينجلي، واكتملت سعادة الأختين في زيجاتهما.
كانت الأسرتان يزور بعضهما بعضا باستمرار، وقليلة هي تلك الأسابيع التي لا تنتقل فيها العربة بين هايمارتن وبيمبرلي. وكان من النادر أن تغيب جين عن أطفالها الثلاثة لأكثر من ليلة - وهم توءمان تبلغان من العمر أربعة أعوام وتدعيان إليزابيث وماريا، وصبي يدعى تشارلز إدوارد الذي يقترب عمره الآن من السنتين - لكنها كانت تعلم أن بإمكانها أن تتركهم آمنين في يد السيدة ميتكاف التي تتمتع بالخبرة والكفاءة، وهي المربية التي كانت ترعى زوجها حين كان رضيعا؛ ولذا فكانت جين سعيدة أن تقضي ليلتين في بيمبرلي من دون مواجهة المشكلات الحتمية الناتجة عن نقل ثلاثة أطفال ومربيتهم من أجل زيارة قصيرة كهذه. وكالعادة، أتت جين من دون وصيفتها، لكن وصيفة إليزابيث البارعة اليافعة - واسمها بيلتون - كانت سعيدة لأن تهتم بأمر الأختين. وأرسلت عربة أسرة بينجلي وسائقها إلى ويلكنسون وهو سائق دارسي، وبعد صخب التحية، صعدت إليزابيث وجين على الدرج كل منهما متأبطة ذراع الأخرى، وتوجهتا نحو الحجرة التي خصصت لجين أثناء زيارتها، وكانت حجرة ملابس بينجلي مجاورة لها. وكانت بيلتون قد تولت بالفعل أمر صندوق ملابس جين، وكانت تعلق ثيابها التي ترتديها مساء والرداء الذي سترتديه في الحفل، وفي غضون ساعة كانت ستحضر إليهما من أجل أن تساعدهما في ارتداء الملابس وتمشيط شعرهما وتزيينه. وكانت الأختان اللتان تشاركتا غرفة في لونجبورن رفيقتين مقربتين بعضهما من بعض منذ طفولتهما، فلم يكن هناك أمر لا تستطيع إليزابيث أن تحادث جين بشأنه، عالمة أن جين مؤتمنة على أسرارها، وأن أي نصيحة ستسديها إليها ستكون نابعة من قلبها الطيب وحبها لها.
وبمجرد أن انتهتا من الحديث مع بيلتون ذهبتا كالمعتاد إلى الحضانة لتمنحا تشارلز الحلوى والعناق اللذين ينتظرهما، ولكي تلعبا مع فيتزويليام وتستمعا إلى قراءته - حيث كان من المقرر أن يغادر الحضانة عن قريب لينتقل إلى حجرة الدرس والتعليم والحصول على معلم - وتجلسا للتحدث مع السيدة دونوفان حديثا موجزا لكن ممتعا. كانت السيدة دونوفان والسيدة ميتكاف تمتلكان من سنوات الخبرة مجتمعتين ما يقارب 50 سنة، وتلكما المسئولتان الخيرتان كانتا قد أسستا لتحالف وثيق مبكر - في حالتي الهجوم والدفاع - وكانتا هما الأعلى مقاما في حضانتيهما، فكانتا تحوزان على حب المسئولين منهما وعلى ثقة الآباء، على الرغم من أن إليزابيث كانت تظن أن السيدة دونوفان ترى أن الوظيفة الوحيدة للأم هي إمداد الحضانة بطفل جديد بمجرد أن يكبر الطفل على ملابسه الأولى. وروت جين الأنباء عن التقدم الذي يحرزه تشارلز إدوارد والتوءمان، وناقشت السيدة دونوفان النظام الذي يتبعونه في هايمارتن وأثنت عليه، ولا عجب في ذلك حيث كان هو النظام نفسه الذي تتبعه هي. حينها لم يكن يتبقى سوى ساعة واحدة قبل أن يحين وقت ارتداء الملابس استعدادا للغداء؛ لذا ذهبتا إلى غرفة إليزابيث لتتحدثا على راحتهما وتتبادلا تفاصيل صغيرة من الأحداث التي تعتمد عليها السعادة المنزلية بشكل كبير.
وربما كان من المريح لإليزابيث أن تسر إلى جين بشأن موضوع أكثر أهمية، وهو نية الكولونيل ليتقدم للزواج من جورجيانا. لكن وعلى الرغم من أنه لم يوعز إليها برغبته في السرية، فإنه لا بد أن يكون قد توقع أنها ستتحدث أولا إلى زوجها، وشعرت إليزابيث أن شعور جين المرهف بالاحترام والشرف سيتضرر، كما سيتضرر إحساسها هي بالاحترام والشرف أيضا، إن وصلت تلك الأخبار إلى أختها قبل أن تحظى إليزابيث بفرصة الحديث مع دارسي. لكنها كانت تتوق للتحدث عن هنري ألفيستون وكانت مسرورة حين طرحت جين اسمه بقولها: «من اللطيف منك أن تضمني السيد ألفيستون مرة أخرى في دعوتك. فأنا أعرف كم يعني له الحضور إلى بيمبرلي.»
قالت إليزابيث: «إنه ضيف محبوب، ويسعدنا كلينا أن نحظى بزيارته. إنه مهذب وذكي ومفعم بالحيوية وبهي المحيا، ومن ثم فإنه نموذج للشباب. ذكريني كيف أصبحت علاقتكما وثيقة. ألم يلتق به السيد بينجلي في مكتب المحامي الخاص بكما في لندن؟» «بلى، لقد التقاه قبل 18 شهرا، حين كان تشارلز يزور السيد بيك ليتحدثا في بعض الاستثمارات. كان السيد ألفيستون قد استدعي إلى المكتب بغية أن يمثل أحد موكلي السيد بيك في المحكمة، وحيث وصل الزائران كلاهما مبكرا، تقابلا في غرفة الاستقبال وقدمهما السيد بيك فيما بعد بعضهما إلى بعض. وكان تشارلز معجبا كثيرا بالشاب وتناولا العشاء فيما بعد معا حيث أسر إليه ألفيستون بخططه لإعادة إحياء ثروة الأسرة والتركة الخاصة بها في مقاطعة سري، التي كانت أسرته تمتلكها منذ عام 1600، وبصفته السليل الوحيد فإنه يشعر تجاهها بالتزام وتعلق قويين. ثم التقيا مرة أخرى في نادي تشارلز، وحينها دعاه تشارلز باسمينا ليقضي بضعة أيام في هايمارتن؛ وذلك حين راعه مظهر الإعياء على الشاب؛ ومنذ ذلك الحين أصبح السيد ألفيستون زائرا منتظما ومرحبا به متى ما استطاع أن يبتعد عن المحاكم. نحن نعلم أن والد السيد ألفيستون - وهو اللورد ألفيستون - يبلغ من العمر 80 عاما، ولا يتمتع بصحة جيدة وكان غير قادر على مدار عدة سنوات على بذل الجهد أو القيادة اللذين تحتاج إليهما تلك التركة، لكن تلك البارونية هي واحدة من أقدم البارونيات في البلاد، وتحظى عائلته باحترام كبير. وقد علم تشارلز من السيد بيك - ومن آخرين أيضا - أن السيد ألفيستون يحظى بالاحترام في جمعية «ميدل تمبل»، وهكذا أحببناه كلانا. إنه بمثابة بطل في نظر تشارلز إدوارد اليافع كما أن التوءمين تحبانه جدا ودائما ما تستقبلانه لدى زيارته بالرقص والابتهاج.»
كان السبيل الأقصر إلى قلب جين هو معاملة أطفالها معاملة طيبة، فاستطاعت إليزابيث أن تفهم سبب انجذاب قاطني منزل هايمارتن إلى ألفيستون. كما أن حياة الأعزب المنهك من العمل في لندن تقدم القليل من الراحة، ومن الواضح أن ألفيستون وجد في جمال السيدة بينجلي وفي عطفها وصوتها الحنون وفي الحياة الأسرية في منزلها تباينا مرحبا به في مقابل التنافس الصاخب والمتطلبات الاجتماعية التي تتميز بها العاصمة. وكان ألفيستون - مثله مثل دارسي - قد اضطلع مبكرا بأعباء الوفاء بالتوقعات والمسئوليات. وكان قراره باستعادة ثروة الأسرة جديرا بالإعجاب، وعلى الأرجح فإن أولد بيلي - بتحدياتها ونجاحاتها - تعد نموذجا بدائيا لنضال شخصي أكثر.
ساد الصمت برهة ثم قالت جين: «آمل يا أختي العزيزة أنك والسيد دارسي لا تجدان غضاضة في وجوده هنا. لا بد لي أن أعترف؛ لقد رأيت شعوره الواضح بالسرور هو وجورجيانا وهما معا، وفكرت في أن السيد ألفيستون ربما يكون واقعا في الحب، وإن كان من شأن هذا أن يتسبب في الكدر للسيد دارسي أو جورجيانا؛ فإننا سنحرص بالطبع على أن تتوقف زياراته. لكنه شاب جدير بالاحترام وإن كنت محقة في ظنوني، وكانت جورجيانا تكن له المشاعر نفسها، فإنني واثقة تماما من أنهما سيكونان سعيدين معا، لكن ربما تكون لدى السيد دارسي خطط أخرى لأخته، وإن كان هذا هو الأمر، فقد يكون من الحكمة واللطف ألا يأتي السيد ألفيستون مرة أخرى إلى بيمبرلي. لقد لاحظت أثناء زياراتي الأخيرة أن هناك تغيرا في سلوك الكولونيل فيتزويليام تجاه قريبته، فهناك رغبة أكثر في الحديث معها والوجود بالقرب منها. سيكونان ثنائيا رائعا وستكون هي زينة له، لكنني أتساءل كم سيكون مقدار سعادتها في تلك القلعة الشمالية الشاسعة. لقد رأيت صورة لها الأسبوع الماضي في كتاب في مكتبتنا. إنها تبدو كحصن جرانيتي حيث تتلاطم أمواج بحر الشمال على جدرانه. كما أنها تبعد كثيرا عن بيمبرلي. من المؤكد أن جورجيانا ستكون تعيسة بسبب بعدها عن أخيها وعن المنزل الذي تحبه كثيرا.»
قالت إليزابيث: «أعتقد أن بيمبرلي تأتي في المقام الأول بالنسبة إلى كل من السيد دارسي وجورجيانا. إنني حين كنت أزورهما مع عمي وعمتي وسألني السيد دارسي عن رأيي في المنزل، أتذكر أن سروري الواضح به أسعده كثيرا. وإن كان قد بدا مني ما هو أقل من حماسة صادقة تجاهه فإنني أعتقد بأنه لم يكن ليتزوج بي.»
ضحكت جين قائلة: «أوه، أعتقد أنه كان سيفعل يا عزيزتي. لكن ربما ينبغي لنا ألا نطيل في هذا الحديث أكثر من هذا. فالانهماك في الحديث عن مشاعر الآخرين ونحن لا نستطيع أن نفهمها بصورة كاملة - وربما لا يفهمونها هم أنفسهم بصورة كاملة - قد يكون سببا في الشعور بالكدر. ربما كنت مخطئة في ذكر اسم الكولونيل. إنني أعرف يا عزيزتي إليزابيث مقدار حبك لجورجيانا، وحيث إنها تعيش معك بصفتك زوجة أخيها، فإنني أقول إنها صارت امرأة يافعة وأكثر جمالا وثقة في نفسها. وإن كان هناك اثنان من الخاطبين لها فلا بد وأن يعود القرار إليها بالطبع، لكنني لا أستطيع أن أتخيل أنها ستقبل بالزواج على عكس رغبة أخيها.»
قالت إليزابيث: «ربما يصل الأمر إلى ذروته بعد الحفل، لكنني أعترف بأن هذا الأمر يشكل مصدر قلق لي. لقد أحببت جورجيانا كثيرا. لكن لننأى عن الحديث في هذا الأمر الآن. فلدينا الغداء العائلي لنتطلع إليه. وينبغي لي ألا أفسد هذا الغداء على أي منا أو من ضيوفنا بفعل هموم قد لا يكون هناك أساس لها.»
ولم تتحدث أي منهما بأكثر من ذلك، لكن إليزابيث كانت تعلم أنه لا توجد ثمة مشكلة بالنسبة إلى جين. كانت تؤمن تماما بأنه من الطبيعي لشاب وفتاة يافعين متصاحبين أن يقعا في الحب،
وعند هذا الحد لن تكون هناك أي مشكلة بشأن المال؛ فقد كانت جورجيانا ثرية، وكان السيد ألفيستون يرتقي في مهنته. لكن المال لم يكن المشكلة بالنسبة إلى جين؛ شريطة أن يكون هناك ما يكفي منه لكي تعيش الأسرة في هناء ورغد، لكن الأمر المهم يكمن في من يكون الشريك الذي يقدم المال في تلك الزيجة؟ وحقيقة أن الكولونيل الآن كان يحمل لقب فيكونت، وأن زوجته بمرور الوقت ستحصل على لقب كونتيسة، في حين أن السيد ألفيستون سيحصل على لقب بارون فقط لن تكون ذات وزن لدى جين - رغم أنها حقيقة قد تكون ذات أهمية قصوى للآخرين. وقررت إليزابيث أنها ستحاول ألا تفكر في الصعوبات المحتملة لكنها - وبعد الحفلة - ستسرع في إيجاد فرصة مبكرة للحديث مع زوجها. لقد كان كلاهما مشغولا بدرجة كبيرة بحيث إنها لم تره منذ الصباح. ولن يكون هناك ما يسوغ لها أن تخمن بشأن مشاعر السيد ألفيستون إلا إذا طرح السيد ألفيستون أو جورجيانا الأمر، لكن ينبغي أن يتم إخباره في أقرب فرصة ممكنة عن نية الكولونيل في الحديث عن أمله أن تقبل جورجيانا به زوجا لها. وكانت إليزابيث تتساءل عن السبب الذي يجعل التفكير في هذه الزيجة يتسبب لها في شعور بعدم الارتياح - رغم أنها زيجة رائعة على ما يبدو - وفي سبب عدم استطاعتها أن تجد مبررا لذلك، وقد حاولت أن تتخلص من هذا الشعور. وهنا أتت بيلتون وكان الوقت قد حان لكي تتجهز هي وجين لتناول الغداء.
الفصل الثالث
في الليلة السابقة ليوم الحفل، قدم الغداء في موعده المحدد في الساعة السادسة والنصف، لكن حين يكون العدد قليلا فإن الغداء كان يقدم في غرفة صغيرة متاخمة لغرفة الطعام الرسمية، حيث يتسع المكان لثمانية أشخاص يجلسون بأريحية حول الطاولة المستديرة. وفي السنوات السابقة كانت الحجرة الكبرى ضرورية لأن عائلة جاردنرز - وكذلك أخوات بينجلي أحيانا - كانوا ضيوفا في بيمبرلي لحضور الحفل، لكن السيد جاردنر لم يكن يجد سهولة قط في ترك أعماله، ولم تجد زوجته كذلك سهولة في أن تبتعد عن أطفالها. كان ما يحبه كلاهما أكثر هو زيارة صيفية حيث يمكن للسيد جاردنر أن يستمتع بصيد السمك وتستمتع زوجته بالتنزه مع إليزابيث في عربة فيتون يجرها حصان واحد. كانت الصداقة بين السيدتين تعود لسنوات طويلة كما كانت وثيقة، وكانت إليزابيث تكن تقديرا كبيرا لنصائح عمتها. والآن، هناك أمور ستسر كثيرا بأن تسمع نصيحتها بشأنها.
وعلى الرغم من أن الغداء كان ذا طابع غير رسمي، فقد تحركت المجموعة معا بصورة طبيعية ليدخلوا إلى غرفة الطعام في ثنائيات. وفي الحال قدم الكولونيل يده إلى إليزابيث، وتحرك دارسي نحو جين، وقدم بينجلي ذراعه إلى جورجيانا في شيء من التودد. وحين رأت إليزابيث أن ألفيستون كان يسير وحيدا خلف آخر ثنائي منهم، تمنت لو أنها رتبت الأمور بشكل أفضل، لكن كان من الصعب دوما إيجاد سيدة مناسبة دون مرافق لها في وقت قصير، كما أن الاجتماع على العشاء قبل الحفل لم يكن ذا أهمية من قبل. وبالقرب من جورجيانا كان هناك كرسي فارغ، وحين جلس فيه ألفيستون، استطاعت إليزابيث أن تلحظ ابتسامة الغبطة والسرور العابرة على وجهه.
وحيث أخذ كل منهم مجلسه، قال الكولونيل: «السيدة هوبكنز ليست معنا مرة أخرى هذا العام. أليست هذه هي المرة الثانية التي تفوت فيها الحفل؟ ألا تستمتع أختك بالرقص، أم أن للقس ثيودور اعتراضات دينية فيما يخص الحفلات؟»
قالت إليزابيث: «لم تكن ماري محبة للرقص قط، وقد طلبت أن نتغاضى عن حضورها، لكن بكل تأكيد ليس هناك أي اعتراضات من جانب زوجها على مشاركتها في الحفل. لقد أخبرني في آخر مرة كانا يتناولان الطعام فيها هنا أن أي حفل يقام في بيمبرلي ويحضره الأصدقاء والمعارف لا يمكن أن يكون له تأثير ضار لا على الأخلاق أو الآداب.»
همس بينجلي إلى جورجيانا قائلا: «مما يوضح أنه لم يشرب قط الحساء الأبيض الخاص ببيمبرلي.»
سمع الآخرون تلك الملاحظة، فأثارت شيئا من الابتسام والضحك فيما بينهم. لكن هذا المزاح لم يستمر طويلا. فقد كان الحديث الحماسي المعتاد على الطاولة غائبا، وكان هناك وهن وكسل لم يستطع بينجلي حتى بما يتمتع به من طلاقة وحس دعابة أن يخرجهم منه. وحاولت إليزابيث ألا ترمق الكولونيل بنظرها كثيرا، لكنها أدركت حين كانت ترمقه كيف أن نظراته كانت مثبتة على الثنائي الجالس أمامه. وقد بدا لإليزابيث أن جورجيانا - بفستانها الأبيض البسيط والمصنوع من نسيج الموسلين وبإكليل الدرر الذي يستقر على شعرها الداكن - كانت جميلة أكثر من أي وقت مضى، لكن نظرة الكولونيل كانت تحمل في طياتها شيئا ينم عن التفكير والتأمل أكثر مما يعبر عن الإعجاب. بالطبع كان الثنائي الشاب يتصرفان بطريقة مثالية، فلم يكن ألفيستون يظهر اهتماما لجورجيانا أكثر من الطبيعي، وكانت جورجيانا تلتفت لتوجه حديثها بالتساوي بين ألفيستون وبينجلي، وكأنها فتاة صغيرة تتبع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بإخلاص في عشائها الأول. وكانت هناك لحظة واحدة كانت تأمل ألا يكون الكولونيل قد التفت إليها. كان ألفيستون يخلط النبيذ بالماء لجورجيانا، فتلامست أياديهما ثواني قليلة، ولاحظت إليزابيث توردا خفيفا يزداد على وجنتي جورجيانا ثم يختفي بعد ذلك.
وبرؤيتها لألفيستون في ثيابه المسائية الرسمية، ذهلت إليزابيث مرة أخرى بحسن مظهره غير العادي. لا شك أنه كان مدركا أنه لا يمكن له أن يدخل أي مكان من دون أن تلتفت إليه كل امرأة حاضرة وتحول عينها نحوه. كان شعره الكثيف بلون بني متوسط مربوط من الخلف عند مؤخر رقبته. وكانت عينه بلون بني داكن أكثر، وفوقهما حاجبان مستقيمان، وفي وجهه علامات انفتاح وقوة أنقذته من أن يكون وسيما بدرجة أكثر من اللازم، وكان يتحرك في ثقة وطلاوة هينة. وكما تعلم إليزابيث، كان ألفيستون في الغالب ضيفا محبوبا ومفعما بالحيوية، لكنه بدا الليلة متأثرا بالإحساس العام بعدم الارتياح. وفكرت في نفسها أن السبب في ذلك قد يعود إلى التعب الذي أصاب الجميع. فقد سافر كل من بينجلي وجين مسافة 18 ميلا فقط، لكنهما تأخرا بفعل الرياح الشديدة، وبالنسبة إليها وإلى دارسي فإن اليوم الذي يسبق الحفل دائما ما يكون مشغولا بصورة غير اعتيادية.
ولم تساعد العاصفة القائمة في الخارج في تهدئة الأجواء في الداخل. فقد كانت الرياح تعوي من وقت لآخر، وكانت النار تصدر صفيرا وخشخشة وكأنها كائن حي، ومن حين لآخر كانت إحدى القطع الخشبية فيها تتحرك، فتندفع منها ألسنة لهب مذهلة فتلقي بضوء أحمر لحظي على وجوه من يتناولون الطعام فكانوا يبدون وكأنهم محمومون. وكان الخدم يتحركون في صمت، لكن كان ما أراح إليزابيث هو انتهاء وجبة العشاء، فاستطاعت عيناها أن تلتقيا بعيني جين، وبذا تحركت إليزابيث وجين وجورجيانا معا عبر الغرفة دخولا إلى غرفة الموسيقى.
الفصل الرابع
بينما كان يقدم الغداء في غرفة الطعام الصغيرة، كان توماس بيدويل قابعا في حجرة كبير الخدم ينظف الفضة. تلك كانت وظيفته منذ أربع سنوات حين استحال مع الألم في ظهره وركبته قيادة العربات، وكانت تلك مهنة يفخر بها، خاصة في تلك الليلة التي تسبق حفل الليدي آن. ومن الشمعدانات السبعة الكبيرة التي ستوضع بطول طاولة الغداء، نظف خمسة منها، وكان سينتهي من الاثنين الباقيين في هذه الليلة. كانت تلك المهمة مضجرة وتستغرق وقتا طويلا ومتعبة بشدة، وسيؤلمه ظهره وذراعاه ويداه كثيرا بمجرد أن ينتهي من عمله. لكن تلك المهمة لم تكن مخصصة للخادمات أو للصبية من الخدم. فقد كان كبير الخدم ستاوتن هو المسئول الأخير، لكنه كان مشغولا في اختيار النبيذ والإشراف على تحضيرات غرفة الرقص، وعد أن مسئوليته تقتضي أن يفحص الفضة بمجرد أن يتم الانتهاء من تنظيفها، وليس تنظيف أكثر القطع قيمة حتى بنفسه. وكان من المتوقع من بيدويل خلال الأسبوع السابق للحفل أن يقضي معظم ساعات النهار - وشيئا من ساعات المساء في الغالب - وهو جالس إلى الطاولة في حجرة المؤن يرتدي مئزره ومرصوص أمامه الأشياء الفضية التي تمتلكها عائلة دارسي - من سكاكين وشوك وملاعق وشمعدانات وأطباق فضية يقدم الطعام فيها، وأطباق تقديم الفاكهة. وبينما كان بيدويل يلمع الفضة كان يتخيل الشمعدانات بشموعها الطويلة وهي تلقي بالضوء على الرءوس المزينة بالمجوهرات، والأوجه المتوهجة والأزهار وهي تهتز في مزهرياتها.
ولم يكن يشعر بالقلق قط من أن يترك عائلته وحدها في كوخ الغابة، ولم تكن أسرته تشعر بالخوف قط في ذلك المكان. كان الكوخ يقع في مكان منعزل ومهجور سنوات طويلة حتى قام والد دارسي بإعادة ترميمه وجعله ملائما للاستخدام من قبل أحد الخدم لديه. لكن على الرغم من أن الكوخ كان أكبر مما يتوقع أحد الخدم أن يقطنه، وأنه كان يوفر الهدوء والخصوصية، فإن قلة من الناس فقط هم من كان لديهم الاستعداد للعيش فيه. كان جد السيد دارسي الأكبر هو من بناه، وكان ذلك الرجل منعزلا ويكاد يكون قد عاش حياته كلها وحيدا، فلم يكن يصحبه سوى كلبه سولدجر. وكان يطهو في ذلك الكوخ وجباته البسيطة لنفسه حتى، ويقرأ ويتأمل جذوع الشجر القوية والشجيرات المتشابكة في الغابة التي كانت تمثل حصنه الذي يحميه من العالم الخارجي. ثم وحين بلغ جورج دارسي الستين من عمره، أصبح سولدجر مريضا وعاجزا وصار يتألم. وكان جد بيدويل - الذي كان حينها صبيا يساعد في أمر الجياد - هو من ذهب إلى الكوخ ووجد سيده ميتا. كان دارسي قد أطلق النار على كلبه سولدجر وعلى نفسه.
وكان والدا بيدويل قد عاشا في الكوخ من قبله. ولم يزعجهما تاريخه وهكذا لم ينزعج هو بذلك. أما سمعة أن الغابة كانت مسكونة فقد نشأت من مأساة أكثر حداثة وقعت بعد أن ورث جد السيد دارسي ملكية المكان. كان هناك شاب يافع وهو الابن الوحيد لوالديه يعمل بستانيا في بيمبرلي، وقد ثبتت إدانته بارتكاب جريمة الصيد غير المشروع لغزال في ملكية قاض محلي، وهو السير سيلوين هاردكاسل. ولم يكن الصيد في غالب الأمر جريمة عقوبتها الإعدام، وكان معظم القضاة يتعاملون مع الأمر بشيء من التعاطف حين تكون الظروف عصيبة ويسود الجوع، لكن السرقة من حديقة للغزلان كانت جريمة يعاقب عليها بالموت وكان والد السير سيلوين مصرا على أن تطبق أقصى عقوبة. وكان السيد دارسي قد وجه مناشدة قوية من أجل الترفق، لكن السير سيلوين رفض مناشدته. وفي غضون أسبوع من مقتل الصبي شنقت أمه نفسها. كان السيد دارسي قد فعل أقصى ما يستطيع فعله على الأقل، لكن ساد اعتقاد بأن المرأة كانت تحمله كامل المسئولية. لقد ألقت بلعنة على عائلة دارسي وجرت الخرافة بأن الحمقى الذين يدخلون الغابة بعد حلول الظلام يرون شبحها الباكي وهو يتجول بين الأشجار، وأن ظهور الشبح دائما ما يسبق وقوع حالة وفاة في المكان.
ولم يكن بيدويل يطيق على تلك الحماقات صبرا، لكن في الأسبوع المنصرم وصلت إليه الأخبار أن اثنتين من الخادمات - وهما بيتسي وجوان - كانتا تتهامسان في غرفة الخدم أنهما رأتا الشبح حين دخلتا إلى الغابة في تحد بينهما. وكان هو قد حذرهما من التفوه بتلك الحماقات التي قد يترتب عليها عواقب وخيمة بالنسبة إليهما إن وصلت إلى مسامع السيدة رينولدز. ورغم أن ابنته لويزا لم تعد تعمل في بيمبرلي - حيث كان البيت في حاجة إليها للمساعدة في رعاية أخيها المريض - كان بيدويل يتساءل إن كانت القصة قد وصلت إلى مسامعها بطريقة ما. لا شك أنها وأمها أصبحتا شديدتي التدقيق بشأن إيصاد باب الكوخ أثناء الليل، وقد نبهتا عليه أن يرسل إليهما إشارة حين يعود في وقت متأخر من بيمبرلي، وذلك بأن يطرق ثلاث طرقات بصوت عال وأربع طرقات خفيفة قبل أن يدخل مفتاحه في الباب.
كان الكوخ شهيرا بالحظ العاثر، لكن الحظ العاثر هذا لم يؤثر في عائلة بيدويل إلا في السنوات الأخيرة. وبقدر كبير من الوضوح وكأن ذلك حدث بالأمس، كان بيدويل لا يزال يتذكر الأسى الذي شعر به في تلك اللحظة حين خلع الكسوة الرائعة التي يرتديها كبير سائقي السيد دارسي من بيمبرلي وودع جياده للمرة الأخيرة. والآن وعلى مدار العام السابق كان ابنه وأمله الوحيد في المستقبل يموت موتا بطيئا أليما.
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ إذ إن ابنته الكبرى - وهي التي لم يتوقع هو وزوجته منها قط أن تكون مصدرا للمتاعب - كانت تتسبب في شعورهما بالقلق. كانت الأمور على خير ما يرام دائما مع سارة. فقد تزوجت ابن ساقي الحانة في كينجز آرمز في لامتون، وهو شاب طموح انتقل إلى بيرمنجهام وأسس متجرا للشمع بميراث ورثه عن جده. وكان العمل مزدهرا، لكن سارة أصبحت مكتئبة ومنهكة من كثرة العمل. وكانت سارة وزوجها يتوقعان طفلا رابعا بعد ما يزيد بقليل عن أربع سنوات من الزواج، فتسبب إجهاد الأمومة والعمل في المتجر في أن كتبت خطابا يائسا تطلب فيه مساعدة أختها لويزا. وقد أعطته زوجته خطاب سارة من دون تعليق منها، لكنه كان يعلم أنها تشاركه قلقه بسبب وصول ابنتهما العاقلة المبهجة والمفعمة بالصحة إلى هذا الحد. وبعد أن قرأ الخطاب أعطاه لزوجته مرة أخرى، ولم يزد عن قوله: «سيحزن ويل لافتقاده لويزا. كانا مقربين أحدهما من الآخر دوما. هل يمكنك أن تدعميها؟» «سيتحتم علي ذلك. لم تكن سارة لتكتب إلينا لو أنها لم تكن يائسة. هذا ليس من شيم ابنتنا.»
وهكذا أمضت لويزا الأشهر الخمسة قبل الولادة في بيرمنجهام تساعد في رعاية الأطفال الثلاثة الآخرين، وظلت بعد الولادة مدة ثلاثة أشهر حتى استعادت سارة عافيتها. وقد عادت لويزا إلى المنزل مؤخرا وأحضرت معها الطفل جورجي من أجل أن تريح أختها، ومن أجل أن تتمكن أمها وأخوها ويل من رؤيته قبل أن يموت. لكن بيدويل نفسه لم يكن مسرورا قط من ذلك. فقد كان يتوق كثيرا لرؤية حفيده بقدر ما كانت زوجته تتوق لذلك، لكن ما لم يكن ملائما لرعاية الطفل هو كوخ به رجل يحتضر. كان ويل مريضا بمرض عضال، فكان اهتمامه لرؤية المولود الجديد سطحيا، كما أن بكاء الطفل أثناء الليل كان يقلقه ويزعجه. واستطاع بيدويل أن يفهم أن لويزا لم تكن سعيدة. كانت مضطربة، وعلى الرغم من برودة جو الخريف، فإنها كانت تفضل السير في الغابة والطفل على ذراعها أكثر مما تفضل المكوث في البيت مع أمها وويل. بل كانت غائبة - وكأنها تعمدت ذلك - حين جاء الكاهن والقس المتعلم بيرسيفال أوليفانت في إحدى زياراته المعتادة لويل، الأمر الذي كان غريبا لأنها كانت دائما ما تحب ذلك القس الذي أبدى اهتماما بها منذ طفولتها، فكان يعيرها الكتب، كما عرض أن يلحقها في صف اللغة اللاتينية مع مجموعته الصغيرة من التلاميذ الخصوصيين. كان بيدويل قد رفض تلك الدعوة - لأن هذا لن يتسبب إلا في تقديم أفكار إلى لويزا تفوق مكانتها الاجتماعية - لكن القس كان قد قدم عرضه ذلك. بالطبع تكون الفتاة مضطربة وعصبية حين يقترب موعد زفافها، لكن بما أنها الآن في المنزل، فلماذا لم يعد جوزيف بيلينجز يزور الكوخ كالمعتاد؟ لقد مرت مدة منذ أن رأوه. كان يتساءل ما إن كان الاعتناء بالطفل قد فتح عيني كل من لويزا وجوزيف على مسئوليات الزواج والمخاطر المصاحبة له؛ مما تسبب في أن يعيد كل منهما التفكير. وتمنى بيدويل ألا يكون الأمر كذلك. فقد كان جوزيف طموحا وجادا كما كان أكبر من لويزا بسنوات كثيرة - حيث يبلغ الرابعة والثلاثين - لكن الفتاة كانت مغرمة به. سيتزوجان في هايمارتن على بعد 17 ميلا عنه وعن مارثا زوجته، وسيكونان جزءا من أسرة مريحة، سيدتها متسامحة وسيدها كريم سخي، وسيكون مستقبلهما آمنا، وحياتهما رحبة أمام ناظريهما، وأحداثها آمنة ومتوقعة وتليق بهما. فمع وجود كل ذلك أمامها، ما جدوى التعلم ودروس اللاتينية بالنسبة إلى فتاة يافعة؟
ربما ستنصلح الأمور من تلقاء نفسها حين يعود جورجي إلى والدته. فستسافر لويزا معه غدا وقد تم الترتيب لأن تسافر هي والطفل بالعربة الخفيفة إلى كينجز آرمز في لامتون، ومن هناك ستسافر على وجه السرعة إلى بيرمنجهام حيث سيلتقيهم زوج سارة - واسمه مايكل سيمبكنز - فيعود هو إلى بيته في عربته وتعود لويزا إلى بيمبرلي على وجه السرعة في اليوم نفسه. ستكون الحياة أسهل كثيرا بالنسبة إليه وزوجته وويل حين يعود الطفل إلى منزله، لكنه حين يعود إلى الكوخ يوم الأحد بعد أن يكون قد ساعد في إعادة ترتيب المنزل بعد الحفل، سيكون من الغريب ألا يرى يد جورجي الممتلئة تمتد له مرحبة به.
ولم تمنعه تلك الأفكار المضطربة من إكمال عمله، لكن - وبصورة تكاد تكون غير محسوسة - كان قد أبطأ من وتيرة عمله، وتساءل للمرة الأولى في نفسه ما إن كانت مهمة تنظيف الفضة قد أصبحت متعبة جدا له بحيث لا يستطيع القيام بها وحده. لكن ستكون تلك هزيمة مخزية له. وبعد أن سحب الشمعدان الأخير نحوه في حزم، أخذ قطعة تلميع وانكب على مهمته مرة أخرى بعد أن أراح أطرافه التي تؤلمه على الكرسي بعض الوقت.
الفصل الخامس
لم يدم انتظار السيدات للرجال طويلا في حجرة الموسيقى، وأصبحت الأجواء هادئة أكثر حين جلست المجموعة بأريحية على الأريكة والكراسي. فتح دارسي البيانو وأضيئت الشموع الموضوعة عليه. وبمجرد أن اتخذوا مجالسهم، التفت دارسي إلى جورجيانا، وفي نبرة تكاد تكون رسمية وكأنها ضيفة قال إن من دواعي سرورهم أن تعزف وتغني لهم. فنهضت جورجيانا ورمقت هنري ألفيستون بنظرة سريعة فتبعها إلى البيانو. والتفتت هي إلى المجموعة وقالت: «سيكون من اللطيف أن نغني معا.»
صاح بينجلي في حماسة: «مرحى! إنها فكرة رائعة. لنسمعكما معا. كنت أحاول وجين أن نغني في ثنائي الأسبوع الماضي، أليس كذلك يا عزيزتي؟ لكنني لن أقترح أن نكرر التجربة الليلة. كان أدائي كارثيا، أليس كذلك يا جين؟»
ضحكت زوجته وقالت: «كلا، كان أداؤك رائعا جدا. لكنني يؤسفني أنني أهملت التدريب منذ ولادة تشارلز إدوارد. ولن نتحف أصدقاءنا بأدائنا الموسيقي في حين أن الآنسة جورجيانا تتمتع بموهبة موسيقية لا يمكن حتى أن نطمح لها.»
وحاولت إليزابيث أن تسلم نفسها للموسيقى لكن عينيها وأفكارها تركزت مع الثنائي الجالس على البيانو. وبعد أول أغنيتين، توسلوا لهما أن يعزفا أغنية ثالثة، وساد السكون لحظة فيما كانت جورجيانا تأخذ توزيعا موسيقيا جديدا وتريه لألفيستون. قلب ألفيستون الصفحات وبدا أنه يشير إلى المواضع التي شعر أنها ستكون صعبة، أو ربما حيث كان غير واثق من طريقة نطقه للإيطالية. رفعت جورجيانا نظرها إليه ثم عزفت بيدها اليمنى عدة فواصل موسيقية فابتسم هو مذعنا. وبدا أن كليهما غير واع بانتظار الجمهور. كانت لحظة حميمية أغلقت عليهما أبواب عالمهما الخاص، لكنهما وصلا إلى لحظة نسيا فيها نفسيهما وذابا في حبهما المشترك للموسيقى. وبمشاهدتها لضوء الشموع الساقط على تلك الوجوه المنتشية، ولابتسامتهما حيث انحلت المشكلة وراحت جورجيانا تعدل نفسها استعدادا للعزف، شعرت إليزابيث أن ذلك لم يكن انجذابا عابرا مبنيا على تقاربهما الجسدي، ولا حتى بسبب حبهما المشترك للموسيقى. من المؤكد أنهما كانا واقعين في الحب، أو ربما كانا على وشك الوقوع فيه، تلك المدة الساحرة المليئة بالاكتشافات والتوقعات والآمال المتبادلة.
كان ذلك سحرا لم تعهده من قبل. وكانت لا تزال مذهولة من أنهما بين عرض الزواج الأول المهين الذي تقدم به دارسي وطلبه الثاني الناجح والآيب لحبها لم يكونا معا وعلى انفراد إلا مدة أقل من نصف الساعة؛ تلك المرة التي كانت تزور فيها بيمبرلي مع عائلة جاردنرز، واستدار هو بصورة غير متوقعة وسارا معا في الحدائق، وفي اليوم التالي حين ذهب إلى فندق لامتون حيث كانت تمكث هي ليجدها تبكي وهي تمسك بخطاب جين الذي نقل إليها فيه خبر هروب ليديا. كان قد غادر سريعا في غضون عدة دقائق، وفكرت أنها لن تراه مرة أخرى. إن كان هذا قصة أدبية، فهل يمكن لأفضل الأدباء أن يبتكر ليجعل هذه المدة الزمنية الصغيرة ذات مصداقية يتم فيها كبح الكبرياء والتغلب على التحامل؟ فيما بعد، حين عاد دارسي وبينجلي إلى نيذرفيلد وأصبح دارسي حبيبها الذي وافقت على الزواج منه، كانت مرحلة الخطوبة إحدى أكثر المراحل التي تسببت لها بالقلق والإحراج في حياتها - فكانت مرحلة بعيدة كل البعد عن كونها مرحلة استمتاع وتودد - ذلك أنها كانت تسعى لصرف انتباهه عن سيل تهاني والدتها الصاخب والغزير، الذي وصل إلى حد شكره على تنازله الكبير وطلبه يد ابنتها للزواج. ولم يعان كل من جين ولا بينجلي بهذه الطريقة. فبينجلي الطيب والمهووس بحبها إما أنه لم يلحظ ذلك أو أنه تساهل مع سوقية حماته. وهل كانت هي نفسها لتتزوج دارسي إذا ما كان قسيسا فقيرا أو محاميا مكافحا؟ كان من الصعب تخيل السيد فيتزويليام دارسي من بيمبرلي في أي من الوضعين، لكن المصداقية كانت تقتضي الإجابة عن هذا السؤال. وكانت إليزابيث تعلم أنها لم تخلق لتناسب حكايات الفقر المحزنة.
كان هبوب الرياح لا يزال آخذا في الازدياد، وكان صوت المغنين يصاحبه صوت العواء والأنين في المدخنة وصوت اشتعال النار المتقطع، حتى بدا أن الاضطراب في الخارج كان مشاركة من الطبيعة بلحن مساير لجمال الصوتين الممزوجين، ومرافقا ملائما للفوضى التي تحدث في عقلها. لم تكن إليزابيث من قبل قلقة بفعل الرياح الشديدة، وكانت تستمتع بالجلوس بداخل المنزل في أمان وراحة بينما كانت الرياح تثور في الخارج على نحو غير فعال عبر غابة بيمبرلي. لكن بدا الآن أن هناك قوة خبيثة تستهدف كل مدخنة وصدع لتتمكن من الدخول. لم تكن إليزابيث واسعة الخيال، وحاولت أن تبعد مثل هذه التخيلات المرضية عن ذهنها، لكن تعلق بها إحساس لم تعهد مثله من قبل. فكرت إليزابيث في نفسها قائلة: «ها نحن أولاء في مطلع قرن جديد وننتمي لأكثر البلدان الأوروبية تحضرا، ومحاطون بأفخم ما قدم صناعها والفنانون فيها والكتب التي تحفظ أدبها، بينما هناك عالم آخر في الخارج يفصلنا عنه الثراء والتعليم والحظوة؛ عالم يكون فيه الرجال عنيفين ومدمرين كما الحيوانات في عالم الحيوان. ربما أكثرنا حظا حتى لن يستطيع أن يتجاهل الأمر ويبقى بعيدا عنه للأبد.»
حاولت إليزابيث أن تستعيد طمأنينتها في مزيج الصوتين، لكنها سرت حين انتهت الموسيقى وحان الوقت لسحب حبل الجرس وطلب الشاي.
أدخل بيلينجز أكواب الشاي؛ وبيلينجز هو أحد الخدم. كانت إليزابيث على علم بأنه من المقرر أن يغادر بيمبرلي بحلول الربيع حيث - إذا ما سارت الأمور على ما يرام - يمكن أن يأمل أن يخلف كبير خدم عائلة بينجلي حين يتقاعد الرجل العجوز في نهاية المطاف. كان ذلك علوا في شأن ومكانة الرجل، وأصبح مرحبا به كثيرا حيث كان قد خطب لويزا ابنة توماس بيدويل أثناء عيد الفصح قبل الماضي، ومن المزمع أن ترافقه هي إلى هايمارتن بصفتها كبيرة الخادمات. كانت إليزابيث - في شهور إقامتها الأولى في بيمبرلي - مندهشة من انخراط العائلة في حياة الخدم. ففي أثناء زياراتها النادرة هي وزوجها إلى لندن كانا يمكثان في منزلهما الريفي أو برفقة أخت بينجلي السيدة هيرست وزوجها اللذين كانا يعيشان في منزل فخم. في ذلك العالم كان الخدم يعيشون حياة منفصلة تماما عن العائلة بحيث كان من الجلي مدى ندرة معرفة السيدة هيرست بأسماء من يخدمونها. لكن على الرغم من أن السيد والسيدة دارسي كانا في منأى عن المشكلات الداخلية، فإن هناك أحداثا - كمراسم زواج أو خطبة أو تغيير وظائف أو مرض أو تقاعد - ترتقي فوق حياة غير منقطعة النشاط، وتضمن إدارة أمور المنزل في سلاسة، وكان من المهم لدارسي وإليزابيث كليهما أن يقدرا طقوس الانتقال تلك والاحتفاء بها؛ حيث إنها جزء من حياة سرية إلى حد كبير، وتعتمد راحتهما عليها كثيرا.
والآن كان بيلينجز يضع أكواب الشاي أمام إليزابيث في شيء من الشموخ والتأني، كما لو أنه كان يبرهن لجين على أنه يستحق الاحترام الذي يكنونه له. وفكرت إليزابيث أن هذا الموقف سيكون مريحا أكثر له ولزوجته. وكما قال والدها، فإن عائلة بينجلي أرباب عمل كرماء لينو العريكة ومتساهلون، ولا يدققون إلا فيما يتعلق برعاية بعضهم بعضا وأطفالهم.
ولم يكد بيلينجي يغادر حتى نهض الكولونيل فيتزويليام من على كرسيه وسار نحو إليزابيث. وقال: «هلا عذرتني سيدة دارسي، إذا ما ذهبت الآن للقيام بنزهتي الليلية؟ أريد أن أمتطي الجواد تالبوت بجوار النهر. إنني آسف لمقاطعة اجتماع عائلي سعيد كهذا، لكنني لن أحظى بقسط جيد من النوم إذا لم أحصل على الهواء النقي قبل الخلود للنوم.»
طمأنته إليزابيث إلى أنه ليس في حاجة إلى التماس عذر. فرفع هو يدها نحو شفتيه سريعا، وكانت تلك إيماءة غير معهودة عليه، ثم اتجه نحو الباب.
كان هنري ألفيستون يجلس مع جورجيانا على الأريكة. فرفع نظره وقال: «مظهر ضوء القمر على النهر ساحر أيها الكولونيل، ربما من الأفضل أن ترى هذا المشهد برفقة أحدهم. لكنك وتالبوت ستواجهان وقتا عصيبا. لا أحسدك على مجابهتك هذه الرياح.»
التفت الكولونيل وهو عند الباب ثم نظر إليه. وكانت نبرة صوته رزينة حين قال: «إذن ينبغي لنا أن نكون ممتنين لأنك لن تصحبني.» ثم انصرف بعد أن حياهم بانحناءة.
ساد الصمت لحظة ترددت فيها كلمات الكولونيل أثناء انصرافه في أذهان الجالسين وكذا غرابة تجوله الليلي على صهوة الجواد، لكن الحيرة منعتهم من التعليق. إلا أن هنري ألفيستون بدا غير مهتم بالأمر، وبعد أن رمقت إليزابيث وجهه بنظرة سريعة، لم يكن لديها شك أنه لم يفهم النقد المستتر.
كان بينجلي هو من كسر حاجز الصمت. فقال: «اعزفي لنا شيئا آخر من الموسيقى إذا سمحت يا آنسة جورجيانا، إن لم تكوني متعبة كثيرا. لكن رجاء أنهي الشاي الخاص بك أولا. لا ينبغي علينا أن نثقل عليك. ما رأيك بتلك الأغاني الأيرلندية الشعبية التي عزفتها حين كنا نتناول العشاء هنا في الصيف الماضي؟ ليس من الضروري أن تغني، تكفي الموسيقى وحدها، لا بد أن تحافظي على صوتك. أتذكر حتى أننا رقصنا بعض الوقت، أليس كذلك؟ لكن حينها كانت عائلة جاردنر هنا وكذلك السيد والسيدة هيرست؛ لذا كنا خمسة أزواج، وكانت ماري هنا لتعزف لنا الموسيقى.»
عادت جورجيانا إلى البيانو وكان ألفيستون واقفا يقلب الصفحات، وساد تأثير النغمات المفعمة بالحيوية لبعض الوقت. ثم حين توقفت الموسيقى، تجاذب الحاضرون أطراف الحديث فتبادلوا الآراء التي عبروا عنها مرات كثيرة من قبل، وكذلك الأخبار التي لم يكن أي منها جديدا . وبعد مرور نصف الساعة، أقدمت جورجيانا على الانصراف أولا، وألقت عليهم التحية المسائية وحين سحبت حبل الجرس لتستدعي خادمتها، أضاء ألفيستون شمعة وأعطاها إياها ورافقها إلى الباب. وبعد أن غادرت جورجيانا، بدا لإليزابيث أن بقية المجموعة كانوا متعبين لكنهم كانوا يفتقرون إلى الطاقة ليقوموا وينهوا الأمسية. ثم أقدمت جين بعد ذلك على الانصراف، فنظرت إلى زوجها وغمغمت بأن الوقت قد حان ليخلدا إلى النوم. ثم سرعان ما تبعتها إليزابيث وقد شعرت بالعرفان تجاه ذلك. تم استدعاء أحد الخدم ليحضر الشمع الليلي ويضيئه، حيث كان الشمع على البيانو قد انطفأ، وكان الجميع في طريقه إلى الباب حين صاح دارسي فجأة وقد كان واقفا بجوار النافذة. «يا إلهي! ماذا يعتقد ذلك السائق الأحمق أنه يفعل؟ إنه بذلك سيقلب العربة! هذا جنون. ومن هم بحق السماء؟ هل نتوقع قدوم أحد الليلة يا إليزابيث؟» «لا أحد.»
تزاحمت إليزابيث والبقية على النافذة ومن بعيد شاهدوا عربة تتمايل وتتأرجح على الطريق المؤدي إلى المنزل، وكان مصباحاها الجانبيان يبثان وهجا وكأنهما شعلتان صغيرتان. وتولى الخيال أمر توضيح ما كان بعيدا جدا بحيث لا يمكن رؤيته - أعراف الجياد وهي تتحرك مع الرياح، وعيونها الجامحة، وأكتافها التي تجر العربة، والسائق الذي يحرك زمام الخيل. وكانت العربة أبعد مما يمكن أن يسمح بسماع صوت عجلاتها، وبدا لإليزابيث أنها ترى عربة شبحية من الأساطير تجري مسرعة من دون صوت في تلك الليلة المقمرة، وكأنها نذير مفزع بالموت.
قال دارسي: «ابق هنا يا بينجلي مع السيدات، وسأنظر في هذا الأمر.»
لكن كلماته ضاعت وسط تجدد عواء الرياح في المدخنة، وتبعته المجموعة خارج غرفة الموسيقى ونزولا على الدرج، حتى دلفوا إلى الردهة. كان ستاوتن والسيدة رينولدز هناك بالفعل. وبإيماءة من دارسي، فتح ستاوتن الباب. فانطلقت الرياح إلى داخل المنزل في الحال، فبدت وكأنها قوة باردة لا تقاوم تستولي على المنزل بأكمله، فأطفأت في نفخة واحدة كل الشموع، عدا تلك التي كانت معلقة على شمعدانات مرتفعة.
كانت العربة لا تزال تتقدم مسرعة، فتأرجحت عند الزاوية في نهاية الطريق الشجري لتقترب من المنزل. وفكرت إليزابيث أن العربة ستدهس الباب بكل تأكيد. لكن كان باستطاعتها الآن أن تسمع صيحات السائق وتراه وهو يحاول في مشقة السيطرة على الجياد. توقفت الجياد ولكنها كانت تصهل مضطربة. وفي الحال، وقبل أن يتمكن السائق من النزول عن العربة، فتح بابها وعلى بصيص الضوء القادم من بيمبرلي رأوا امرأة تكاد تسقط من العربة وتصيح وسط الرياح. كانت قبعتها تتعلق حول رقبتها بأشرطة الزينة، وشعرها السائب يتطاير على وجهها، فبدت وكأنها مخلوق بري جامح، أو امرأة مجنونة هربت من الأسر. وقفت إليزابيث للحظة متسمرة في مكانها وغير قادرة على اتخاذ أي فعل، أو التفكير في أي شيء. ثم أدركت أن ذلك الشبح الصاخب الجامح هو ليديا، فهرعت نحوها لتساعدها. لكن ليديا دفعتها جانبا وألقت بنفسها بين ذراعي جين وهي لا تزال تصرخ، فكادت تسقطها أرضا. تقدم بينجلي ليساعد زوجته، ومعا حملا ليديا نحو الباب. كانت لا تزال تصرخ وتناضل وكأنها غير مدركة لمن هم حولها، لكن بمجرد أن دخلت المنزل، وأصبحت في منأى عن الرياح، استطاعوا أن يسمعوا كلماتها المتقطعة. «مات ويكهام! لقد أطلق ديني عليه النار! لماذا لا تبحثون عنه؟ إنهم هناك في الغابة. لماذا لا تفعلون شيئا؟ يا إلهي، أنا متأكدة من أنه مات!»
ثم تحول تنهدها إلى نحيب، وبعده انهارت في أحضان جين وبينجلي حيث دفعا بها برفق إلى أقرب كرسي.
الجزء الثاني
الجثة التي عثر عليها في الغابة
الفصل الأول
تقدمت إليزابيث بصورة غريزية لمساعدتهم، لكن ليديا دفعت بها جانبا بقوة مذهلة وصاحت قائلة: «ليس أنت، ليس أنت.» تولت جين الأمر، فجثت بجوار الكرسي وأمسكت بكلتا يدي ليديا في يديها، وراحت تغمغم لها بكلمات مطمئنة متعاطفة، في حين وقف بينجلي عاجزا بفعل شعوره بالفاجعة. والآن تحولت دموع ليديا إلى شهقات غير طبيعية وكأنها تكافح من أجل أن تلتقط أنفاسها، وكان الصوت الذي تصدره مزعجا ويكاد يكون غير بشري.
كان ستاوتن قد ترك الباب الأمامي مواربا قليلا. وبدا السائق الواقف بجوار الجياد مصدوما كثيرا بحيث لا يستطيع التحرك، وراح ألفيستون وستاوتن يجران صندوق ليديا من العربة، وحملاه إلى داخل الردهة. التفت ستاوتن إلى دارسي وقال: «ماذا عن الحقيبتين الأخريين يا سيدي؟» «اتركهما في العربة. من المؤكد أن السيد ويكهام والكابتن ديني سيسافران بهما حين نجدهما؛ لذا فليس هناك ما يدعو إلى تركهما هنا. أحضر ويلكسون يا ستاوتن. أيقظه إن كان نائما. واطلب منه أن يحضر الدكتور ماكفي. ومن الأفضل له أن يأخذ العربة؛ لا أريد أن يمتطي الطبيب صهوة الحصان وسط هذه الرياح. أخبره أن يبلغ الدكتور ماكفي تحياتي وأن يشرح له أن السيدة ويكهام هنا في بيمبرلي، وأنها في حاجة إلى رعايته.»
بعد أن ترك دارسي السيدات ليتعاملن مع ليديا، تحرك مسرعا إلى حيث كان سائق العربة يقف عند رءوس الجياد. كان السائق يحدق إلى الباب في قلق، لكن عندما أتى إليه دارسي اعتدل في وقفته ووقف منتبها. كان ارتياحه لرؤية سيد المنزل يكاد يكون واضحا تماما عليه. لقد فعل ما بوسعه في حالة طارئة، والآن عادت الحياة إلى طبيعتها وكان يقوم بعمله، فوقف إلى جوار الجياد منتظرا الأوامر.
قال دارسي: «من أنت؟ هل أعرفك؟» «أنا جورج برات يا سيدي، من حانة جرين مان.» «بالطبع. أنت سائق السيد بيجوت. أخبرني بما حدث في الغابة. ليكن حديثك واضحا وموجزا، لكنني أريد أن أعرف القصة كاملة، وبسرعة.»
كان من الواضح أن برات يتوق لأن يقص القصة فبدأ مباشرة بالتحدث بسرعة. «أتى السيد ويكهام وزوجته والكابتن ديني إلى الفندق، لكنني لم أكن هناك حين وصلوا. وعند الساعة الثامنة من هذا المساء أو ما يقارب ذلك أخبرني السيد بيجوت أنني سأقل السيد والسيدة ويكهام والكابتن إلى بيمبرلي، حين تصبح السيدة جاهزة للتحرك، وسأتبع في ذلك الطريق الخلفي عبر الغابة. وكنت سأترك السيدة ويكهام عند المنزل لكي تحضر الحفل، أو هكذا أخبرت هي السيدة بيجوت في وقت مبكر. وبعد ذلك كانت أوامري تقتضي بأن أقل السيدين إلى كينجز آرمز في لامتون ثم أعود بالعربة إلى الفندق. وقد سمعت السيدة ويكهام تقول للسيدة بيجوت إن السيدين سيسافران إلى لندن في اليوم التالي، وإن السيد ويكهام كان يأمل في الحصول على وظيفة.» «وأين السيد ويكهام والكابتن ديني؟» «لا أعرف بالتحديد يا سيدي. فحين وصلنا إلى قرابة نصف الطريق عبر الغابة، طرق الكابتن ديني على العربة لكي أتوقف ثم خرج منها. وصاح بشيء من قبيل «لقد ضقت ذرعا من هذا الأمر ومنك. لن أشارك في ذلك.» ثم هرع إلى داخل الغابة. ثم ذهب السيد ويكهام على إثره، وكان يصيح به أن يعود وألا يكون غبيا، وراحت السيدة ويكهام تصرخ فيه ألا يتركها، وكانت على وشك أن تتبعه، لكن وبعد أن نزلت من العربة فكرت في الأمر مرة أخرى ثم عادت إلى العربة. كانت تصرخ بشكل مريع مما أصاب الجياد بالاضطراب، ولم أتمكن من السيطرة عليهم، ثم سمعنا صوت طلقات النار بعد ذلك.» «كم كان عددها؟» «لا يمكنني تحديد ذلك يا سيدي، حيث كانت الأجواء مضطربة بسبب هروب الكابتن واتباع السيد ويكهام له وصراخ السيدة، لكنني متأكد من أنني سمعت صوت طلقة واحدة يا سيدي، وربما سمعت طلقة أو اثنتين بعدها.» «كم المدة التي سمعت بعدها الطلقات بعد أن غادر السيدان؟» «قد تكون 15 دقيقة يا سيدي، أو ربما أكثر. أعرف أننا وقفنا هناك مدة طويلة جدا في انتظار عودة السيدين. لكنني متأكد من أنني سمعت الطلقات. حينها بدأت السيدة ويكهام تصرخ بأننا سنقتل جميعا وأمرتني أن أقود العربة بسرعة إلى بيمبرلي. وقد بدا أن هذا هو أفضل شيء أقوم به يا سيدي، حيث إن السيدين لم يكونا موجودين ليعطياني الأوامر. كنت أعتقد أن السيدين ضلا طريقهما في الغابة ولكنني لم أستطع الذهاب للبحث عنهما يا سيدي، ليس والسيدة ويكهام تصرخ بأن جريمة قتل وقعت والجياد ليست في حالة جيدة.» «لا، بالطبع لم يكن ذلك صحيحا. هل كانت الطلقات قريبة؟» «قريبة بما يكفي يا سيدي. أعتقد بأن أحدهم كان يطلق النار من على مسافة 100 ياردة ربما.» «حسن. إذن ، سأحتاج منك إلى أن تأخذ مجموعة منا وتعود إلى حيث دلف السيدان إلى الغابة وسنذهب للبحث عنهما.»
كان من الواضح أن برات لا يرحب بهذه الخطة كثيرا حتى إنه تجرأ على الاعتراض. «كان من المفترض أن أذهب إلى كينجز آرمز في لامتون يا سيدي، ثم أعود إلى جرين مان. كانت تلك هي الأوامر التي تلقيتها بوضوح يا سيدي. كما أن الجياد ستكون خائفة كثيرا من العودة إلى الغابة.» «من الواضح أن الذهاب إلى لامتون ليس له جدوى من دون السيد ويكهام والكابتن ديني. ومن الآن فصاعدا ستأخذ أوامرك مني. وستكون هذه الأوامر واضحة للغاية. وظيفتك هي السيطرة على الجياد. انتظرني هنا، وحافظ على هدوئها. وسأسوي الأمور فيما بعد مع السيد بيجوت. إنك إن اتبعت أوامري فلن تواجه أي متاعب.»
وفي داخل منزل بيمبرلي، التفتت إليزابيث إلى السيدة رينولدز وتحدثت إليها بصوت خفيض. «نحن في حاجة إلى أن نودع السيدة ويكهام إلى الفراش. فهل هناك فراش جاهز في غرفة الضيوف الجنوبية في الطابق الثاني؟» «أجل يا سيدتي، وقد أشعلت النار فيها بالفعل. إننا دائما ما نعد هذه الغرفة إضافة إلى اثنتين أخريين لحفل الليدي آن تحسبا لمواجهة ليلة أخرى من ليالي شهر أكتوبر كالتي واجهناها في عام 97 حين كان سمك الجليد أربعة إنشات، وكان بعض الضيوف الذين قطعوا مسافة طويلة غير قادرين على العودة إلى منازلهم. فهل سنأخذ السيدة ويكهام إلى تلك الغرفة؟»
قالت إليزابيث: «أجل، سيكون هذا هو الأفضل، لكن لا يمكننا أن نتركها وحيدة في حالتها تلك. سيتحتم على أحدهم أن ينام في الغرفة نفسها.»
قالت السيدة رينولدز: «هناك أريكة وثيرة وفراش في غرفة تبديل الملابس المجاورة يا سيدتي. يمكنني أن آمر بنقل الأريكة مع الأغطية والوسائد. وأتوقع أن بيلتون لا تزال مستيقظة في انتظارك. لا بد أنها علمت أن هناك خطبا ما ولكنها كتومة تماما. وأقترح في الوقت الراهن أن نتناوب أنا وهي على النوم على الأريكة في غرفة السيدة ويكهام.»
قالت إليزابيث: «ينبغي أن تحصلي أنت وبيلتون هذه الليلة على قسط كاف من النوم. سنتمكن أنا والسيدة بينجلي من تدبير ذلك.»
وبعد أن عاد دارسي إلى الردهة، رأى أن بينجلي وجين قد رافقا ليديا على السلم، وكانت السيدة رينولدز تتقدمهم. كان صياح ليديا قد خفت إلى درجة النحيب الهادئ، لكنها سحبت نفسها بقوة من بين ذراعي جين التي تستند إليهما، ثم استدارت وحدقت إلى دارسي بنظرات غاضبة. «لم ما زلت هنا؟ لماذا لا تذهب للبحث عنه؟ لقد سمعت الطلقات. يا إلهي - يمكن أن يكون مصابا أو قتيلا. اذهب بحق السماء!»
قال دارسي في هدوء: «نحن نستعد لذلك الآن. وسأنقل لك الأخبار حين نطلع على شيء. وليس هناك حاجة إلى توقع الأسوأ. قد يكون السيد ويكهام والكابتن ديني في طريقهما إلى هنا بالفعل سيرا على الأقدام. والآن حاولي أن تحصلي على قسط من الراحة.»
وبعد أن غمغم بينجلي وجين إلى ليديا بحديث مطمئن، تمكنا في النهاية من الوصول بها إلى الطابق العلوي، ثم غابا عن الأنظار في الرواق خلف السيدة رينولدز. قالت إليزابيث: «أخشى أن تمرض ليديا. نحن في حاجة إلى الدكتور ماكفي؛ حيث يمكن أن يعطيها شيئا لتهدئتها.» «لقد أمرت بالفعل أن تذهب العربة لإحضاره، والآن ينبغي علينا أن نذهب إلى الغابة للبحث عن ويكهام وديني. هل كانت ليديا قادرة على إخبارك بما حدث؟» «لقد تمكنت من السيطرة على صياحها بما يكفي لتقول الوقائع الرئيسية، وتأمر بأن يتم إحضار حقيبتها وفتحها. أعتقد أنها لا تزال تتوقع أن تحضر الحفل.»
بدا لدارسي أن ردهة المدخل الكبيرة لمنزل بيمبرلي - بأثاثها الأنيق ودرجها الجميل المتقوس صعودا حتى الرواق العلوي، وصور العائلة - قد أصبحت فجأة غريبة عليه وكأنه يدخلها للمرة الأولى. لقد تبدل فيها النظام الطبيعي لتلك الأشياء، الذي يتذكره منذ طفولته، وشعر لوهلة بأنه عاجز وكأنه لم يعد سيد منزله، وكان ذلك شعورا سخيفا وجد ترويحا عنه في انزعاجه من التفاصيل. لم تكن وظيفة ستاوتن ولا ألفيستون أن يحملا الحقائب، وكان ويلكونسن - بفعل تقليد طويل - هو العضو الوحيد في الخدم الذي يأخذ أوامره مباشرة من سيده - وذلك بصرف النظر عن ستاوتن. لكن على الأقل كان هناك شيء يحدث. حملت حقائب ليديا إلى الداخل، وستذهب الآن عربة منزل بيمبرلي لتحضر الدكتور ماكفي. وبصورة غريزية تحرك دارسي نحو زوجته وأمسك بيدها. كانت يدها باردة كالثلج، لكنه شعر بها تطمئنه وتشد على يده فشعر بشيء من الارتياح.
كان بينجلي قد نزل على الدرج في تلك اللحظة، وانضم إليه ألفيستون وستاوتن. قص دارسي في إيجاز ما عرفه من برات، لكن كان من الواضح أن ليديا تمكنت من الإفصاح بصعوبة عن جانبها من القصة - وذلك بالرغم من انزعاجها وحزنها.
قال دارسي: «نحن في حاجة إلى برات ليشير إلى المكان الذي ترك فيه ويكهام وديني العربة؛ لذا فإننا سنأخذ عربة بيجوت. من الأفضل أن تمكث أنت هنا يا تشارلز مع السيدات، ويمكن لستاوتن أن يحرس الباب. وإن كنت ستشارك في هذا الأمر يا ألفيستون، فسنتدبر الأمر فيما بيننا.»
قال ألفيستون: «دعني أساعدك يا سيدي، بأي طريقة يمكنني بها ذلك.»
التفت دارسي إلى ستاوتن وقال: «قد نكون في حاجة إلى نقالة. ألا توجد واحدة في الغرفة المجاورة لغرفة السلاح؟» «بلى يا سيدي، تلك التي استخدمناها حين كسرت ساق اللورد إنستون أثناء الصيد.» «هلا تحضرها إذن. وسنحتاج إلى أغطية وبعض شراب البراندي وبعض الماء والمصابيح.»
قال ألفيستون: «يمكنني أن أساعد في إحضار تلك الأشياء.» وفي الحال انطلق كلا الرجلين.
بدا لدارسي أنهم قد ضيعوا الكثير من الوقت في الحديث وإعداد الترتيبات، لكنه حين نظر في ساعته وجد أن 15 دقيقة فقط مرت منذ وصول ليديا الدرامي. وفي تلك اللحظة سمع دارسي صوت حوافر، وحين التفت رأى فارسا يركض بجواده على المرج عند حافة النهر. لقد عاد الكولونيل فيتزويليام. وقبل أن يتمكن من النزول عن صهوة جواده، أتى ستاوتن من عند زاوية المنزل وهو يحمل النقالة على كتفه وتبعه ألفيستون وأحد الخدم، وكانوا يحملون تحت أذرعهم أغطية مطوية وزجاجات البراندي والماء وثلاثة مصابيح. توجه دارسي نحو الكولونيل وأطلعه سريعا على موجز لما حدث، وما كانوا ينتوون القيام به.
استمع فيتزويليام في صمت، ثم قال: «أنتم على وشك الركوب في حملة كبيرة إلى حد بعيد من أجل إرضاء امرأة مضطربة. ويؤسفني أن أقول إن أولئك الحمقى ضلوا الطريق في الغابة، أو إن أحدهم تعثر في جذر شجرة وآذى كاحله. وربما كانا الآن يعرجان في طريقهما إلى بيمبرلي أو إلى كينجز آرمز، لكن إن كان السائق قد سمع الطلقات أيضا فمن الأفضل أن نذهب مسلحين. سأحضر مسدسي وأنضم إليكم في العربة. وإن كنتم في حاجة إلى النقالة فيمكنكم أن تستفيدوا من رجل إضافي، فالجواد سيكون عبئا إذا ما اضطررنا إلى الدخول إلى أعماق الغابة، وهو أمر مرجح كثيرا. وسأحضر بوصلة الجيب الخاصة بي. مسألة أن يضل رجلان طريقهما في الغابة أمر ينم عن الحماقة، أما أن يضل خمسة من الرجال طريقهم فهذا أمر مثير للسخرية.»
ثم امتطى صهوة جواده وهرول نحو الإسطبل. لم يقدم الكولونيل أي تبرير لغيابه، ولم يفكر دارسي في هذا الأمر لكونه كان مشغولا بصدمة ما وقع من أحداث. وفكر دارسي أن عودة الكولونيل لم تكن في محلها أيا كان المكان الذي كان فيه، وهذا إذا ما كان سيعطل المهمة أو سيطالب بمعرفة معلومات أو تفسيرات لا يمكن لأي أحد أن يقدمها له الآن، لكن كان صحيحا أن بإمكانهم الاستفادة من رجل إضافي. فسيمكث بينجلي في المنزل ليعتني بالسيدات، وبإمكان دارسي الاعتماد على ستاوتن والسيدة رينولدز - كالعادة - في ضمان أن كل الأبواب والنوافذ قد غلقت وفي التعامل مع الخدم الفضوليين. لكنهم لم يتأخروا كثيرا. فقد عاد قريبه بعد بضع دقائق ثم قام هو وألفيستون بربط النقالة إلى العربة، ثم ركب الرجال الثلاثة وامتطى برات صهوة الحصان الأول.
حينها ظهرت إليزابيث وهرعت نحو العربة. «لقد نسينا بيدويل. إن كان هناك أي مشكلة قد وقعت في الغابة، فينبغي أن يكون مع أسرته. ربما كان هناك بالفعل. أتعرف إن كان قد غادر بعد ليتوجه إلى منزله يا ستاوتن؟» «لا يا سيدتي. إنه لا يزال يلمع الفضة. لم يكن يتوقع أن يذهب إلى منزله حتى يوم الأحد. وبعض الخدم الداخليين لا يزالون يعملون يا سيدتي.»
وقبل أن تتمكن إليزابيث من الرد عليه، خرج الكولونيل بسرعة من العربة وهو يقول: «سأحضره. أعرف أين سيكون - في غرفة كبير الخدم.» ثم اختفى.
وحين رمقت إليزابيث وجه زوجها، رأت أنه كان عابسا وعرفت أنه كان يشاطرها الاندهاش. والآن وبعد أن عاد الكولونيل كان من الواضح أنه كان عازما على تولي زمام السيطرة على المهمة من جميع جوانبها، لكنها أخبرت نفسها أن هذا الأمر ربما لم يكن باعثا على الدهشة؛ فهو في نهاية المطاف معتاد على الاضطلاع بأدوار القيادة والسيطرة في أوقات الأزمات.
وعاد الكولونيل سريعا لكن من دون بيدويل، وقال: «كان مستاء للغاية من أن يترك عمله غير منته فلم أستطع أن أضغط عليه. وكعادة ستاوتن في الليلة السابقة للحفل، فقد رتب له مكانا ليبيت فيه ليلته. سيكون بيدويل مشغولا في العمل طوال يوم غد، ولن تتوقع زوجته أن تراه قبل يوم الأحد. لقد أخبرته أننا سنطمئن أن الأمور تسير على ما يرام في الكوخ. آمل أنني لم أتخط حدود سلطاتي.»
بما أن الكولونيل لم يكن يتمتع بأي شكل من السلطة على الخدم في منزل بيمبرلي بحيث يمكن له أن يتخطاها، فلم يكن هناك شيء يمكن لإليزابيث أن تضيفه.
وفي النهاية تحركوا، وكانت جين وإليزابيث وبينجلي والخادمان يرقبون رحيلهم من أمام الباب. ولم يتحدث أحد منهم، وبعد مرور بضع لحظات وحين نظر دارسي للخلف، رأى أن باب منزل بيمبرلي الكبير قد أغلق، وبدا المنزل وكأنه مهجور فكان هادئا وجميلا تحت ضوء القمر.
الفصل الثاني
لم يكن هناك أي جزء مهمل من أملاك بيمبرلي، لكن وعلى عكس المشجر لم تكن الغابة في الجزء الشمالي الغربي تحظى بالكثير من العناية، ولم تكن كذلك في حاجة إليها. فبين الحين والآخر، كان تقطع شجرة لاستخدامها في إشعال النار في الشتاء، أو لاستخدام خشبها في الإصلاحات الهيكلية للأكواخ، وكانت الشجيرات القريبة من الممر على نحو غير مناسب تقطع ويبعد جذعها. وكان هناك طريق ضيق عبدته العربات التي تحضر المؤن إلى مدخل الخدم، تصل بين بوابة الحراسة والباحة الواسعة في الجزء الخلفي من أملاك بيمبرلي، وكانت الإسطبلات تقع خلف تلك الباحة. ومن تلك الباحة، كان هناك باب في الجزء الخلفي من المنزل يؤدي إلى ممر وإلى غرفة السلاح، ومكتب مدير الأعمال.
كانت العربة المثقلة بالركاب الثلاثة والنقالة وحقيبتي ويكهام والكابتن ديني، تتحرك ببطء وقد جلس الركاب الثلاثة فيها صامتين، الأمر الذي اقترب بالنسبة إلى دارسي من خمول أو بلادة غير قابلين للتفسير. وفجأة توقفت العربة. وبعد أن نبه دارسي نفسه، نظر إلى خارج العربة وشعر بأولى قطرات المطر الحادة تخزه في وجهه. بدا له أن هناك جرفا متصدعا يتدلى فوقهم، وبدا له أن الجرف كئيب ومنيع، ولكنه حين كان ينظر إليه ارتجف الجرف وكأنه على وشك أن يقع. بعد ذلك عاد عقله إلى الواقع، فأخذت الصدوع في الجرف تتسع حتى أصبحت فجوة بين أشجار متقاربة كثيرا بعضها من بعض، وسمع برات يحث الجياد العنيدة لتدخل إلى الممر في الغابة.
ثم دلفوا في بطء إلى ظلام يعج برائحة الطين. كانوا يتحركون تحت ضوء القمر المكتمل الذي كان يرتحل خلفهم وكأنه شبح يرافقهم، فكان يختفي فجأة ثم يعاود الظهور مرة أخرى. وبعد أن قطعوا بضع ياردات، قال فيتزويليام إلى دارسي: «من الأفضل أن نتحرك على أقدامنا من الآن وصاعدا. ربما لم يكن برات دقيقا في تذكره للمكان ونحن في حاجة إلى أن ننتبه إلى المكان الذي دلف منه ويكهام وديني إلى الغابة وإلى المكان الذي من المحتمل أن يكونا قد خرجا منه. كما أننا من خارج العربة يمكننا أن نرى ونسمع بشكل أفضل.»
ثم خرجوا من العربة يحملون مصابيحهم، وكما توقع دارسي، أخذ الكولونيل مكانه في المقدمة. كانت الأرض لينة بفعل أوراق الشجر المتساقطة، فأصبحت خطواتهم مكتومة ولم يكن بمقدور دارسي أن يسمع سوى صرير العربة، وأنفاس الجياد المحمومة وصليل زمام الخيل. وفي بعض الأماكن كانت الأغصان فوق رءوسهم تتلاقى لتشكل نفقا كثيفا مقوسا لم يتمكن هو أن يلمح القمر من خلاله سوى بين الحين والآخر، ووسط سكون هذا الظلام لم يكن بمقدوره أن يسمع من الريح سوى حفيف خافت بين الأغصان العلوية الرقيقة، وكأنها لا تزال تسكنها طيور الربيع المزقزقة.
وكعادته حين كان يسير في الغابة، تحولت أفكار دارسي نحو جده الأكبر. لا بد أن سحر الغابة بالنسبة إلى جورج دارسي المتوفى منذ زمن بعيد كان يكمن في التنوع الذي يسكن الغابة وفي ممراتها الخفية وآفاقها غير المتوقعة. فهنا في ذلك المكان المنعزل الذي تحوطه الأشجار كالحراس، والذي تأتي فيه الحيوانات الصغيرة والطيور إلى منزله بحرية، كان الرجل يعتقد بأنه والطبيعة شخص واحد، يتنفسان الهواء نفسه وترشدهما الروح ذاتها. وحين كان دارسي صبيا يلعب في الغابة، كان دائما ما يشعر بالتعاطف مع جده الأكبر، وأدرك منذ وقت مبكر أن دارسي الذي لم يكن أحد يأتي على ذكره كثيرا - الذي تخلى عن مسئوليته تجاه التركة والمنزل - كان مصدر حرج للعائلة. فقبل أن يقتل كلبه سولدجر ويقتل نفسه، كان قد ترك رسالة قصيرة يطلب فيها أن يدفن بجوار الكلب، لكن العائلة تجاهلت هذا الطلب الآثم ورقد جورج دارسي بجوار أسلافه في الجزء العائلي المغلق من باحة الكنيسة الخاصة بالقرية، في حين حصل سولدجر على قبره في الغابة بشاهد من الجرانيت محفور عليه اسمه وتاريخ وفاته فقط. ومنذ طفولته كان دارسي يدرك أن والده كان يخشى أن يكون هناك ضعف متوارث في العائلة، فلقنه وغرس فيه منذ وقت مبكر الالتزامات الكبيرة التي ستقع على عاتقه بمجرد أن يرث، تلك المسئوليات تجاه كل من التركة ومن يعملون فيها ويعتمدون في حياتهم عليها، وهذا أمر لا يمكن للابن الأكبر أن يرفضه أبدا.
تقدم الكولونيل فيتزويليام بوتيرة بطيئة، وكان يدور بمصباحه يمنة ويسرة، ويتوقف في بعض الأحيان من أجل أن يلقي نظرة عن قرب أكثر على فروع النباتات المطبقة بعضها على بعض، باحثا عن أي إشارة تدل على أن أحدهم قد عبر من خلالها. وكان دارسي يفكر - وهو على علم بأن تلك الفكرة تنم عن الأنانية - في أن الكولونيل ربما كان يستمتع بما يقوم به حيث يمارس حقه في تولي زمام الأمور. وراح دارسي يسير أمام ألفيستون وهو يشعر بالمرارة وكأنه روح محطمة وكان الغضب يتصاعد بداخله بين الحين والآخر كدفق المد. ألن يتحرر أبدا من جورج ويكهام؟ تلك هي الغابة التي كانا يلعبان فيها حين كانا صبيين. كان ذلك الوقت الذي تذكر فيه ذات مرة بأنه كان سعيدا وخالي البال، لكن هل كانت تلك الصداقة بينهما أيام الصبا حقيقية فعلا؟ هل كان ويكهام الصغير حينها يكن له الحسد والضغينة والكراهية؟ تلك الألعاب الصبيانية الخشنة والمعارك الوهمية التي كان يخرج منها في بعض الأحيان مصابا بالكدمات - هل كان ويكهام مفرطا في شدته عليه ربما؟ تبادرت إلى ذهنه الآن تلك العبارات الجارحة التي كانت ساكنة في عقله الباطن سنوات طويلة. كم المدة التي كان ويكهام يخطط فيها لانتقامه؟ وفكرة أن أخته تفادت الوصمة الاجتماعية والعار؛ لأنه كان ثريا بما يكفي ليشتري سكوت غاويها المحتمل، كانت فكرة مريرة للغاية حتى إنه كاد يتأوه ويصرخ بصوت مرتفع. كان دارسي يحاول أن يواري عن ذهنه ما عاناه من إذلال في خضم حياته الزوجية السعيدة، لكن هذا الإذلال عاد الآن - وأصبح أقوى بفعل كبته له سنوات طوالا - في شكل عبء لا يحتمل واشمئزاز من النفس، وأصبحت أشد مرارة بفعل تفكيره في أن ماله فقط هو ما أغرى ويكهام للزواج من ليديا بينيت. وكان سخاؤه هذا نابعا من حبه لإليزابيث، لكن زواجه من إليزابيث هو ما أدخل ويكهام إلى العائلة وأعطاه الحق في أن يدعو دارسي بنسيبه، وكذلك الحق في أن يكون عما لفيتزويليام وتشارلز. ربما تمكن دارسي من إبعاد ويكهام عن بيمبرلي، لكنه لم يتمكن قط من إبعاده عن ذهنه وتفكيره.
وبعد خمس دقائق بلغوا جميعا الممر المؤدي من الطريق إلى كوخ الغابة. كان الممر مطروقا بانتظام على مدار سنوات طوال، وكان ضيقا لكن لم يكن من الصعب العثور عليه. وقبل أن يتمكن دارسي من البدء في الحديث، تحرك الكولونيل نحو الممر في الحال، حاملا مصباحه في يده. ثم أعطى سلاحه إلى دارسي وقال: «من الأفضل أن تحمل عني هذا. لا أتوقع حدوث أي مشكلة كما أنه سيثير مخاوف السيدة بيدويل وابنتها. سأتحقق من أنهما على ما يرام وسأخبر السيدة بيدويل ألا تفتح الباب وألا تسمح لأحد بالدخول تحت أي ظرف. ومن الأفضل أن أعلمها أن الرجلين قد ضلا طريقهما في الغابة وأننا نبحث عنهما. فليس هناك داع لأن أخبرها بأي شيء آخر.»
ثم انطلق وغاب من فوره عن الأنظار، وخفت صوت مغادرته وسط كثافة الغابة. ووقف دارسي وألفيستون صامتين. وبدا لهما أن الدقائق تمر ثقيلة، وبعد أن نظر دارسي في ساعته، وجد أنه ذهب منذ ما يقرب من 20 دقيقة قبل أن يسمعا حفيف الفروع وهي تنشق بعضها عن بعض، ليظهر الكولونيل مرة أخرى.
وبعد أن استعاد مسدسه من دارسي قال باقتضاب: «كل شيء على ما يرام. لقد سمعت السيدة بيدويل وابنتها صوت الطلقات وهما تعتقدان أنها انطلقت بالقرب منهما، ولكن ليس خارج الكوخ مباشرة. وقد أوصدتا الباب في الحال، لكنهما لم تسمعا شيئا آخر. وكانت الفتاة - اسمها لويزا، أليس كذلك؟ - على شفا أن تصاب بنوبة هستيرية، إلا أن والدتها تمكنت من تهدئتها. من سوء حظهما أن بيدويل ليس في بيته هذه الليلة.» ثم التفت إلى سائق العربة. قال له: «كن يقظا وتوقف حين نصل إلى المكان الذي ترك فيه الكابتن ديني والسيد ويكهام العربة.»
ثم استعاد مكانه مرة أخرى في مقدمة تلك المسيرة الصغيرة وراحوا يتقدمون ببطء. ومن وقت لآخر كان ألفيستون ودارسي يرفعان مصباحيهما عاليا، باحثين عن أي اضطراب في الأشجار المتشابكة، وكانوا يستمعون أثناء ذلك لأي صوت. ثم بعد مرور خمس دقائق، توقفت العربة.
قال برات: «أعتقد أن المكان هنا يا سيدي. أتذكر شجرة البلوط هذه وشجر التوت الأحمر هذا.»
وقبل أن يبدأ الكولونيل في حديثه سأله دارسي: «في أي اتجاه ذهب الكابتن ديني؟» «إلى جهة اليسار يا سيدي. ليس هناك ممر يمكنني رؤيته لكنه اندفع نحو الغابة وكأن تلك الشجيرات لم تكن موجودة.» «وكم مر من الوقت قبل أن يتبعه السيد ويكهام؟» «في اعتقادي ليس أكثر من ثانية أو اثنتين. وكما قلت يا سيدي، تمسكت به السيدة ويكهام وحاولت أن تمنعه من المغادرة، وراحت تصيح فيه بعد أن غادر. لكنه حين لم يعد وسمعت هي صوت الطلقات أمرتني أن أبدأ في التحرك، وأن نذهب إلى بيمبرلي بأسرع ما يمكننا. كانت تصرخ يا سيدي طوال الطريق وتقول بأننا جميعا سنقتل.»
قال دارسي: «انتظر هنا ولا تترك العربة.» ثم التفت إلى ألفيستون وقال: «من الأفضل أن نأخذ معنا النقالة. سنبدو كالأغبياء إن كانا قد ضلا طريقهما فقط، وكانا يتجولان من دون أن يصاب أي منهما بأذى، لكن تلك الطلقات تبعث على القلق.»
حل ألفيستون النقالة وجرها من العربة. ثم قال لدارسي: «وسنبدو حمقى بشكل أكبر إذا ما ضللنا نحن طريقنا. لكنني أتوقع أنك تعرف هذه الغابة معرفة جيدة يا سيدي.»
قال دارسي: «آمل أنني أعرفها جيدا بما يكفي لأجد طريق خروجنا منها.»
ولم يكن من السهل المرور بالنقالة عبر الشجيرات المتشابكة، لكن وبعد التباحث بشأن المشكلة، حمل ألفيستون القماش الملفوف على كتفه وانطلقوا.
ولم يجب برات على أمر دارسي بأن يبقى في العربة، لكن كان من الواضح أنه لم يكن سعيدا بتركه وحيدا، ثم انتقل شعوره بالخوف إلى الجياد التي بدا صهيلها واضطرابها لدارسي رفقة ملائمة لمغامرة بدأ يشعر بأنها طائشة. راح الرجال يشقون طريقهم في صف واحد عبر الشجيرات المتشابكة التي يكاد يكون اختراقها مستحيلا، وكان الكولونيل في المقدمة، وببطء كان الرجال يحركون مصابيحهم يمنة ويسرة ويتوقفون عند أي إشارة قد تشير إلى أن أحدهم مر من هنا، في حين كان ألفيستون يراوغ بأعمدة النقالة الطويلة بصعوبة تحت فروع الأشجار المتدلية على مستوى منخفض. كانوا يتوقفون بعد قطع بضع خطوات وينادون، ثم يتسمعون في صمت، لكن لم يكن هناك أي استجابة. أما الرياح - التي أصبحت مسموعة بالكاد - فقد توقفت فجأة وبدا وسط الصمت أن الحياة السرية للغابة توقفت بفعل وجودهم غير المألوف.
في البداية، ومن الأغصان الممزقة والمتدلية من بعض الشجيرات، ومن بعض العلامات التي قد تكون آثار أقدام، كان يحدوهم الأمل أنهم على الدرب الصحيح، لكن وبعد مرور خمس دقائق أصبحت الأشجار والشجيرات أقل كثافة، وكانت صيحاتهم لا تزال لا تجد جوابا، فتوقفوا لينظروا في أمر أفضل طريقة يكملون بها مسيرهم. وكان الرجال يسيرون باتجاه الغرب وعلى مسافة بضع ياردات من بعضهم البعض؛ وذلك خشية أن يفقدوا التواصل فيما بينهم في حال ضل أحدهم طريقه. والآن كانوا قد قرروا أن يعودوا إلى العربة بأن يتوجهوا نحو الشرق باتجاه بيمبرلي. فقد كان من المستحيل على ثلاثة رجال فقط أن يغطوا كامل مساحة الغابة الشاسعة؛ وإن لم يسفر تغيير الاتجاه هذا عن أي نتيجة فسيعودون إلى المنزل، وإن لم يعد ويكهام وديني إلى المنزل عند الصباح فسيستدعون الخدم وربما يستدعون الشرطة ليجروا بحثا أكثر شمولا.
ثم تقدم الرجال في مسيرهم حين لاحظوا فجأة أن حاجزا من الشجيرات المتشابكة أصبح أقل كثافة ولمحوا من خلاله فرجة ينيرها القمر على شكل حلقة بلون فضي ضعيف من أشجار البتولا. أكمل الرجال تقدمهم وقد تجددت طاقتهم متوغلين عبر الأشجار المتشابكة، فرحين بتحررهم من سجن الشجيرات المتشابكة والأغصان الغليظة الصلبة وعبورهم نحو الحرية والضوء. في تلك البقعة لم يكن هناك مظلة متدلية فوقهم من الأغصان وحول ضوء القمر الساقط على الجذوع الضعيفة ذلك المنظر إلى مشهد جميل أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
والآن كانت تلك الفرجة أمامهم. وحين كانوا يتقدمون ببطء، وشعور بالروعة يملؤهم وبين اثنين من الجذوع النحيلة، تصلب الرجال وكأنهم متجذرون في الأرض وقد عقد الرعب ألسنتهم. كانوا يقفون أمام لوحة من الموت ذات ألوان براقة مناقضة تماما للضوء الخافت حولها. لم ينبس أحدهم ببنت شفة. تقدم الرجال في بطء وكأنهم رجل واحد، وكانوا يرفعون مصابيحهم عاليا؛ فكانت أشعة ضوء المصابيح القوية التي تغطي على أشعة ضوء القمر الرقيقة تزيد من كثافة اللون الأحمر الساطع على سترة ضابط، وعلى الوجه الشنيع المغطى بالدم وعلى عينين جاحظتين تنظران إليهما.
كان الكابتن ديني راقدا على ظهره وعينه اليمنى ملطخة بالدم وعينه اليسرى مثبتة، بغير رؤية، على القمر البعيد. وكان ويكهام راكعا فوقه ويداه مخضبتان بالدماء ووجهه ملطخ به. كان صوت ويكهام مبحوحا وأجش، لكن كلماته كانت واضحة. «لقد مات! يا إلهي، لقد مات ديني! كان صديقي الوحيد وقد قتلته! قتلته! كانت غلطتي.»
وقبل أن يتمكنوا من الرد عليه مال على وجهه وراح ينتحب نحيبا شديدا مزق حلقه ثم انهار فوق جثة ديني حتى كاد الوجهان الداميان يلامسان بعضهما بعضا.
انحنى الكولونيل فوق ويكهام ثم اعتدل وقال: «إنه مخمور.»
قال دارسي: «وماذا عن ديني؟» «لقد مات. لا، من الأفضل ألا تمسه. أستطيع أن أكتشف الموت متى نظرت إليه. لنحمل الجثة على النقالة وسأساعدك في حملها. أنت الأقوى بيننا يا ألفيستون، فهل تستطيع أن تساعد ويكهام في العودة إلى العربة؟» «أعتقد ذلك يا سيدي. فهو ليس ثقيل الوزن.»
وفي صمت رفع الكولونيل جثة ديني على النقالة ذات النسيج الغليظ. ثم تحرك الكولونيل ليساعد ألفيستون في إنهاض ويكهام. كان ويكهام يترنح لكنه لم يقاوم. وقد لوثت أنفاسه - التي كانت تخرج في شكل شهقات - جو الفرجة برائحة الويسكي العفنة. كان ألفيستون أطول من ويكهام، وبمجرد أن تمكن من رفع ذراع ويكهام اليمنى ووضعها على كتفه كان قادرا على حمل جسده الخامل وجره مسافة بضع خطوات.
كان الكولونيل قد انكب على الأرض ثم استقام مرة أخرى. وكان يمسك مسدسا في يده. تشمم الكولونيل فوهة المسدس وقال: «هذا على الأرجح هو السلاح الذي أطلقت منه النار.» ثم أمسك هو ودارسي بدعائم النقالة ورفعاها في شيء من الصعوبة. ثم بدأ الموكب البائس طريق عودته الصعب إلى العربة، فكانت النقالة في المقدمة وألفيستون يسير خلفهم ببضع ياردات مثقلا بويكهام. كانت آثار مرورهم واضحة بما يكفي فلم يجدوا صعوبة في تتبعها لكن الرحلة كانت بطيئة ومضجرة . وكان دارسي يسير خلف الكولونيل والكآبة تغلف روحه، فتبادر إلى ذهنه الكثير من الأفكار المخيفة والمثيرة للقلق، فجعلت من المستحيل عليه أن يفكر تفكيرا منطقيا. لم يكن دارسي قد سمح لنفسه قبل ذلك أن يفكر في مدى قرب إليزابيث من وويكهام حين كانت بينهما صداقة في لونجبورن، لكن الآن كانت الشكوك التي تنم عن الغيرة تتزاحم في عقله، وقد اعترف بأنها غير مبررة وواهنة. وفي لحظة من الانزعاج كان يأمل لو أن جثة ويكهام هي ما يثقل كاهله، وقد روعته فكرة أنه كان يتمنى الموت لعدوه حتى ولو للحظة واحدة.
كان الارتياح باديا على برات حين رأى عودتهم، لكنه حين رأى النقالة بدأ يرتعد من الخوف ولما انتقلت رائحة الدماء إلى الخيل أصبحت خارجة عن السيطرة، ولم يتمكن برات من السيطرة على الجياد إلا بعد أن وجه إليه الكولونيل أمرا قاطعا. أنزل دارسي والكولونيل النقالة على الأرض وأخذا غطاء من العربة وغطيا به جثة ديني. كان ويكهام هادئا أثناء مسيرهم في الغابة، لكنه الآن أصبح عدوانيا، وشعر ألفيستون بالارتياح أكثر حين ساعده الكولونيل على إدخاله إلى العربة وجلس بجانبه. ثم أمسك الكولونيل ودارسي مرة أخرى بدعائم النقالة، وحملا حمولتهما على أكتافهما التي أصابها الألم. كان برات قد سيطر على الجياد أخيرا، وفي إعياء جسدي وذهني كبيرين بدأ دارسي والكولونيل مسيرهما الطويل الصامت خلف العربة عائدين إلى بيمبرلي.
الفصل الثالث
بمجرد أن أقنعت ليديا - التي كانت قد هدأت الآن - بأن تخلد إلى الفراش، شعرت جين بإمكانية تركها في عناية بيلتون، وانضمت إلى إليزابيث. وقد هرعتا معا إلى الباب الأمامي لتشهدا مغادرة مجموعة الإنقاذ. كان بينجلي والسيدة رينولدز وستاوتن عند الباب بالفعل وراح خمستهم يحدقون إلى الظلام حتى ابتعدت العربة كثيرا، وأصبحت أضواؤها متذبذبة، فاستدار ستاوتن ليغلق الباب ويوصده.
والتفتت السيدة رينولدز إلى إليزابيث وقالت لها: «سأجالس السيدة ويكهام حتى يأتي الدكتور ماكفي يا سيدتي. أتوقع أنه سيعطيها شيئا ليساعدها على الهدوء والنوم. وأقترح أن تعودي أنت والسيدة بينجلي إلى غرفة الموسيقى لتنتظرا هناك؛ ستشعران بالراحة هناك أكثر كما أن المدفأة ستمنحكما الدفء. وسيظل ستاوتن عند الباب ليراقب الطريق، وسيعلمكما بمجرد اقتراب العربة. وإن شوهد الكابتن ديني والسيد ويكهام على الطريق فستكون هناك مساحة في العربة تكفي الجميع، رغم أنها لن تكون رحلة مريحة على الأرجح. وأتوقع أن يكون الرجال في حاجة إلى تناول شيء ساخن حين يعودون، لكنني أشك في أن الكابتن ديني والسيد ويكهام سيرغبان في البقاء حتى الحصول على المرطبات. فبمجرد أن يعلم السيد ويكهام أن زوجته آمنة، من المؤكد أنه سيرغب وصديقه في إكمال رحلتهما. أعتقد أن برات قال إنهما كانا في طريقهما إلى كينجز آرمز في لامتون.»
كان هذا هو ما تريد إليزابيث سماعه بالضبط، وكانت تتساءل ما إن كانت السيدة رينولدز تحاول طمأنتها عن عمد. كان احتمال أن الكابتن ديني أو السيد ويكهام قد أصيبا بكسر أو التواء في الكاحل أثناء شقهما لطريقهما عبر الغابة وأنهما في حاجة إلى المكوث في المنزل - حتى ولو إلى طلوع الصبح - يثير الكثير من الانزعاج. فلم يكن زوجها ليرفض أن يؤوي جريحا في منزله قط، لكن وجود ويكهام تحت سقف منزل بيمبرلي هو أمر يمقته دارسي، وقد تكون لذلك تبعات كانت تخشى حتى أن تفكر فيها.
قالت السيدة رينولدز: «سأتحقق الآن يا سيدتي من أن جميع الخدم الذين يعملون على التحضير للحفل قد خلدوا إلى فرشهم. أعلم أن بيلتون لا تواجه مشكلة في البقاء مستيقظة تحسبا لأي حاجة إليها، وبيدويل لا يزال يعمل لكنه متكتم تماما. ولسنا في حاجة إلى أن نخبر أحدا عن هذه المغامرة الليلية حتى الصباح، وحينها لن نخبر أحدا بشيء إلا إن كانت هناك ضرورة لذلك.»
وكانت السيدة رينولدز وإليزابيث في طريق صعودهما على السلم حين أعلن ستاوتن أن العربة التي أرسلت لإحضار الدكتور ماكفي قد وصلت، فانتظرت إليزابيث لتستقبله ولتشرح له باقتضاب ما حدث. ولم يكن الدكتور ماكفي يدخل المنزل إلا ويلقى ترحابا حارا. كان الرجل أرملا في منتصف العمر، وقد ماتت عنه زوجته وهي لا تزال شابة وتركت له ثروة كبيرة، وعلى الرغم من قدرته على التنقل بعربة إلا أنه كان يفضل امتطاء صهوة الجواد. وبحقيبته الجلدية المربعة المربوطة إلى سرج جواده، كان مظهره مألوفا في طرق لامتون وبيمبرلي. وكانت سنوات امتطاء صهوة الجياد في كل أنواع الطقس قد أضافت الخشونة والغلظة إلى ملامحه، لكن وعلى الرغم من أنه لم يكن يعد وسيما، إلا أن ملامحه كانت تنم عن البشاشة والذكاء، إضافة إلى أمارات السلطة والإيثار حتى إنه بدا وكأنه مقدر له أن يكون طبيبا ريفيا. وكانت فلسفته الطبية تقتضي بأن للجسد البشري نزعة طبيعية تجاه شفاء نفسه إذا ما لم يتآمر الطبيب والمريض على التدخل في عملياته الحميدة، لكن وبإدراكه أن الطبيعة البشرية تستلزم التعامل بالحبوب وجرعات من الدواء، كان يعتمد على العقاقير التي أعدها هو بنفسه، والتي يثق فيها مرضاه إلى حد بعيد. وقد تعلم منذ وقت مبكر أن أقارب المريض يكونون أقل إثارة للمشكلات إذا ما انشغلوا بما يخدم مصلحة المريض، وقد ابتكر من التدابير ما تتناسب فعاليتها مع الوقت المستغرق في إعدادها. وكانت مريضته هنا تعرفه بالفعل، حيث إن السيدة بينجلي كانت تستدعيه حين يظهر زوجها أو أطفالها أو صديق يزورها أو أحد الخدم أي بوادر لوعكة، وقد أصبح الطبيب صديقا للعائلة. وكان من الباعث كثيرا على الارتياح أن يأخذوه إلى ليديا، التي استقبلته بنوبة جديدة من الشكوى والاتهام، لكنها أصبحت أكثر هدوءا بمجرد أن اقترب من فراشها.
كانت إليزابيث وجين الآن جاهزتين لبدء المراقبة من غرفة الموسيقى حيث كانت النوافذ توفر رؤية واضحة للطريق إلى الغابة. وعلى الرغم من أنهما حاولتا الاسترخاء على الأريكة، فإنهما لم تتمكنا من مقاومة التقدم نحو النافذة أو التحرك في قلق في أرجاء الغرفة. كانت إليزابيث تعرف أنهما كانتا تفكران في الأمر نفسه ولكن في صمت، وأخيرا عبرت جين عما كانت تفكر فيه. «عزيزتي إليزابيث، لا يمكننا أن نتوقع منهم العودة سريعا. لنفترض أن برات سيستغرق 15 دقيقة لتحديد المكان الذي اختفى فيه الكابتن ديني والسيد ويكهام في الغابة. حينها ربما يبحثون لمدة 15 دقيقة أو أكثر إن كان الرجلان قد ضلا طريقهما بالفعل، وينبغي أن نضع في الحسبان بعض الوقت من أجل عودتهم إلى العربة ثم إلى هنا. وينبغي أن نتذكر أيضا أن أحدهم سيذهب إلى كوخ الغابة للتأكد من أن السيدة بيدويل ولويزا آمنتان. لا بد أن نحاول التحلي بالصبر؛ وفي اعتقادي أننا لن نرى العربة قبل مرور ساعة. وبالطبع، من الوارد أن يكون السيد ويكهام والكابتن ديني قد تمكنا من العثور على الطريق، وقررا العودة سيرا إلى الحانة.»
قالت إليزابيث: «أعتقد أن احتمالية ذلك منهما ضعيفة. ستكون المسافة كبيرة وقد أخبرا برات أنهما سيتوجهان بعد أن يتركا ليديا في بيمبرلي إلى كينجز آرمز في لامتون. بالإضافة إلى أنهما سيكونان في حاجة إلى حقائبهما. ومن المؤكد أن ويكهام سيرغب في أن يطمئن أن ليديا قد وصلت بسلام. لكننا لن نعرف أي شيء قبل عودة العربة. وهناك آمال كثيرة معلقة على أن يتم العثور على الرجلين على الطريق، ومن ثم تعود العربة سريعا. في غضون ذلك، من الأفضل أن نحصل على أكبر قدر من الراحة.»
لكن الراحة كانت مستحيلة ووجدتا نفسيهما تتحركان باستمرار جيئة من النافذة وذهابا إليها. وبعد نصف الساعة كانتا قد فقدتا الأمل في عودة مجموعة الإنقاذ سريعا، لكنهما ظلتا واقفتين في عذاب صامت من الخوف من شر مرتقب. ففي المقام الأول وبتذكرهما أمر طلقات النار، كانتا تخشيان رؤية العربة تتقدم ببطء كعربة نقل الموتى، ودارسي والكولونيل يتبعانها على أقدامهما وهما يحملان النقالة المثقلة بالجثة. في أفضل الأحوال قد يكون أي من ويكهام أو ديني على النقالة، ليس بجرح خطير وإنما غير قادر على تحمل اهتزاز العربة. وقد حاولت كلتاهما أن تبعدا عن ذهنيهما صورة جسد مكفن، وكذلك المهمة المروعة التي تتمثل في إخبار ليديا المضطربة أن أسوأ مخاوفها قد تحقق، وأن زوجها قد مات.
ظلت السيدتان تنتظران مدة ساعة وعشرين دقيقة وحين أعيتهما كثرة الوقوف تحركتا بعيدا عن النافذة، وذلك حين ظهر بينجلي ومعه الطبيب ماكفي.
قال الطبيب: «كانت السيدة ويكهام منهكة من القلق والانتحاب الطويل، وقد أعطيتها عقارا مهدئا. من المفترض أنها ستروح سريعا في نوم عميق، وآمل أن يطول نومها لبضع ساعات. يمكنني أن أنتظر في غرفة المكتبة وسأتفقد حالتها لاحقا. وليس هناك داع لأن يلازمني أحد.»
شكرته إليزابيث بحرارة وقالت بأن هذا هو ما تأمله هي أيضا. وحين غادر الطبيب الغرفة وفي صحبته جين، توجهت هي وبينجلي مرة أخرى إلى النافذة.
قال بينجلي: «ينبغي لنا ألا نتخلى عن أمل أن كل شيء على ما يرام. ربما كان مصدر الطلقات صيادا يصطاد الأرانب، أو ربما أطلق ديني النار تحذيرا لأحد كان مختبئا في الغابة. لا ينبغي أن نسمح لمخيلتنا أن تنسج الصور التي يخبرنا العقل بأنها ليست حقيقية. ليس هناك في الغابة شيء يغوي أحدا يحمل نوايا خبيثة ليؤذي أيا من ويكهام أو ديني.»
لم تجبه إليزابيث. والآن أصبح المظهر المألوف والمحبوب لها يبدو غريبا عليها، فكان النهر يتموج كالفضة المذابة تحت أشعة القمر حتى تحركه هبة مفاجئة من الهواء فتعيده إلى الحياة. وكان الطريق يمتد فيما بدا فراغا سرمديا ومظهرا وهميا، ويلفه جو من الغموض والغرابة حيث لا يمكن أبدا لأي كائن حي أن يعيش فيه أو يتحرك عليه. وحين عادت جين كانت العربة قد بدأت لتوها تظهر في الأفق، فكان مظهرها في بادئ الأمر ليس أكثر من شيء يتحرك ويحده بصيص خافت لأضواء بعيدة. وقد وقف ثلاثتهم ينتظرون في اهتمام بالغ ويقاومون رغبة شديدة في أن يهرعوا نحو الباب.
ولم تستطع إليزابيث أن تخفي نبرة اليأس في صوتها. فقالت: «إنهم يتحركون ببطء. كانوا سيتقدمون مسرعين لو كان كل شيء على ما يرام.»
وعندما طرقت تلك الفكرة ذهنها لم تستطع أن تنتظر عند النافذة أكثر من هذا فهرعت إلى أسفل الدرج وكانت جين وبينجلي إلى جوارها. ولا بد أن ستاوتن قد رأى العربة من نافذة الطابق الأرضي؛ ذلك أن الباب الأمامي كان مفتوحا جزئيا بالفعل. قال ستاوتن: «أليس من الحكمة العودة إلى غرفة الموسيقى يا سيدتي؟ سيحمل لك السيد دارسي الأخبار بمجرد وصولهم. الجو بارد جدا للانتظار في الخارج، وليس هناك شيء يمكن لأي منا أن يفعله حتى وصول العربة.»
قالت إليزابيث: «نفضل أنا والسيدة بينجلي أن ننتظر هنا عند الباب يا ستاوتن.» «كما ترغبين سيدتي.»
ثم خرجت مع بينجلي إلى الظلام ووقفا ينتظران. ولم ينبس أحدهما ببنت شفة حتى أصبحت العربة على مسافة بضع ياردات من الباب ورأيا ما كانا يخشيان رؤيته، جثة مكفنة على النقالة. هنا هبت نسمة ريح مفاجئة فتبعثر شعر إليزابيث حول وجهها. شعرت بأنها ستتهاوى لكنها تمكنت من أن تتمسك ببينجلي الذي لف ذراعه حول كتفها لتستند إليها. وفي تلك اللحظة كشفت الريح طرف الغطاء فرأيا اللون الأحمر على سترة ضابط.
تحدث الكولونيل فيتزويليام مباشرة إلى بينجلي. «يمكنك أن تخبر السيدة ويكهام أن زوجها على قيد الحياة. لكن لا يمكن رؤيته في الوقت الحالي. أما الكابتن ديني فقد مات.»
قال بينجلي: «رميا بالرصاص؟»
كان دارسي هو من أجاب. «لا، ليس مصابا بالرصاص.» ثم التفت إلى ستاوتن وقال. «أحضر مفاتيح الأبواب الداخلية والخارجية لغرفة السلاح. سنحمل أنا والكولونيل فيتزويليام الجثة عبر الباحة الشمالية وسنضعها على الطاولة في غرفة السلاح.» ثم عاد إلى بينجلي. وقال: «من فضلك خذ إليزابيث والسيدة بينجلي إلى الداخل. ليس هناك ما يمكنهما فعله هنا، ونريد أن نخرج ويكهام من العربة. سيكون مفجعا لهما أن يشاهداه على حالته هذه. نريد أن نضعه على الفراش.»
وفكرت إليزابيث في سبب عدم رغبة زوجها والكولونيل في وضع النقالة أرضا، لكنهما ظلا واقفين وكأنهما تمثالان حتى عاد ستاوتن في غضون لحظات وأعطاهما المفاتيح. ثم وفي مشهد يكاد يكون جنائزيا، تقدمهما ستاوتن وكأنه متعهد دفن الموتى وراحوا يشقون طريقهم عبر الباحة، ثم استداروا متوجهين نحو الجزء الخلفي من المنزل وغرفة السلاح.
كانت العربة الآن تهتز في عنف وبين هبات الرياح كانت إليزابيث تسمع صياح ويكهام الجامح غير المتسق وهو يوبخ منقذيه ويشجب جبن دارسي والكولونيل. لماذا لم يمسكوا بالقاتل؟ كان بحوزتهم مسدس. وكانوا يعرفون كيفية استخدامه. لو أنهم حاولوا إطلاق النار على القاتل، لكانوا أصابوه، وأحضروه إلى هنا. ثم جاء ويكهام بسيل من السباب شوشت الريح عليه، ثم تبع ذلك السيل فورة بكاء.
دلفت إليزابيث وجين إلى الداخل. كان ويكهام قد سقط الآن وتمكن بينجلي وألفيستون من مساعدته للوقوف على قدمه، وبدآ يجرانه إلى داخل الردهة. لمحت إليزابيث عينيه الهائجتين ووجهه الملطخ بالدماء، ثم انسحبت بعيدا عن الأنظار في حين حاول ويكهام أن يحرر نفسه من قبضة ألفيستون.
قال بينجلي: «نحتاج إلى غرفة بها باب منيع ولها مفاتيح. ماذا تقترح؟»
نظرت السيدة رينولدز التي كانت قد عادت الآن إلى إليزابيث. وقالت: «الغرفة الزرقاء يا سيدتي في نهاية الرواق الشمالي هي أكثر الغرف المؤمنة. فيها نافذتان صغيرتان فقط وهي الأبعد عن غرفة الأطفال.»
كان بينجلي لا يزال يساعد ألفيستون في السيطرة على ويكهام. فدعا السيدة رينولدز وقال: «الدكتور ماكفي في المكتبة. أخبريه أننا في حاجة إليه الآن. لا يمكننا السيطرة على السيد ويكهام في حالته هذه. أخبريه أننا سنكون في الغرفة الزرقاء.»
أمسك بينجلي وألفيستون بذراعي ويكهام وبدآ يجرانه صاعدين به الدرج. كان أكثر هدوءا الآن لكنه كان لا يزال ينتحب؛ وحين وصلا إلى الدرجة الأخيرة، حاول أن يصارعهما ليحرر نفسه، ثم راح يصب لعناته الأخيرة على دارسي.
التفتت جين إلى إليزابيث. وقالت: «من الأفضل أن أعود إلى ليديا. فبيلتون هناك منذ وقت طويل وقد تكون في حاجة إلى الراحة. آمل أن ليديا تغط في نوم عميق الآن، لكن ينبغي أن نطمئنها أن زوجها على قيد الحياة بمجرد أن تستعيد وعيها. ففي النهاية لدينا شيء نشعر بالامتنان إزاءه. عزيزتي ليزي، لو كنت أستطيع أن أبعد عنك عناء كل هذا لفعلت.»
تعانقت الأختان لحظة ثم ذهبت جين. والآن كانت الردهة هادئة تماما. كانت إليزابيث ترتعش وحين شعرت فجأة أنها تكاد تصاب بالإغماء، جلست على أقرب كرسي. كانت تشعر بأنها ثكلى وكانت تأمل أن يعود دارسي، وسرعان ما كان بجانبها ، فكان آتيا من غرفة السلاح في الجزء الخلفي من المنزل. أتى إليها في الحال وأنهضها من على الكرسي وقربها منه في هدوء. «عزيزتي، لنخرج من هنا وسأشرح لك ما حدث. أرأيت ويكهام؟» «أجل، رأيته وهم يحملونه إلى الداخل. كان مظهره مريعا. أشكر الرب أن ليديا لم تره.» «كيف حالها؟» «آمل أن تكون قد خلدت إلى النوم. أعطاها الدكتور ماكفي شيئا ليهدئها. والآن ذهب مع السيدة رينولدز ليساعد في أمر ويكهام. لقد أخذ كل من السيد ألفيستون وتشارلز ويكهام إلى الغرفة الزرقاء في الرواق الشمالي. بدا أن ذلك أفضل مكان يوضع فيه.» «وماذا عن جين؟» «إنها مع ليديا وبيلتون. ستمضي الليلة في غرفة ليديا وسيكون السيد بينجلي في غرفة الملابس المجاورة. لن تتحمل ليديا وجودي معها. لا بد وأن تمكث جين معها.» «إذن لنذهب إلى غرفة الموسيقى. ينبغي أن أجالسك وحيدين قليلا. لم ير بعضنا بعضا اليوم إلا قليلا. سأخبرك بكل ما أعرف، لكن لن يكون ما أخبرك به جيدا. ثم ينبغي أن أذهب الليلة لأخبر السير سيلوين هاردكاسل عن مقتل الكابتن ديني. إنه القاضي الأقرب إلينا. لا يمكنني أن أشارك في هذا الأمر بعد الآن؛ سيتولى هاردكاسل زمام الأمور من هنا.» «لكن ألا يمكنك الانتظار يا فيتزويليام؟ لا بد وأنك منهك. ولن يأتي السير سيلوين بالشرطة الليلة إلا بعد منتصف الليل. لا يمكن له أن يفعل أي شيء حتى الصباح.» «الأفضل أن يتم إخبار السير سيلوين من دون تأخير. سيتوقع مني فعل ذلك وهو محق في توقعه. ولن يرغب في تحريك جثة ديني، كما سيرغب أيضا في رؤية ويكهام إن لم يكن مخمورا بما يكفي لسؤاله. على أي حال يا حبيبتي، ينبغي أن نبعد جثة الكابتن ديني في أقرب فرصة لذلك. لا أريد أن أبدو قاسيا أو عديم الاحترام لكن سيكون من الأفضل أن نخرجها من المنزل قبل استيقاظ الخدم. سيتحتم علينا أن نخبرهم بما حدث، لكن سيكون من الأفضل لنا جميعا وللخدم خصوصا ألا تبقى الجثة هنا.» «لكن يمكنك أن تبقى على الأقل لتتناول شيئا من الطعام والشراب قبل أن تغادر. لقد مرت ساعات طويلة منذ تناولنا العشاء.» «سأبقى خمس دقائق لأتناول شيئا من القهوة ولكي أتأكد من أن بينجلي يعلم جميع التفاصيل، لكن ينبغي علي بعدها أن أنطلق.» «وماذا عن الكابتن ديني، أخبرني بما حدث له؟ أي شيء ستخبرني به سيكون أفضل من الشعور بالقلق. إن تشارلز يتحدث عن وقوع حادثة. فهل كانت تلك حادثة؟»
قال دارسي بنبرة رقيقة: «يا عزيزتي، ينبغي علينا أن ننتظر حتى يفحص الأطباء الجثة ويمكنهم أن يخبرونا كيف مات الكابتن ديني. كل شيء يقال حتى ذلك الحين مجرد تخمينات.» «إذن يمكن أن يكون مقتله حادثة؟» «من المريح أن نأمل ذلك، لكنني لا أزال على اعتقادي حين رأيت الجثة لأول مرة؛ أن الكابتن ديني مات مقتولا.»
الفصل الرابع
بعد خمس دقائق كانت إليزابيث تنتظر مع دارسي عند الباب الأمامي حتى يتم إحضار حصانه، وما إن دخلت إليزابيث المنزل حتى رأت دارسي وهو يعدو بفرسه ويذوب في ظلمة الليلة المقمرة. ستكون الرحلة أمامه غير مريحة. فقد خلفت الأمطار الغزيرة رياحا عاصفة، لكنها كانت تعلم أن رحلته تلك كانت ضرورية. كان دارسي واحدا من القضاة الثلاثة الذين يتولون شأن بيمبرلي ولامتون لكن لم يكن باستطاعته أن يشارك في هذا التحقيق، وكان من الصواب أن يتم إخبار أحد زملائه بمقتل ديني من دون تأخير. كانت إليزابيث تأمل أيضا أن تنقل الجثة من بيمبرلي قبل حلول الصباح حين سيتحتم عليها وعلى دارسي إخبار الخدم المستيقظين بما حدث. كما كان سيتحتم عليهما أن يبررا سبب وجود السيدة ويكهام وليس من المرجح أن تكون ليديا نفسها كتومة. وكان دارسي فارسا بارعا، ولم يكن الارتحال ليلا على صهوة جواده يخيفه حتى في أسوأ أنواع الطقس، لكنها حين كانت تحدق إلى آخر طيف للحصان وهو ينطلق، كانت تكافح خوفا يتملكها بأن شيئا سيئا سيحدث لدارسي قبل أن يصل إلى هاردكاسل وأنها لن تراه ثانية أبدا.
وبالنسبة إلى دارسي كان العدو بحصانه في الليل بمثابة نوع من التمتع بحرية مؤقتة. وعلى الرغم من أن كتفيه كانتا تؤلمانه بسبب ثقل النقالة وأنه كان يعرف أنه متعب على المستويين الجسدي والذهني، فقد كانت نفحات الهواء البارد ولطم حبات المطر له على وجهه بمثابة انعتاق وتحرر. كان السير سيلوين هاردكاسل هو القاضي الوحيد المعروف أنه يظل في منزله طوال الوقت، وكان يعيش على مسافة ثمانية أميال من بيمبرلي، وباستطاعته أن يتولى أمر هذه القضية وسيكون مسرورا لفعل ذلك، لكنه لم يكن الزميل الذي كان دارسي ليختاره لمثل هذه المهمة. فلسوء حظه، كان جوزايا كليثرو - وهو القاضي المحلي الثالث - عاجزا بفعل إصابته بداء النقرس، وهو داء مؤلم بقدر ما كان غير مستحق له؛ حيث إن ذلك الطبيب وعلى الرغم من أنه مولع بتناول الطعام بشراهة، فإنه لم يكن يعاقر النبيذ الأحمر قط، وهو ما يعتقد أنه السبب الرئيسي للإصابة بهذا الداء الموهن. وكان الدكتور كليثرو محاميا متميزا ويمتد صيته لما يتجاوز حدود دياره في ديربيشاير، ومن ثم فهو يعد إضافة كبيرة إلى مقعد القضاة؛ وذلك على الرغم من ثرثرته التي تبرز من اعتقاد لديه بأن صحة الحكم تتناسب مع طول الوقت المستغرق للتوصل إليه. كان يتعمق بشدة في دراسة كل تفصيلة صغيرة تخص القضية ويناقش القضايا السابقة ويبحث فيها ويتعرض للقانون ذي الصلة بها. وإذا رأى أن قواعد الفلاسفة القدامى - مثل أفلاطون أو سقراط - قد تضيف وزنا إلى الحجة، كان يعرضها. لكن وعلى الرغم من سلوكه كل هذه الدروب عند اتخاذ قرار، فإن قراره النهائي يكون منطقيا دائما وكانت هناك قلة قليلة من المدعى عليهم الذين لم يكونوا ليشعروا بالتمييز غير العادل ضدهم لو كان الدكتور كليثرو لم يمنحهم ساعة من الزمن على الأقل ليتحدثوا له بأطروحة غير مفهومة.
وبالنسبة إلى دارسي، كان مرض الدكتور كليثرو أمرا غير ملائم تماما. حيث إنه والسير سيلوين هاردكاسل لم يكونا على وفاق كزملاء - على الرغم من أن كلا منهما يكن للآخر الكثير من الاحترام كقضاة - وظلت العداوة قائمة بين العائلتين حتى ورث والد دارسي تركة بيمبرلي. وكانت جذور الخلاف تعود إلى زمن جد دارسي، حين أدين خادم من بيمبرلي - ويدعى باترك رايلي - بسرقة أيل من مزرعة الأيائل المملوكة حينها للسير سيلوين، ومن ثم شنق جزاء لذلك.
وتسبب شنق ذلك الخادم في حالة غضب عارم بين القرويين في بيمبرلي، لكنهم عرفوا أن السيد دارسي كان قد حاول أن ينقذ حياة الفتى، ومن ثم عرف علنا عن السيد دارسي بأنه القاضي العطوف وعن السير سيلوين بأنه يد القانون الصارمة، وقد ساعد اسم هاردكاسل في الترسيخ كثيرا لهذا التمييز. وتبع الخدم مثال أسيادهم وتوارثت الأجيال بين العائلتين العداوة والبغضاء. ولم يتم القيام بأي محاولة لرأب الصدع بينهما إلا حين ورث والد دارسي تركة بيمبرلي، ولم تتبع تلك المحاولة أي محاولة ثانية إلا حين كان والد دارسي في فراش الموت. فقد طلب من ابنه أن يقوم بكل ما يمكنه لكي يستعيد التوافق بين العائلتين، مشيرا إلى أن استمرار العداء ليس في صالح القانون ولا في حسن العلاقات بين العائلتين. وما منع دارسي عن ذلك هو تحفظه واعتقاده بأن مناقشة نزاع أو خلاف على العلن لن يساعد إلا في التأكيد على وجوده؛ لذا فقد سلك طريقا أكثر دبلوماسية. فكان يرسل الدعوات أحيانا إلى هاردكاسل لحضور حفلات الصيد والمآدب العائلية، وكان هاردكاسل يقبلها. ربما كان هاردكاسل أيضا قد أصبح أكثر وعيا بخطورة العداء المستمر، لكن ذلك التقارب لم يرق قط إلى مستوى الحميمية. كان دارسي يعلم أنه وفي ظل المشكلة الحالية سيجد في هاردكاسل قاضيا نزيها يتبع ضميره، لكنه لن يجد فيه صديقا له.
وبدا الجواد سعيدا بالهواء الطلق وبالرحلة كسعادة راكبه، فنزل دارسي عن صهوته أمام منزل هاردكاسل في غضون نصف الساعة. كان جد السير سيلوين قد تسلم البارونية في زمن الملكة إليزابيث حين بني منزل العائلة. كان المنزل يمثل صرحا كبيرا معقدا وشاسعا، وكانت مداخنه السبعة الفاخرة على طراز تيودر تمثل معلما رئيسيا بين أشجار الدردار الطويلة التي تحيط بالمنزل كالمتاريس. وبداخل المنزل، كانت النوافذ الصغيرة والسقف المنخفض يضيئان المنزل بإضاءة خافتة. وكان والد البارون الحالي - متأثرا في ذلك ببعض المباني المجاورة له - قد أضاف إلى المنزل ملحقا فاخرا لكنه ناشز، وكان استخدام العائلة لهذا الملحق نادرا، عدا كونه مأوى للخدم، فقد كان السير سيلوين يفضل الطراز الإليزابيثي رغم أوجه عدم ملاءمته الكثيرة.
صدح صوت الجرس الذي سحب دارسي حبله في أرجاء المنزل مما أيقظ المنزل بأكمله، وفي غضون ثوان فتح له الباب كبير الخدم العجوز ويدعى باكل، الذي بدا أنه لم يخلد إلى النوم كسيده، حيث كان معروفا عنه أنه سيكون في الخدمة بغض النظر عن التوقيت. كان السير سيلوين وباكل متلازمين وكان منصب كبير الخدم في عائلة هاردكاسل يعتبر في العموم منصبا متوارثا؛ حيث إن والد باكل كان يشغله قبله وكذلك جده قبلهما. وكان التشابه في العائلة بين الأجيال بارزا وملحوظا، فكان كل فرد من عائلة باكل يتسم بقصر القامة وقوة البنية وطول الذراعين ووجه يشبه وجه كلب البولدوج الودود. أخذ باكل قبعة دارسي وسترته المخصصة لركوب الجياد، وعلى الرغم من أنه كان يعرف الزائر معرفة تامة، فإنه سأله عن اسمه وكعادته التي لا تتغير طلب منه الانتظار حتى يعلم سيده بحضوره. وبدا لدارسي أن غياب باكل عنه كان طويلا، لكنه سمع في الأخير صوت وقع أقدامه قادما نحوه وقال له: «السير سيلوين في غرفة التدخين الخاصة به يا سيدي، فهلا تتبعني فضلا.»
تقدما عبر الردهة العظيمة بسقفها المقبب المرتفع، ونوافذها الكثيرة ومجموعة رائعة من الدروع، ورأس أيل معلقة أصابها شيء من العفن مع مرور الزمن. كما احتوت الردهة أيضا على الصور العائلية، وبمرور الأجيال اكتسبت عائلة هاردكاسل سمعة بين العائلات المجاورة بكونها عائلة كبيرة العدد والحجم، وهي سمعة تأسست على الكم أكبر منها على الجودة. وقد ورث كل بارون رأيا واحدا أو تحيزا قويا واحدا على الأقل ليأمر به، أو ليزعج من خلاله ورثته، وكان يسود بينهم اعتقاد - تشكل في البداية لدى السير سيلوين من القرن السابع عشر - أن توظيف رسام يتقاضى ثمنا باهظا ليرسم نساء العائلة هو مضيعة للمال. وكل ما كان ضروريا لإرضاء ادعاءات الأزواج وغرور الزوجات هو أن يجعل الرسام من الوجه العادي جميلا، ومن الوجه الجميل وجها مليحا، وأن يقضي الكثير من الوقت ويتوخى في رسمه إبراز ملابس الشخص المرسوم أكثر من ملامحه. وحيث إن الرجال في عائلة هاردكاسل كانوا يتشاركون فيما بينهم نزوعا إلى الإعجاب بالنوع نفسه من الجمال الأنثوي، فقد أضاء الشمعدان ذو الأفرع الثلاثة الذي يمسك به باكل صفا من الرسومات المتطابقة لشفاه معقودة وعيون جاحظة عدوانية حيث تلا الساتان والدانتيل النسيج المخملي، وحل الحرير محل الساتان، وأفسح الحرير المجال لنسيج الموسلين. وكان حال الذكور من عائلة هاردكاسل أفضل. فكانت الأنف المتوارثة المعقوفة قليلا والحواجب الكثيفة ذات اللون الداكن أكثر من الشعر، والفم العريض الذي تكاد شفتاه تخلوان من الدماء، كانت هذه الملامح تنظر إلى دارسي من فوق بثقة وثبات. هنا يمكن للمرء أن يعتقد أن السير سيلوين الحالي قد خلد على مر القرون بفعل فرشاة الرسامين البارزين في أدواره المتعددة؛ السيد وصاحب الأرض الجاد، ورب الأسرة والمحسن إلى الفقراء وقائد متطوعي ديربيشاير الذي يرتدي وشاح منصبه في أناقة، وأخيرا القاضي الصارم الحصيف العادل. وكان السير سيلوين لا يزوره من البسطاء إلا قلة قليلة، وكان هؤلاء لا ينبهرون كثيرا ويرهبونه بالقدر المعقول بمجرد الدخول إلى حضرته.
تبع دارسي الآن باكل إلى داخل رواق ضيق نحو الجزء الخلفي من المنزل، وفي نهاية هذا الرواق فتح باكل بابا من خشب البلوط الثقيل من دون أن يطرقه، وأبلغ بصوت جهور قائلا: «السيد دارسي من بيمبرلي هنا لرؤيتك يا سيد سيلوين.»
لم ينهض سيلوين هاردكاسل. كان يجلس في كرسي عالي الظهر بجوار النار ويرتدي قبعة التدخين، وكان شعره المستعار موضوعا على الطاولة بجواره، التي كانت تحمل أيضا زجاجة من النبيذ الأحمر، وكأسا مملوءة حتى نصفها. كان الرجل يقرأ من كتاب كبير الحجم كان مفتوحا على ركبتيه، والآن أغلقه هاردكاسل بتعبير واضح عن الأسف بعد أن وضع بحرص مؤشرا مرجعيا عند الصفحة التي كان يقرؤها. وكان المشهد كله يكاد يقترب من تصوير حي لصورته كقاض، وأمكن لدارسي أن يتخيل أنه رأى الرسام وهو يتحرك بمهارة عبر الباب، بينما الرجل جالس في مكانه. ومن الواضح أن أحد الخدم قد اعتنى بالنار لتوه فكانت تشتعل بشدة؛ ومن بين صوت الفرقعة وطقطقة الحطب، اعتذر دارسي عن زيارته في وقت متأخر.
قال السيد سيلوين: «لا بأس بذلك. إنني نادرا ما أنتهي من القراءة قبل حلول الواحدة صباحا. يبدو عليك الارتباك. وأعتقد أن هذه حالة طارئة. فما هي المشكلة التي تزعج المقاطعة الآن؛ أهي صيد جائر، أم أحداث شغب، أم عصيان جماعي؟ هل جاء بوني أخيرا، أم أن أحدهم أغار على دواجن السيدة فيلمور مرة أخرى؟ اجلس فضلا. يقال إن ذاك الكرسي ذا الظهر المنحوت مريحا وسيتحمل وزنك.»
بما أن ذاك كان الكرسي الذي يجلس عليه دارسي عادة فكان واثقا تماما من أنه سيتحمل وزنه. جلس دارسي على الكرسي وقص قصته كاملة لكن بإيجاز، فأشار إلى الحقائق البارزة من دون أن يعلق عليها. واستمع السير سيلوين إليه في صمت ثم قال: «لننظر إن كنت قد فهمت ما قلت بصورة صحيحة. كان السيد جورج ويكهام وحرمه والكابتن ديني يتجهون على متن عربة مستأجرة إلى بيمبرلي حيث ستقضي السيدة ويكهام الليلة السابقة لحفل الليدي آن. وعند مرحلة ما ترك الكابتن ديني العربة حيث كانت في غابة بيمبرلي، بسبب خلاف دب بينهما على ما يبدو، وتبعه ويكهام وطلب منه أن يعود إلى العربة. وساد القلق حين لم يعاود أيهما الظهور. وقالت السيدة ويكهام والسائق المدعو برات إنهما سمعا طلقات نارية بعد مرور 15 دقيقة، وبالطبع حين خافت السيدة ويكهام أن تلقى حتفها أصيبت بالاهتياج وأمرت سائق العربة أن يتقدم نحو بيمبرلي بأقصى سرعة. وبعد أن وصلت وقد بلغ منها الخوف مبلغه، بدأت أنت البحث في الغابة، وكان معك الكولونيل الفيكونت هارتليب والمحترم هنري ألفيستون واكتشفتم أمر جثة الكابتن ديني، وكان ويكهام جاثيا عليه ينتحب وعلى ما يبدو أنه كان مخمورا، وكان وجهه ويداه ملطخين بالدم.» ثم توقف عن الحديث بعد هذا التذكر الفذ وأخذ بضع رشفات من النبيذ قبل أن يعاود الحديث. «هل دعيت السيدة ويكهام إلى الحفل؟»
كان تغيير مسار الأسئلة غير متوقع، لكن دارسي تقبل الأمر بهدوء. «لا. كنا لنرحب بها بالطبع في بيمبرلي في أي وقت لو كانت حضرت إلينا على نحو غير متوقع.» «لم تكن مدعوة لكنكم كنتم لترحبوا بها، على عكس زوجها. من المعروف أن جورج ويكهام غير مرحب به تماما في بيمبرلي.»
قال دارسي: «ليس الأمر على هذه الشاكلة.»
وضع السير سيلوين كتابه على الطاولة بهدوء. وقال: «شخصيته معروفة تماما على المستوى المحلي. كانت بدايته جيدة أثناء طفولته، لكنه انحدر إلى سلوكيات همجية ومنحلة، وهذه نتيجة طبيعية لتعريض شاب يافع إلى أسلوب حياة لم يكن ليأمل الوصول إليه يوما باجتهاده الشخصي، وإلى رفاق من طبقة اجتماعية لم يكن ليطمح قط إلى أن ينتمي إليها. هناك شائعات تقول بأن هناك أسبابا أخرى إلى العداوة بينكما، شيء له علاقة بزواجه من أخت زوجتك؟»
قال دارسي: «الشائعات موجودة دائما. لكن جحوده لذكرى والدي وقلة احترامه لها بالإضافة إلى الاختلافات بين ميولنا واهتماماتنا تعد كافية لتفسير قلة أواصر المودة. لكن ألسنا بهذا نشرد بعيدا عن سبب زيارتي؟ لا يمكن أن تكون هناك صلة بين علاقتي بجورج ويكهام ومقتل الكابتن ديني.» «اعذرني يا دارسي، لكنني أخالفك الرأي. هناك صلات كثيرة. لقد وقعت جريمة قتل الكابتن ديني - إن كان قد قتل - في أملاكك والشخص المسئول هو نسيبك، ومن المعروف أنكما على خلاف. إنني أعبر عن الأشياء الهامة حين تراود ذهني. وموقفك هذا يتسم بشيء من الحساسية. هل تدرك أنه لا يمكنك أن تشارك في هذا التحقيق؟» «هذا هو سبب وجودي هنا.» «سيتعين علينا أن نخبر المسئول الأعلى بالطبع. أعتقد أنك لم تفعل هذا بعد.» «فكرت أن من الأهم أن أخبرك أنت أولا.» «أنت محق في ذلك. سأخبر السير مايلز كالبيبر بنفسي وسأقدم له بالطبع تقريرا كاملا بوضع التحقيق أولا بأول. ولكنني أشك في أنه سيولي الأمر اهتماما شخصيا. فمنذ تزوج بزوجته اليافعة الجديدة وهو يقضي الكثير من الوقت في الاستمتاع بوسائل الترفيه المتعددة في لندن أكثر من انتباهه للشئون المحلية. ولست أنتقده في ذلك. فمنصب المسئول الأعلى دافع للحسد إلى حد ما. فواجباته كما تعلم هي فرض القوانين وتنفيذ القرارات التنفيذية للقضاة، وأيضا الإشراف على الموظفين الأصغر تحت إمرته وإدارتهم. وحيث إنه لا يتمتع بأي سلطة رسمية عليهم فمن الصعب رؤية القيام بذلك بصورة فاعلة، لكن وكما هو حال الكثير من الأشياء في بلادنا، فإن النظام يعمل بصورة مرضية ما دام متروكا للمحليين. أنت تذكر السير مايلز بالطبع. لقد كنت أنا وأنت اثنين من القضاة الذين تلا القسم أمامهم في الجلسات الفصلية قبل عامين. سأتواصل أيضا مع الدكتور كليثرو. قد لا يكون قادرا على الاضطلاع بدور نشط في هذه القضية، لكنه ذو قيمة كبيرة في المسائل القانونية، وأنا لا أرغب في أن أتحمل المسئولية كلها. أجل، أعتقد أن الأمر سيسير على ما يرام بيننا. سأصحبك الآن عائدين إلى بيمبرلي في عربتي. سيكون من الضروري إحضار الدكتور بيلشر قبل أن تحرك الجثة، وسأحضر معي عربة المشرحة واثنين من الضباط الصغار. أنت تعرفهما؛ توماس براونريج الذي يحب أن يشار إليه بآمر البلدة لتمييز أقدميته، وويليام ميسون الشاب.»
ومن دون أن ينتظر تعليق دارسي، نهض هاردكاسل وتحرك نحو جرس الحبل وسحبه بقوة.
دخل باكل بسرعة كبيرة أوحت إلى دارسي أنه كان ينتظر خارج الباب. قال له سيده: «معطفي الكبير وقبعتي يا باكل، وأيقظ بوستجيت إن كان نائما، وإن كنت أشك في ذلك. أريد تجهيز عربتي. سأذهب إلى بيمبرلي، لكنني سأعرج في الطريق على اثنين من الضباط الصغار والدكتور بليشر. وسيمتطي السيد دارسي صهوة جواده في رفقتنا.»
اختفى باكل في ظلمة الرواق، وأغلق الباب الضخم بما بدا أنه قوة غير ضرورية.
قال دارسي: «أعتذر أن زوجتي قد لا تكون قادرة على الترحيب بك. آمل أن تأخذ هي والسيدة بينجلي قسطا من النوم هذه الليلة، لكن الخدم الأعلى شأنا لا يزالون مستيقظين كما أن الدكتور ماكفي موجود في المنزل. كانت السيدة ويكهام في حالة من الإعياء الشديد حين وصلت إلى بيمبرلي وفكرت أنا والسيدة دارسي أنه من الأفضل أن نحضر لها رعاية طبية عاجلة.»
قال السير سيلوين: «وأعتقد أنه من الأفضل أيضا أن يحضر الدكتور بيلشر التحقيق في هذه المرحلة المبكرة؛ حيث إنه الطبيب الذي تستدعيه الشرطة لتقديم المشورة لها في الأمور الطبية. لا بد أنه أصبح معتادا على تأريقه في نومه. هل يفحص الدكتور ماكفي سجينك؟ أعتقد أن جورج ويكهام في مكان احتجاز شديد الحراسة.» «ليس في مكان احتجاز شديد الحراسة، لكنه تحت الحراسة باستمرار. كان كبير الخدم لدي وستاوتن والسيد ألفيستون معه حين غادرت بيمبرلي. كما فحصه الدكتور ماكفي، وقد يكون الآن نائما، ومن غير المرجح أن يستيقظ قبل مرور بضع ساعات. سيكون من الأفضل لو أنك جئت بعد بزوغ الفجر.»
قال السير سيلوين: «من الأفضل لمن؟ إن أكثر المنزعجين في هذا الأمر هو أنا، لكن لا بأس بهذا إن كانت المسألة تتعلق بأداء الواجب. وهل تدخل الدكتور ماكفي بأي طريقة فيما يتعلق بجثة ديني؟ أعتقد أنك حرصت على ألا يمس أحد الجثة إلى أن أحضر.» «جثة الكابتن ديني ترقد على طاولة في غرفة السلاح وهي تحت حراسة مشددة. فكرت ألا نقوم بأي شيء يمكننا من معرفة سبب الوفاة حتى حضورك.» «أنت محق في ذلك. سيكون من المؤسف إن أشار أحد إلى أن الجثة قد مست. حبذا بالطبع لو أن الجثة تركت في الغابة حيث كانت ترقد حتى تطلع عليها الشرطة، لكنني أتفهم أنك لم تستطع فعل ذلك وقتها.»
كان دارسي يريد أن يقول إنه لم يفكر قط في أن يترك الجثة حيث وجدها، لكنه فكر أنه من الحكمة أكثر أن يقلل كلامه بقدر ما يمكنه.
كان باكل قد عاد الآن. فارتدى السير سيلوين شعره المستعار الذي كان يرتديه باستمرار حين يؤدي عمله الرسمي كقاض للصلح، وساعده خادمه في ارتداء معطفه الكبير وأعطاه قبعته. وبملابسه تلك وبمظهره الذي يدل على أنه مخول للقيام بأي شيء متوقع منه، بدا الرجل أطول وأكثر وقارا باعتباره ممثلا للقانون.
تقدمهم باكل إلى الباب الأمامي وسمع دارسي صوت المزاليج الثلاثة الضخمة وهي تغلق خلفهم، فيما وقفا ينتظران العربة في الظلام. ولم يظهر السير سيلوين أي تململ من تأخر العربة. وقال: «هل قال جورج ويكهام أي شيء حين وصلتم إليه وهو جاث بجوار الجثة؟»
كان دارسي يعلم أن هذا السؤال سيطرح عاجلا أو آجلا، وليس من جانب هذا الرجل فقط. قال دارسي: «كان منفعلا كثيرا، بل وكان ينتحب حتى، وبالكاد كان كلامه مفهوما. كان من الواضح أنه شرب الكثير. وبدا أنه يعتقد أنه مسئول بطريقة ما عن وقوع تلك المأساة، ربما لأنه لم يستطع أن يقنع صديقه بالعدول عن مغادرة العربة. فالغابة كثيفة بما يكفي لتمثل ملجأ لأي طريد يائس، ولن يقوم أي رجل حصيف بالسير فيها وحيدا بعد هبوط الظلام.» «أفضل يا دارسي أن أسمع الكلمات عينها التي نطق بها. لا بد أنها طبعت في ذهنك.»
كانت الكلمات قد طبعت في ذهنه بالطبع، وكرر دارسي ما كان قد سمعه. «لقد قال: «لقد قتلت أعز صديق لدي؛ صديقي الوحيد. هذا خطئي أنا.» ربما أكون قد خلطت بين ترتيب الكلمات لكن هذا هو فحوى ما سمعت.»
قال هاردكاسل: «إذن لدينا اعتراف؟» «بالكاد يعد اعترافا. لا يمكن أن نكون واثقين من الشيء الذي كان يعترف به، ولا من حالته التي كان فيها في تلك اللحظة.»
كانت العربة العتيقة الضخمة والمثيرة للإعجاب تقعقع الآن آتية عند زاوية المنزل. وقبل أن يركب فيها السير سيلوين، التفت إلى دارسي ليقول له كلمة أخيرة: «أنا لا أبحث عن التعقيدات. لقد عملنا معا كقضاة بضع سنوات، وأعتقد أننا يفهم بعضنا بعضا. وأنا واثق تماما من أنك تعرف واجباتك، كما أعرف أنا واجباتي. إنني رجل بسيط يا دارسي. إنني أميل إلى تصديق المرء حين يعترف، وهو ليس تحت الإكراه. لكننا سنرى، سنرى، ولا ينبغي لي أن أضع النظريات قبل رؤية الحقائق.»
وفي غضون دقائق كان جواد دارسي قد أحضر إليه، فامتطى صهوته وبدأت العربة تتحرك محدثة صوت قعقعة. وانطلق الرجلان في طريقهما.
الفصل الخامس
كانت الساعة الآن قد تخطت الحادية عشرة. ولم يكن لدى إليزابيث أي شك في أن السير سيلوين سيأتي إلى بيمبرلي بمجرد أن يسمع عن جريمة القتل، وفكرت أن تذهب لتطمئن على ويكهام. كان من المستبعد بشدة أن يكون مستيقظا، لكنها كانت تتوق لأن تطمئن بنفسها أن كل شيء على ما يرام.
لكن وعلى مسافة أربعة أقدام من الباب وقفت مترددة، وقد سيطرت عليها لحظة من لحظات إدراك الذات التي أجبرها الصدق مع الذات على تقبلها. كان سبب وجودها هنا أكثر تعقيدا وإقناعا من مجرد مسئوليتها كمضيفة، وربما كان ذلك السبب صعب التبرير. فلم يكن لدى إليزابيث أدنى شك أن السير سيلوين هاردكاسل سيضع ويكهام قيد الاعتقال، ولم يكن لديها أي نية أن تراه وقد اقتادته الشرطة وربما كان مقيدا بالأغلال. يمكن على الأقل أن تعفيه من هذه الإهانة. وكان من غير المرجح أن يتقابلا مرة أخرى بمجرد أن يغادر؛ لكن ما وجدت إليزابيث الآن أنه أمر لا يطاق هو احتمال أن تظل تلك الصورة الأخيرة عنه مطبوعة في ذهنها إلى الأبد، وهي صورة جورج ويكهام الشاب الوسيم المحبوب الظريف، وقد انحدر به الحال ليصبح شخصا سكيرا لحق به الخزي، ويصرخ بكلمات بذيئة بينما يوقظ ويجر على عتبة بيمبرلي.
تقدمت إليزابيث بخطوات حازمة، وطرقت على الباب. فتح بينجلي الباب ودهشت لرؤية جين والسيدة رينولدز في الغرفة تقفان بجوار الفراش. وعلى كرسي من الكراسي كان هناك وعاء به ماء، وقد تحول لون الماء فيه إلى الوردي بفعل الدماء، وبينما كانت تنظر، كانت السيدة رينولدز قد انتهت من تجفيف يدها بقطعة قماش علقتها على حافة الوعاء.
قالت جين: «ليديا لا تزال نائمة لكنني واثقة من أنها ستصر على المجيء للسيد ويكهام بمجرد أن تستيقظ ولم أرد لها أن تراه بنفس الحالة التي كان عليها حين أحضر إلى هنا. وهي لديها كل الحق في رؤية زوجها حتى ولو كان فاقدا للوعي، لكن سيكون من المريع جدا إن كان وجهه لا يزال مخضبا بدماء الكابتن ديني. ربما كان بعض ذلك الدم يعود له؛ فهناك خدشان على جبينه وبعض الخدوش على يده، لكنها خدوش طفيفة، وسببها على الأرجح هو محاولته شق طريق للخروج عبر الشجيرات.»
فكرت إليزابيث في مدى حكمة غسل وجه ويكهام. ألم يكن من المحتمل أن السير سيلوين سيتوقع حين يصل أن يرى ويكهام بالحالة نفسها التي كان عليها حين وجد جاثيا بجوار الجثة؟ لكنها لم تفاجأ من فعل جين ولا من وجود بينجلي لتقديم دعمه. فبالرغم مما تتحلى به أختها من الرقة والعذوبة، فإنها كانت تتحلى أيضا بعزم صميم، وبمجرد أن تقرر أن فعلا ما صائب فلن تثنيها أي حجة عن غايتها.
سألتها إليزابيث: «هل فحصه الدكتور ماكفي؟» «فحصه قبل نصف الساعة تقريبا، وسيفحصه ثانية إذا ما استيقظ. ويحدونا الأمل عند استيقاظه أن يكون قد هدأ، وأن يتناول شيئا من الطعام قبل أن يصل السير سيلوين، لكن الدكتور ماكفي يعتقد أن أرجحية ذلك بعيدة. فلم يتمكن الدكتور ماكفي من إقناع السيد ويكهام إلا بأن يتناول جرعة الدواء، لكن ونظرا إلى قوة ذلك الدواء، فإن الدكتور ماكفي اعتقد أنه كان كافيا لأن ينام بضع ساعات يستعيد خلالها عافيته.»
تحركت إليزابيث نحو الفراش، ووقفت تنظر إلى ويكهام. لا شك أن الدواء الذي أعطاه له الدكتور ماكفي كان فعالا، أما عن رائحة فمه القوية الكريهة، فقد اختفت وكان يغط في النوم كطفل بريء، وكانت أنفاسه خافتة جدا حتى إنه قد يبدو وكأنه ميت. وبعد أن نظف وجهه ونثر شعره على الوسادة وفتح قميصه، بحيث بدا خط حلقه الرقيق، بدا ويكهام الآن كفارس يافع جريح ومنهك بعد المعركة. وحيث كانت إليزابيث واقفة تحدق إليه، انتابتها دفقات من المشاعر. فقد عاد ذهنها كرها إلى ذكريات كانت مؤلمة جدا حتى إنها كانت تتذكرها بشيء من الاشمئزاز من نفسها. لقد كانت على شفا الوقوع في حبه. فهل كانت لتتزوج به لو كان ثريا وليس فقيرا؟ بالطبع لا، كانت تعرف الآن أن ما كانت تشعر به حينها لم يكن حبا. كان ذلك الشاب الوسيم الوافد جديدا ومحبوب ميرتون، وكانت كل فتاة مسلوبة العقل به، وقد سعى وراءها هي باعتبارها فتاته المفضلة. وقد صدقت هي مزاعمه - والأسوأ من ذلك أنها قصتها على جين - حول غدر دارسي به وتضييع كل فرص حياته وخيانته لصداقتهما، وتجاهله القاسي لمسئولياته تجاه ويكهام التي وضعها والد دارسي على عاتقه. ولم تدرك إليزابيث إلا لاحقا كيف أن تلك المزاعم - التي كشف عنها لشخص غريب نسبيا - لم تكن صحيحة.
كانت تنظر إليه الآن وتشعر بتجدد مشاعر الخزي والإهانة؛ لأنها كانت تفتقر إلى المنطق والبصيرة وكذلك إلى الفطنة في إدراك شخصيات الآخرين، وهي السمات التي كانت تفخر هي دوما بأنها تتحلى بها. لكن ظل يخالجها شيء ما؛ شعور أقرب إلى الشفقة جعلها مرعوبة من التفكير في كيف ستكون نهايته، وحتى الآن، وحيث كانت تعرف أسوأ ما يمكن أن يأتي ويكهام على فعله، لم تستطع أن تصدق أنه يمكن أن يكون قاتلا. لكن أيا كانت نتيجة ذلك، لقد أصبح ويكهام بزواجه من ليديا جزءا من العائلة ومن حياتها كما أصبح جزءا من حياة دارسي بزواجها هي منه. والآن كانت كل أفكارها حيال ويكهام تشوبها صور مرعبة؛ ذلك الحشد الصارخ يصمت فجأة حيث يخرج السجين المكبل بالأغلال من السجن، والمشنقة العالية وحبلها. كانت إليزابيث تريد إخراجه من حياتهم، لكن ليس بهذه الطريقة - بحق الرب، ليس بهذه الطريقة.
الجزء الثالث
الشرطة في بيمبرلي
الفصل الأول
حين توقفت عربة السير سيلوين عند المدخل الأمامي لمنزل بيمبرلي ومعها عربة المشرحة فتح ستاوتن الباب من فوره. وتأخر أحد السائسين قليلا في الوصول لأخذ جواد دارسي، الذي اتفق مع ستاوتن بعد محادثة قصيرة بينهما على أن عربة السير سيلوين ومعها عربة المشرحة لن تكونا ظاهرتين لأي شخص ينظر من النافذة إذا ما نقلتا من أمام المنزل، وأخذتا عبر الإسطبلات إلى الباحة الخلفية، ومن هناك يمكن لهم نقل جثة ديني في سرعة وسرية كما يأملون. وفكرت إليزابيث أن من الصواب أن تستقبل رسميا ذلك الضيف المتأخر المرحب به بالكاد، لكن السير سيلوين أوضح أنه كان حريصا على أن يبدأ العمل في الحال وتوقف فقط للانحناء أمام إليزابيث وتقديم التحية المعروفة والاعتذار المقتضب عن حضوره في وقت متأخر وعدم ملاءمة زيارته؛ وذلك قبل أن يعلن أنه سيباشر العمل برؤية ويكهام، وسيصحبه في ذلك الدكتور بيلشر والضابطان، توماس براونريج آمر البلدة والضابط الأحدث ميسون.
كان ويكهام تحت حراسة بينجلي وألفيستون، الذي فتح الباب عندما طرقه دارسي. كانت الغرفة مصممة لتكون غرفة حراسة. فكانت مفروشة بأثاث بسيط متناثر، يتألف من فراش واحد يقع تحت أحد النوافذ المرتفعة، وحوض ودولاب صغير وكرسيين خشبيين منتصبي الظهر. وأحضر كرسيان إضافيان مريحان بدرجة أكبر، فوضع كل واحد منهما على كل جانب من جانبي الباب لتوفير شيء من السهولة لأي شخص يتولى الحراسة أثناء الليل. أما الدكتور ماكفي الذي كان يجلس عند أحد جانبي الفراش فقد وقف عندما وصل هاردكاسل. كان السير سيلوين قد التقى بألفيستون في إحدى حفلات العشاء في هايمارتن، وكان بالطبع على معرفة بالدكتور ماكفي. فانحنى وأومأ تحية لهما، ثم تقدم نحو الفراش. وبعد أن نظر ألفيستون وبينجلي أحدهما إلى الآخر، أدركا أنه من المتوقع منهما أن يغادرا الغرفة، ومن ثم فقد غادرا في هدوء، في حين ظل دارسي واقفا غير بعيد. وأخذ براونريج وميسون موضعهما، كل على جانب الباب وراحا يحدقان أمامهما، وكأنهما يعلنان أن الغرفة ومسئولية الحراسة أصبحتا الآن تحت سلطتهما، رغم أن اضطلاعهما بدور فاعل أكثر في التحقيق لم يكن ملائما في الوقت الراهن.
كان الطبيب أوباديا بيلشر هو المستشار الطبي الذي يستدعيه المسئول الأعلى أو القاضي لمساعدتهم في التحقيق، وهو الأمر الذي لم يثر الدهشة بالنسبة
من وطأتها مظهره البائس. كان شعره الناعم الرقيق، كشعر الأطفال، أشقر اللون حتى كاد يتحول إلى الأبيض، وكان مسحوبا للخلف من جلد شاحب، وكان يرى العالم من خلال عينين ضيقتين مريبتين، تقعان تحت حاجبين رفيعين. كانت أصابعه طويلة وأظافره مشذبة بعناية، وكان رد الفعل السائد تجاهه قد عبر عنه طباخ هايمارتن ولخصه بقوله: «لن أسمح للطبيب بيلشر أن يضع يده علي. فمن يعرف أين كان يضعها قبل ذلك؟»
كما أن سمعته المشئومة تلك لم يخفف وطأتها امتلاكه لغرفة علوية صغيرة مجهزة بتجهيزات مختبر، سادت الشائعات بأنه كان يجري فيها تجارب عن الوقت الذي يستغرقه الدم في التخثر في ظل ظروف مختلفة، وكذلك عن سرعة التغيرات التي تحدث في الجسد بعد الوفاة. وعلى الرغم من أنه كان يمارس الطب عموما بصورة اسمية، فقد كان لديه اثنان من المرضى فقط، وهما المسئول الأعلى والسير سيلوين هاردكاسل، وحيث لم يكن من المعروف عنهما أنهما يمرضان، فإن مكانتهما لم تساعد في تحسين سمعته كطبيب. كان السير سيلوين وآخرون من المعنيين بتطبيق القانون يضعونه في مكانة عالية، حيث كان الطبيب يدلي في المحكمة برأيه كرجل طب مخول بسلطة. وكان من المعروف عنه أنه على صلة بالجمعية الملكية كما كان يتبادل الخطابات مع رجال آخرين منخرطين في التجارب العلمية، وفي العموم كان أكثر جيرانه علما فخورين بسمعته الشهيرة أكثر من خوفهم من الانفجارات الصغيرة العرضية التي كانت تهز أرجاء مختبره من آن لآخر. وكان الطبيب نادرا ما يتحدث إلا بعد تفكير عميق من جانبه، والآن اقترب الطبيب من الفراش ووقف ينظر في صمت إلى الرجل النائم.
كانت أنفاس ويكهام خافتة للغاية حتى إنه كان يمكن سماعها بالكاد، وكانت شفتاه متباعدتين قليلا. وكان يرقد على ظهره وذراعه اليسرى ممددة للخارج، وذراعه اليمنى متقوسة على الوسادة.
التفت هاردكاسل إلى دارسي. وقال: «من الواضح، حسبما فهمت من شرحك، أنه ليس في الحالة التي كان عليها حين أحضر إلى هنا. لقد قام شخص ما بتنظيف وجهه.»
ساد الصمت مدة ثانيتين، ثم نظر دارسي في عيني هاردكاسل وقال: «أتحمل مسئولية كل ما حدث منذ أحضر السيد ويكهام إلى منزلي.»
وكان رد هاردكاسل مدهشا. فقد ارتعشت شفتاه العريضتان إلى ما يمكن أن يعتبر - بالنسبة إلى أي رجل آخر - ابتسامة تنم عن التسامح. وقال: «تلك شهامة منك يا دارسي، لكن أظن أنه بإمكاننا أن نتصور أن السيدات هن من فعلن هذا. أليست هذه هي وظيفتهن التي يعرفنها؛ أن ينظفن الفوضى التي نخلفها في منازلنا وفي حياتنا في بعض الأحيان؟ على أي حال، سيكون هناك من الأدلة من جهة الخدم ما يكفي حول الحالة التي كان عليها ويكهام حين أحضر إلى المنزل. ولا يبدو أن هناك علامات واضحة تشير إلى جروح في جسده، عدا خدوش بسيطة على جبهته ويده. إذن فلا بد أن غالبية الدماء التي كانت على وجهه ويده تعود إلى الكابتن ديني.»
ثم التفت إلى بيلشر. وقال: «أعتقد يا بيلشر أن أصدقاءك العلماء المهرة لم يكتشفوا بعد طريقة للتمييز بين دماء رجل وآخر؟ إننا نرحب بمساعدتهم في هذا الشأن رغم أن ذلك بالطبع سيحرمني من وظيفتي، وسيجرد براونريج وميسون من عملهما.» «لا أسف على ذلك أيها السير سيلوين. فنحن لا نطمح لأن نضاهي الآلهة في علومنا.» «أحقا؟ يسعدني سماع ذلك. كنت أظن أن هذا مطمحكم.» وكما لو أنه أدرك بأن المحادثة أصبحت غير ملائمة للموقف، التفت هاردكاسل إلى الدكتور ماكفي وقال بنبرة آمرة حادة. «ماذا أعطيته؟ يبدو كأنه فاقد للوعي، وليس نائما. ألم تعلم أن هذا الرجل قد يكون هو المشتبه به الرئيسي في تحقيق عن جريمة قتل، وأنني سأرغب في التحقيق معه؟»
قال ماكفي بنبرة هادئة: «بالنسبة إلي هو مجرد مريض. لم يكن لدي شك أنه كان مخمورا حين رأيته للمرة الأولى، كما كان عدوانيا ومن الصعب السيطرة عليه. وفيما بعد، وقبل أن يسري مفعول العقار الذي أعطيته إياه، كان قد أصبح مشوشا وغير متماسك من الخوف، فكان يصيح من الفزع، لكن صياحه لم يكن مفهوما. ومن الواضح أنه كان يحلم بجثث تتدلى من المشانق ولها أعناق ممطوطة. كان الرجل يعاني كابوسا قبل أن يخلد حتى إلى النوم.»
قال هاردكاسل: «مشانق؟ لا يدهشني سماع هذا بالنظر إلى موقفه. ماذا كان العقار الذي أعطيته إياه؟ أظن أنه كان مهدئا من نوع ما.» «إنه مهدئ أخلط مكوناته بنفسي وقد استخدمته من قبل في عدد من الحالات. لقد أقنعته بأن يتناوله من أجل أن يخفف عنه وطأة الحزن والقلق. لم يكن هناك أمل أن تستخرج منه أي شيء منطقي وهو في تلك الحالة.» «ولا في حالته الآن. في اعتقادك كم سيمر عليه قبل أن يستيقظ ويصبح واعيا من أجل التحقيق معه؟» «من الصعب تحديد هذا. فالعقل في بعض الأحيان وبعد التعرض للصدمة يتخذ ملجأ له في فقدان الوعي، ويكون النوم عميقا ولفترة طويلة. لكن وبالنظر إلى الجرعة التي أعطيته إياها، من المفترض أن يستيقظ بحلول التاسعة من صباح الغد، وربما استيقظ قبل ذلك، لكن لا يمكن أن أكون دقيقا، فقد وجدت صعوبة في إقناعه أن يتناول عدة رشفات. وبعد موافقة السيد دارسي، أقترح أن أمكث في المنزل حتى يستعيد مريضي وعيه. فالسيدة ويكهام أيضا تخضع لإشرافي ورعايتي.» «ولا شك أيضا أنك أعطيتها مهدئا، وأنها غير قادرة على الخضوع للتحقيق؟» «كانت السيدة ويكهام مصابة بالهستيريا بفعل الصدمة. لقد أقنعت نفسها أن زوجها قد قتل. كنت أعتني بامرأة منزعجة من شدة الحزن، وكانت في حاجة إلى الراحة من خلال أخذ قسط من النوم. لم يكن في مقدورك أن تسألها عن أي شيء حتى تصبح أكثر هدوءا.» «كنت لأحصل منها على الحقيقة. أعتقد بأننا يفهم بعضنا بعضا أيها الطبيب. أنت لديك مسئولياتك ولدي أنا مسئولياتي. وأنا لست برجل غير واقعي. وليس لدي أي رغبة في إزعاج السيد ويكهام حتى الصباح.» ثم التفت إلى بيلشر. وقال: «ألديك أي ملاحظات تبديها يا بيلشر؟» «لا أيها السير سيلوين، عدا أنني أتفق مع فعل الدكتور ماكفي فيما يتعلق بإعطاء ويكهام عقارا مهدئا. ففي الحالة التي وصفت لنا عنه، لم يكن بمقدورنا أن نستجوبه، وإن كان قد قدم للمحاكمة فيما بعد، فإن أي شيء قاله كان سيطعن فيه أمام المحكمة.»
ثم التفت هاردكاسل إلى دارسي. وقال: «إذن سأعود عند التاسعة من صباح الغد. وحتى ذلك الحين، سيتولى آمر البلدة براونريج والضابط ميسون مسئولية حراسة الغرفة وستئول إليهما مفاتيحها. وإن تطلب الأمر من الدكتور ماكفي رعاية ويكهام فسيستدعونه، وفيما عدا ذلك فلن يدخل أحد هذه الغرفة حتى عودتي. سيحتاج الضباط إلى أغطية وإلى بعض الطعام والشراب كعون لهم؛ كاللحم المجمد والخبز، كالمعتاد.»
قال دارسي باقتضاب: «سيحضر كل ما يلزم.»
حينها بدا أن هاردكاسل يلاحظ للمرة الأولى معطف ويكهام الكبير وهو ملقى على أحد الكراسي والحقيبة الجلدية الخاصة به على الأرض بجوار الكرسي. «هل هذه هي الأمتعة التي كانت في العربة؟»
قال دارسي: «عدا صندوق للملابس وصندوق للقبعات وحقيبة أخرى تعود للسيدة ويكهام، كانت هناك حقيبتان أخريان، إحداهما تحمل الحرفين ج. والثانية تحمل اسم الكابتن ديني. وكما أخبرني برات فإن العربة كانت مستأجرة لتوصيل الرجلين إلى كينجز آرمز في لامتون، وقد تركت الحقائب في العربة حتى عدنا بجثة الكابتن ديني، وحينها أدخلت الحقائب إلى المنزل.»
قال هاردكاسل: «سنحتاج إلى أن نتسلم هذه الحقائب بالطبع. سأصادر كافة الحقائب عدا تلك التي تعود إلى السيدة ويكهام. وفي غضون ذلك، لننظر ماذا كان يحمل معه.»
وأمسك هاردكاسل بمعطف ويكهام الكبير وراح يهزه بقوة. فتناثرت منه ثلاث ورقات شجر جافة، ورأى دارسي أنه كانت هناك بضع ورقات أخرى متعلقة بأكمامه. سلم هاردكاسل المعطف إلى ميسون ودس يده في جيوبه. ومن الجيب الأيسر له أخرج الأشياء الصغيرة العادية التي من المتوقع لمسافر أن يحملها معه؛ قلم رصاص، ودفترا صغيرا ليس به أي مدخلات، ومنديلين، وزجاجة قال هاردكاسل بعد أن أزال غطاءها إنها كانت تحتوي على الويسكي. أما الجيب الأيمن فأخرج شيئا أكثر إثارة؛ وهو محفظة جيب جلدية. وبعد أن فتحها، سحب هاردكاسل منها رزمة من النقود مطوية بعناية، فعدها. «30 جنيها تحديدا. من الواضح أن النقود جديدة، أو على الأقل مطبوعة حديثا. سأعطيك إيصالا بها يا دارسي، حتى نعرف من هو مالكها الحقيقي. سأضع المال في خزنتي الليلة. وربما أحصل في الصباح على تفسير لكيفية وصول هذا المبلغ إليه. أحد الاحتمالات يقول إنه أخذ النقود من جثة ديني، وإن كان هذا صحيحا فقد يكون لدينا دافع هنا.»
فغر دارسي فاه كي يبدي اعتراضه، لكنه قرر أنه سيزيد الأمور سوءا بهذه الطريقة، فلم يقل شيئا.
قال هاردكاسل: «والآن أطلب أن أرى الجثة. أعتقد أنها تحت الحراسة؟»
قال دارسي: «ليست تحت الحراسة. إن جثة الكابتن ديني في غرفة السلاح، وباب تلك الغرفة موصد. بدت الطاولة في تلك الغرفة ملائمة لوضع الجثة. ولدي في حوزتي مفاتيح الغرفة والدولاب الذي يحتوي على السلاح والذخيرة؛ ومن ثم فلم تكن هناك حاجة إلى وضع حارس على الغرفة. يمكننا الذهاب الآن. وإن لم يكن لديك اعتراض على ذلك، فإنني أرغب أن يكون الدكتور ماكفي بصحبتنا. فقد تجد أن رأيا ثانيا عن حالة الجثة يمثل أفضلية.»
وبعد أن تردد للحظة، قال هاردكاسل: «ليس لدي أي اعتراض. ولا شك أنك سترغب في أن تحضر بنفسك، وسأحتاج أنا إلى الدكتور بيلشر وآمر البلدة براونريج، لكن لن يكون من الضروري وجود أحد آخر. فنحن لا نريد أن نجعل الجثة عرضا علنيا للكثيرين. لكننا بالطبع سنحتاج إلى الكثير من الشموع.»
قال دارسي: «لقد توقعت ذلك. وقد وضع المزيد من الشموع في غرفة السلاح وهي جاهزة لإشعالها. وأعتقد أنك ستجد أن الإضاءة كافية بقدر ما يمكن أثناء الليل.»
قال هاردكاسل: «أريد شخصا ليحرس هذه الغرفة مع ميسون حين يغيب بروانريج. سيكون ستاوتن خيارا مناسبا. أيمكنك أن تستدعيه يا دارسي؟»
كان ستاوتن ينتظر بالقرب من الباب كما لو كان يتوقع أن يستدعى. دخل ستاوتن الغرفة ووقف صامتا بجوار ميسون. وبعد أن أخذوا الشمع في يدهم، غادر هاردكاسل وبقية الرجال، وسمع دارسي صوت المفتاح وهو يوصد الباب خلفهم.
كان المنزل في غاية الهدوء كما لو كان مهجورا. كانت السيدة رينولدز قد صرفت كل الخدم الذين يعملون في إعداد الطعام للغد إلى أسرتهم، ولم يتبق في الخدمة سواها وستاوتن وبيلتون. وكانت السيدة رينولدز تنتظر في الردهة بجوار طاولة تحمل مجموعة من الشموع الجديدة في شمعدان فضي طويل. وقد أضيئت أربع شمعات منها، فكان لهبها الذي يشتعل بثبات يبرز ظلمة بهو المدخل الكبير أكثر مما ينيرها.
قالت السيدة رينولدز: «قد يكون هناك من الشمع أكثر مما ستكونون في حاجة إليه، لكنني فكرت أنكم قد تكونون في حاجة إلى مزيد من الإضاءة.»
أخذ كل رجل منهم شمعة جديدة وأشعلها. وقال هاردكاسل: «اتركوا الشموع الأخرى في مكانها للوقت الراهن. سيحضرها الضابط إن احتجنا إليها.» ثم التفت إلى دارسي. وقال: «قلت إن مفاتيح غرفة السلاح في حوزتك، وإنك وضعت فيها كمية مناسبة من الشموع؟» «هناك 14 شمعة بالفعل أيها السير سيلوين. لقد وضعتها بنفسي. ولم يدخل أحد إلى غرفة السلاح منذ وضعت جثة الكابتن ديني فيها.» «فلنبدأ إذن. فكلما بكرنا في فحص الجثة كان أفضل.»
كان دارسي يشعر بالارتياح أن قبل هاردكاسل حضوره. فقد أحضرت ديني إلى بيمبرلي، وكان من الملائم أن يكون سيد المنزل حاضرا حين تفحص الجثة، رغم أنه لم يعرف كيف يكون مفيدا لهم بأي شكل من الأشكال. قاد دارسي الموكب المستنير بالشمع نحو الجزء الخلفي من المنزل، وأخرج مفتاحين كانا في حلقة في جيبه، أخذ المفتاح الأكبر منهما ليفتح غرفة السلاح. كانت الغرفة كبيرة جدا وبها صور لحفلات صيد قديمة، وللغنائم فيها، وكان بها رف يحتوي على سجلات مصنوعة من الجلد الزاهي، تعود على أقل تقدير إلى قرن مضى، وكان بها أيضا مكتب من خشب الماهوجني وكرسي ودولاب موصد يحتوي على الأسلحة والذخيرة. وكان واضحا أن الطاولة الطويلة قد أزيحت من جوار الجدار، ووضعت في منتصف الغرفة، ووضعت الجثة عليها وغطيت بغطاء نظيف.
وقبل أن ينطلق دارسي ليبلغ السير سيلوين بمقتل ديني، كان قد أمر ستاوتن بأن يأتي بشمعدانات متساوية في الحجم وشموع طويلة من أفضل نوع، وكان يعرف أن تلك المغالاة ستكون سببا للتذمر بين ستاوتن والسيدة رينولدز. فتلك الشموع كانت مخصصة لغرض إضاءة غرفة الطعام. ووضع دارسي وستاوتن الشموع في صفين على الطاولة، وكان يحمل دارسي الثقاب في يده. والآن أشعل دارسي الشموع، وحيث كان لهب الثقاب يلامس طرف الشمعة، كانت الغرفة تضاء أكثر، فأسبغ الضوء على الوجوه الناظرة وهجا دافئا جعل ملامح هاردكاسل الحادة القوية تبدو دمثة، وبينما كان الدخان يتصاعد من الشمع كدخان البخور، ذابت رائحته الطيبة المؤقتة في رائحة شمع العسل. وبدا لدارسي أن الطاولة بصفوف الشموع المتلألئة عليها قد تحولت إلى مذبح مبالغ في زخرفته، وأن حجرة السلاح بأثاثها القليل تحولت إلى كنيسة صغيرة، وأن خمستهم كانوا يؤدون مراسم الجنازة لديانة غريبة وشاقة.
وفيما كان الرجال يقفون حول الطاولة وكأنهم مساعدون للكاهن، أزاح هاردكاسل الغطاء. كانت عين ديني اليمنى سوداء من الدم الذي لطخ جزءا كبيرا من وجهه، لكن العين اليسرى كانت مفتوحة تماما، وكان بؤبؤها مقلوبا إلى الأعلى بحيث شعر دارسي - الذي كان يقف خلف رأس ديني - أنها كانت تحدق إليه، لكن ليس بالتبلد الناتج عن الموت، وإنما كانت تحمل في نظرتها البغيضة كثيرا من اللوم والتأنيب.
وضع الدكتور بيلشر يده على وجه ديني وذراعيه وساقيه ثم قال: «تيبس الجثة واضح بالفعل على الوجه. وفي تقديري المبدئي، أقول إنه مات قبل خمس ساعات أو نحو ذلك.»
قام هاردكاسل ببعض الحسابات البسيطة ثم قال: «هذا يؤكد ما تكهناه بالفعل، وهو أنه مات بعد أن غادر العربة بمدة قصيرة، وعلى وجه التقدير في الوقت نفسه الذي دوى فيه صوت الطلقات. لقد قتل بحلول التاسعة من مساء أمس. لكن ماذا عن الجرح؟»
اقترب الدكتور بيلشر والدكتور ماكفي من الجثة، وأعطيا الشموع التي كانا يمسكان بها لبراونريج الذي وضع شمعته على الطاولة، ورفع الشموع التي أخذها عاليا بينما كان الطبيبان يحدقان عن قرب إلى بقعة الدم الداكنة.
قال الدكتور بيلشر: «نحن في حاجة إلى تنظيف ذلك قبل أن نتحقق من عمق الجرح، وقبل أن نفعل ذلك، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار كسرة ورقة الشجر الجافة ومسحة الوحل اللتين فوق منبع الدم. لا بد أنه سقط على وجهه في وقت ما بعد أن أصيب بالجرح. أين الماء؟» ثم نظر حوله وكأنه كان يتوقع أن يخرج الماء من الأرض.
أطل دارسي برأسه من الباب وأمر السيدة رينولدز أن تحضر وعاء من الماء وبعض المناشف الصغيرة. وقد أحضرت بسرعة حتى إن دارسي اعتقد أنها كانت تتوقع هذا الطلب وأنها كانت تنتظر عند الصنبور في حجرة حفظ المعاطف المجاورة. أعطت السيدة رينولدز الوعاء والمناشف إلى دارسي من دون أن تدخل الغرفة، وتوجه الدكتور بيلشر إلى حقيبة أدواته، وأخرج منها كرات صغيرة من الصوف الأبيض، وراح يمسح الجلد لينظفه، ثم ألقى بالصوف المخضب بالدم في الماء. وتناوب هو والدكتور ماكفي على النظر عن قرب إلى الجرح، ثم لمسا الجلد حوله مرة أخرى.
وكان الدكتور بيلشر هو الذي تحدث في النهاية. فقال: «لقد ضرب بشيء صلب، مستدير الشكل غالبا، لكن بما أن الجلد قد انسحق فلا يمكنني أن أكون دقيقا بشأن شكل وحجم السلاح المستخدم. لكن ما أنا واثق بشأنه هو أن الضربة لم تقتله. لقد نتج عنها إراقة كمية كبيرة من الدماء، كما يحدث دائما في إصابات الرأس، لكن الضربة لم تكن قاتلة. ولا أدري إن كان زميلي يوافقني الرأي.»
أخذ الطبيب وقته في نخز الجلد حول الجرح، ثم بعد دقيقة تقريبا قال: «أتفق معك. الجرح سطحي.»
فجاء صوت هاردكاسل الجهير يكسر الصمت. وقال: «إذن فلنقلبه.»
كان ديني ثقيل الجثة، لكن تمكن براونريج بمساعدة الدكتور ماكفي من قلبه بحركة واحدة. فقال هاردكاسل: «المزيد من الإضاءة من فضلكم.» فتحرك دارسي وبراونريج إلى الطاولة وأمسك كل منهما بمجموعة من الشموع، واقتربا من الجثة وهما يحملان شمعة في كل يد. وساد الصمت وكأن أحدا من الحضور لم يرد أن يقول ما هو واضح. ثم قال هاردكاسل: «هاكم أيها السادة، هذا هو سبب الوفاة.»
رأى الحضور جرحا عميقا طوله يبلغ أربع بوصات، ويمتد عبر الجزء السفلي من الجمجمة، لكن طوله الكامل محجوب بفعل خصلات الشعر الذي دخل بعضه في الجرح. توجه الدكتور بيلشر إلى حقيبته وعاد ومعه ما بدا أنه سكين فضي صغير، ورفع الشعر بحذر عن الجمجمة، فتكشف لهم جرح غائر عرضه ربع بوصة تقريبا. وكان الشعر تحت الجرح متيبسا ومتشابكا، لكن كان من الصعب رؤية ما إذا كان سبب ذلك هو الدم أو نضحا من الجرح. راح دارسي ينظر بتركيز أكبر، لكن تسبب شيء من الرعب والشفقة في ارتفاع الغثيان إلى حلقه. ثم جاء صوت أشبه بتأوه لا إرادي، وتساءل إن كان هو من فعل ذلك أو شخص آخر.
انكب كلا الطبيبين على الجثة. استغرق الدكتور بيلشر وقتا طويلا مرة أخرى ثم قال: «لقد ضرب بهراوة لكن ليس هناك تمزق في الجرح، الأمر الذي يدل على أن السلاح كان ثقيلا لكنه كان ذا حافة مصقولة. الجرح مشابه لجروح الرأس البليغة التي تكون فيها خصلات من الشعر والأنسجة والأوعية الدموية مغروزة في العظم، لكن وحتى لو ظلت الجمجمة سليمة، فإن نزيف الدم النابع من الأوعية الدموية تحت العظم يتسبب في حالة نزيف داخلي بين الجمجمة والغشاء الذي يغطي المخ. كانت الضربة قوية للغاية، إما من مهاجم أطول قامة من الضحية، أو مساو له في الطول. وفي رأيي أن المهاجم كان يستخدم يده اليمنى وأن السلاح كان أشبه بالجهة الخلفية لفأس؛ أي إن السلاح كان ثقيلا ومصقولا. ولو كان الضحية قد أصيب بنصل فأس أو سيف، لكان الجرح غائرا أكثر، ولكادت الرأس أن تفصل عن الجسد.»
قال هاردكاسل: «إذن هاجم القاتل ضحيته من الأمام أولا، مما تسبب في إضعافه، ثم حين ترنح الضحية مبتعدا عنه وقد أعماه الدم - الذي حاول بصورة غريزية أن يمحوه عن عينيه - هاجمه القاتل مرة أخرى، لكن من الخلف هذه المرة. هل من الوارد أن السلاح كان حجرا له حافة حادة؟»
قال بيلشر: «ليس ذا حافة حادة، فالجرح ليس ممزقا. من الوارد بشدة أن السلاح كان حجرا ثقيلا، لكن ذا حافة مصقولة، ولا شك أنه كانت هناك بعض الأحجار المشابهة لذلك الحجر في الغابة . ألا يتم إحضار الأحجار والخشب المستخدم في إصلاحات المنزل من ذلك الطريق؟ من الممكن أن بعض الأحجار وقعت من عربة ما، ثم أزيحت بعد ذلك تحت الشجيرات، وأغلب الظن أنها ظلت في مكانها ذلك لسنوات. لكن لو كان السلاح حجرا، فإن الأمر يحتاج إلى رجل شديد القوة ليقوم بمثل هذه الضربة. من المرجح أكثر أن الضحية سقط على وجهه وأن القاتل انهال على رأسه بالحجر بقوة فيما كان الضحية يرقد منبطحا وعاجزا.»
فسأله هاردكاسل: «كم المدة التي يمكن أن يكون قد ظل فيها على قيد الحياة وهو مصاب بهذا الجرح؟» «من الصعب تحديد ذلك. ربما لقي حتفه في غضون ثوان من الإصابة، لكن لا شك أنه لم يبق على قيد الحياة طويلا.»
ثم التفت إلى الدكتور ماكفي الذي قال: «مرت علي حالات تسبب فيها السقوط على الرأس في أعراض أخرى غير الصداع، وقد قام المصاب بمواصلة شئون حياته ليموت بعد ذلك بساعات قليلة. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو ما حدث في هذه الحالة. فالجرح غائر جدا، ولا يمكن النجاة منه سوى مدة قصيرة للغاية، إن كانت النجاة منه ممكنة.»
اقترب الدكتور بيلشر برأسه من الجثة أكثر. وقال: «سأكون قادرا على معرفة الضرر الذي أصاب الدماغ حين أقوم بتشريح الجثة.»
كان دارسي يعلم أن هاردكاسل يبغض تشريح الجثة، ورغم أن الطبيب بيلشر ربح الجدال حين تنازعا حول ذلك، قال هاردكاسل: «هل سيكون ذلك ضروريا حقا يا بيلشر؟ أليس سبب الوفاة واضحا لنا جميعا؟ يبدو أن ما حدث هو أن المهاجم وجه الضربة الأولى إلى جبهة الضحية حين كان يقف في مواجهته. ثم حاول الكابتن ديني - الذي أعماه الدم - أن يهرب ليتلقى الضربة القاتلة من الخلف. ونعرف من الوحل على وجهه أنه سقط على وجهه. وأعتقد يا دارسي أنك حين أبلغتني بالجريمة وجدته على ظهره.» «أجل أيها السير سيلوين، وبهذا رفعناه على النقالة. وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الجرح.»
ساد الصمت مرة أخرى، ثم وجه هاردكاسل حديثه إلى بيلشر. «شكرا لك أيها الطبيب. بالطبع ستقوم بأي فحص للجثة قد تجد أنه ضروري؛ فليس لدي أي رغبة في كبح تقدم المعرفة العلمية. لقد فعلنا كل ما يمكننا فعله هنا. سننقل الجثة الآن.» ثم التفت إلى دارسي. وقال: «سأحضر في تمام التاسعة من صباح الغد وآمل حينها أن أتحدث إلى جورج ويكهام، وإلى أفراد الأسرة والخدم، وذلك حتى نرسخ لحجج الغياب في وقت وقوع الجريمة. وأنا واثق من أنك ستتقبل ضرورة ذلك. وكما أمرت، سيظل آمر البلدة براونريج والضابط ميسون في الخدمة، وسيكونان مسئولين عن حراسة ويكهام. وستظل الحجرة موصدة من الداخل ولن يسمح لأحد بالدخول إلا في حالة الضرورة. وسيكون هناك اثنان من الحراس في أي وقت من الأوقات. أريد منك أن تؤكد لي الامتثال لهذه الأوامر.»
قال دارسي: «سيمتثل لها بالطبع. أيمكنني أن أقدم لك أو للدكتور بيلشر أي مرطبات قبل أن تغادرا؟» «لا، شكرا لك.» ثم أضاف وكأنه أدرك أنه يجب أن يضيف شيئا: «أشعر بالأسف على وقوع هذه المأساة على أرضك. لا شك أنها ستكون مصدر إزعاج؛ خصوصا لسيدات العائلة. وحقيقة أنك وويكهام لم تكونا على وفاق ستجعل من الصعب تحمل هذه المأساة. وبصفتك قاضيا زميلا لي ستتفهم مسئوليتي بخصوص هذا الشأن. وسأرسل رسالة إلى قاضي التحقيق، وآمل أن تعقد جلسات التحقيق في لامتون في غضون الأيام القليلة القادمة. ستكون هناك هيئة محلفين محليين. وسيطلب منك الحضور بالطبع مع الشهود الآخرين الذين شهدوا العثور على الجثة.» «سأكون حاضرا أيها السير سيلوين.»
قال هاردكاسل: «سأحتاج إلى أحد يساعد في حمل النقالة لنقل الضحية إلى عربة المشرحة.» ثم التفت إلى براونريج. وقال: «أيمكنك أن تضطلع بمسئولية حراسة ويكهام وترسل ستاوتن إلى هنا؟ بما أنك هنا أيها الدكتور ماكفي وترغب في تقديم المساعدة، فمن الممكن أن تساعدنا في نقل الجثة.»
وفي غضون خمس دقائق، حملت جثة ديني من غرفة السلاح - وكان الدكتور ماكفي يلهث أثناء ذلك - ووضعت في عربة المشرحة. ثم أوقظ السائق، وعاد السير سيلوين والدكتور بيلشر إلى العربة، ووقف دارسي وستاوتن ينتظران عند الباب المفتوح، حتى تحركت العربات مقعقعة وغابت عن الأنظار.
وحيث كان ستاوتن يلتفت ليدخل المنزل، قال دارسي: «أعطني المفاتيح يا ستاوتن. سأوصد أنا الأقفال. أريد أن أستنشق بعض الهواء العليل.»
كانت الرياح قد هدأت الآن، لكن قطرات المطر الكبيرة الثقيلة كانت تتساقط على سطح النهر الأجوف تحت ضوء القمر المكتمل. كم مرة وقف فيها هنا وحيدا ليهرب من غرفة الموسيقى بلغوها وموسيقاها لدقائق قليلة. والآن، كان المنزل خلفه صامتا وقاتما، وذلك المشهد البديع الذي كان يجد فيه دوما السلوان والسكينة لم يعد بإمكانه أن يؤثر في نفسه. لا بد أن إليزابيث قد خلدت إلى الفراش، لكنه يشك أنها نائمة. كان دارسي في حاجة إلى الراحة التي يشعر بها في وجودها، لكنه يعرف أنها لا بد أن تكون منهكة، ولم يكن ليوقظها حتى ولو كان في أشد احتياج إلى سماع صوتها والشعور بحبها وطمأنتها له. لكنه حين دخل المنزل وأدار المفاتيح فيه، ومط جسده ليوصد المزاليج الثقيلة، شعر بضوء خافت آت من خلفه، وحين التفت وجد إليزابيث تنزل على الدرج ممسكة بشمعة في يدها، وتتجه نحو ذراعيه.
وبعد عدة دقائق من تنعمهما بالسعادة أثناء صمتهما، حررت إليزابيث نفسها من بين ذراعيه بحركة لطيفة وقالت: «عزيزي، لم تتناول شيئا من الطعام منذ العشاء وتبدو منهكا. لا بد أن تتزود ببعض الطعام لما تبقى من الليل. الكولونيل وتشارلز هنا بالفعل.»
لكنه حرم من سعادة التنعم بالفراش وكذلك حضن إليزابيث. ففي غرفة الطعام الصغيرة وجد بينجلي والكولونيل قد تناولا الطعام بالفعل، وأن الكولونيل كان عازما على تولي زمام الأمور مرة أخرى.
قال الكولونيل: «أقترح يا دارسي أن أقضي الليلة في حجرة المكتبة، وهي قريبة بما يكفي من الباب الأمامي بما يسمح لي أن أحرص على تأمين المنزل. وقد سمحت لنفسي أن آمر السيدة رينولدز بإحضار الوسائد وبعض الأغطية. وليس من الضروري لك أن تنضم إلي، إن كنت في حاجة إلى الحصول على قدر أكبر من الارتياح في فراشك.»
فكر دارسي أن الاحتياط من خلال البقاء بجوار الباب الأمامي الموصد ليس ضروريا، لكنه لم يكن ليسمح بأن ينام ضيف له قلقا، في حين يتنعم هو في فراشه. وحين شعر أنه لم يكن أمامه خيار آخر، قال: «لا يمكنني أن أفترض أن من قتل ديني سيتسم بالجرأة أو التهور، ويهاجم منزل بيمبرلي، لكنني سأنضم إليك بالطبع.»
قالت إليزابيث: «السيدة بينجلي نائمة على الأريكة في غرفة السيدة ويكهام، وستكون بيلتون مناوبة، كما سأكون أنا في مناوبة بعدها. سأحرص على أن يكون كل شيء على ما يرام هناك قبل أن أخلد إلى النوم. ولا يسعني سوى أن أتمنى لكما ليلة هادئة وقسطا جيدا من النوم. وحيث إن السير سيلوين هاردكاسل سيكون هنا بحلول التاسعة صباحا، فسأطلب أن يحضر طعام الإفطار مبكرا. أما الآن فطابت ليلتكما.»
الفصل الثاني
حين دخل دارسي إلى غرفة المكتبة، وجد أن ستاوتن والسيدة رينولدز قد بذلا ما بوسعهما ليحصل هو والكولونيل على أقصى قدر من الراحة. زودت النار مجددا بالفحم، وغلفت بضع قطع من الفحم في الورق من أجل إضافة الهدوء، وكان الخشب المضاف موضوعا في الموقد وجاهزا للاستخدام، وكذلك كان هناك الكثير من الوسائد والأغطية. وعلى طاولة مستديرة تبعد عن النار بعض الشيء كان هناك صحن مغطى يحتوي على فطائر متبلة، وأباريق من النبيذ والماء وبعض الأطباق والأكواب والمناديل.
وكان دارسي يعتقد في قرارة نفسه أنه لم يكن هناك داع للسهر والحراسة. حيث كان الباب الأمامي لمنزل بيمبرلي موصدا بأقفال ومزاليج مزدوجة، وحتى لو كان ديني قد قتل على يد غريب - ربما كان شخصا فارا من الجيش شعر بالخطر، فاستجاب إلى ذلك بعنف قاتل - فإن هذا الغريب بالكاد يشكل خطرا أو تهديدا على منزل بيمبرلي، أو على أي أحد فيه. وكان دارسي يشعر بالتعب والقلق، فكان في حالة من الاضطراب كان النوم فيها - حتى ولو كان ممكنا - سيبدو كتنصل من المسئولية من جانبه. وكان ما يشغل ذهن دارسي هو هاجسا يراوده بأن هناك خطرا ما يتهدد بيمبرلي ولكنه غير قادر على تشكيل أي فكرة منطقية عن ماهية ذلك الخطر. وكان حصوله على سنة من النوم في أحد الكراسي ذات الأذرع في غرفة المكتبة بصحبة الكولونيل سيعطيه قسطا جيدا من الراحة لما تبقى من الليل.
وحيث استقر الرجلان في كرسيين عاليين ومبطنين تبطينا مريحا - حيث جلس الكولونيل في الكرسي القريب من النار في حين جلس دارسي في الكرسي البعيد عنها قليلا - واتته فكرة أن ابن عمه ربما اقترح هذه السهرة؛ لأنه كان لديه شيء يسر به إليه. فلم يسأله أحد عن انطلاقه على صهوة جواده قبل الساعة التاسعة، وكان يعلم أن إليزابيث وبينجلي وجين كانوا يتوقعون منه - كما يتوقع هو نفسه - أن يقدم لهم تفسيرا لذلك. ولم يقدم هذا التفسير بعد لأن هناك حساسية معينة تمنع طرح سؤال في هذا الشأن، لكن هذه الحساسية لن تمنع هاردكاسل من السؤال حين يعود؛ ولا بد لفيتزويليام أن يعلم أنه العضو الوحيد في العائلة والضيوف الذي لم يقدم بعد حجة غيابه. ولم يفكر دارسي قط ولو للحظة واحدة أن الكولونيل متورط في مقتل ديني، لكن صمت ابن عمه كان باعثا على القلق، وما كان أكثر إثارة للدهشة بالنسبة إلى رجل يتسم بهذا الطابع الرسمي أن صمته هذا كان فظا.
ومما أثار دهشة دارسي أنه وجد أنه يشعر بالنعاس بصورة أسرع مما كان يتوقع، وكان يبذل جهدا من أجل الإجابة فقط على الكلام العادي الذي كان يسمعه وكأنه آت من مكان بعيد. وكان يمر ببعض لحظات النعاس والغفوة بينما كان يتقلب في كرسيه، ويحاول عقله أن يستوعب مكانه. وكان دارسي ينظر إلى الكولونيل الممدد في الكرسي أمامه بنظرات سريعة، فكان وجهه متوردا بفعل ضوء النار وأنفاسه عميقة ومنتظمة، ونظر أيضا إلى لهب النار المتخافت، وهو يلعق قطعة خشب مسودة. واستحث دارسي قواه من أجل أن يقوم عن الكرسي بأطرافه المتصلبة، وبحذر بالغ، أضاف بضع قطع من الخشب وكتلا من الفحم، وانتظر حتى اشتعلت بكاملها. ثم عاد إلى كرسيه، وغطى نفسه ببطانية ونامت عيناه.
أما لحظة استيقاظه التالية فكانت مثيرة للفضول. كان استيقاظه وعودته إلى وعيه بالكامل مفاجئا، فكانت كل حواسه في حالة تأهب وانتباه شديد حتى بدا الأمر، وكأنه كان يتوقع هذه اللحظة. كان متكئا على جانبه، ومن خلال جفنيه المغلقين بشكل شبه كامل رأى الكولونيل يتحرك أمام النار، فكان بشكل مؤقت يسد عنه ضوءها الذي هو المصدر الوحيد للإضاءة في الغرفة. وتساءل دارسي ما إن كان هذا التغيير هو الذي أيقظه. ولم يجد دارسي صعوبة في التظاهر بالنوم، فكان ينظر من خلال عينيه شبه المغلقتين. وكان معطف الكولونيل معلقا على ظهر كرسيه، فمد الكولونيل يده يبحث في أحد جيوبه وأخرج منه مظروفا ورقيا. وأثناء وقوفه، أخرج من المظروف ورقة وأمضى بعض الوقت يقرؤها. ثم بعد ذلك لم ير دارسي إلا ظهر الكولونيل، وحركة مفاجئة من ذراعه وفورة من اللهب؛ كانت الورقة تحترق في النار. نخر دارسي نخرة صغيرة وأدار وجهه بعيدا عن النار. في الظروف الطبيعية كان دارسي ليظهر لابن عمه أنه استيقظ، وكان سيسأله إن كان قد حصل على قسط من النوم، وبدت تلك الحيلة الصغيرة خسيسة. لكن الصدمة والرعب اللذين شعر بهما حين رأى جثة ديني للمرة الأولى، وضوء القمر المربك أصابوه بشيء أشبه بزلزال في نفسه لم يستطع أن يبقى ثابتا خلاله على أرض صلبة، وتسبب في أن صارت حوله تلك التقاليد والافتراضات التي حكمت حياته منذ صغره خرابا. وبالمقارنة مع هذه اللحظة المضطربة، كان تصرف الكولونيل الغريب وجولته غير المبررة على حصانه أثناء الليل، والآن حرق تلك الورقة خلسة، مجرد توابع صغيرة، لكنها كانت لا تزال مزعجة ومسببة للقلق.
كان دارسي يعرف ابن عمه منذ الطفولة، وكان الكولونيل دائما ما يتسم بالبساطة، وهو أبعد ما يكون عن الكذب والخداع. لكن حدث تغيير له منذ أصبح هو الابن الأكبر ووريثا لإيرلية. فماذا حدث لذلك الكولونيل الشاب الذي يتسم بالشجاعة والمرح، ذلك الرجل الهادئ الواثق سهل المعشر والمختلف عن دارسي الذي كان يتميز في بعض الأحيان بخجل يكاد يتسبب له بالشلل؟ كان الكولونيل يتميز بأنه أكثر الرجال دماثة وشعبية. لكن وحتى في ذلك الحين كان الكولونيل على دراية بمسئوليات عائلته، ومما هو متوقع من الابن الأصغر. لم يكن الكولونيل ليتزوج قط من امرأة مثل إليزابيث بينيت، وكان دارسي في بعض الأحيان يشعر بأنه فقد شيئا من الاحترام في عيني الكولونيل؛ لأنه قدم رغبته في امرأة على مسئوليات العائلة والطبقة الاجتماعية. ومن المؤكد أن إليزابيث شعرت ببعض التغيير، رغم أنها لم تناقش أمر الكولونيل مع دارسي إلا لتنبهه أن ابن عمه كان على وشك طلب لقاء به ليطلب يد جورجيانا للزواج. وقد شعرت إليزابيث أنه من الصواب أن تعد زوجها من أجل ذلك اللقاء، لكن ذلك لم يحدث بالطبع، والآن لن يحدث أبدا؛ فقد علم دارسي، منذ اللحظة التي أدخل فيها ويكهام ثملا من باب منزل بيمبرلي، أن الفيكونت هارتليب سيبحث في مكان آخر عن كونتيسته المستقبلية. ولكن ما أثار دهشته الآن لم يكن أن هذا العرض لن يتم تقديمه أبدا، بل إنه - وهو الذي كان يعقد آمالا كبيرة على أخته - كان قانعا بأن هذا العرض على الأقل كان عرضا لن تميل أخته للقبول به.
ولم يكن من المثير للدهشة أن ابن عمه يشعر بالضغط الشديد تجاه ثقل مسئولياته المقبلة. وفكر دارسي في قلعة أجداده الكبيرة، ومناجم الفحم الكثيرة التي يمتلكها، وقصر مالك العزبة في وورويكشاير بأمياله المربعة من الأراضي الخصبة، وفي احتمالية أن الكولونيل - حين يرث ميراثه - قد يشعر بأن عليه أن يتخلى عن المهنة التي أحبها ويتخذ مقعدا له في مجلس اللوردات. كان الأمر وكأن الكولونيل يقوم بمحاولة منضبطة لتغيير جوهر شخصيته وتساءل دارسي ما إن كان هذا ممكنا أو حصيفا. ربما كان الكولونيل يواجه مشكلة أو التزاما شخصيا، يختلف في نوعه عن مشكلات مسئولية ميراثه؟ وفكر ثانية كيف كان من الغريب أن ابن عمه كان حريصا على تمضية الليلة في غرفة المكتبة. إن كان يريد التخلص من خطاب ما؛ فهناك نيران كثيرة موقدة بالفعل في المنزل ، وكان بإمكانه أن ينفرد بلحظة خاصة له، ولماذا كان يتخلص منه الآن وبهذه الطريقة السرية؟ هل حدث شيء جعل التخلص من الورقة أمرا ضروريا؟ وفي محاولة منه ليريح نفسه أكثر من أجل الحصول على قسط من النوم، أخبر دارسي نفسه أن هناك ما يكفي من الألغاز، وأنه ليس في حاجة إلى إضافة المزيد، وفي النهاية استسلم للنوم.
واستيقظ على الكولونيل وهو يزيح الستائر بشكل مزعج، ثم وبعد أن نظر إلى الخارج، أعاد إغلاقها وقال: «ليس هناك ضوء بعد. أعتقد أنك حصلت على قسط جيد من النوم.» «ليس جيدا بما فيه الكفاية، لكن لا بأس.» ثم مد دارسي يده ليمسك بساعته. «كم الساعة الآن؟» «السابعة تماما.» «أعتقد أنني ينبغي أن أذهب وأرى إن كان ويكهام قد استيقظ. فإن فعل فسيكون في حاجة إلى شيء من الطعام والشراب، وقد يحتاج الحراس إلى بعض الطعام. لا يمكننا أن نريحهم، فقد كانت تعليمات هاردكاسل صارمة، لكن أعتقد أنه يتعين على أحد أن يطلع على الغرفة. فإن كان ويكهام قد استيقظ في الحالة نفسها التي وصفها الدكتور ماكفي حين أحضر إلى هنا، فقد يجد براونريج وميسون صعوبة في السيطرة عليه.»
نهض دارسي من مكانه. وقال: «سأذهب أنا. عليك أن تطلب أنت طعام الإفطار. فلن يقدم في غرفة الطعام قبل الثامنة.»
لكن الكولونيل كان عند الباب بالفعل. فالتفت وقال: «من الأفضل أن تترك لي هذا الأمر. فكلما قل تعاملك مع ويكهام كان أفضل. فهاردكاسل منتبه لأي تدخل من جانبك في هذا الشأن. وهو المسئول. ولا يمكنك أن تتحمل خصومته.»
أقر دارسي في نفسه أن الكولونيل كان محقا. كان لا يزال مصرا على اعتبار ويكهام ضيفا في منزله، لكن تجاهل الواقع سيكون ضربا من الحماقة. كان ويكهام هو المشتبه به الرئيسي في تحقيق عن جريمة قتل وكان لهاردكاسل الحق في أن يتوقع من دارسي أن يبتعد عنه، على الأقل حتى يستجوب ويكهام.
ولم يكد الكولونيل يغادر الغرفة حتى جاء ستاوتن ومعه القهوة، وتبعته خادمة لتهتم بأمر النار وفي صحبتها كانت السيدة رينولدز لتسأل ما إن كانا يريدان تناول الإفطار. ومن بين الرماد طقطقت قطعة من الخشب، واشتعلت مرة أخرى حين أضيف المزيد من الوقود إلى النار، فأضاءت ألسنة اللهب المتراقصة زوايا غرفة المكتبة، لكنها لم تستطع تبديد ظلام صبيحة يوم خريفي. لقد بدأ اليوم الذي لم يكن ينذر بشيء إلى دارسي إلا بالكوارث.
عاد الكولونيل في غضون 10 دقائق حيث كانت السيدة رينولدز تغادر الحجرة، وتوجه مباشرة إلى الطاولة ليصب لنفسه بعض القهوة. وحين استقر مرة أخرى في كرسيه قال: «ويكهام منزعج ويغمغم، لكنه لا يزال نائما، ومن المرجح أنه سيظل على تلك الحالة لبعض الوقت. سأزوره مرة أخرى قبل التاسعة وأجهزه لوصول هاردكاسل. وقد قدم ما يكفي من الطعام والشراب إلى براونريج وميسون أثناء الليل. وكان بروانريج يغفو في كرسيه واشتكى ميسون من أن قدميه كانتا متيبستين وأنه كان في حاجة إلى ممارسة أي نشاط. وما كان في حاجة إليه على الأرجح هو استخدام المرحاض، ذلك الجهاز الحديث الذي وضعته هنا، الذي أعتقد أنه اجتذب الكثير من الاهتمام البغيض في الجوار؛ لذا وصفت له وجهته وانتظرته حتى عاد. وفي رأيي، سيكون ويكهام واعيا بما فيه الكفاية ليستجوبه هاردكاسل بحلول التاسعة. هل تنوي أن تحضر الاستجواب؟» «ويكهام في منزلي وقد قتل ديني وسط أملاكي. ومن الواضح أنه من الصواب أن أشارك في هذا التحقيق، الذي سيكون بالطبع تحت إشراف المسئول الكبير حين يرفع له هاردكاسل تقريرا بالجريمة؛ ومن غير المرجح أن المسئول الكبير سيضطلع بدور فعال في هذا التحقيق. أخشى أن يكون هذا غير ملائم لك؛ فهاردكاسل سيرغب في أن يجري التحقيق بأسرع ما يمكن. ومن حسن الحظ أن قاضي التحقيق موجود في لامتون؛ لذا فلن يكون هناك تأخير في اختيار 23 عضوا لتشكيل هيئة المحلفين. سيكونون من المحليين، لكنني لست واثقا من أن هذا سيشكل أفضلية. فمن المعروف أن ويكهام غير مرحب به في منزل بيمبرلي، ولا شك عندي أن الشائعات قد انتشرت حول السبب وراء ذلك. ومن الواضح أن كل واحد منا سيكون مطلوبا لتقديم شهادته، وأعتقد أن هذا أمر له الأولوية على عودتك إلى الخدمة.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «لا شيء له الأولوية على ذلك، لكن إذا ما أجريت التحقيقات عما قريب، فلن تكون هناك مشكلة. ومن المصادفة أن ألفيستون الشاب يتمتع بوضع موات؛ فيبدو أنه لا يجد صعوبة في ترك ما يقال إنه مهنة لندنية صعبة ليستمتع بالضيافة في هايمارتن وبيمبرلي.»
لم يجب دارسي عن ذلك. وبعد مدة قصيرة من الصمت قال الكولونيل فيتزويليام: «ما هو برنامجك لليوم؟ أعتقد أن الخدم سيكونون في حاجة إلى أن يعرفوا ما يحدث ويستعدوا لاستجواب هاردكاسل لهم.» «سأذهب الآن وأرى إن كانت إليزابيث قد استيقظت، وأعتقد أنها استيقظت بالفعل، وسنتحدث معا إلى الخدم كلهم. وإن استعاد ويكهام وعيه، فستطالب ليديا برؤيته، وهذا من حقها بالطبع؛ ثم ينبغي علينا جميعا بطبيعة الحال أن نستعد للاستجواب. ومن حسن الحظ أن لدينا حججا للغياب؛ وبهذا لن يقضي هاردكاسل الكثير من الوقت في التحقق من حجج غياب كل من كانوا في منزل بيمبرلي مساء أمس. ولا شك أنه سيسألك عن الوقت الذي بدأت فيه جولتك على صهوة الجواد وعن وقت عودتك.»
قال الكولونيل باقتضاب: «آمل أن أستطيع إقناعه بحجة غيابي.»
قال دارسي: «هلا تخبر السيدة رينولدز حين تعود بأنني مع السيدة دارسي وبأننا سنتناول الطعام في غرفة الطعام الصغيرة.» وبهذه الجملة غادر دارسي الغرفة. وكانت الليلة مزعجة له بأشكال كثيرة، وكان دارسي سعيدا من أنها قد مرت.
الفصل الثالث
أمضت جين ساعات من الأرق على الأريكة بجوار فراش ليديا، وهي التي لم تقض ليلة واحدة بعيدة عن زوجها منذ تزوجت به، وكانت الأوقات الوجيزة من النوم التي حصلت عليها متقطعة بفعل حاجتها إلى التحقق من أن ليديا كانت نائمة. وكان العقار المهدئ الذي أعطاه الدكتور ماكفي لها فعالا، وراحت ليديا في نوم عميق، لكنها عند الساعة الخامسة والنصف صباحا استيقظت، وطالبت أن تؤخذ في الحال إلى زوجها. كان هذا الطلب بالنسبة إلى جين طبيعيا ومنطقيا، لكنها شعرت أنه من الحكمة أن تحذر ليديا بطريقة لطيفة أن ويكهام لم يستيقظ بعد على الأرجح. ولم تكن ليديا مستعدة للانتظار؛ لذا فقد ساعدتها جين على ارتداء ملابسها - وكانت تلك عملية طويلة حيث أصرت ليديا على أن تبدو في أفضل مظهر لها، فاستغرقتا وقتا طويلا في البحث في صندوق ملابسها، وفي عرض الثياب المختلفة لتطلب رأي جين بها، فسقط الكثير من ملابسها على الأرض وراحت تعدل شعرها. وتساءلت جين إن كان هناك مبرر لها لتوقظ بينجلي، لكن وبعد أن خرجت تتسمع، لم تجد أي صوت في الحجرة المجاورة وترددت في أن تزعجه في نومه. كان وجود أحد مع ليديا لرؤية زوجها، بعد وقوعه في محنته هو عملا نسائيا، ولن تستغل طبيعة بينجلي الطيبة من أجل راحتها. وفي النهاية أصبحت ليديا راضية عن مظهرها، وبعد أن أخذوا الشموع المشتعلة، توجهت السيدتان عبر الرواق المظلم إلى الغرفة التي كان ويكهام فيها.
كان براونريج هو من أدخلهما إلى الغرفة، وعند دخولهما فزع ميسون من مكانه حيث كان نائما في كرسيه. وبعد هذا سادت الفوضى. هرعت ليديا إلى الفراش حيث كان ويكهام لا يزال نائما، وألقت بنفسها عليه وكأنه كان ميتا وراحت تبكي وتنتحب غما. مرت عدة دقائق قبل أن تتمكن جين من إبعادها بلطف عن الفراش، وتغمغم لها أنه من الأفضل أن تعود في وقت لاحق حيث يكون زوجها مستيقظا وقادرا على الحديث إليها. وبعد نوبة أخيرة من البكاء، سمحت ليديا لنفسها أن تقودها أختها إلى حجرتها؛ حيث تمكنت جين في النهاية من تهدئتها وطلب إفطار مبكر لهما. وسرعان ما أحضرت السيدة رينولدز الإفطار، ولم تحضره الخادمة المعتادة، وحين نظرت ليديا إلى الطعام الشهي المنتقى بعناية، أدركت أن الحزن والبكاء جعلاها جائعة، فراحت تأكل بنهم. اندهشت جين من أن ليديا لم تكن مهتمة بما حدث لديني الذي كان مفضلا لديها من بين الضباط المرابطين مع ويكهام في ميريتون، حيث إن أخبار موته الوحشي التي نقلتها إليها جين بلطف قدر الإمكان بدت ، وكأنها لم تنفذ إلى فهمها.
وبعد أن فرغتا من طعام الإفطار، تقلبت حالة ليديا المزاجية بين نوبات من البكاء والشفقة على النفس والخوف مما يخفيه لها المستقبل ولزوجها العزيز ويكهام، والغضب من إليزابيث. لو دعيت هي وزوجها إلى الحفل، كما كان ينبغي أن يحدث، لكانا قد وصلا إلى بيمبرلي في الصباح التالي بالشكل المناسب. إن ليديا وزوجها سلكا طريق الغابة فقط؛ لأن وصولها كان ينبغي أن يكون مفاجئا، وإلا لما أدخلتها إليزابيث إلى المنزل قط. كان خطأ إليزابيث هو ما تسبب في أن تستأجر هي وزوجها عربة مهترئة وأن يمكثا في فندق جرين مان، وهو ليس من نوعية الفنادق التي تحبذها هي أو زوجها. ولو كانت إليزابيث أكثر جودا في مساعدتهما لتمكنا من المكوث ليلة الجمعة في كينجز آرمز في لامتون، ولأرسلت إليهما إحدى عربات بيمبرلي لتأخذهما إلى الحفل في اليوم التالي، ولم يكن ديني ليرتحل معهما، ولم تكن أي هذه المشكلات لتحدث. كان محتما على جين أن تستمع لكل ذلك متألمة؛ وكما هي الحال دوما، حاولت جين أن تخفف من غضب ليديا وتنصحها بالصبر وتحثها على التحلي بالأمل، لكن ليديا كانت تستمتع بشكواها كثيرا، فلم تعد قادرة على تغليب صوت المنطق أو الترحيب بالنصح.
ولم يكن أي من هذا مثيرا للدهشة. فقد كرهت ليديا أختها إليزابيث منذ طفولتهما ولم يكن ليصبح بين تلك الشخصيتين المختلفتين أي شيء من التعاطف أو المودة الأخوية الوثيقة. كانت ليديا صاخبة وجامحة وسوقية في حديثها وتصرفاتها، ولا تستجيب لأي محاولة للسيطرة عليها، كما كانت مصدر حرج لأختيها الكبيرتين. وكانت هي الابنة المفضلة لدى والدتها حيث كانتا في الواقع متشابهتين كثيرا، لكن كانت هناك أسباب أخرى للعداء بين إليزابيث وأختها الصغرى. فقد ظنت ليديا - لعدة أسباب - أن إليزابيث حاولت أن تقنع والدها بأن يمنعها من زيارة برايتون. فقد أبلغتها كيتي بأنها رأت إليزابيث تطرق باب غرفة المكتبة وتدخل إلى خلوة والدها - وكان ذلك امتيازا نادرا حيث إن السيد بيني كان صارما حيال كون المكتبة الغرفة الوحيدة التي يأمل أن يحصل فيها على شيء من العزلة والسلام. كانت محاولة حرمان ليديا من أي شيء تريده تحتل مكانة عالية على قائمة الأشياء التي تثير الغضب والانزعاج بين الأختين، وكان عدم نسيان ذلك أو مسامحة إليزابيث عليه يشكل مسألة مبدأ بالنسبة إلى ليديا.
وكان هناك سبب آخر للكره بين الأختين يكاد يرتقي إلى درجة العداوة؛ فقد عرفت ليديا أن ويكهام اختار أختها الكبرى لتكون هي المفضلة لديه. وأثناء إحدى زيارات ليديا إلى هايمارتن، سمعتها جين وهي تتحدث إلى مدبرة المنزل. كانت تلك هي ليديا نفسها التي تتسم بالأنانية والطيش. «لن يتم الترحيب بنا أبدا أنا والسيد ويكهام إلى منزل بيمبرلي. فالسيدة دارسي تغار مني وكل فرد في هايمارتن يعرف السبب. فقد كانت مجنونة بويكهام حين عين في ميريتون، وكانت لتحصل عليه لو أرادت ذلك. لكنه اختار غيرها - وذلك من حسن حظي! وعلى أي حال، لم تكن إليزابيث لتوافق عليه قط، ليس من دون امتلاكه للكثير من المال، لكن لو كان ويكهام ثريا لكانت قد أصبحت السيدة ويكهام باختيارها. لقد تزوجت دارسي - ذلك البغيض المتغطرس الحاد الطباع - فقط من أجل ملكية بيمبرلي وكل ما يملك من مال. وكل من في ميريتون يعرفون ذلك أيضا.»
وكان إقحام مدبرة المنزل في تلك الأمور الأسرية الخاصة، واختلاق الأكاذيب، والسوقية التي كانت تنقل بها ليديا شائعاتها المستهترة هو ما جعل جين تعيد التفكير في حصافة قبول زيارات أختها المفاجئة والمعتادة بسهولة، وقررت أن تحد من مثل تلك الزيارات في المستقبل، من أجل مصلحة بينجلي وأطفالها، ومن أجل مصلحتها هي أيضا. لكن لا بد لها أن تتحمل زيارة واحدة أخرى. لقد وعدت أن تأخذ ليديا إلى هايمارتن حين تغادر بيمبرلي هي وزوجها بينجلي ظهيرة يوم الأحد حسب الترتيب، وكانت تعلم كم سترتاح إليزابيث من دون وجود ليديا ومطالبتها المستمرة بالتعاطف والاهتمام ونوبات بكائها وشكواها المزعجة والمسببة للخلاف. لقد شعرت جين بالعجز أمام تلك المأساة التي تخيم على بيمبرلي، لكن تلك الخدمة الصغيرة كانت أقل ما يمكنها أن تصنع من أجل أختها العزيزة إليزابيث.
الفصل الرابع
نامت إليزابيث بشكل متقطع لفترات قصيرة من فقدان الوعي، وتخلل نومها كوابيس أعادتها إلى الأرق، وإلى إدراك للرهبة الحقيقية التي ألقت بحالة من الكآبة على منزل بيمبرلي. وبصورة غريزية مدت يدها تجاه زوجها، إلا أنها تذكرت أنه يقضي الليلة مع الكولونيل فيتزويليام في غرفة المكتبة. وكان دافعها للنهوض من الفراش والسير في أرجاء الغرفة يكاد يكون غير قابل للسيطرة، لكنها حاولت أن تهدئ من روعها وتخلد إلى النوم مرة أخرى. وكانت الأغطية المصنوعة من الكتان - التي عادة ما تكون لطيفة ومريحة - قد أصبحت وكأنها حبل يكبلها، كما أصبحت الوسائد المحشوة بالريش الناعم صلبة وساخنة، فكان عليها أن تهزها وتعدلها كثيرا من أجل أن تجعلها مريحة.
وتحولت أفكارها نحو دارسي والكولونيل. من العبث أن يكونا نائمين أو يحاولا النوم في مثل ذلك المكان غير المريح، خاصة بعد يوم مروع كالذي مرا به. ماذا كان يدور في عقل الكولونيل ليعرض أمرا كهذا؟ كانت تعلم أن قضاء الليلة في المكتبة فكرته. فهل كان لديه شيء مهم يريد أن يطلع دارسي عليه؟ أيمكن أنه يطلع دارسي على تفسير لرحلته الغامضة أثناء الليل، أم أن ذلك السر له علاقة بجورجيانا؟ ثم خطر لها أن دافعه في ذلك ربما يكون أن يمنعها ودارسي من أن يقضيا وقتا خاصا معا؛ فهي لم تحظ بفرصة قضاء وقت مع زوجها، والتحدث في خصوصية إلا لدقائق قليلة؛ وذلك منذ عادت مجموعة البحث بجثة ديني. وحاولت أن تبعد تلك الفكرة عن ذهنها بسبب سخافتها، وحاولت مرة أخرى أن تحصل على قسط من النوم.
وعلى الرغم من أنها تعرف أن جسدها منهك، فإن عقلها كان في أوج نشاطه. فراحت تفكر في كم الأشياء التي عليها القيام بها قبل وصول السير سيلوين هاردكاسل. سيتحتم عليها أن تخبر 50 منزلا بإلغاء الحفل، ولكان من غير المجدي محاولة إرسال الخطابات في الليلة السابقة؛ حيث إن معظم من سيتلقونها سيكونون في فرشهم؛ ربما كان عليها أن تبقى مستيقظة لوقت أطول، وبدأت على الأقل في النظر في أمر تلك المهمة. لكن كان هناك مهام عاجلة أخرى تعرف أن لها الأولوية. كما أن جورجيانا كانت قد خلدت إلى النوم في وقت مبكر، ولم تعلم شيئا بأمر المأساة التي وقعت أثناء الليل. ولم يستقبل ويكهام في منزل بيمبرلي ولم يذكر اسمه فيه، حتى منذ محاولة إغوائه لها قبل سبع سنوات. وتم التعامل مع تلك الحادثة بأكملها، وكأنها لم تحدث من الأساس. كانت تعلم أن مقتل ديني سيزيد من المشكلات الحالية كما سيثير مشكلات الماضي من جديد. فهل كانت جورجيانا تكن أي مشاعر لويكهام؟ وكيف ستتعامل جورجيانا مع رؤيته الآن في ظل ظروف الشك والرعب هذه، خاصة أن هناك اثنين من الخطاب لها في المنزل؟ كانت إليزابيث ودارسي قد خططا للقاء الخدم كلهم دفعة واحدة بمجرد انتهاء إفطار الخدم ليطلعوهم على أخبار تلك المأساة، لكن سيكون من المستحيل إخفاء سر وصول ليديا وويكهام عن الخدم، خاصة أنهم سيكونون مشغولين بتنظيف الغرف وترتيبها، وإشعال النار بدءا من الساعة الخامسة. كانت تعلم أن جورجيانا تستيقظ مبكرا وأن خادمتها تفتح ستائر غرفتها وتحضر لها شاي الصباح عند السابعة. لذا كان ينبغي على إليزابيث أن تتحدث إلى جورجيانا قبل أن تعرف الأخبار من شخص آخر من دون قصد.
نظرت إليزابيث إلى الساعة المذهبة الصغيرة الموضوعة على الطاولة بجوار فراشها، ورأت أن الساعة قد تخطت السادسة ب 15 دقيقة. والآن وحيث كان مهما ألا تغفو، شعرت بأن النوم يداعب عينيها أخيرا، لكنها كانت في حاجة إلى أن تكون مستيقظة تماما بحلول السابعة، وقبل أن تشير الساعة إلى السابعة بعشر دقائق، أضاءت إليزابيث شمعة وسارت بهدوء في الممر المؤدي إلى غرفة جورجيانا. كانت إليزابيث تستيقظ دائما على أصوات المنزل المعتادة وهو يستيقظ، وكانت تستقبل كل يوم بحالة مزاجية سعيدة متفائلة، وتمضي ساعات يومها في أداء مهامها والاستمتاع بملذات مجتمع يتعايش مع نفسه في سلام. والآن كانت تستطيع سماع أصوات بعيدة خافتة كأصوات الخدش التي تحدثها الفئران، الأمر الذي يعني أن الخادمات كن مشغولات في أعمالهن بالفعل. ولم يكن من المرجح أن تتقابل مع إحداهن في هذا الطابق، لكنهن كن يبتسمن لها، ويقفن منتصبات أمام الجدار بينما تمر أمامهن.
طرقت إليزابيث باب غرفة جورجيانا بهدوء، وحين دخلت وجدت أنها كانت ترتدي ملابس النوم بالفعل، وكانت تقف أمام النافذة، وتنظر إلى الخارج نحو الفراغ المظلم. ووصلت خادمة جورجيانا في اللحظة نفسها تقريبا؛ فأخذت إليزابيث منها الصينية ووضعتها على طاولة غرفة النوم. وبدا على جورجيانا أنها تشعر أن هناك خطبا ما. وبمجرد أن غادرت الخادمة، أتت مسرعة نحو إليزابيث وقالت في قلق واضح: «تبدين متعبة يا عزيزتي إليزابيث. هل تشعرين بتوعك؟» «ليس بتوعك وإنما بالقلق. لنجلس معا يا جورجيانا، فهناك شيء علي أن أخبرك به.» «أليس بخصوص السيد ألفيستون؟» «نعم، ليس بخصوص السيد ألفيستون.»
ثم قصت عليها إليزابيث باقتضاب أحداث الليلة الماضية. ووصفت لها كيف كان ويكهام جاثيا بجوار جثة ديني حين وجدوها، وكيف كان مضطربا، لكنها لم تخبرها بما أخبرها به دارسي عما قاله ويكهام. كانت جورجيانا هادئة أثناء حديث إليزابيث، وكانت تضع يديها على فخذيها. وحين نظرت إليزابيث إليها، وجدت أن هناك دمعتين تترقرقان في عينيها وتحدرتا على خديها دون أن تكبحهما. فمدت يدها وأمسكت بيد جورجيانا.
وبعد أن ساد الصمت لحظة، كفكفت جورجيانا دموعها وقالت: «لا بد أن الأمر يبدو غريبا عليك يا عزيزتي إليزابيث، إنني أبكي على شاب لم أقابله من قبل حتى، لكنني لا أستطيع أن أتوقف عن تذكر كيف كنا معا في غرفة الموسيقى، وأن الكابتن ديني يقتل بطريقة وحشية على بعد أقل من ميلين بينما كنت أعزف الموسيقى وأغني مع السيد ألفيستون. كيف سيستقبل والداه ذلك الخبر المريع؟ يا لها من خسارة، ويا له من حزن ذلك الذي سيصيب أصدقائه.» ثم قالت حين رأت أمارات الدهشة على وجه إليزابيث: «يا أختي العزيزة، أكنت تعتقدين أنني أبكي على السيد ويكهام؟ إنه على قيد الحياة، وسرعان ما سيلتئم شمله بليديا مرة أخرى. وأنا سعيدة لهما . ولست متعجبة من أن السيد ويكهام كان مضطربا كثيرا من مقتل صديقه، ومن أنه لم يكن قادرا على إنقاذ حياته، لكن أرجوك يا عزيزتي، لا تظني أنني منزعجة من عودته مرة أخرى إلى حياتنا. لقد مضى زمن طويل على الوقت الذي كنت أظن فيه أنني أحبه، وأعلم الآن أن ما حدث كان مجرد ذكرى لعطفه علي كطفلة صغيرة وعرفاني تجاه عاطفته نحوي، وربما أضيف إلى ذلك شعوري بالوحدة، لكن ذلك لم يكن شعورا بالحب قط. وأعلم أيضا أنني ما كنت لأهرب معه. إن تلك الفكرة حتى بدت حينها كمغامرة طفولية أكثر منها حقيقة واقعية.» «كان ينوي الزواج بك يا جورجيانا. هو لم ينكر ذلك قط.» «أوه، أجل، لقد كان جادا تماما في ذلك الشأن.» ثم احمر وجهها خجلا وأضافت: «لكنه وعدني بأننا سنعيش كأخ وأخت حتى يتم زواجنا.» «وهل صدقته في ذلك؟»
وبدت نبرة حزن في صوت جورجيانا. «أوه، أجل لقد صدقته. تعرفين يا إليزابيث أنه لم يكن يحبني، إنما كان يريد المال، دائما ما كان يريد المال. وليس هناك ما يشعرني بالحزن سوى الألم والعناء الذي تسبب فيه هو لأخي، لكنني أفضل ألا أراه.»
قالت إليزابيث: «سيكون هذا أفضل كثيرا، وليس هناك حاجة إلى ذلك.» ولم تضف أن جورج ويكهام كان من المرجح كثيرا أن يغادر بيمبرلي وهو رهن الاعتقال إلا إذا كان محظوظا للغاية.
احتست إليزابيث وجورجيانا الشاي معا. وحين نهضت إليزابيث لتغادر، قالت جورجيانا: «لن يذكر فيتزويليام أمر السيد ويكهام، ولا ما حدث منذ تلك المدة الطويلة. وسيكون من الأسهل لو أنه فعل. فمن المهم بالطبع أن يكون الأشخاص الذين يحب بعضهم بعضا قادرين على التحدث بحرية وصدق حيال الأشياء التي تمسهم.»
قالت إليزابيث: «أظن ذلك أيضا، لكن قد يكون من الصعب فعل ذلك في بعض الأحيان. فالأمر يعتمد على إيجاد التوقيت المناسب.» «لن نجد التوقيت المناسب أبدا. إن الشعور الوحيد الذي يؤرقني هو الخجل من نفسي بسبب أنني أحبطت أخا عزيزا محبوبا، وكذلك حقيقة أنه لن يثق بحكمي أبدا. لكن السيد ويكهام ليس برجل شرير يا إليزابيث.»
قالت إليزابيث: «ربما كان خطيرا وأحمق فقط.» «لقد تحدثت عما حدث للسيد ألفيستون، وهو يعتقد أن السيد ويكهام ربما كان واقعا في غرامي، رغم أن المال كان دافعه على الدوام. إنني أستطيع أن أتحدث بحرية إلى السيد ألفيستون، فلم لا أفعل ذلك مع أخي؟»
قالت إليزابيث: «إذن فالسيد ألفيستون يعرف السر.» «بالطبع، فنحن أصدقاء مقربون. لكن السيد ألفيستون سيتفهم مثلي أن صداقتنا لن تستمر في حين تخيم تلك المأساة الفظيعة على بيمبرلي. وهو لم يفصح عن نواياه وليس هناك ارتباط سري. وما كنت لأخفي سرا كهذا عنك قط يا عزيزتي إليزابيث، أو عن أخي، لكن كلانا يعرف ما يشعر به وسنركن إلى الانتظار.»
وهكذا كان هناك سر آخر في العائلة. كانت إليزابيث تظن أنها تعرف لم لم يتقدم هنري ألفيستون لطلب يد جورجيانا بعد، أو لم لم يفصح عن نواياه. كان الأمر ليبدو وكأنه يستغل أي مساعدة يمكن أن يقدمها لدارسي، وكان كل من ألفيستون وجورجيانا حساسين بما يكفي لأن يعرفا أنه لا يمكن الاحتفاء بالسعادة الحقيقية لحب ناجح تحت ظلال المشانق. ولم تستطع إليزابيث أن تفعل شيئا سوى أن تقبل جورجيانا وتغمغم لها عن مدى إعجابها بالسيد ألفيستون، وتعبر عن أطيب أمنياتها لهما.
شعرت إليزابيث أن الوقت قد حان لترتدي ملابسها وتبدأ يومها. وأرهقتها فكرة أن هناك الكثير من الأشياء التي ينبغي عليها القيام بها قبل وصول السير سيلوين هاردكاسل في تمام التاسعة. وكان الأكثر أهمية من بين تلك الأشياء هو أن ترسل الخطابات إلى الضيوف المدعوين تشرح لهم فيها - لكن من دون تفصيل - سبب إلغاء الحفل. قالت جورجيانا إنها طلبت الإفطار في غرفتها، لكنها ستنضم إلى بقية العائلة في غرفة تناول طعام الإفطار لتتناول القهوة، وإنها تريد المساعدة. وتم توصيل طعام الإفطار الخاص بليديا إلى غرفتها ومعها جين، وبمجرد أن تكمل السيدتان ارتداء ملابسهما، وينتهى من ترتيب الغرفة، سينضم إليهما بينجلي، حيث كان يتوق كعادته ليصبح برفقة زوجته.
بمجرد أن انتهت إليزابيث من ارتداء ملابسها وتركتها بيلتون لترى إن كانت جين في حاجة إلى أي مساعدة، بحثت إليزابيث عن دارسي وذهبا معا إلى الحضانة. في الغالب كانت تلك الزيارة اليومية تحدث بعد الإفطار، لكن كليهما كان يشعر بخوف غير مبرر أن الشر الذي يحدق ببيمبرلي قد يصيب الحضانة، وكانا في حاجة إلى أن يطمئنا أن كل شيء على ما يرام. لكن شيئا لم يتغير في ذلك العالم الصغير الآمن المكتفي بذاته. كان الصبية مسرورين كثيرا لرؤية والديهما في ذلك الوقت المبكر على غير العادة، وبعد المعانقة، أخذت السيدة دونوفان السيدة إليزابيث إلى أحد جوانب الغرفة، وقالت في هدوء: «السيدة رينولدز قد زارتني مع بزوغ الفجر لتخبرني بأمر مقتل الكابتن ديني. هذه صدمة كبيرة لنا جميعا، لكن تأكدي من أنني سأخفي الأمر عن سيدي فيتزويليام حتى يشعر السيد دارسي بأنه من المناسب التحدث معه وإخباره، بقدر ما يحتاج طفل إلى معرفته. لا تخشي شيئا يا سيدتي؛ لن تكون هناك خادمات ينقلن الشائعات إلى الحضانة.»
وحين غادر دارسي وإليزابيث، عبر دارسي عن شعوره بالارتياح والامتنان أن إليزابيث نقلت الأخبار إلى جورجيانا وأن أخته لم تستقبلها باضطراب أكثر من الطبيعي، لكن إليزابيث شعرت أن شكوكه ومخاوفه القديمة قد عاودت الظهور مرة أخرى، وأنه سيكون أكثر سعادة لو منعت عن جورجيانا أي أخبار قد تجعلها تتذكر الماضي.
وقبل الساعة الثامنة بقليل دخل دارسي وإليزابيث غرفة الإفطار ليجدا أن هنري ألفيستون كان هو الضيف الوحيد الذي حضر أمام الطعام الذي لم يمسسه بعد، ورغم أنه تناول قدرا كبيرا من القهوة، فإنه لم يمس سوى قليل من طعام الإفطار المعتاد المكون من البيض ولحم الخنزير المقدد منزليا والنقانق والكلى متروكة على المائدة تحت أغطيتها الفضية المقببة.
كان الجو العام أثناء تناول الطعام مثيرا للارتباك، وهذا أمر لم يعتادوا عليه حين يجتمعون، ولم يساعد وصول الكولونيل إلى الغرفة وبعده جورجيانا بدقائق قليلة في تخفيف حدة تلك الأجواء. أخذت جورجيانا مقعدها بين ألفيستون والكولونيل، وقال ألفيستون وهو يساعدها في الحصول على القهوة: «ربما يمكننا البدء في أمر الخطابات يا إليزابيث بعد تناول الإفطار. ويمكنني أن أبدأ في نسخ الخطابات إذا ما حددت صيغتها. وسيحصل كل الضيوف على الخطاب نفسه، ومن المؤكد أنه سيكون مقتضبا.»
ثم ساد صمت شعر الجميع أثناءه بشعور غير مريح، وحينها تحدث الكولونيل إلى دارسي. «ينبغي على الآنسة دارسي أن تغادر منزل بيمبرلي بالطبع. فمن غير الملائم أن تشارك في هذه المسألة بأي شكل من الأشكال، ولا تخضع للاستجواب المحتمل من قبل السير سيلوين أو الضباط.»
وكانت جورجيانا شاحبة الوجه، لكن نبرة صوتها كانت صارمة. «أريد أن أقدم يد العون.» ثم التفتت إلى إليزابيث. وقالت: «ستكونين مشغولة في وقت متأخر من هذا الصباح في الكثير من الأمور، لكنك إن حددت لي صيغة الخطابات فسأكتبها عنك ولن تكوني في حاجة سوى لتوقيعها.»
واندفع ألفيستون في حديثه. فقال: «خطة ممتازة. سنكون في حاجة فقط إلى كتابة خطابات موجزة للغاية.» ثم التفت إلى دارسي. واستطرد قائلا: «اسمح لي أن أكون في الخدمة يا سيدي. يمكنني أن أساعد في توصيل الخطابات إذا ما حصلت على حصان سريع وآخر إضافي. وسأكون قادرا أكثر على تجنب تقديم تفسيرات لإلغاء الحفل؛ وذلك لكوني غريبا على معظم الضيوف، الأمر الذي سيتسبب في تأخير أحد أفراد الأسرة. وإن استطعت أنا والآنسة دارسي النظر في خريطة محلية، فيمكننا أن نحدد أسرع الطرق وأكثرها منطقية. وقد تضطلع بعض العائلات التي تسكن إلى جوار بعضها بمهمة نشر الأخبار إلى جيرانهم المدعوين أيضا.»
وفكرت إليزابيث أن بعض تلك العائلات ستسعد بمثل هذه المهمة بالتأكيد. فإن كان هناك شيء يعوض عن خسارة الحفل فستكون هي الدراما التي تتكشف في منزل بيمبرلي. ولا شك أن بعض أصدقاء العائلة سيحزنهم القلق الذي يعيشه الجميع في منزل بيمبرلي بكل تأكيد وسيسرع هؤلاء في كتابة خطابات التعزية وتأكيد الدعم، وأكدت إليزابيث لنفسها بشكل راسخ أن معظم تلك الخطابات ستكون نابعة من عاطفة صادقة واهتمام حقيقي. وينبغي لها ألا تسمح للسخرية بأن تنتقص من دوافع التعاطف والحب.
لكن تحدث دارسي وكانت نبرته فاترة. «لن تشارك أختي في أي من هذا. فهذا الأمر لا يعنيها بأي شكل من الأشكال، ومن غير الملائم أبدا أن تكون معنية به.»
كانت نبرة جورجيانا رقيقة، لكنها كانت على مستوى الصرامة نفسه. فقالت: «لكنني قلقة يا فيتزويليام. كلنا يشعر بالقلق.»
وقبل أن يجيب، اندفع الكولونيل بحديثه. فقال: «من المهم أيتها الآنسة جورجيانا، ألا تمكثي في بيمبرلي حتى يحقق في هذا الأمر بشكل كامل. سأرسل إلى الليدي كاثرين خطابا بالبريد السريع هذا المساء، ولا شك عندي أنها ستدعوك إلى روزينجز على وجه السرعة. أعلم أنك لا تحبين المنزل هناك على وجه التحديد، وأن الدعوة ستكون في غير محل ترحيب إلى حد ما، لكن رغبة أخيك تقتضي بأن تكوني في مكان آمن بما لا يدع له ولا لزوجته السيدة دارسي مجالا للقلق على سلامتك ورفاهتك. وأنا واثق أنك ستستشفين حكمة هذا الاقتراح - والاحتشام المرجو منه بالطبع - بمنطقك السليم.»
فالتفتت جورجيانا إلى دارسي متجاهلة إياه. وقالت: «لست في حاجة إلى القلق علي. أرجوك لا تطلب مني أن أغادر. إنما أريد أن أكون عونا لإليزابيث، وآمل أن أتمكن من مساعدتها. ولا أجد أن هناك بذاءة في تصرفي هذا.»
هنا تدخل ألفيستون في الحديث. «عذرا يا سيدي، لكنني أشعر برغبة ملحة في الحديث. أنت تناقش ما على الآنسة دارسي فعله وكأنها طفلة. لقد بدأنا القرن التاسع عشر، ولسنا في حاجة إلى أن نكون من أتباع السيدة ولستونكرافت لنشعر بأنه لا ينبغي أن تحرم المرأة من حق الإدلاء برأيها في الأمور التي تخصها. لقد مرت عدة قرون منذ أن تقبلنا فكرة أن المرأة تتمتع بروح وكيان. أفلم يحن الوقت إذن لنقبل فكرة أن للمرأة عقلا أيضا؟»
استغرق الكولونيل لحظة ليمتلك زمام نفسه. وقال: «أقترح يا سيدي أن توفر خطبتك اللاذعة هذه لمحكمة أولد بيلي.»
التفت دارسي إلى جورجيانا. وقال: «لم يكن يعنيني فقط سوى سعادتك ورفاهيتك. بالطبع يمكنك المكوث إذا ما أردت ذلك ؛ وأنا واثق أن إليزابيث ستكون مسرورة بمساعدتك لها.»
كانت إليزابيث تجلس هادئة وتسأل نفسها إن كان بإمكانها أن تتحدث من دون أن تزيد الأمور سوءا. والآن قالت: «سأكون في غاية السرور بالطبع. ينبغي علي أن أكون متفرغة للسير سيلوين هاردكاسل حين يصل، ولا أرى كيف سيمكنني إيصال الخطابات اللازمة في وقتها من دون حصولي على مساعدة من أحد. فهلا نبدأ إذن؟»
دفع الكولونيل كرسيه للخلف في شيء من العنف، وانحنى انحناءة صارمة لتحية إليزابيث وجورجيانا، ثم غادر الغرفة.
فوقف ألفيستون وتحدث إلى دارسي. «ينبغي علي أن أعتذر يا سيدي، لتدخلي في شأن عائلي لا يعنيني. لقد تحدثت بصورة غير مستحسنة، وبعنف يفتقر إلى الحكمة والتهذيب.»
قال دارسي: «هذا الاعتذار مستحق للكولونيل أكثر مما هو مستحق لي. ربما كان تعليقك متجرئا وغير مناسب، لكن هذا لا يعني أنك لم تكن محقا.» ثم التفت إلى إليزابيث. وقال: «إن كنت تستطيعين الانتهاء من أمر الخطابات الآن يا عزيزتي، فأعتقد أن الوقت قد حان لنتحدث إلى الخدم الذين يعملون في المنزل والخدم الآخرين. لقد أخبرتهم السيدة رينولدز وستاوتن بأن هناك حادثة وقعت وأن الحفل قد ألغي، وسيكون هناك قدر كبير من القلق والحيرة بين الخدم. سأدق الجرس لأستدعي السيدة رينولدز الآن، وسأخبرها بأننا سننزل لنتحدث إليهم في قاعة الخدم بمجرد أن تنتهي من صياغة خطاب لتنسخه جورجيانا.»
الفصل الخامس
بعد مرور 30 دقيقة دخلت إليزابيث وزوجها قاعة الخدم على صوت 16 كرسيا تسحب، وعلى صوت الخدم وهم يقولون: «صباح الخير يا سيدي.» ردا على تحية دارسي، وجاء ردهم في همهمة منسقة وخفيضة للغاية بحيث كان من الصعب حتى سماعها. ودهشت إليزابيث حين رأت مآزر الظهيرة البيضاء المنشاة حديثا والقلنسوات المثنية قبل أن تتذكر أن كل الخدم - وبتوجيهات من السيدة رينولدز - كانوا يرتدون ملابس لا تشوبها شائبة في صباح يوم حفل الليدي آن. كان الهواء مختلطا برائحة المخبوزات وبرائحة طيبة منتشرة في الأرجاء، لا بد إذن أن بعض الفطائر والكعك قد وضعت في الفرن بالفعل؛ وذلك لغياب الأوامر التي ستقضي بعكس ذلك. وحين مرت إليزابيث بباب مفتوح يؤدي إلى المستنبت الزجاجي، غمرتها رائحة غثة للزهور المقطوفة، وبعد أن أصبحت تلك الزهور الآن غير مرغوب فيها، تساءلت إليزابيث في نفسها كم عدد الزهور التي ستظل على قيد الحياة بحلول يوم الإثنين. ووجدت نفسها تفكر في أفضل شيء يمكن القيام به بشأن الطيور الكثيرة التي نتف ريشها من أجل تسويتها، وقطع اللحم الكبيرة والفواكه القادمة من الصوبات الزراعية، والحساء الأبيض ومخفوق الكريمة الحلو. إن معظم تلك الأشياء لم يتم إعداده بعد، لكن لا شك أنه سيكون هناك فائض كبير في غياب تعليمات تقضي بعكس ذلك، ولا ينبغي أن يسمح بالتخلص من هذا الفائض في القمامة. بدا هذا التفكير غير منطقي في مثل هذا الوقت، لكنه كان يزاحم عقلها إلى جانب عدد كبير من الأفكار الأخرى. لماذا لم يذكر الكولونيل فيتزويليام أمر خروجه على صهوة الجواد ليلا، وإلى أين كان ذاهبا؟ ربما لم يفعل سوى أن تجول بالجواد ليتنسم الهواء على ضفة النهر. وماذا سيحدث لليديا إن قبض على ويكهام وسجن - وهي احتمالية لم يذكرها أحد، لكن على كل فرد أن يعلم أن حدوثها يكاد يكون شبه مؤكد؟ لم يكن من المرجح أن ترغب ليديا في المكوث في منزل بيمبرلي، لكن من الضروري أن تستضاف في مكان يكون قريبا من زوجها. ربما كان أفضل شيء وربما هو الأنسب أن تصحبها جين وبينجلي إلى هايمارتن، لكن هل سيكون هذا عادلا في حق جين؟
وبتزاحم هذه الخواطر في ذهنها، لم تتمكن من سماع ما تحدث به زوجها الذي كان وسط صمت تام، لكن الجمل القليلة الأخيرة التي نطق بها اخترقت مسامعها. استدعي السير سيلوين هاردكاسل أثناء الليل ونقلت جثة السيد ديني إلى لامتون. سيعود السير سيلوين في التاسعة صباحا، وسيريد أن يتحدث مع كل شخص كان في بيمبرلي ليلة أمس. وسيكون السيد دارسي وزوجته حاضرين أثناء ذلك. وليس هناك من بين الخدم من هو محل شك، لكن من المهم أن يجيب الجميع على أسئلة السير سيلوين بكل صدق. وفي غضون ذلك سيواصلون أعمالهم من دون مناقشة الحادث أو الثرثرة معا بشأنه. وستكون الغابة محظورة على الجميع، عدا السيد والسيدة بيدويل وعائلتهما.
قوبلت تلك الجملة بصمت شعرت إليزابيث أنه من المتوقع منها خلاله أن تكسره بكلماتها. وحين وقفت في مكانها أدركت أن هناك 16 زوجا من العيون تنظر إليها لأناس يعتريهم القلق والاضطراب، وينتظرون أن تخبرهم أن كل شيء سيصبح في النهاية على ما يرام، وأن عليهم ألا يخشوا شيئا، وأن منزل بيمبرلي سيظل مسكنا وملاذا لهم كما كان من قبل. فقالت إليزابيث: «من الواضح أن الحفل لا يمكن أن يقام اليوم، ويجري الآن إرسال الخطابات للضيوف المدعوين لإبلاغهم بذلك مع شرح مقتضب لما حدث. لقد حلت مأساة كبيرة على منزل بيمبرلي، لكنني أعلم أنكم ستستكملون أداء مهامكم، وستحافظون على هدوئكم وستتعاونون مع السير سيلوين هاردكاسل في تحقيقه كما سنفعل جميعا. وإن كان هناك أي شيء تعرفونه، أو كان هناك أي معلومة تريدون الإدلاء بها فينبغي أن تتحدثوا إلى السيد ستاوتن أو إلى السيدة رينولدز أولا. وأرغب أن أشكركم جميعا على قضاء ساعات طويلة في التحضير لحفل الليدي آن. ويؤسفني والسيد دارسي كثيرا أن يذهب كل هذا الجهد سدى بسبب تلك المأساة الفظيعة. وكالعادة فإننا نعول دوما في السراء والضراء على الولاء والتفاني المتبادلين واللذين يمثلان أساس حياتنا في بيمبرلي. لا تخشوا على سلامتكم ولا على مستقبلكم؛ فقد صمد منزل بيمبرلي في وجه محن كثيرة طوال تاريخه، وستمر هذه المحنة أيضا.»
وتبع حديثها تصفيق قصير سرعان ما كبح جماحه ستاوتن، ثم أعرب هو والسيدة رينولدز بكلمات قليلة عن تعاطفهم وتضافرهم مع تعليمات السيد دارسي، وذلك قبل أن توجه الأوامر لجمهورهم بأن يذهبوا إلى مهامهم اليومية؛ على أن تتم دعوتهم للاجتماع مرة أخرى حين يصل السير سيلوين هاردكاسل. وحين دخلت إليزابيث ودارسي غرفتها قال دارسي: «لقد تحدثت باختصار شديد، أما أنت يا عزيزتي فقد أسهبت في حديثك أكثر مما ينبغي، لكنني أعتقد أننا فعلنا الأمر معا بالشكل الصحيح كالعادة. والآن لا بد لنا أن نعد أنفسنا لنكون تحت طوع القانون، ممثلا في شخص السير سيلوين هاردكاسل.»
الفصل السادس
تبين أن زيارة السير سيلوين كانت أقل إرهاقا وأقصر مما كانت تخشاه عائلة دارسي. فقد كتب المسئول الأعلى - السير مايلز كالبيبر - لكبير خدمه يوم الخميس السابق ليخبره بأنه سيعود إلى ديربيشاير بحلول موعد العشاء في يوم الإثنين، وفكر كبير الخدم أن من الحصافة أن ينقل تلك الأخبار إلى السير سيلوين هاردكاسل. ولم يتعطف المسئول الأعلى ويقدم شرحا لهذا التغيير في الخطط، لكن هاردكاسل لم يجد صعوبة في التكهن بالحقيقة. فزيارة السير مايلز والليدي كالبيبر إلى لندن بمتاجرها الرائعة ووسائل ترفيهها المتنوعة أثارت نوعا من سوء التفاهم الشائع في الزيجات التي يؤمن فيها الزوج الأكبر سنا بأن المال ينبغي أن يستخدم لإدرار المزيد منه وتؤمن فيها الزوجة الجميلة الأصغر سنا أن الغاية من وجود المال هو إنفاقه؛ وإلا - كما أشارت هي مرارا - فكيف سيعرف الجميع أنك تمتلك المال؟ فبعد أن تلقى المسئول الأعلى الفواتير الأولى التي تشير إلى بذخ زوجته في الإنفاق، اكتشف أن طاقة الالتزام بمسئوليات العامة قد تجددت وأخبر زوجته أنه من الضروري العودة إلى المنزل. وعلى الرغم من أن هاردكاسل كان يستبعد أن يكون خطابه السريع الذي يحمل أخبار وقوع جريمة القتل قد وصل إلى السير مايلز بعد، فإنه كان على علم بأن المسئول الأعلى سيطلب تقريرا شاملا بسير التحقيقات؛ وذلك بمجرد أن تصله أخبار تلك الحادثة. وكان من السخيف أن يعتقد هاردكاسل أن الكولونيل الفيكونت هارتليب أو أي أحد من منزل بيمبرلي مشارك في مقتل ديني، ومن ثم فلم يكن لدى السير سيلوين أي نية في أن يقضي وقتا في منزل بيمبرلي أكثر مما ينبغي. كان آمر البلدة براونريج قد تحقق لدى وصوله من أن أيا من الجياد أو العربات قد غادرت إسطبلات منزل بيمبرلي بعد خروج الكولونيل فيتزويليام على صهوة جواده. والمشتبه به الذي يتوق إلى استجوابه بشكل عاجل هو ويكهام، وقد وصل السير سيلوين بعربة السجن واثنين من الضباط بنية أن ينقله إلى مكان ملائم أكثر في سجن لامتون حيث يمكن له أن يحصل منه على جميع المعلومات اللازمة ليقدم إلى المسئول الأعلى تقريرا شاملا وافيا بما قام به هو والضباط في التحقيق.
واستقبلت عائلة دارسي السير سيلوين الذي كان دمثا على غير عادته، وقد وافق أن يتناول شرابا مرطبا قبل أن يشرع في التحقيق مع الأسرة وهنري ألفيستون والكولونيل في غرفة المكتبة. وما قدمه الكولونيل عما قام به من أنشطة لم يثر أي تساؤلات. حيث بدأ حديثه بالاعتذار إلى أسرة دارسي عن التزامه الصمت. لقد ذهب إلى كينجز آرمز في لامتون بناء على اتفاق مع سيدة طلبت مشورته ومساعدته في أمر حساس يتعلق بأخيها الذي كان فيما سبق أحد الضباط الذين يخدمون تحت إمرته. كانت المرأة تزور أحد أقاربها في المدينة، واقترحت أن لقاءهما في الفندق سيمتاز بخصوصية أكبر مما لو كان في مكتبه في لندن. ولم يفصح الكولونيل عن هذا الاجتماع في وقت سابق؛ لأنه كان يرغب في أن تغادر المرأة المذكورة لامتون قبل أن يعرف الجميع بأمر نزولها في الحانة، وإلا لأصبحت عرضة لأن تكون موضع فضول للعامة. وقال إنه يمكن أن يقدم اسمها وعنوانها في لندن إن كان من اللازم التأكد من حقيقة ما يقول؛ إلا أنه كان واثقا أن شهادة صاحب الحانة والزبائن الذين كانوا يتناولون الشراب هناك لدى وصوله ومغادرته ستؤكد حجة غيابه.
فقال هاردكاسل بنبرة تنم عن الاقتناع الذاتي: «لن يكون من الضروري فعل ذلك أيها اللورد هارتليب. كان ملائما بالنسبة إلي أن ذهبت إلى كينجز آرمز في طريقي إلى هنا هذا الصباح لأتحقق مما إن كان هناك غرباء يمكثون في الفندق يوم الجمعة، وقد أخبرت بأمر السيدة. لقد خلفت صديقتك انطباعا مثيرا في الفندق؛ فقد أخبرت أنها أتت في عربة أنيقة جدا ومعها خادمتها الشخصية وخادم آخر. وأرى أنها أنفقت الكثير من المال حيث كان صاحب الفندق آسفا على رحيلها.»
ثم حان الوقت لكي يحقق هاردكاسل مع الخدم الذين تجمعوا كما حدث من قبل في قاعة الخدم، وكان الشخص الوحيد المتغيب عن الاجتماع هي السيدة دونوفان التي لم تعتزم أن تترك الحضانة من دون حماية. وحيث إنه من الشائع أن يشعر البريء بالذنب أكثر من شعور المذنب به، فقد كان الجو العام يعبر عن الارتباك أكثر مما يعبر عن الترقب. وقرر هاردكاسل أن يجعل حديثه مطمئنا ومقتضبا بقدر ما يمكنه، وهو مقصد أفسدته جزئيا تحذيراته الصارمة المعتادة بخصوص العواقب الوخيمة التي تحل على الذين يرفضون التعاون مع الشرطة أو الذين يكتمون المعلومات. وبنبرة معتدلة أكثر أكمل حديثه قائلا: «ليس لدي شك أن جميعكم كانت لديه أشياء ليقوم بها في الليلة السابقة لحفل الليدي آن أفضل من الخروج في ليل عاصف بهدف قتل رجل غريب في الغابة الموحشة. وأطلب من أي شخص بينكم لديه معلومات يدلي بها، أو غادر منزل بيمبرلي ليلة أمس في أي وقت بين السابعة مساء والسابعة من هذا الصباح أن يرفع يده.»
رفعت يد واحدة. فهمست له السيدة رينولدز: «هذه بيتسي كولارد يا سيدي، وهي إحدى الخادمات في المنزل.»
طلب منها هاردكاسل أن تقف، وهو ما فعلته بيتسي في الحال من دون تردد ظاهر. كانت الفتاة تتحلى بالشجاعة والثقة وتحدثت بنبرة واضحة: «كنت مع جوان ميلر يا سيدي، في الغابة يوم الأربعاء الماضي، ورأينا شبح السيدة رايلي بوضوح تام كما نراك الآن. كانت تختبئ هناك بين الأشجار، وترتدي معطفا أسود وقلنسوة، لكن وجهها كان واضحا تماما تحت ضوء القمر. ودب الرعب في نفسي أنا وجوان وهرعنا إلى خارج الغابة بأسرع ما يمكننا، ولم تلحق هي بنا. لكننا رأيناها يا سيدي، وما أقول إلا صدقا.»
أمرت جوان ميلر أن تقف، وغمغمت في تردد بأنها تتفق مع ما قالت بيتسي، ومن الواضح أنها كانت خائفة. ومن الواضح أن هاردكاسل شعر وكأنه ينتهك موضوعا أنثويا ملتبسا. ثم نظر إلى السيدة رينولدز التي تولت زمام الأمر. فقالت: «تعرفون تمام المعرفة يا بيتسي ويا جوان أنه من غير المسموح لكما أن تغادرا منزل بيمبرلي بعد حلول الظلام من دون أحد يصحبكما، ومن غير الأخلاقي كما هو من الغباء أن تصدقا أن الموتى يعودون إلى الأرض. إنني أخجل منكما لأنكما سمحتما لأنفسكما أن تصدقا مثل هذه الخرافات الساذجة. سأجتمع بكلتيكما في حجرتي بمجرد أن ينتهي السير سيلوين هاردكاسل من تحقيقه.»
ورأى السير سيلوين أن هذا المشهد يبث الرعب في الفتاتين أكثر مما يمكنه هو أن يفعل. وغمغمت كلتاهما قائلتين: «أمرك يا سيدتي رينولدز.» ثم جلستا من فورهما.
أعجب هاردكاسل بالتأثير الفوري لكلمات مدبرة المنزل، فقرر أنه من المناسب له أن يرسخ لمكانته بتحذير أخير. فقال: «يدهشني أن أي فتاة تتمتع بميزة العمل في منزل بيمبرلي يمكن أن تسمح لنفسها أن تصدق مثل هذه الخرافات. ألم تتلقيا أي تعليم مسيحي؟» ولم تكن هناك إجابة أكثر من: «بلى يا سيدي.»
عاد هاردكاسل إلى الجزء الرئيسي من المنزل وانضم إلى دارسي وإليزابيث، ومن الواضح أنه كان يشعر بالارتياح لأن كل ما تبقى من مهمته هو الجزء الأسهل وهو نقل ويكهام. وكان السجين المقيد الآن بالأغلال قد أعفي من مهانة وجود مجموعة من الأشخاص يشاهدونه وهو يغادر، وشعر دارسي أن من واجبه أن يكون موجودا ليتمنى له حظا طيبا ويشرف على عملية نقله إلى عربة السجن بواسطة آمر البلدة براونريج والضابط ميسون. ثم استعد هاردكاسل ليدخل إلى عربته، لكن وقبل أن يهز السائق اللجام دفع برأسه خارج نافذة العربة ووجه حديثه إلى دارسي قائلا: «التعاليم المسيحية. إنها تحتوي على وصايا بعدم الإيمان بالمعتقدات الخرافية والوثنية، أليس كذلك؟»
تذكر دارسي أن والدته هي من علمته التعاليم المسيحية، لكن واحدا فقط من تلك التعاليم ظل معلقا في ذهنه، وهو أنه ينبغي عليه ألا يسرق، وهي وصية كانت دائما ما تطرق أبواب ذاكرته بوتيرة مثيرة للارتباك؛ حيث إنه امتطى مهره هو وجورج ويكهام حين كانا صغيرين، وذهبا إلى لامتون، وكانت ثمار التفاح الناضجة تتدلى مغرية لهما من الأشجار الملاصقة لجدار البستان الذي كانت ملكيته في ذلك الحين تعود إلى السير سيلوين. فقال دارسي بنبرة صارمة: «أعتقد أيها السير سيلوين أن التعاليم المسيحية لا تحتوي على شيء مناقض لتعاليم الكنيسة الإنجليزية وممارساتها.» «صحيح. صحيح. تماما كما اعتقدت. يا لهن من فتيات غبيات.»
وحين أصبح السير سيلوين على قناعة بنجاح زيارته، أعطى أوامره بأن تتحرك العربة، فراحت تقعقع على الطريق الواسع وتتبعها عربة السجن، وراح دارسي يرقبها حتى غابت عن الأنظار. وحدث لدارسي أنه فكر أن رؤيته للزوار يحلون ويغادرون المنزل قد أصبحت أمرا اعتياديا، لكن رحيل عربة السجن وفيها ويكهام ستخفف كثيرا من وطأة الرعب والمحنة على بيمبرلي، وكان دارسي يأمل أيضا ألا يكون من الضروري مقابلة السير سيلوين أو رؤيته مرة أخرى قبل بدء التحقيقات.
الجزء الرابع
التحقيق
الفصل الأول
كان من المسلم به بالنسبة إلى الأسرة والأبرشية أن السيد والسيدة دارسي وأهل بيتهما سيحضرون إلى كنيسة سانت ماري في القرية في الحادية عشرة من صباح يوم الأحد. فقد انتشرت أخبار مقتل الكابتن ديني بسرعة كبيرة، وعدم ظهور الأسرة سيكون بمثابة اعتراف إما باشتراكهم في الجريمة أو بإدانتهم للسيد ويكهام. ومن المتفق عليه عموما أن الصلاة في الكنيسة توفر للحضور فرصة مشروعة من أجل تقييمهم ليس فقط لمظهر الوافدين الجدد للأبرشية وسلوكياتهم وأناقتهم وثروتهم المحتملة، وإنما أيضا لسلوك جيرانهم الذين يكونون في موقف مثير للاهتمام، يتراوح بين الحمل والإفلاس. ووقوع جريمة قتل وحشية ضمن حدود أملاك رجل على يد نسيب له من المعروف أن بينهما عداوة لا شك أنه سيتسبب في حضور مجموعة كبيرة من الناس إلى الكنيسة، بما في ذلك بعض المعتلين المعروفين الذين منعهم مرضهم من الحضور إلى الكنيسة سنوات طويلة. ولم يكن هناك أحد بالطبع فظا بما يكفي ليظهر فضوله، لكن يمكن معرفة الكثير من خلال التفريق بين الأصابع أثناء رفع اليد للدعاء، أو من خلال نظرة واحدة من تحت القلنسوة أثناء ترديد الترانيم. وقد قام القس بيرسيفال أوليفانت - الذي كان قد زار منزل بيمبرلي قبل الصلاة من أجل الإعراب عن تعازيه ومواساته - بكل ما في وسعه للتخفيف من محنة الأسرة، في البداية من خلال إلقاء خطبة طويلة بشكل غير عادي، وتكاد تكون غير مفهومة، عن تحول القديس بولس إلى المسيحية، ثم باحتجاز السيد والسيدة دارسي بينما كانا يغادران الكنيسة بحديث مطول ممتد، بحيث إن الطابور الطويل من الأشخاص الذين كانوا ينتظرون خلفهم - ولا يطيقون صبرا أن يعودوا إلى منازلهم من أجل تناول الغداء المكون من اللحم البارد - اكتفوا بمجرد الانحناء أمام القس قبل أن يتوجهوا إلى عرباتهم.
ولم تظهر ليديا أثناء ذلك الجمع، ومكثت عائلة بينجلي في منزل بيمبرلي لرعايتها والإعداد لعودتهم إلى منزلهم بعد ظهر اليوم. وبعد بعثرة ليديا لملابسها منذ وصولها، استغرق ترتيب ثيابها في صندوقها بالشكل الذي يرضيها وقتا أطول مما استغرقته عائلة بينجلي في إعداد صناديق ثيابهم. لكن تم الانتهاء من كل شيء بحلول الوقت الذي عاد فيه دارسي وإليزابيث لتناول الغداء، وبعد أن تجاوزت الساعة الثانية ظهرا ب 20 دقيقة كانت عائلة بينجلي مستقرة في عربتها استعدادا للرحيل. تم توديع الجميع وهز السائق لجام الجياد. وبدأت العربة تتحرك، ثم انعطفت على طول الطريق الواسع بمحاذاة النهر، ثم نزلت المنحدر على الطريق واختفت عن الأنظار. وقفت إليزابيث ترقب العربة وكأنها تحاول استحضارها مرة أخرى إلى مجال رؤيتها، ثم التفتت المجموعة الصغيرة وعادت إلى المنزل.
وفي الردهة توقف دارسي ثم قال موجها حديثه إلى ألفيستون وفيتزويليام: «سأكون ممتنا لانضمامكما إلي في غرفة المكتبة في غضون نصف الساعة. نحن الثلاثة وجدنا جثة ديني وقد نستدعى جميعا للشهادة في التحقيق. لقد أرسل السير سيلوين رسولا بعد الإفطار هذا الصباح ليقول بأن قاضي التحقيق الدكتور جوناه ميكبيس يطلب حضورنا عند الحادية عشرة صباح يوم الأربعاء. وأريد أن أتأكد من أن ذكرانا عن الحادثة متطابقة، خاصة حول ما قيل حين وجدنا جثة الكابتن ديني، وقد يكون من المفيد أن نناقش كيف سندلي بشهادتنا بصفة عامة. إن ذكرى ما رأينا وما سمعنا كانت غريبة جدا، وكان ضوء القمر مضللا، حتى إنني أضطر إلى تذكير نفسي بين الحين والآخر أن الأمر كان حقيقيا.»
غمغم الرجلان بإذعانهما، وفي الوقت نفسه تقريبا تقدم كل من الكولونيل فيتزويليام وألفيستون إلى غرفة المكتبة حيث وجدا دارسي هناك بالفعل. كان بالغرفة ثلاثة كراسي مستقيمة الظهر موضوعة إلى طاولة مستطيلة، وكرسيان آخران مرتفعا الظهر، وكان كل كرسي منهما موضوعا إلى أحد جوانب المدفأة، فأشار دارسي إلى الوافدين أن يجلسا في هذين الكرسيين وأحضر هو أحد الكراسي الثلاثة الأخرى وجلس بينهما. وكان ألفيستون يجلس على حافة كرسيه، فبدا لدارسي أنه يشعر بالقلق ويكاد يرقى إلى الشعور بالحرج، وكان هذا شيئا مغايرا تماما لثقته المعتادة بنفسه، حتى إن دارسي شعر بالاندهاش حين تحدث ألفيستون أولا ووجه حديثه إليه. «ستقوم بالطبع باستدعاء محاميك الخاص يا سيدي، لكن إن كنت أستطيع تقديم المساعدة في غضون ذلك - إن كان هو بعيدا عن هنا - فسأكون في خدمتك. بصفتي شاهدا فلا يمكنني بالطبع أن أمثل السيد ويكهام أو أحدا من منزل بيمبرلي، لكن إن وجدت أنني أستطيع تقديم المساعدة، فيمكنني أن أطيل البقاء في ضيافة السيدة بينجلي مدة أطول قليلا. فقد كانت هي والسيد بينجلي لطيفين بما يكفي ليعرضا علي ذلك.»
كان ألفيستون يتحدث بنبرة مترددة، فتحول ذلك المحامي اليافع الماهر الناجح - وربما المتغطرس - لوهلة إلى صبي يشعر بالارتباك والحرج. وكان دارسي يعرف سبب ذلك. كان ألفيستون يخشى أن يفسر عرضه - خصوصا من قبل الكولونيل فيتزويليام - على أنه حيلة لتعزيز موقفه لدى جورجيانا. وتردد دارسي في الرد لبضع ثوان؛ مما أعطى ألفيستون فرصة ليكمل حديثه بسرعة. «وقد يتمتع الكولونيل فيتزويليام بالخبرة في أمور المحاكم العسكرية مما يشعرك أن أي نصيحة أقدمها ستكون مجرد إطناب، خصوصا وأن الكولونيل يتمتع بمعرفة بالأمور المحلية، وهو أمر أفتقر إليه شخصيا.»
التفت دارسي إلى الكولونيل فيتزويليام. وقال: «أعتقد أنك ستوافق يا فيتزويليام على الاستفادة من أي مساعدة قانونية ممكنة.»
قال الكولونيل في هدوء وغير تحيز: «لست بقاض ولم أكن يوما، وبالكاد يمكنني القول إن تجربتي العرضية بالمحاكم العسكرية تؤهلني لادعاء الخبرة في القانون الجنائي المدني. وحيث إنني لست من أقارب جورج ويكهام، فليس لي حق المثول أمام المحكمة في هذا الأمر إلا كشاهد. والأمر متروك لدارسي ليحدد المشورة التي ستكون مفيدة. وكما يقول هو نفسه، فمن الصعب رؤية كيف يمكن للسيد ألفيستون أن يكون ذا نفع في الأمر الراهن.»
التفت دارسي إلى ألفيستون. وقال: «سيكون مجيئك وذهابك يوميا بين هايمارتن وبيمبرلي مضيعة للوقت لا طائل من ورائها. لقد تحدثت السيدة دارسي إلى أختها، ونأمل جميعا أن تظل هنا في بيمبرلي. وقد يطلب منك السير سيلوين هاردكاسل أن تؤجل رحيلك حتى تنتهي الشرطة من تحقيقها، رغم أنني لا أجد مبررا لاستجوابك مرة أخرى بعد أن تكون قد أدليت بشهادتك أمام قاضي التحقيق. لكن ألن تواجه المتاعب في عملك؟ من المعروف عنك أنك مشغول على الدوام. إننا لن نقبل بالمساعدة على حساب عملك.»
قال ألفيستون: «ليس لدي قضايا تتطلب حضوري الشخصي لثمانية أيام أخرى، ويمكن لشريكي المتمرس أن يتولى إدارة الأمور الروتينية بسلاسة حتى ذلك الحين.» «إذن سأكون ممتنا لمشورتك حين تجد أنه من الملائم إسداؤها. إن المحامين الذين يتعاملون مع منزل بيمبرلي يشتغلون معظم الوقت بالأمور المنزلية، وتأتي الوصايا في المقام الأول، وبعد ذلك شراء الأملاك وبيعها، والنزاعات المحلية وعلى حد علمي فإنهم يتمتعون بمعرفة قليلة بأمور جرائم القتل إن وجدت، ومن المؤكد أنها لم تكن في بيمبرلي. وقد أرسلت إليهم بالفعل لأخبرهم بما حدث، وسأرسل إليهم الآن بريدا سريعا آخر لأطلعهم على مشاركتك في الأمر. وينبغي علي أن أنبهك إلى أن السير سيلوين هاردكاسل لن يكون متعاونا. إنه قاض متمرس وعادل، ويهتم اهتماما بالغا بالعملية التحقيقية التي يترك أمرها في الغالب إلى ضباط القرية، كما أنه حريص على ألا ينتهك أحد سلطاته.»
ولم يقدم الكولونيل أي تعليق آخر.
وقال ألفيستون: «سيكون من المفيد - أو على الأقل أجد الأمر كذلك - لو أننا ناقشنا في البداية رد الفعل المبدئي على الجريمة، خصوصا فيما يتعلق باعتراف المتهم الظاهر. هل نرى أن تأكيد ويكهام على الأمر يعني أنه لو لم يتشاجر مع صديقه، لما خرج ديني من العربة قط ليلقى حتفه؟ أم أنه لحق بديني بنية قتله؟ المسألة هنا تتعلق بشخصية ويكهام بصورة كبيرة. وأنا لم أعرف السيد ويكهام قط، لكنني أدرك أنه ابن مدير أعمال والدك الراحل وأنك كنت على معرفة وثيقة به في صباكما. فهل ترى يا سيدي كما يرى الكولونيل أنه قادر على فعل شيء كهذا؟»
نظر ألفيستون إلى دارسي، وبعد أن تردد لحظة أجابه قائلا: «قبل زواجه بالأخت الصغرى لزوجتي لم نتقابل إلا نادرا لسنوات طويلة، وبعد زواجه منها لم نتقابل قط. في الماضي كنت أجده ناكرا للجميل وحقودا وغير أمين ومخادعا. وهو يتمتع بوجه مليح، وأسلوبه مقبول في المجتمع، خاصة مع النساء، الأمر الذي يضمن له الاستحسان العام، ومسألة استمرار هذه المحاسن مع المعارف الشخصية الطويلة هي مسألة مختلفة، لكنني لم أر من قبل أنه يتسم بالعنف، ولم أسمع أنه مذنب بتهمة العنف. إن تصرفاته من النوع الفظ، وأفضل ألا أتحدث عنها، لكننا جميعا لدينا القدرة على التغير. كل ما يمكنني أن أقوله هو أنني لا أستطيع أن أصدق أن ويكهام الذي كنت أعرفه من قبل - بالرغم من عيوبه - قادر على أن يرتكب جريمة قتل شنيعة لصديق ورفيق قديم له. في رأيي أنه رجل يفضل الإحجام عن العنف ويحاول تجنبه متى أمكنه ذلك.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «كان ويكهام يواجه المتمردين في أيرلندا ويعترف الكثيرون بشجاعته. وينبغي علينا أن نعترف له بشجاعته.»
فقال ألفيستون: «لا شك أن المرء حين يوضع أمام خيارين إما أن يقتل وإما أن يقتل فإنه لن يظهر أي رحمة. وأنا لا أقصد أن أنتقص من شجاعته، لكن يمكن للحرب وللتعرض المباشر للمعارك بالطبع أن يفسد حساسية أي رجل، حتى ولو كان مسالما، بحيث يصبح أقل مقتا للعنف؟ ألا ينبغي علينا أن نضع في اعتبارنا هذه الاحتمالية؟»
ورأى دارسي أن الكولونيل كان يواجه صعوبة في السيطرة على انفعاله. حيث قال: «لا يفسد المرء من أداء واجبه تجاه ملكه ووطنه . ولو كان لديك أي تجربة عن الحرب أيها الشاب فأقترح أن تكون أقل استخفافا بردة فعلك تجاه الأفعال التي تتسم بالشجاعة الاستثنائية.»
فكر دارسي أنه من الأفضل أن يتدخل. فقال: «لقد قرأت بعض الشهادات عن التمرد الأيرلندي في عام 1798 في الصحف، لكنها كانت موجزة ومقتضبة. لا شك أنني فوت بعض التقارير. ألم يكن ذلك حين أصيب ويكهام وحصل على ميدالية؟ ما الدور الذي لعبه بالتحديد؟» «كان مشاركا - مثلي - في معركة يوم 21 يونيو في إنيسكورثي حين هاجمنا التل ودفعنا المتمردين إلى التراجع. ثم في يوم الثامن من شهر أغسطس، هبط الجنرال جين هامبرت بألف جندي فرنسي، وزحف بهم جنوبا نحو كاسلبار. وحث الجنرال الفرنسي حلفاءه المتمردين على تدشين ما سميت بجمهورية كونوت، وفي يوم السابع والعشرين من شهر أغسطس زحف نحو بحيرة جينرال ليك في كاسلبار، وكانت تلك هزيمة نكراء للجيش الإنجليزي. حينها طلب اللورد كورنواليس التعزيزات. وحافظ كورنواليس على قواته بين المغيرين الفرنسيين ودبلن، فحاصر هامبرت بين بحيرة جينرال ليك وقواته. وكانت تلك نهاية الفرنسيين. وهاجم الفرسان الإنجليز جناح الجيش الأيرلندي والخطوط الفرنسية، وهنا استسلم هامبرت. وقد شارك ويكهام في ذلك الهجوم، وكان مشاركا في جمع المتمردين وتفكيك جمهورية كونوت. وكان ذلك العمل عنيفا حيث كان يتم اصطياد المتمردين ومعاقبتهم.»
كان من الواضح لدارسي أن الكولونيل قص هذه القصة المفصلة من قبل مرات كثيرة، وكان يسر كثيرا بفعل هذا.
قال ألفيستون: «وكان جورج ويكهام جزءا من ذلك؟ نحن نعرف ما تم أثناء إخماد التمرد. ألا يعد هذا كافيا لأن يعتاد الرجل على العنف إن لم يكتسب العنف كسمة شخصية؟ ففي النهاية، ما نحاول فعله هنا هو الوصول إلى بعض الاستنتاجات حول نوع الشخصية التي اكتسبها جورج ويكهام.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «لقد أصبح جنديا شجاعا. وأنا أتفق مع دارسي، ولا أستطيع أن أتخيله كمجرم قاتل. هل نعرف كيف كان يعيش مع زوجته منذ ترك الجيش عام 1800؟»
قال دارسي: «لم يأت قط إلى بيمبرلي ولم نتواصل قط، لكن السيدة ويكهام كانت تذهب إلى هايمارتن. ولم تكن حياتهما الزوجية زاهرة. لقد أصبح ويكهام بطلا قوميا بعد الحملة على أيرلندا، وضمن ذلك له أن ينجح دوما في الحصول على الوظائف، لكن ليس في الحفاظ عليها. من الواضح أن الزوجين ذهبا إلى لونجبورن حين كان السيد ويكهام عاطلا عن العمل، وكان المال شحيحا معهما، ولا شك أن السيدة ويكهام كانت تستمتع بزيارة الأصدقاء القدامى والتباهي بإنجازات زوجها، لكن زياراتها نادرا ما كانت تدوم أكثر من ثلاثة أسابيع. لا بد أنه كان هناك من يدعمهما ماديا، وبصفة منتظمة، لكن السيدة ويكهام لم تسهب في شرح الأمر، ولم تسألها السيدة بينجلي بالطبع. معذرة إن كان هذا هو كل ما أعرفه أو ما أريد أن أعرفه فعلا.»
قال ألفيستون: «حيث إنني لم ألتق بالسيد ويكهام قبل ليلة يوم الجمعة، فرأيي عن براءته أو اتهامه مبني ليس على شخصيته أو تاريخ حياته، وإنما هو مبني فقط على تقييمي للأدلة المتاحة حتى الآن. في اعتقادي أنه يتمتع بدفاع ممتاز. حيث يمكن للاعتراف المزعوم ألا يعني شيئا أكثر من اتهامه بإثارة صديقه ليخرج من العربة. كان السيد ويكهام تحت تأثير الشراب، وهذا النوع من الحساسية العاطفية بعد التعرض لصدمة يعد شائعا حين يكون المرء مخمورا. لكن لننظر إلى الأدلة المادية. اللغز الرئيسي في هذه القضية هو سبب دخول الكابتن ديني إلى الغابة. لماذا كان يخشى ويكهام؟ كان ديني هو الأقوى والأضخم جسدا كما كان مسلحا. ولو كانت نيته أن يسير عائدا إلى الفندق، فلم لم يسلك الطريق؟ لا شك أنه كان يمكن أن يستقل العربة، لكن كما قلت، لم يكن هناك من الخطر الكبير ما يثير قلقه. ولم يكن ويكهام ليهاجمه في وجود السيدة ويكهام في العربة. وربما يمكن القول إن ديني شعر أنه مكره ليترك صحبة ويكهام، وفي الحال، وذلك لشعوره بالاشمئزاز من خطة رفيقه حيث سيترك السيدة ويكهام في بيمبرلي من دون أن تكون مدعوة إلى الحفل، ومن دون إخطار السيدة دارسي. كانت الخطة غير مهذبة ومستهترة بالطبع، لكنها بالكاد تكفل سببا لهروب ديني من العربة بهذه الطريقة الدرامية. حيث كانت الغابة مظلمة وليس بها أي ضوء؛ وفي رأيي أن تصرفه هذا غامض وغير مفهوم.
وهناك دليل أقوى. أين هي أسلحة الجريمة؟ لا شك أن هناك سلاحين. فالضربة الأولى التي وجهت إلى الجبهة تسببت في نزيف منع ديني من أن يرى موضعه وخلفته مترنحا. أما الجرح الموجود في مؤخر الرأس فسببه سلاح مختلف، شيء ثقيل ذو حافة مصقولة، ربما كان حجرا. وبحسب رواية الذين رأوا الجرح - ومن بينهم أنت أيها السيد دارسي - فإن الجرح غائر وطويل، بحيث يمكن لرجل يؤمن بالخرافات أن يقول إن اليد التي تسببت به ليست يدا بشرية، ولا شك أنها ليست يد ويكهام. وأشك أنه بمقدور ويكهام أن يحمل حجرا بهذا الحجم بسهولة ويرفعه عاليا بما يكفي ليسقطه على هدفه بالتحديد. هذا إذا كنا سنفترض أن الحجر كان موجودا بالقرب منه عن طريق الصدفة؟ ثم إن هناك تلك الخدوش على جبهة ويكهام وعلى يده. لا شك أنها تشير إلى أن ويكهام ضل طريقه في الغابة بعد أن وجد جثة الكابتن ديني.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «أتقول إذن إنه سيتم تبرئته إذا ما أحيلت القضية إلى المحكمة؟» «أعتقد من خلال الأدلة الموجودة حتى الآن أن تتم تبرئته، لكن دائما ما تكون هناك مجازفة في القضايا التي لا يكون فيها مشتبه به آخر؛ بحيث ستسأل هيئة المحلفين نفسها، إن لم يفعل هو ذلك، فمن فعله؟ فمن الصعب على قاض أو محامي الدفاع تحذير هيئة المحلفين من هذا الأمر، من دون أن ينبه أذهانهم إليه في الوقت نفسه. سيحتاج ويكهام إلى محام بارع.»
قال دارسي: «ستكون تلك مسئوليتي.» «أقترح أن تحاول تعيين جيريميا ميكلدور. إنه رائع في هذا النوع من القضايا، وفيما يتعلق بهيئة محلفي المدينة، لكنه لا يعمل إلا على القضايا التي تثير اهتمامه ويكره ترك لندن.»
قال دارسي: «هل هناك فرصة أن تحال الدعوى إلى لندن؟ خلافا لذلك، لن ينظر في القضية حتى تعرض على محكمة محلية في ديربي في الصوم الكبير التالي أو في الصيف.» ثم نظر إلى ألفيستون. وقال: «ذكرني بالإجراءات.»
قال ألفيستون: «تفضل الدولة أن تتم محاكمة المدعى عليهم أمام المحاكم المحلية. والحجة في ذلك هي أن يتمكن الناس من رؤية تحقيق العدالة بأنفسهم. وإن تمت إحالة الدعوى، فإنها لا تحال إلا إلى المحكمة المحلية التالية، وينبغي أن يكون هناك سبب وجيه لفعل ذلك؛ شيء جدي وخطير بحيث سيكون من الصعب إجراء محاكمة عادلة في المدينة المحلية، كمسائل تتعلق بالنزاهة أو هيئة محلفين موقوفة أو قضاة يمكن رشوتهم. وعلى الجانب الآخر قد تكون هناك خصومة محلية تجاه المدعى عليه بحيث يمنع ذلك من إجراء جلسات استماع نزيهة. والمدعي العام هو من يملك الصلاحية للتحكم في المحاكمات الجنائية والفصل فيها، الأمر الذي يعني أن المحاكمات يمكن أن تنقل إلى مكان آخر في نطاق اختصاصه.»
قال دارسي: «سيكون الأمر إذن بيد سبينسر بيرسيفال؟» «بالضبط. وقد يقال إنه نظرا إلى أن الجريمة ارتكبت ضمن ملكية قاض محلي، فقد يكون هو وأسرته مشاركين في الأمر على نحو غير منطقي، أو قد تثار شائعات محلية وتلميحات عن العلاقة بين منزل بيمبرلي والمتهم، التي قد تعرقل سير العدالة. ولا أعتقد أنه من السهل نقل المتهم، لكن حقيقة أن ويكهام قريب لك وللسيد بينجلي بالمصاهرة فقد يمثل ذلك أحد عوامل التعقيد، الأمر الذي قد يكون له ثقله أمام المدعي العام. ولن يتخذ المدعي العام قراره بناء على الرغبات الشخصية، وإنما سيكون مبنيا على ما إذا كان نقل القضية سيخدم العدالة. وفي اعتقادي أن تعيين جيريميا ميكلدور للدفاع عن ويكهام أمر يستحق المحاولة متى ما عقدت المحاكمة. لقد كنت محاميا مبتدئا لديه قبل عامين، وأعتقد أنني قد أتمتع بشيء من التأثير عليه. وأقترح عليك أن ترسل له خطابا بالبريد السريع تصف له فيه الوقائع وسأتبع أنا ذلك بمناقشته في القضية حين أعود إلى لندن، حيث سيتحتم علي العودة بعد التحقيق.»
قال دارسي بأنه ممتن لذلك وقبل اقتراحه. ثم قال ألفيستون: «أعتقد أيها السادة أن علينا أن نذكر أنفسنا بالشهادة التي سندلي بها حين نسأل عن الكلمات التي قالها ويكهام حين وجدناه جاثيا بجوار الجثة. فلا شك أنها ستكون أمرا محوريا بالنسبة إلى القضية. لن ننطق إلا بالحقيقة بكل تأكيد، لكن سيكون من المرغوب فيه أن نعرف ما إذا كانت ذاكرتنا جميعا تتفق على ما قال ويكهام بالتحديد.»
فقال الكولونيل فيتزويليام من دون أن ينتظر حديث أي من الرجلين الآخرين: «لقد خلفت كلماته انطباعا مميزا في ذهني، وهذا أمر طبيعي، وأعتقد أنني أستطيع ترديد كلماته بحذافيرها. قال ويكهام: «لقد مات. يا إلهي، لقد مات ديني. كان صديقي الوحيد وقد قتلته. كانت غلطتي.» ولا شك أن ما يعنيه بقوله إن مقتل ديني كان غلطته هي مسألة وجهة نظر.»
قال ألفيستون: «ما أذكره مماثل تماما لما قال الكولونيل، لكنني مثله أيضا لا أستطيع أن أفسر كلماته. نحن متفقون إذن حتى الآن.»
كان هذا هو دور دارسي في الحديث. فقال: «لا يمكنني أن أكون محددا فيما يتعلق بالترتيب الدقيق لكلماته، لكني يمكنني بكل ثقة أن أقول إن ويكهام قال إنه قتل صديقه، صديقه الوحيد، وأن ذلك كان خطأه. وأجد أيضا تلك الكلمات الأخيرة غامضة ومبهمة ولن أحاول تفسيرها إلا إذا ما اضطررت إلى ذلك، وربما لا أفعل حينها أيضا.»
قال ألفيستون: «من غير المرجح أن يضغط علينا القاضي لفعل ذلك. فإن طرح علينا السؤال، فقد ينوه إلى أن أيا منا لا يمكن أن يكون واثقا مما يفكر فيه الشخص الآخر. ومن وجهة نظري - التي تستند إلى التخمين - أنه يقصد أن ديني لم يكن ليدخل الغابة، ولم يكن ليواجه الشخص الذي اعتدى عليه لو أنه لم يتشاجر معه، وأن ويكهام يتحمل مسئولية أي شيء أثار نفور ديني. لا شك أن القضية ستعتمد بشكل كبير جدا على ما يعنيه ويكهام بتلك الكلمات القليلة.»
بدا الآن أنه من الممكن اعتبار الاجتماع قد انتهى، لكن وقبل أن يقوموا من مقامهم، قال دارسي: «إذن فمصير ويكهام - سواء كانت حياته أو موته - يعتمد الآن على 12 رجلا متأثرين بالضرورة بتحيزاتهم الشخصية وقوة بيان المتهم وبلاغة محامي جهة الادعاء.»
قال الكولونيل: «كيف يمكن التعامل مع القضية بغير ذلك؟ سيمثل الرجل أمام مواطنين، وليس هناك أي شيء يضمن تحقيق العدالة أكثر من حكم 12 رجلا إنجليزيا يتحلون بالنزاهة.»
قال دارسي: «ولن يكون هناك طعن أو استئناف.» «كيف يمكن أن يكون هناك طعن أو استئناف؟ لطالما كان قرار هيئة المحلفين موقرا يتعذر الاعتراض عليه. ماذا تقترح يا دارسي، أن تكون هناك هيئة محلفين ثانية، تقسم يمينا على الاتفاق أو الاختلاف مع الهيئة الأولى، وأن تكون هناك هيئة أخرى تلي الثانية؟ سيكون هذا بمثابة حماقة بالغة، وإن استمر هذا الأمر إلى ما لا نهاية فقد يفضي إلى وجود محكمة أجنبية تنظر في أمر القضايا الإنجليزية. وستكون هذه نهاية ما هو أكثر من نظامنا القضائي.»
قال دارسي: «ألا يمكن أن تكون هناك محكمة خاصة بالطعون تتكون من ثلاثة قضاة أو ربما خمسة، وتعقد في حالة وجود خلاف على نقطة قانونية صعبة؟»
هنا تدخل ألفيستون. فقال: «يمكنني أن أتخيل ردة فعل هيئة محلفين إنجليزية على اقتراح أن يطعن في قرارهم أمام ثلاثة من القضاة. ينبغي أن يكون قاضي التحقيق هو من يحدد النقاط القانونية، وإن كان غير قادر على تحديدها، فليس له الحق أن يكون قاضيا. وهناك محكمة للطعون بدرجة ما. حيث يمكن لقاضي التحقيق الشروع في إجراءات منح العفو حين يكون غير راض بما آلت إليه القضية، والأحكام التي تبدو للعامة غير عادلة ستؤدي دائما إلى غضب شعبي عارم وإلى احتجاجات عنيفة في بعض الأحيان. وأؤكد لك أن لا شيء يفوق قوة الرجل الإنجليزي الذي يحركه السخط بسبب الإجحاف. لكن وكما تعلم، أنا عضو في مجموعة من المحامين تعنى باختبار مدى فاعلية نظامنا القضائي الجنائي وهناك نقطة تعديل واحدة نود أن نراها؛ وهي حق محامي الادعاء في إلقاء خطاب أخير قبل أن ينتقل القرار إلى جهة الدفاع. ولست أرى شخصيا أي سبب منطقي يمنع إحداث هذا التغيير، ويحدونا الأمل أن نرى هذا التغيير قبل نهاية هذا القرن.»
فسأله دارسي: «ما هي أوجه الاعتراض التي يمكن أن تواجه ذلك؟» «الوقت في الغالب. إن محاكم لندن مثقلة بالعمل بالفعل، وهناك الكثير من القضايا التي يتناولونها بسرعة غير ملائمة. والمواطنون الإنجليز غير مغرمين كثيرا بالمحامين أو بالاستماع إلى أحاديثهم وخطبهم المطولة. ويعتقد أنه من الوافي أن يتحدث المتهم عن نفسه، وأن استجواب محاميه لشهود جهة الادعاء كاف لتحقيق العدالة. ولا أجد أن تلك الحجج مقنعة بشكل كامل، لكنها تطبق بأمانة وإخلاص.»
قال الكولونيل: «تبدو وكأنك راديكاليا بحديثك هذا يا دارسي. ولم أكن أعرف أنك مهتم بأمور القانون أو تهتم بإصلاحه بهذا الشكل.» «ولا أنا أيضا، لكن حين يواجه المرء حقيقة المصير الذي ينتظر جورج ويكهام - كما نفعل الآن - وحين يدرك مدى ضيق الفجوة بين الحياة والموت، فربما من الطبيعي أن يكون المرء مهتما بهذا ومعنيا به.» ثم صمت لحظة، وأردف قائلا: «إن لم يكن هناك شيء آخر لنناقشه، فربما يمكننا الاستعداد للانضمام إلى السيدات على العشاء.»
الفصل الثاني
كان يوم الثلاثاء مبشرا بيوم لطيف مع آمال أن تشرق شمس الخريف خلاله. كان السائق ويلكنسون يتمتع بسمعة طيبة استحقها عن جدارة في التنبؤ بالطقس، وكان قبل يومين قد تنبأ بأن شروق الشمس وبعض زخات المطر ستتبع الرياح والأمطار. وكان يوم الثلاثاء هو اليوم الذي سيلتقي فيه دارسي بجون وولر مديره المالي الذي سيتناول الغداء في بيمبرلي، وبعد الظهر سيمتطي دارسي صهوة جواده ليزور ويكهام، وهو يعرف تماما أن هذا الأمر لن يسر أيا منهما.
وكانت إليزابيث تخطط في أثناء غيابه لزيارة كوخ الغابة مع جورجيانا والسيد ألفيستون، ليسألا عن صحة ويل ويحملا له بعض النبيذ والأطعمة الشهية، حيث أملت هي والسيدة رينولدز أن تثير تلك الأطعمة شهيته. كما أرادت إليزابيث أيضا أن تريح نفسها بأن أمه وأخته لم تتركا وحدهما حين كان بيدويل يعمل في منزل بيمبرلي. وكانت جورجيانا تتوق لتصحبها إلى الكوخ، وفي الحال عرض هنري ألفيستون أن يرافقهما، وهو أمر رأى دارسي أنه ضروري وعرف أن كلتا السيدتين ستجدانه مطمئنا. وكانت إليزابيث تتوق للذهاب في أقرب وقت ممكن بعد تناول الغداء مبكرا؛ فقد كانت شمس الخريف عاملا مساعدا ولا يتوقع أن يستمر، وكان دارسي مصرا على أن تغادر المجموعة الغابة قبل أن يبدأ ضوء الظهيرة في الخفوت.
لكن كان عليها أولا أن تكتب بعض الخطابات، وبعد أن تناولت الإفطار مبكرا، قررت أن تخصص لهذه المهمة بضع ساعات. كانت لا تزال هناك ردود متأخرة على خطابات التعاطف والاستفسار من الأصدقاء الذين دعوا إلى الحفل، وكانت تعلم أن عائلتها في لونجبورن - التي عرفت الأخبار من خطاب أرسله دارسي بالبريد السريع - تنتظر إطلاعها على المستجدات بشكل شبه يومي. وكانت هناك أيضا مهمة إطلاع أختي بينجلي - وهما السيدة هيرست والآنسة بينجلي - على التطورات، لكن يمكن لها على الأقل أن تترك هذه المهمة ليقوم بها بينجلي. وكانت الأختان تزوران أخاهما وجين مرتين في كل عام، لكنهما كانتا منغمستين في متع الحياة في لندن، حتى إنهما كانتا لا تطيقان أن تمكثا لأكثر من شهر في الريف. وقد تعطفتا وتلطفتا أن يتم الترويح عنهما في بيمبرلي حين تكونان في زيارة لهايمارتن. ولكي تتمكنا من التفاخر بزيارتهما، كانت علاقتهما بالسيد دارسي وفخامة منزله وممتلكاته أكثر قيمة من أن يضحى بها في سبيل آمال أو ضغينة مثبطة، لكن رؤية إليزابيث كسيدة بيمبرلي ظلت مذلة لهما، ولم تتمكن أي من الأختين من تحملها من دون ممارسة نوع من ضبط النفس المؤلم، وما كان يريح إليزابيث أن زيارتهما كانت نادرة.
علمت إليزابيث أن أخاهما كان سيمنعهما بكياسة من زيارة بيمبرلي في ظل المحنة الراهنة، ولم يكن لديها شك أنهما كانتا ستظلان بعيدا. ويمكن لجريمة قتل وقعت بين الأسرة أن تقدم شيئا من الإثارة على حفلات العشاء الأنيقة، لكن يمكن توقع القليل من السمعة الاجتماعية الجيدة من قتل وحشي لكابتن مميز في سلاح المشاة، من دون وجود المال أو عروض الزواج لتجعل منه محل اهتمام. وحيث إنه حتى أشد الأشخاص حساسية من بيننا لا يستطيع أن يتخطى سماع الشائعات المحلية البذيئة، فلا يمكن له أيضا أن يستمتع بما لا يمكن تجنبه، وكان من المعروف عامة في كل من لندن وديربيشاير أن الآنسة بينجلي متلهفة في هذا التوقيت بالذات إلى ألا تغادر العاصمة. فقد كان سعيها للحصول على أرمل نبيل يتمتع بثروة كبيرة يدخل مرحلة واعدة للغاية. ولا شك أنه من دون لقب نبله وأمواله كان الرجل ليعتبر الأكثر إثارة للضجر في لندن كلها، لكن لا يمكن للمرء أن ينال ما يتمناه من دون بعض العناء، وكانت المنافسة على ثروته ولقبه وأي شيء آخر يحرص على منحه محمومة لأسباب مفهومة. فقد كانت هناك اثنتان من الأمهات الجشعات تتمتعان بباع طويل في المصالح الزوجية، وتعمل كل منهما بجد نيابة عن ابنتها، ولم يكن لدى الآنسة بينجلي أي نية لأن تغادر لندن في مثل هذه المرحلة الحساسة من المنافسة.
كانت إليزابيث قد انتهت لتوها من كتابة الخطابات إلى أسرتها في لونجبورن وإلى عمتها جاردنر حين جاء دارسي بخطاب وصل مساء أمس بالبريد السريع، لكنه لم يفتحه إلا منذ مدة قصيرة.
وقال لها حين كان يسلمها الخطاب: «نقلت الليدي كاثرين - كما هو متوقع - الأخبار إلى السيد كولينز وتشارلوت، وقد أرفقت خطاباتهما بخطابها. ولا أظن أن خطاباتهما ستثير فيك السرور أو الاندهاش. سأكون في غرفة الأعمال مع جون وولر، لكنني آمل أن أراك على الغداء قبل أن أتوجه إلى لامتون.»
وكانت الليدي كاثرين قد كتبت تقول:
ابن أخي العزيز
وصلني خطابك بالبريد السريع وقد تسبب لي بصدمة كبيرة - كما تتوقع - لكن لحسن الحظ لم يتسبب بموتي. ومع ذلك، فقد اضطررت لاستدعاء الطبيب إيفيريدج الذي هنأني على ثباتي. ولتطمئن بأنني بأفضل صحة وحال. أما عن مقتل ذلك الشاب المأسوف عليه - الذي لا أعلم شيئا عنه بالطبع - فلا شك أنه سيتسبب في ضجة محلية لا يمكن تفاديها؛ وذلك بسبب أهمية بيمبرلي. ويبدو أن السيد ويكهام - الذي فعلت الشرطة الصواب باعتقاله - يتمتع بموهبة التسبب بالمشكلات والإحراج لأناس يتمتعون بالاحترام، ولا يسعني سوى أن أشعر أن تدليل والديك له أثناء طفولته - وهو الأمر الذي عبرت عن رأيي فيه بشدة لليدي آن - كان هو السبب في الكثير من إهماله وتقصيره لاحقا. إلا أنني أحب أن أعتقد أنه بريء من هذه الجريمة النكراء على الأقل، وحيث إن زواجه بتلك الطريقة الشائنة من أخت زوجتك جعل منه صهرا لك، فلا شك أنك سترغب في تحمل مصاريف الدفاع عنه. ولنأمل أن هذا الأمر لن يصيبك أنت أو أولادك بأي سوء. كما ستكون في حاجة إلى محام بارع. فلا تعين له محاميا محليا بأي شكل من الأشكال؛ حيث إنك بذلك ستكون قد عينت شخصا تافها يجمع بين عدم الكفاءة والتوقعات غير المعقولة فيما يتعلق بالأتعاب. وكنت لأعرض عليك خدمات محامي السيد بيجورثي، لكنني في حاجة إليه هنا. فالنزاع الطويل على الحدود بيني وبين جاري - الذي حدثتك عنه - وصل الآن إلى مرحلة حاسمة، وقد ارتفعت محاولات الصيد الجائر من جانبه بشكل مؤسف خلال الأشهر المنصرمة. وكنت سآتيك بنفسي لأسدي لك النصح والإرشاد - فقد قال السيد بيجورثي إنني لو كنت امتهنت المحاماة لكنت قد أصبحت إضافة رائعة إلى المحاكم الإنجليزية - لكن الأمور تتطلب وجودي هنا. فلو ذهبت إلى كل الأشخاص الذين سيستفيدون من مشورتي ونصحي لما مكثت في منزلي يوما واحدا. لذا أقترح عليك أن تعين محاميا من جمعية «إنر تيمبل». حيث يقال إنهم مجموعة من الرجال النبلاء. اذكر اسمي هناك وسيتم الاعتناء بقضيتك على أكمل وجه.
وسأنقل الأخبار التي أرسلتها إلى السيد كولينز حيث إننا لن نتمكن من إخفاء تلك الأخبار مدة طويلة. وبصفته رجل دين، سيرغب أن يرسل كلمات تعزيته المعتادة، وسأرفق خطابه مع خطابي.
إنني أرسل إليك وإلى السيدة دارسي مواساتي فيما أصابكما. لا تتردد أن ترسل لي إن ساءت الأمور فيما بعد وحينها سأشق عواصف الخريف لأكون بجانبكم.
ولم تتوقع إليزابيث أن تحصل على شيء مثير للاهتمام من خطاب السيد كولينز سوى اللذة المستهجنة الناجمة عن الاستمتاع بخليطه الفريد من التباهي والحماقة. كان الخطاب أطول مما توقعت. ورغم إعلان الليدي كاثرين أنها ستحظر طول الخطاب، إلا أنها كانت متسامحة بشأن ذلك. وبدأ السيد كولينز بأن قال إنه لا يستطيع أن يجد الكلمات المناسبة ليصف بها صدمته وبغضه لما حدث، ثم شرع يتحدث بكلمات كثيرة، القليل منها كان ملائما والبقية كانت غير مجدية. وكما حدث في خطبة ليديا، أرجع السيد كولينز سبب هذه المسألة المروعة إلى افتقار السيد والسيدة بينيت إلى السيطرة على ابنتهما، ثم استطرد يهنئ نفسه على التراجع عن عرض الزواج الذي كان سينتج عنه تورطه في فضيحتهم تلك دون مفر. ثم أكمل واعظا بقائمة من الكوارث التي أصابت الأسرة المنكوبة التي تتراوح بين الأسوأ - وهو استياء الليدي كاثرين ونفيهم الدائم من روزينجز - ونزولا إلى الخزي العام والإفلاس والموت. وأنهى خطابه بأن ذكر أن عزيزته تشارلوت ستمنحه ابنهما الرابع في غضون أشهر قليلة. كما ذكر أن بيت القس في هانسفورد كان يضيق عليهما قليلا بسبب أسرتهما الآخذة في النمو، لكنه كان يثق أن العناية الإلهية ستمده بمنزل أكبر وعيشة رغدة في الوقت المناسب. وفكرت إليزابيث أن هذا كان التماسا واضحا - ولم يكن هو الأول - لعناية السيد دارسي وأنه سيتلقى الرد نفسه. فالعناية الإلهية لم تبد حتى الآن أي رغبة في المساعدة، ولن يرغب دارسي في ذلك بالتأكيد.
أما خطاب تشارلوت - الذي لم يكن مختوما - فكان كما توقعته إليزابيث؛ فلم يزد عن كونه جملا اعتيادية مقتضبة؛ للتعبير عن الحزن والعزاء، وعن أن عقلها هي وزوجها مشغول على الأسرة المنكوبة. لا شك أن السيد كولينز كان سيقرأ الخطاب ولم تكن لتتوقع هي شيئا أكثر حرارة أو عاطفة منهما. لقد كانت تشارلوت لوكاس صديقة لإليزابيث في الطفولة وسنوات الأنوثة الأولى، وباستثناء جين كانت تشارلوت هي الأنثى الوحيدة التي بإمكانها أن تتناول معها محادثات عقلانية، ولا تزال إليزابيث تشعر بالحزن؛ بسبب أن الكثير من الثقة المتبادلة بينهما قد خمدت وتحولت إلى إحسان عام ومراسلات منتظمة غير كاشفة. وأثناء زيارتهما هي ودارسي منذ زواجهما إلى الليدي كاثرين، كان يتعين عليهما أن يزورا بيت القس في زيارة رسمية، وبسبب عدم رغبتها في تعريض زوجها إلى تعليقات السيد كولينز ذهبت في تلك الزيارات وحدها. وكانت إليزابيث قد حاولت أن تفهم سبب قبول تشارلوت بعرض السيد كولينز، الذي قدمه في غضون يوم واحد من عرضه لها ورفضها إياه، لكن من غير المرجح أن تكون تشارلوت قد نسيت استجابة صديقتها المندهشة الأولى تجاه تلك الأخبار أو سامحتها عليها.
وظنت إليزابيث أن تشارلوت قد أخذت بثأرها في إحدى المناسبات. وكانت إليزابيث دائما ما تتساءل كيف عرفت الليدي كاثرين بأنها على وشك أن تعقد خطبتها على السيد دارسي. فهي لم تتحدث لأي شخص عن عرضه الكارثي الأول إلا لجين، وخلصت إلى أن تشارلوت هي التي لا بد أن تكون قد تعرضت للخيانة من جانبه. وتذكرت ذلك المساء حين ظهر دارسي لأول مرة مع عائلة بينجلي في غرف تجمع ميريتون حين ظنت تشارلوت بطريقة ما أن دارسي قد يبدي اهتماما بصديقتها، وحذرت إليزابيث - بدافع من تفضيلها لويكهام - من أن تتجاهل رجلا ذا أهمية أكبر كدارسي. ثم بعد ذلك تأتي زيارة إليزابيث إلى بيت القس مع السير ويليام لوكاس وابنته. وقد علقت تشارلوت بنفسها على تكرار زيارات السيد دارسي والكولونيل فيتزويليام المتكررة أثناء مكوث الزوار، وقالت إنه مجاملة لإليزابيث. ثم كان عرض الزواج نفسه. وبعد أن غادر دارسي، ذهبت إليزابيث تسير وحيدة كي تهدئ من شعورها بالارتباك، لكن عند عودتها، لا بد أن تشارلوت قد لاحظت أن شيئا غير مرغوب فيه حدث أثناء غيابها.
لا، كان من المستحيل على أي شخص سوى تشارلوت أن يخمن سبب حزنها، وفي لحظة من لحظات الأذى المتعمد لزوجها، نقلت تشارلوت شكوكها إلى السيد كولينز. وما كان السيد كولينز بالطبع ليضيع وقتا كي يحذر الليدي كاثرين، وربما بالغ في إظهار حجم الخطر، فحول الشكوك إلى حقائق مؤكدة. وكانت دوافعه مختلطة بشكل يثير الفضول. فإذا ما تم الزواج فلا بد أنه كان يأمل أن يستفيد من تلك العلاقة الوثيقة مع السيد دارسي الثري ؛ فما هي الأشياء التي قد لا تكون ضمن حدود طاقته ليمنحها؟ لكن ربما كانت الحيطة والانتقام دوافع أقوى وأكثر جاذبية. فالسيد كولينز لم يسامح إليزابيث قط على رفضها إياه. وينبغي أن يكون عقابها الفقر والعنوس والوحدة، وليس زيجة متألقة تزدريها الفتيات حتى لو كانت ابنة إيرل. ألم تتزوج الليدي من والد دارسي؟ ربما كان هناك سبب دفع تشارلوت أيضا للشعور بغضب مبرر أكثر. فقد كانت مقتنعة - مثل ميريتون كلها - أن إليزابيث تكره دارسي؛ فهي نفسها - وهي صديقتها الوحيدة التي انتقدت زواج تشارلوت بدافع الحيطة والحاجة إلى منزل - قد قبلت برجل كان من المعروف أنها تكرهه؛ لأنها لم تستطع مقاومة الفوز ببيمبرلي كغنيمة. وليس من الصعب أبدا أن تهنئ صديقتها على حظها الطيب إلا حين تبدو صديقتها غير مستحقة له.
ويمكن النظر إلى زيجة تشارلوت باعتبارها زيجة ناجحة، كما هي الحال دوما حين يحصل كلا الزوجين على ما يبشر به هذا الرباط. فقد حصل السيد كولينز على زوجة وربة منزل تتمتع بالكفاءة وأم لأطفاله، وكذلك على رضا راعيته، في حين سلكت تشارلوت المسار الوحيد الذي يمكن أن تسلكه امرأة على قدر بسيط من الجمال والثراء؛ أملا منها في الحصول على استقلاليتها. وتذكرت إليزابيث كيف أن جين - وهي الطيبة والمتسامحة كعادتها دائما - حذرتها من أن تلوم تشارلوت على خطبتها من دون أن تتذكر ما الذي كانت تتخلى عنه في سبيل ذلك. فلم تكن إليزابيث تحب فتيان عائلة لوكاس قط. فحتى أثناء شبابهم كانوا يتسمون بالشدة والفظاظة وضعف التأثير، ولم يكن لديها شك أنهم حين يصلون إلى سن البلوغ سيحتقرون أختهم العانس ويزدرونها؛ حيث سينظرون إليها على أنها مصدر إحراج وتكلفة، وكانوا سيظهرون مشاعرهم تلك ولا يخفونها. ومنذ البداية كانت إليزابيث تتعامل مع زوجها بالمهارة نفسها التي تتعامل بها مع خدمها وحظائر دجاجها، ورأت إليزابيث - أثناء زيارتها الأولى لهانسفورد مع السير ويليام وابنته - الترتيبات التي تتبعها تشارلوت من أجل تقليص مساوئ وضعها. فقد خصصت حجرة أمامية في بيت القس كان يقضي فيها وقتا سعيدا؛ حيث جعلته إمكانية رؤية المارة - بما في ذلك إمكانية رؤية الليدي كاثرين في عربتها - يجلس سعيدا بجوار النافذة فيما كان يقضي معظم ساعات يومه - بتشجيع منها - في أعمال البستنة، وهو نشاط أظهر السيد كولينز تجاهه حماسة وموهبة كبيرة. فالعناية والاهتمام بالتربة يعد في العموم نشاطا فاضلا، ورؤية بستاني يجد في أداء عمله يثير دائما دافعا نحو القبول والاستحسان، وخصوصا إزاء منظر ثمار البطاطا المحروثة حديثا والبازلاء الجميلة المنظر. وظنت إليزابيث أن السيد كولينز لم يكن قط زوجا مقبولا حين رأته تشارلوت من بعيد وهو منحن على رقعته النباتية.
ولم تكن تشارلوت هي الابنة الكبرى لعائلة كبيرة من دون أن تكتسب بعض المهارات في التعامل مع مظاهر الجنوح الذكوري، وكان أسلوبها في التعامل مع زوجها عبقريا. فقد كانت دائما ما تثني فيه على صفات لم يكن يمتلكها؛ أملا أن يكتسبها بفعل شعوره بالإطراء تجاه مديحها وثنائها. وقد رأت إليزابيث هذا الأسلوب يؤتي ثماره حين زارتها وحدها زيارة قصيرة - بناء على مناشدة عاجلة من تشارلوت - بعد 18 شهرا من زواجها. كانت المجموعة في طريقها إلى بيت القس في إحدى عربات الليدي كاثرين دي بيرج حين تطرقوا في الحديث إلى ضيف لهم وكان رجل دين تقلد منصبه مؤخرا من أبرشية متاخمة، وتربطه صلة قرابة بعيدة بالليدي كاثرين.
كانت تشارلوت قد قالت: «لا شك أن السيد تومبسون شاب رائع، لكنه يثرثر كثيرا بالثناء علي. فمديحه لكل طعام أصنعه كان مبالغا فيه بلا داع، وجعله يبدو بمظهر الشره. ورأيت مرة أو اثنتين أثناء حديث الليدي كاثرين أنها لم تحب ذلك منه أيضا. من المؤسف أنه لم يأخذك يا عزيزي مثالا يحتذي به. فلو فعل لما نطق بالكثير، ولكان هذا أقرب إلى الصواب.»
ولم يكن عقل السيد كولينز ذكيا بما يكفي ليستوعب المفارقة أو يشك في الحيلة. فقد توقف به غروره عند هذا الثناء، وفي عشائهم التالي في روزينجز جلس على طاولة الطعام صامتا معظم الوقت، حتى إن إليزابيث خشيت أن تطرق الليدي كاثرين بملعقتها على الطاولة بحدة وتسأله عن سبب امتناعه عن الحديث.
كانت إليزابيث قد وضعت قلمها قبل 10 دقائق وتركت عقلها يرجع بالزمن إلى أيام العيش في لونجبورن، إلى تشارلوت وأيام صداقتهما الطويلة. والآن كان الوقت قد حان لتضع الأوراق جانبا وترى ما أعدته السيدة رينولدز من أجل عائلة بيدويل. وأثناء توجهها إلى غرفة مدبرة المنزل تذكرت كيف أن الليدي كاثرين - أثناء إحدى زياراتها العام الماضي - صحبتها في رحلة إلى كوخ الغابة لتوصيل الطعام إلى رجل مصاب بمرض عضال. لم تكن الليدي كاثرين قد دعيت لتدخل الغرفة التي يمكث بها المريض، ولم تظهر هي أي رغبة في فعل ذلك، ولم تفعل سوى أنها قالت أثناء عودتهما: «ينبغي أن نتشكك بشدة في تشخيص الدكتور ماكفي. أنا لا أصدق أبدا ما يدعى بالاحتضار الطويل. إنه تظاهر وتصنع في الطبقة الأرستقراطية؛ وما هو إلا عذر للتهرب من العمل لدى الطبقات الدنيا. لقد ذاع أن الابن الثاني للحداد يحتضر طوال السنوات الأربع الماضية، إلا أنني حين أمر بالكوخ أجده يساعد والده، ويبدو عليه أنه يتمتع بتمام الصحة والعافية. وعائلة دي بيرج لم تقنع قط بالاحتضار الطويل. فينبغي على الناس أن يحسموا أمرهم؛ إما أن يموتوا أو يبقوا على قيد الحياة، ويفعلوا إما هذا أو ذاك بأقل إزعاج ممكن للآخرين.»
وكانت إليزابيث حينها مصدومة كثيرا ومذهولة، فلم تستطع أن تعلق على ذلك. فكيف يمكن لليدي كاثرين أن تتحدث بهذه الطريقة الهادئة عن الاحتضار الطويل بعد ثلاث سنوات فقط من فقدانها طفلتها الوحيدة بعد سنوات طويلة من تدهور صحتها؟ لكن وبعد نوبة الحزن الأولى - التي تمت السيطرة عليها رغم أنها كانت شديدة - استعادت الليدي كاثرين بسرعة كبيرة رباطة جأشها - ومعها الكثير من عدم تسامحها. ولم تخلف الآنسة دي بيرج - التي كانت فتاة بسيطة وحساسة وصامتة - الكثير من الأثر في العالم أثناء حياتها كما لم تخلف أثرا كبيرا بموتها. وفي وقت وفاتها كانت إليزابيث قد أصبحت أما، وقد فعلت كل ما يمكن لها أن تفعله بدعوة الليدي كاثرين لزيارة بيمبرلي، وبالذهاب بنفسها إلى روزينجز من أجل دعمها في الأسابيع الأولى بعد الوفاة، وقد آتت تلك الدعوات وما أظهرته من تعاطف - وهو ما لم تتوقعه الليدي كاثرين - ثمارها. كانت الليدي كاثرين هي المرأة نفسها التي لطالما كانت عليها، إلا أن ظلال بيمبرلي كانت أقل تلوثا حين كانت إليزابيث تقوم بنشاطها اليومي بالسير تحت الأشجار، وأصبحت الليدي كاثرين مغرمة بزيارة بيمبرلي أكثر مما كان دارسي أو إليزابيث يتوقان لاستقبالها.
الفصل الثالث
في كل يوم كانت هناك مهام ينبغي على إليزابيث أن توليها اهتماما وقد وجدت هي في مسئولياتها تجاه بيمبرلي وتجاه عائلتها وخدمها ترياقا لأكثر ما يرعبها في مخيلتها. كان اليوم هو أحد الأيام المهمة لها ولزوجها. كانت تعلم أنها لا يمكنها أن تؤخر زيارة كوخ الغابة أكثر من ذلك. فصوت طلقات النار أثناء الليل وفكرة أن جريمة قتل وحشية وقعت على بعد 100 ياردة من الكوخ، في حين كان بيدويل في منزل بيمبرلي، لا بد أنها تركت السيدة بيدويل في جو من الرعب والأسى يضاف إلى حزنها الذي ينقض ظهرها. كانت إليزابيث تعلم أن دارسي زار الكوخ يوم الخميس الماضي ليقترح إعفاء بيدويل من مهامه عشية اليوم السابق للحفل؛ حتى يتسنى له أن يكون مع أسرته في هذا الوقت الصعب، لكن الزوج وزوجته أصرا على أن هذا لم يكن ضروريا ورأى دارسي أن إلحاحه وإصراره على ذلك لم يزدهما إلا حزنا. كان بيدويل يرفض دوما أي اقتراح قد يحمل في ثناياه أن منزل بيمبرلي أو سيده يمكنهما الاستغناء عنه - حتى ولو كان لمدة مؤقتة؛ فمنذ هجر منصبه ككبير سائقي العربات كان دائما ما يلمع الفضة في اليوم السابق ليوم حفل الليدي آن، وفي رأيه لم يكن هناك في بيمبرلي من يمكن أن يؤتمن على تلك المهمة.
وفي أثناء العام المنصرم، حين ازداد ويل ضعفا وتلاشى أمل شفائه تدريجيا، كانت إليزابيث تزور كوخ الغابة بانتظام، وفي البداية كانت تستقبل في غرفة نوم صغيرة في مقدمة الكوخ حيث يرقد الصبي المريض. ومؤخرا أدركت إليزابيث أن وجودها مع السيدة بيدويل بجوار فراشه كان مصدر إحراج له أكثر مما كان مصدر سعادة، ويمكن بالطبع أن يرى الأمر على أنه فرض أو عبء ثقيل، فظلت إليزابيث في غرفة الجلوس وتخبر الأم المنكوبة بما تستطيع من عبارات العزاء. وحين كانت عائلة بينجلي تمكث في بيمبرلي، كانت جين ترافق إليزابيث وبينجلي في الذهاب إلى الكوخ، وأدركت إليزابيث مرة أخرى كم تشتاق إلى وجود أختها، وكم كان مريحا أن تحظى برفقة أختها العزيزة التي تستطيع أن تفضي لها حتى بأسوأ أفكارها، التي كانت طيبتها ورقتها تخففان عنها كل حزن يعتريها. وعند غياب جين، كانت جورجيانا وأحد كبار الخدم يرافقانها إلى الكوخ، إلا أن جورجيانا كانت في الغالب تقدم تحياتها لها باقتضاب، ثم تجلس في الخارج على مقعد خشبي كان ويل قد صنعه قبل مدة؛ وذلك بسبب حساسيتها إزاء مسألة أن السيدة بيدويل قد تجد راحة أكبر في الحديث سرا مع السيدة دارسي. وكان دارسي نادرا ما يرافق إليزابيث في تلك الزيارات الروتينية؛ ذلك أن أخذ سلة الطعام التي يعدها الطاهي في منزل بيمبرلي كان يعد عملا أنثويا. واليوم، وبخلاف زيارته إلى ويكهام، كان دارسي مترددا في مغادرة منزل بيمبرلي في حال وجود أي تطورات تستدعي وجوده، واتفق أثناء تناول الإفطار على أن خادما سيرافق إليزابيث وجورجيانا. حينها قال ألفيستون بنبرة هادئة وموجها حديثه إلى دارسي إنه سيكون من دواعي سروره أن يرافق السيدة دارسي والآنسة جورجيانا؛ إذا ما كان هذا ملائما لهما، وقوبل عرضه بالامتنان. ورمقت إليزابيث جورجيانا بنظرة سريعة فرأت نظرة فرح بادية عليها، وسرعان ما أخفتها جورجيانا، فجعل هذا ردها على العرض المقترح واضحا جدا.
وأخذت إليزابيث وجورجيانا إلى الغابة في عربة ذات ظهر قابل للطي، في حين امتطى ألفيستن صهوة جواده الذي يدعى بومباي وسار إلى جوارهما. كان ضباب الصباح قد انقشع بعد ليلة خالية من الأمطار، وكان الصباح رائعا بهيا، كما كان باردا، لكن يتخلله ضوء الشمس، أما الهواء فكان منعشا وبه مسحة الخريف المألوفة - من أوراق الشجر والأرض الندية ورائحة الخشب المحترق. وحتى الجياد بدت وكأنها تستمتع باليوم، فراحت تهز رءوسها وتلوي شكائمها. وكانت الرياح قد هدأت، لكن بقايا العاصفة كانت لا تزال تلوح في الأفق، وكانت أوراق الشجر الجافة تطقطق تحت عجلات العربة وتتساقط وتدور بعد مرورهم. ولم تكن الأشجار قد تجردت من كامل أوراقها بعد، وصار لونا الخريف، وهما الأحمر القاني والذهبي، أكثر حدة تحت السماء الزرقاء الصافية. وكان من المستحيل في مثل هذا اليوم ألا تشعر إليزابيث في نفسها بارتفاع معنوياتها، وللمرة الأولى منذ أن استيقظت اليوم كانت تشعر بدفقة من الأمل. وفكرت إليزابيث أن مظهرهم قد يبدو للناظرين وكأنهم في طريقهم لرحلة خلوية - وذلك من شكل الجياد وشكل سائق العربة في كسوته ووجود سلة المئونة، وذلك الشاب الوسيم الذي يمتطي حصانه بجوارهم. وحين دخلوا الغابة كانت الأغصان الداكنة التي تمتد فوقهم - والتي تبدو في قوتها وقت الغسق كسقف أحد السجون - مضاءة ببصيص من ضوء الشمس الذي تخللها فوصل إلى أرض الممر المفروش بورق الشجر، وبث في الشجيرات الخضراء الداكنة حيوية الربيع وبهجته.
توقفت العربة وأعطي السائق الأوامر بأن يعود بعد ساعة واحدة بالتحديد، ثم سار ثلاثتهم - فكان ألفيستون يقود الحصان ويحمل السلة - بين أغصان الأشجار اللامعة على طول الممر الموصل إلى الكوخ. ولم يتم إحضار الطعام باعتبار ذلك عملا من أعمال الخير - فلم يكن هناك أي عضو من العاملين في بيمبرلي يعيش من دون مأوى له أو طعام أو ملبس - وإنما كان الطعام فائضا صنعه الطاهي أملا في إثارة شهية ويل؛ فكان الطعام يتكون من مرق لأفضل أنواع اللحم ومضاف إليه النبيذ - بحسب وصفة وضعها الدكتور ماكفي - وشطائر صغيرة شهية تذوب في الفم، وحلوى هلامية من الفواكه وخوخ وكمثرى ناضجة من المستنبتات الزجاجية. وكان من النادر أن يتحمل ويل تناول هذه الأطعمة الآن، لكن قبلت العائلة بهذا الطعام بامتنان وإن لم يتمكن ويل من تناوله فلا شك أن أمه وأخته ستفعلان.
وعلى الرغم من خفوت صوت أقدامهم أثناء سيرهم، فإن السيدة بيدويل لا بد أنها سمعت قدومهم؛ ذلك أنها وقفت عند الباب ترحب بهم. كانت السيدة بيدويل امرأة هزيلة ونحيلة، وكان وجهها الشاحب كلون الماء لا يزال يعكس شيئا من جمال الشباب وبشره، لكن الآن أصبحت بفعل القلق والتوتر الناتجين عن انتظارها لموت ابنها امرأة عجوزا. وقدمت إليزابيث ألفيستون الذي أبدى أحر تعاطفه من دون أن يذكر اسم ويل مباشرة، وقال إن لقاءها كان مصدر سرور له، وأشار إلى أنه سينتظر السيدة دارسي والآنسة جورجيانا على المقعد الخشبي بالخارج.
قالت السيدة بيدويل: «لقد صنعه ابني ويليام يا سيدي، وانتهى منه في الأسبوع السابق لمرضه. كان نجارا ماهرا كما ترى يا سيدي، ولا يزال يحب تصميم قطع الأثاث وصنعها. والسيدة دارسي لديها كرسي للرضاعة - أليس كذلك يا سيدتي؟ - كان ويل قد صنعه في عيد رأس السنة التالي لولادة السيد فيتزويليام.»
قالت إليزابيث: «أجل، فعلا. إننا نحب هذا الكرسي كثيرا، ودائما ما نتذكر ويل حين يتسلق عليه الأطفال.»
انحنى ألفيستون ثم خرج وجلس على المقعد الذي كان على حافة الغابة، ويمكن رؤيته من الكوخ، في حين أخذت إليزابيث وجورجيانا الكراسي التي قدمتها السيدة بيدويل في غرفة المعيشة. كانت الغرفة مفروشة بفرش بسيط يتكون من طاولة مستطيلة وأربعة كراسي، وكرسي مريح أكثر على كل جانب من جانبي المدفأة، ورف للموقد يعج بالتذكارات العائلية. وكانت النافذة الأمامية مفتوحة شيئا قليلا، لكن جو الغرفة كان لا يزال حارا، وعلى الرغم من أن غرفة ويل بيدويل كانت في الطابق العلوي فإن الرائحة الكريهة المنبعثة بسبب طول المرض بدت وكأنها تتخلل الكوخ كله. وبالقرب من النافذة كان هناك فراش صغير يستقر على هزازات، وإلى جواره كرسي للرضاعة، وبدعوة من السيدة بيدويل، ذهبت إليزابيث إليه وراحت تحدق إلى الطفل النائم وتهنئ جدته على ما يتمتع به الوليد من صحة وجمال. ولم يكن هناك أي شيء يوحي بوجود لويزا. كانت جورجيانا تعلم أن السيدة بيدويل ترحب بفرصة أن تتحدث مع إليزابيث على انفراد، وبعد أن سألت عن ويل وأبدت إعجابها بالطفل ، قبلت باقتراح إليزابيث الذي كانتا قد اتفقتا عليه فيما بينهما والذي يقضي بأن تنضم إلى ألفيستون بالخارج. وسرعان ما أفرغت السلة المصنوعة من الخوص وأبدت المضيفة امتنانها على محتوياتها وجلست المرأتان على الكرسيين المجاورين للمدفأة.
فقالت السيدة بيدويل: «ليس هناك الكثير من الطعام الذي يمكن له أن يتناوله الآن يا سيدتي، لكنه يحب مرق اللحم الخفيف هذا، وأنا أحاول أن أجعله يتناول شيئا من الكاستر والنبيذ بالطبع. ومن اللطيف منك أن تزورينا يا سيدتي، لكنني لن أعرض عليك رؤيته. فلن يؤدي هذا إلا إلى شعورك بالحزن، كما أنه لا يتمتع بالقوة ليكثر في الحديث.»
قالت إليزابيث: «الدكتور ماكفي يزوره بانتظام، أليس كذلك؟ فهل يطمئنك عليه؟» «إنه يأتي كل يومين يا سيدتي، فهو مشغول كما تعرفين، ولا يتلقى أجرا منا أبدا. إنه يقول إن ويل ليس أمامه الكثير الآن. آه يا سيدتي، لقد رأيت ابني العزيز حين أتيت إلى هنا للمرة الأولى زوجة للسيد دارسي. فلماذا حدث له هذا يا سيدتي؟ إن كان هناك سبب أو غاية من ذلك فيمكنني أن أتقبل الأمر.»
مدت إليزابيث يدها. وقالت بنبرة رقيقة: «هذا سؤال نطرحه دائما ولا نحصل له على إجابة. هل يزوركم القس أوليفانت؟ لقد قال شيئا عن زيارة ويل يوم الأحد بعد القداس.» «أجل، إنه يزورنا بالفعل يا سيدتي، واطمئني؛ فزيارته تريحنا. لكن ويل طلب مني ألا أدخله عليه مؤخرا؛ لذا فإني أعتذر له وآمل ألا يشعر بالإهانة تجاه ذلك.»
قالت إليزابيث: «أنا واثقة أنه لا توجد إساءة في ذلك سيدة بيدويل. فالسيد أوليفانت رقيق الشعور ومتفهم. والسيد دارسي يثق به كثيرا.» «ونحن كلنا يا سيدتي.»
ساد الصمت بينهما بضع دقائق، ثم قالت السيدة بيدويل: «لم أتحدث إلى ويل عن مقتل ذلك الشاب المسكين يا سيدتي. لقد انزعج ويل كثيرا من حدوث شيء كهذا في الغابة وعلى مقربة من المنزل، ولم يكن قادرا على حمايتنا.»
قالت إليزابيث: «لكن آمل أنكم لم تتعرضوا للخطر سيد بيدويل. لقد أخبرت أنكم لم تسمعوا شيئا.» «لا يا سيدتي، عدا صوت الطلقات، غير أن هذا أثار في ويل شعورا بمدى عجزه، وبالحمل الذي على والده أن يتحمله. لكني أعلم أن هذه المأساة شاقة عليك وعلى سيدي، ومن الأفضل ألا أتحدث عن أمور لا أعرف عنها أي شيء.» «لكنك كنت تعرفين السيد ويكهام حين كان طفلا، أليس كذلك؟» «بالفعل يا سيدتي. لقد اعتاد اللعب مع سيدي في الغابة حين كان صغيرا. كانا شقيين ككل الصبية، لكن سيدي كان هو الأكثر هدوءا بينهما. أنا أعرف أن السيد ويكهام أصبح في شبابه جامحا وفظا وتسبب بالضيق لسيدي، لكن لم يأت أحد على ذكره منذ زواجكما، ولا شك أن هذا كان من أجل مصلحة الجميع. لكن لا يمكنني أن أصدق أن الصبي الذي كنت أعرفه قد كبر وأصبح قاتلا.»
جلست المرأتان في صمت مدة دقيقة. كان هناك اقتراح حرج على إليزابيث أن تتقدم به، وكانت تحتار في أفضل طريقة يمكن لها أن تطرحه بها. كانت هي ودارسي يشعران بالقلق - منذ وقوع الحادث - من أن عائلة بيدويل قد تشعر بأنها في خطر، حيث إنهم معزولون في كوخ الغابة، خاصة أن لديهم صبيا مصابا بداء عضال، كما أن بيدويل يكون دائما في منزل بيمبرلي. سيكون من المنطقي أن تشعر العائلة بالقلق واتفقت إليزابيث ودارسي على أنها ستطرح على السيدة بيدويل اقتراحا أن تنتقل العائلة كلها إلى منزل بيمبرلي، حتى إلى أن يحل لغز الجريمة على الأقل. ومدى كون هذا الاقتراح عمليا أو لا يتوقف بالطبع على ما إن كان ويل سيتحمل الرحلة، لكنه سيتم حمله بكل حرص على نقالة طوال الطريق؛ وذلك من أجل تجنب اهتزاز العربة، كما سيتلقى رعاية خاصة بمجرد أن يستقر في غرفة هادئة في بيمبرلي. لكن حين طرحت إليزابيث هذا الاقتراح، ذهلت من رد السيدة بيدويل. فللمرة الأولى بدت المرأة مرعوبة للغاية، وجاء ردها مصحوبا بنظرة تملؤها الرهبة. «أوه، لا يا سيدتي! أرجوك لا تطلبي منا فعل ذلك. لن يكون ويل سعيدا وهو بعيد عن الكوخ. ليس هناك ما نخشاه هنا. فحتى في غياب بيدويل، لم نكن أنا ولويزا خائفتين. وقد فعلنا كما أمرنا بعد أن تكرم الكولونيل فيتزويليام وأتى ليطمئن أن كل شيء على ما يرام. لقد أوصدت الباب وغلقت نوافذ الطابق الأرضي ولم يأت أحد بالجوار. لم يكن الأمر أكثر من مجرد إطلاق للنار يا سيدتي، وقد حدث الأمر على غفلة وكان عفويا، ولم يدر بيننا وبينه شجار. كما أنني واثقة أن الدكتور ماكفي سيقول بأن ويل لا يحتمل هذه الرحلة. من فضلك أخبري السيد دارسي أننا شاكرون وممتنون، لكن لا ينبغي أن يتم التفكير في هذا الأمر.»
بدت المرأة بنظرة عينيها وامتداد يديها وكأنها تستجديها. فقالت إليزابيث بنبرة رقيقة: «لن يحدث، إن كانت تلك هي رغبتك، لكن يمكن لنا على الأقل أن نحرص على أن يكون زوجك هنا طوال الوقت. سنفتقده كثيرا، لكن يمكن للآخرين أن يقوموا بعمله بينما ويل مريض للغاية ويتطلب رعايتكم.» «لن يفعل زوجي ذلك يا سيدتي. سيحزنه أن يفكر أن الآخرين يمكن لهم أن يتولوا القيام بمهمته.»
وبقول هذا، شعرت إليزابيث برغبة في أن تقول إنه يتعين عليه أن يحزن إن حدث ذلك، لكنها شعرت أن هناك شيئا جديا أكثر من مجرد رغبة بيدويل في أن يشعر بأنهم في حاجة إليه على الدوام. قررت إليزابيث أن تترك المسألة في الوقت الراهن؛ فلا شك أن السيدة بيدويل ستناقشها مع زوجها وربما ستغير رأيها. كما أنها كانت محقة بالطبع؛ فإن كان رأي الدكتور ماكفي أن ويل لن يستطيع تحمل الرحلة فسيكون من الحماقة القيام بها.
كانت المرأتان تودع كل منهما الأخرى، وتنهضان من مكانهما حين ظهرت قدمان ممتلئتان من فوق حافة الفراش الصغير، وبدأ الطفل في البكاء. وبنظرة خاطفة تنم عن القلق ألقتها السيدة بيدويل نحو غرفة ابنها، اقتربت من الفراش الصغير ومدت يدها لتأخذ الطفل بين ذراعيها. وفي تلك اللحظة كان هناك وقع أقدام على السلم، وأتت لويزا بيدويل. ولأنها كانت تزور الآن كوخ الغابة كخادمة تعمل في منزل بيمبرلي؛ فلم تتمكن إليزابيث للحظة من التعرف على الفتاة التي كانت مثالا للصحة والسعادة، حيث كانت تتحلى بوجنتين ورديتين وعينين صافيتين، وتبدو في ملابس عملها المكوية حديثا مرحة كصباح يوم ربيعي. بدت الفتاة الآن أكبر في العمر بعشر سنوات؛ فكانت شاحبة مجهدة وكان شعرها غير الممشط مسحوبا إلى الوراء من على وجه كسته علامات التعب والقلق، كما كانت ملابس عملها ملطخة ببقع الحليب. هزت لويزا رأسها سريعا تحية لإليزابيث، وبعد ذلك - ومن دون أن تنطق بكلمة - أمسكت الطفل من أمها ثم قالت: «سآخذه إلى المطبخ حتى لا يوقظ ويل. سأضع له الحليب وشيئا من الثريد يا أمي من أجل إطعامه. سأحاول تهدئته بهذا.»
ثم غادرت الفتاة. فقالت إليزابيث بغية كسر الصمت: «لا بد أنه من دواعي سروركم أن يكون هناك حفيد لكم، لكن الأمر ينطوي أيضا على مسئولية. كم ستطول مدة بقائه هنا؟ أعتقد أن أمه ستريد أن تستعيده.» «بالطبع يا سيدتي. كانت رؤية الوليد مصدر سرور لويل، لكنه لا يحب أن يسمع بكاءه، رغم أنه لا يبكي إلا إذا كان جائعا، وهذا طبيعي.»
سألتها إليزابيث: «متى سيعود الطفل إلى منزله؟» «الأسبوع القادم يا سيدتي. إن زوج ابنتي الكبرى - مايكل سيمبكنز وهو رجل صالح كما تعرفين - سيلقاهم حين ينزلون من العربة في بيرمنجهام وسيأخذه إلى المنزل. ونحن ننتظر لنعرف أي يوم سيكون ملائما له. فهو مشغول للغاية وليس من السهل عليه أن يغادر متجره، لكنه يتوق هو وابنتي إلى رجوع جورجي إلى المنزل.» كان من المستحيل على إليزابيث ألا تلحظ نبرة التوتر في صوتها.
أدركت إليزابيث أن الوقت قد حان لتغادر. فودعت السيدة بيدويل واستمعت لها وهي تشكرها، وسرعان ما أغلق باب كوخ الغابة خلفها. وكانت إليزابيث تشعر بالكآبة بسبب التعاسة الواضحة التي رأتها، وأصبح عقلها مشتتا. لماذا قوبل اقتراح أن تنتقل عائلة بيدويل إلى منزل بيمبرلي بمثل هذا الضيق والانزعاج؟ أكان الاقتراح يفتقر إلى اللباقة ربما، كتضمين غير معلن بأن الصبي المحتضر سيتلقى في بيمبرلي رعاية أفضل من تلك التي تقدمها له والدته في منزله؟ لم تكن إليزابيث تعني هذا مطلقا. هل شعرت السيدة بيدويل بأن الرحلة ستتسبب في موت ابنها، لكن هل ستكون هناك أي مخاطرة إذا ما حمل الصبي على نقالة واعتنى به الدكتور ماكفي في كل خطوة من الطريق؟ لم يكن هناك شيء يمكن أن يتصور خلافا لهذا. لقد بدت السيدة بيدويل منزعجة بفكرة الانتقال أكثر من انزعاجها بفكرة احتمال وجود قاتل في الغابة. وشعرت إليزابيث بشيء من الشك الذي يكاد يرقى إلى اليقين، والذي لا يمكن لها أن تبوح به لرفاقها، وكانت تتساءل بالفعل إن كان من الصواب أن تبوح به لأي أحد. ثم فكرت إليزابيث مرة أخرى في مدى رغبتها أن تكون جين لا تزال في منزل بيمبرلي؛ لكن كان من الصواب أن تغادر عائلة بينجلي. فمكان جين أن تكون بجانب أطفالها، وستكون ليديا أقرب إلى السجن المحلي حيث يمكن لها على الأقل أن تزور زوجها. واختلطت مشاعر إليزابيث وتعقدت بإدراكها أن منزل بيمبرلي كان مثيرا للإزعاج بصورة أقل في ظل غياب ليديا بتقلباتها المزاجية العنيفة وتذمرها المستمر وعويلها.
وأثناء انهماكها في تلك الفوضى من الأفكار والمشاعر، لم تول إليزابيث إلا القليل من الاهتمام إلى رفيقيها. رأتهما الآن يسيران معا على حافة الفرجة في الغابة، وكانا ينظران إليها كما لو كانا يتساءلان متى ستتحرك من مكانها. تملصت إليزابيث من شواغلها وانضمت إليهما. ثم قالت وهي تخرج ساعتها: «لدينا 20 دقيقة قبل أن تعود العربة. والآن وحيث إن الشمس لا تزال مشرقة - ولو بشكل جزئي - فهلا نجلس بعض الوقت قبل أن نعود؟»
كان المقعد المواجه للكوخ يطل على منحدر بعيد يؤدي إلى النهر. جلست إليزابيث وجورجيانا على أحد جانبيه وجلس ألفيستون على الجانب الآخر، وكانت ساقاه ممدودتين أمامه ويداه خلف رأسه. والآن وحيث إن رياح الخريف جردت الكثير من الأشجار من أوراقها؛ كان من الممكن رؤية خط الأفق اللامع الرقيق الذي يفصل بين النهر والسماء. أكان هذا هو المنظر الذي جعل جد جورجيانا الأكبر يختار هذه البقعة؟ كان المقعد الأصلي قد أزيل من مكانه منذ زمن بعيد، لكن المقعد الجديد الذي صنعه ويل كان خشنا وغير مريح. وبجانب المقعد كانت هناك كتلة تشكل نصف درع من شجيرات التوت الأحمر، وجنبة لم تستطع إليزابيث أن تتذكر اسمها، أوراقها سميكة وأزهارها بيضاء.
وبعد بضع دقائق التفت ألفيستون إلى جورجيانا. وقال: «هل كان جدك الأكبر يعيش هنا طوال الوقت، أم أن المكان كان بمثابة معتزل مؤقت من أمور المنزل الكبير؟» «أوه، كان يعيش هنا طوال الوقت. لقد بنى الكوخ ثم انتقل للعيش فيه من دون أي خادم أو أي أحد ليطهو له الطعام. كان الطعام يحمل له بين الحين والآخر، لكنه وكلبه سولدجر لم يريدا شيئا سوى أن يكونا معا. كانت حياته عبارة عن فضيحة كبرى في وقته، وحتى أسرته لم تكن متعاطفة معه. فأن يعيش فرد من عائلة دارسي في أي مكان آخر عدا منزل بيمبرلي يجعل الأمر يبدو وكأنه تنصل من المسئولية. ثم حين أصبح الكلب سولدجر عجوزا ومريضا، أطلق عليه جدي الأكبر النار، ثم أطلق النار على نفسه. وترك رسالة يطلب فيها أن يدفنا معا في القبر نفسه في الغابة، وهناك قبر وشاهد له، لكنهما يخصان الكلب سولدجر فقط. كانت الأسرة مذعورة من فكرة أن فردا من عائلة دارسي يرغب في أن يرقد في أرض مدنسة، ويمكنك أن تتخيل رأي قس الأبرشية في هذا الأمر. لذا فإن جدي الأكبر يرقد في الأرض المملوكة للعائلة ويرقد الكلب سولدجر في الغابة. كنت أشعر دوما بالأسى على جدي الأكبر، وحين كنت طفلة، اعتدت الذهاب مع مربيتي لأضع بعض الأزهار أو التوت على القبر. كان هذا مجرد تخيل طفولي أن جدي كان مع سولدجر في القبر. لكن حين علمت أمي ما يحدث صرفت المربية من الخدمة، وقيل لي إن الغابة أصبحت محظورة علي.»
قالت إليزابيث: «محظورة عليك، ولكن ليس على أخيك.» «لا، لم تكن محظورة على فيتزويليام. لكنه يكبرني بعشرة أعوام، وكان راشدا حين كنت لا أزال طفلة، ولا أعتقد أنه كان يكن المشاعر نفسها التي أكنها تجاه جدي الأكبر.»
ساد الصمت بينهم، ثم قال ألفيستون: «هل لا يزال القبر في مكانه؟ يمكنك أن تضعي عليه بعض الأزهار الآن إذا ما رغبت في ذلك، فأنت لم تعودي طفلة.»
وبدا لإليزابيث أن تلك الكلمات تنطوي على معنى أعمق من مجرد زيارة قبر يرقد فيه كلب.
قالت جورجيانا: «أرغب في هذا كثيرا. فلم أزر القبر منذ كنت في الحادية عشرة من عمري. أريد أن أرى إن كان هناك شيء قد تغير، لكن لا يمكنني أن أعتقد أن هناك ما تغير بالفعل. وأنا أعرف الطريق؛ فهو ليس ببعيد عن الممر، ومن ثم فلن نتأخر على الرجوع إلى العربة.»
وانطلقوا معا، فكانت جورجيانا ترشدهم إلى الطريق وألفيستون يسير أمامهم قليلا، ومعه جواده بومباي ليمنع عنهم نبات القراص، ويبعد عن طريقهم فروع الأشجار التي تعترض سبيلهم. وكانت جورجيانا تحمل باقة صغيرة من الأزهار التي قطفها ألفيستون من أجلها. وكان مذهلا ما بثته مجموعة الأزهار الصغيرة تلك من إشراق وما أثارته من ذكريات في يوم خريفي مشمس كهذا. كان ألفيستون قد وجد باقة من زهر الخريف الأبيض على جذع خشن وبعض أزهار التوت بلون أحمر أنيق، لكنها لم تكن جاهزة بعد للسقوط، وورقة شجر أو اثنتين معرقتين باللون الذهبي. ولم ينبس أحدهم ببنت شفة. أما إليزابيث التي كان عقلها مشوشا كثيرا بالفعل بمجموعة من الأفكار المسببة للقلق، فكانت تتساءل في نفسها إن كان من الحكمة القيام بهذه الرحلة الصغيرة، من دون أن تعرف كيف يمكن لتلك الرحلة أن تكون غير مستحسنة بأي شكل. فقد كان اليوم من الأيام التي يبدو فيها أي حدث خارج عن المألوف واقعا بين براثن الخوف والأخطار المحتملة.
حينها بدأت إليزابيث تدرك أن الممر قد وطئته الأقدام حديثا. ففي بعض أجزائه كانت الفروع والأغصان تبدو وكأنها مفصولة بعضها عن بعض، وعند بقعة معينة حيث كانت الأرض منحدرة قليلا والأوراق لا تزال لينة رأت إليزابيث علامات تدل على أنها قد حملت أقداما ثقيلة. وتساءلت إن كان ألفيستون قد لاحظ ذلك، لكنه لم يقل شيئا، وفي غضون دقائق قليلة، تحررت المجموعة من الشجيرات المتشابكة، ووجدوا أنفسهم في فرجة صغيرة محاطة بأشجار الزان. وفي منتصف الفرجة كان هناك شاهد قبر من الجرانيت ارتفاعه نحو قدمين وقمته منحنية بعض الشيء. ولم يكن القبر بارزا عن الأرض وبدا شاهده - الذي كان يلمع الآن تحت أشعة الشمس - وكأنه ضارب بجذوره في الأرض. ووقفوا يقرءون الكلمات المحفورة في صمت. «سولدجر. مخلص حتى موته. مات هنا مع سيده، في الثالث من نوفمبر 1735.»
ومن دون أن تتحدث، تقدمت جورجيانا من القبر لتضع أزهارها تحت شاهد القبر. وبينما كانوا واقفين لدقيقة يتأملونه، قالت جورجيانا: «مسكين جدي الأكبر. أتمنى لو أنني كنت أعرفه. لم يتحدث عنه أحد قط، حتى أولئك الذين يتذكرونه. كان هو الشخص الفاشل في العائلة، ذلك الفرد من عائلة دارسي الذي ألحق العار باسمه؛ لأنه قدم سعادته الشخصية على المسئوليات العامة. لكنني لن أزور القبر مرة أخرى. ففي النهاية، لا يرقد جسده هنا؛ إنما كان ذلك تصورا طفوليا مني أنه قد يعرف بطريقة ما أنني أهتم لأمره. آمل أنه كان سعيدا في عزلته. فقد تمكن من الهرب على الأقل.»
فكرت إليزابيث في نفسها، «مم يهرب؟» والآن كانت إليزابيث تتوق للعودة إلى العربة. فقالت: «أعتقد أن الوقت قد حان لنعود إلى المنزل. سيعود السيد دارسي عما قريب من السجن وسيقلق كثيرا إن فكر أننا لا نزال في الغابة.»
ثم توجهوا عبر الممر الضيق الذي تتناثر الأوراق على أرضه وانعطفوا إلى الطريق الذي ستنتظرهم فيه العربة. ورغم أنهم كانوا في الغابة مدة تقل عن الساعة، إلا أن شمس الظهيرة الساطعة كانت قد أفلت، وشعرت إليزابيث - التي لا تحب أبدا أن تسير في الأماكن الضيقة - أن الشجيرات والأشجار كأنها ثقل يضغط عليها. وكانت رائحة المرض لا تزال في أنفها، وقلبها مرهق من البؤس والتعاسة التي تعيشها السيدة بيدويل ومن فقدان الأمل تماما تجاه ويل. وحين وصلوا إلى الممر الرئيسي ساروا معا حيث كان اتساعه يسمح لهم بذلك ، وحين كان الممر ضيقا أكثر، كان ألفيستون يتقدمهم ويسير مع جواده بومباي بمقدار بضعة أقدام أمامهم، وكان ينظر إلى الأرض ثم ينظر يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن أدلة. وكانت إليزابيث تدرك أنه يفضل أن يتأبط ذراع جورجيانا، لكنه لم يكن ليترك أي واحدة منهما تسير وحيدة. وكانت جورجيانا أيضا صامتة؛ ربما لأنها كانت تشعر أيضا بشعور الخوف والتهديد نفسه.
وفجأة توقف ألفيستون وتوجه بسرعة نحو شجرة بلوط. كان من الواضح أن شيئا ما أثار انتباهه. ولحقت به السيدتان ورأتا على جذع الشجرة الأحرف «ف. د-ي» منحوتة على الجذع بارتفاع أربعة أقدام تقريبا من الأرض.
قالت جورجيانا وهي تنظر حولها: «ألا يوجد نقش مشابه لذلك على شجرة البهشية تلك؟»
وبعد فحص سريع تأكدوا بالفعل من وجود نقش بالأحرف الأولى على جذعين آخرين. فقال ألفيستون: «لا يبدو كالنقش المعتاد للمحبين. فالأحرف الأولى فقط هي ما ينقشه المحبون. وأيا كان من صنع هذا النقش فإنه كان مهتما بألا يكون هناك شك أن تلك الأحرف الأولى تشير إلى فيتزويليام دارسي.»
قالت إليزابيث: «أتساءل متى صنع هذا النقش. فهو يبدو لي حديث العهد للغاية.»
قال ألفيستون: «لا شك أنه نقش في غضون الشهر المنصرم، وبيد اثنين من الأشخاص. فحرفا الفاء والدال سطحيان إلى حد ما، وربما نقشتهما امرأة، لكن الخط الفاصل الذي يتبعهما وحرف الياء منحوتان بعمق أكبر، وربما كانت الأداة المستخدمة أكثر حدة بكل تأكيد.»
قالت إليزابيث: «لا أعتقد أن محبا نقش هذا التذكار. أعتقد أن من فعله عدو وكانت نيته في ذلك خبيثة. فهو منقوش بكراهية وليس بحب.»
وبمجرد أن نطقت بتلك الكلمات، تساءلت في نفسها إن كان من الحكمة أن تبث القلق في نفس جورجيانا، لكن قال ألفيستون: «أعتقد أن الأحرف الأولى ترمز إلى ديني. هل نعرف اسمه بالمسيحية؟»
وحاولت إليزابيث أن تتذكر إن كانت قد سمعت من قبل باسمه في ميريتون، وقالت في النهاية: «أعتقد أن اسمه كان مارتن، أو ربما ماثيو، لكنني أعتقد أن الشرطة ستعرفه. فلا بد أنهم تواصلوا مع أقاربه إن كان له أقارب. لكن ديني لم يدخل هذه الغابة قط قبل يوم الجمعة على حد علمي، ولا شك أنه لم يزر بيمبرلي قط.»
استدار ألفيستون ليهم بالرحيل. وقال: «سنبلغ عن الأمر حين نعود إلى المنزل، ويتعين إخطار الشرطة بذلك. وإن كان الضباط قد قاموا بالبحث الدقيق الذي عليهم أن يقوموا به، فمن الممكن أنهم رأوا هذه النقوش بالفعل وتوصلوا إلى استنتاج بشأن معناها. في تلك الأثناء، آمل ألا يدب القلق في نفسيكما كثيرا. فقد يكون النقش شيئا لا يراد به أي أذى بعينه؛ فربما كانت فتاة عاشقة من سكان الأكواخ أو خادما مشاركا في عمل أحمق غير مسبب لأي ضرر.»
لكن إليزابيث لم تكن مقتنعة بذلك. ومن دون أن تنطق بكلمة سارت مبتعدة عن الشجرة وتبعها ألفيستون وجورجيانا. وفي صمت لم يشعر أي منهم أن عليه كسره، تبعت إليزابيث وجورجيانا ألفيستون على طول الممر باتجاه العربة التي تنتظرهم. ويبدو أن حالة إليزابيث المزاجية النكدة انتقلت إلى رفاقها، وحين ساعد ألفيستون السيدتين على ركوب العربة أغلق بابها وامتطى صهوة جواده وتوجهوا نحو المنزل.
الفصل الرابع
كان مظهر السجن المحلي في لامتون من الخارج - على عكس سجن المقاطعة في ديربي - أكثر إثارة للرهبة والخوف من شكله من الداخل، وربما بني على أساس الاعتقاد بأن الحفاظ على الأموال العامة عن طريق ردع المجرمين المحتملين أفضل من الحفاظ عليها عن طريق تثبيطهم عن ارتكاب الجرائم بمجرد دخولهم السجن. ولم يكن دارسي يجهل السجن، حيث كان قد زاره من قبل بين الحين والآخر بصفته قاضيا، وإحدى تلك المرات البارزة كانت قبل ثمانية أعوام حين شنق أحد السجناء المختلين عقليا نفسه في زنزانته، واستدعى رئيس حرس السجن القاضي الوحيد المتاح في ذلك الوقت ليطلع على الجثة. كانت تلك التجربة مؤلمة جدا حتى إنها خلفت في دارسي هلعا دائما من الموت شنقا، ولم يزر السجن يوما من دون أن تواتيه الذكرى الحية للجثة المتدلية والرقبة الممطوطة. واليوم كانت الذكرى أقوى من المعتاد. وكان حارس السجن ومساعده رجلين رحيمين، ورغم أننا لا يمكن أن نقول إن أيا من الزنازين تعد واسعة، لم يلق المساجين معاملة سيئة من جانبهما؛ إذ كان بمقدورهم أن يدفعوا مبلغا جيدا من المال ليحصلوا على الطعام والشراب وأن يستضيفوا زوارهم في شيء من الراحة ولم يكن هناك الكثير ليتبرموا بشأنه.
وحيث إن هادركاسل قد حذر بشدة من أنه من الطيش أن يقابل دارسي ويكهام قبل إجراء التحقيق، فقد تطوع بينجلي - بطبيعته الكريمة المعتادة - لأداء المهمة وزار ويكهام صباح يوم الإثنين، حيث تم التعامل مع كل حاجات السجين وإعطائه المال الكافي لضمان قدرته على شراء الطعام ووسائل الراحة الأخرى التي تساعد في جعل السجن قابلا للتحمل. لكن وبعد المزيد من التفكير، قرر دارسي أن من واجبه أن يزور ويكهام، ولو مرة واحدة على الأقل قبل إجراء التحقيق. فقد ينظر إلى عدم فعله ذلك في جميع أنحاء لامتون وقرية بيمبرلي على أنه إشارة واضحة إلى اعتقاده أن صهره مذنب، وستشكل هيئة المحلفين من أبرشيات لامتون وبيمبرلي. وربما لن يكون أمامه خيار حيال استدعائه كشاهد لجهة الادعاء، لكن يمكن له على الأقل أن يبرهن وبشكل هادئ أن ويكهام بريء. وكان هناك أيضا شأن أكثر خصوصية؛ وهو أنه مهتم كثيرا بألا يكون هناك تخمين مفتوح حول سبب نفور الأسرة، الأمر الذي قد يعرض أمر هرب جورجيانا المقترح لخطر الاكتشاف.
وقد أفاد بينجلي أنه وجد ويكهام غاضبا وغير متعاون ويميل إلى الانفجار في وجه القاضي ورجال الشرطة في فظاظة، مطالبا إياهم بأن يضاعفوا جهودهم ليعرفوا من قتل صديقه العزيز والوحيد. لماذا كان يهان في السجن في حين أن المذنب الحقيقي حر طليق؟ لماذا تعمد الشرطة إلى قطع راحته من أجل إزعاجه ومضايقته بأسئلة غبية وغير ضرورية؟ لماذا سألوه عن سبب قلبه لديني على ظهره؟ ليرى وجهه بالطبع، كان ذلك تصرفا طبيعيا تماما. لا، لم يلحظ الجرح على رأس ديني؛ فقد كان مغطى بالشعر على الأرجح، كما أنه كان حزينا جدا لدرجة لا تسمح له بملاحظة التفاصيل على أي حال. كذلك فقد سئل عما كان يفعل في المدة التي تفصل بين سماع دوي طلقات النار ولحظة اكتشاف مجموعة البحث لجثة ديني؟ كان يتعثر أثناء سيره في الغابة في محاولة للإمساك بالقاتل، وكان هذا هو الأمر الذي ينبغي عليهم القيام به، وليس إهدار الوقت في مضايقة رجل بريء وإزعاجه.
واليوم، وجد دارسي رجلا مختلفا للغاية. أصبح يرتدي ملابس نظيفة، وأصبح حليقا وشعره مصفف، واستقبله ويكهام وكأنه يستقبله في بيته، وأسبغ رعايته على ذلك الزائر غير المرحب به بشدة. وتذكر دارسي أن ويكهام كان متقلب المزاج دائما، والآن رأى ويكهام القديم، ذلك الوسيم الواثق الذي يميل إلى التلذذ بسمعته السيئة أكثر من النظر إليها على أنها مصدر للعار والخزي. وكان بينجلي قد أحضر له الأشياء التي طلبها؛ التبغ وعدة قمصان وربطات عنق ونعلا، وفطائر متبلة مخبوزة في هايمارتن لإضافتها إلى الطعام الذي اشتري له من المخبز المحلي، وحبرا وأوراقا حيث اقترح ويكهام أن يكتب تقريرا عن مشاركته في الحملة الأيرلندية وعن الظلم البين الذي يتعرض له بوضعه الحالي في السجن، سيكتب سجلا شخصيا كان واثقا من أنه سيجد سوقا مهيأة لينتشر فيها. ولم يتحدث أي من الرجلين عن الماضي. لم يتمكن دارسي من التخلص من سيطرة الماضي عليه لكن ويكهام كان يعيش اللحظة الراهنة، وكاد دارسي - في الوقت الراهن - يعتقد أن ويكهام قد صرف التفكير في أسوأ ما في الأمر عن ذهنه.
قال ويكهام إن عائلة بينجلي أحضرت ليديا من هايمارتن لزيارته في المساء السابق، لكنها كانت جامحة في تذمرها وبكائها حتى إنه وجد أن ذلك يوقع في نفسه الكآبة كثيرا بدرجة لا يمكنه تحملها، فأشار إلى أنها ينبغي ألا تحضر لزيارته في المستقبل إلا بطلب منه، وستكون مدة زيارتها 15 دقيقة فقط. لكن كان يحدوه الأمل ألا تكون هناك حاجة إلى المزيد من الزيارات؛ فقد حدد موعد التحقيق على أن يكون في الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء، وكان واثقا من أنه سيطلق سراحه حينها، متصورا عودته منتصرا هو وليديا بعد إطلاق سراحه إلى لونجبورن وتهنئة أصدقائه القدامى له في ميريتون. ولم يأت على ذكر بيمبرلي، ربما لأنه بالكاد يتوقع أنه مرحب به هناك حتى في حالة نشوته بالنصر، كما أنه لا يرغب في وجوده بها. وفكر دارسي أن ويكهام بلا شك وفي ظل نشوته بإطلاق سراحه، سينضم أولا إلى ليديا في هايمارتن قبل أن يسافرا إلى هيرتفوردشاير. فقد بدا من غير العادل أن يتحمل بينجلي وجين عبء وجود ليديا حتى ولو ليوم واحد، لكن سيتقرر أمر كل ذلك إذا ما أطلق سراحه بالفعل. وتمنى دارسي أن يشارك ويكهام في ثقته بإطلاق سراحه.
لم يمكث دارسي سوى نصف الساعة فقط، وأعطي لائحة بالأشياء المطلوبة ليتم إحضارها في اليوم التالي، وغادر بطلب من ويكهام أن يرسل ثناءه وشكره لكل من السيدة والآنسة دارسي. وحين غادر دارسي، فكر أنه من المريح رؤية ويكهام وهو لم يعد غارقا في شعوره بالتشاؤم، أو أنه متورط في الجريمة، لكن الزيارة كانت غير مريحة له كما كانت مثيرة للإحباط الشديد.
وكان دارسي يعلم - بشيء من الحسرة - أن المحاكمة إن سارت على ما يرام فسيتحتم عليه أن يدعم ويكهام وليديا، ولو لوقت قصير في المستقبل القريب على الأقل. ذلك أن مصروفاتهما كانت تتخطى دوما حدود دخلهما، وخمن دارسي أنهما يعتمدان على الإعانات الخاصة من إليزابيث وجين لزيادة دخلهما غير الكافي. وكانت جين لا تزال تدعو ليديا إلى هايمارتن بين الحين والآخر، بينما كان ويكهام - الذي يتذمر سرا بصوت عال - يلهي نفسه في مجموعة مختلفة من الحانات والفنادق المحلية، وكانت إليزابيث تحصل على أخبار الزوجين من جين. ولم تحقق أي من الوظائف المؤقتة التي حصل عليها ويكهام منذ استقالته من الخدمة أي نجاح له. فآخر محاولاته لاستحقاق الجدارة والكفاءة كانت مع السير والتر إليوت، وهو حامل للقب بارون أجبر على تأجير منزله للغرباء بسبب بذخه، وانتقل إلى باث مع اثنتين من بناته. كانت البنت الصغرى - واسمها آن - سعيدة في زيجتها المزدهرة من قبطان في البحرية - أصبح الآن أدميرالا بارزا - لكن الابنة الكبرى واسمها إليزابيث كانت لا تزال تبحث عن زوج لها. وبسبب عدم رضا البارون عن الوجود في باث كان قد قرر الآن أنه ثري بما يكفي ليتمكن من العودة إلى منزله، فقدم إشعار المستأجر ووظف ويكهام سكرتيرا له ليساعده في العمل اللازم من أجل الانتقال. وصرف ويكهام من العمل في غضون ستة أشهر. وحين كان يواجه الأخبار المحزنة أو الخلافات العائلية - وهي الأسوأ - كانت مهمة جين في التسوية ألا تحمل أيا من الأطراف الخطأ الأكبر. لكن حين نقلت أخبار آخر ما أخفق فيه ويكهام إلى أختها الأكثر تشككا، اشتبهت إليزابيث في أن الآنسة إليوت كانت قلقة من استجابة والدها تجاه غزل ليديا الصريح، في حين قوبلت محاولات ويكهام في التقرب منها في البداية بالتشجيع الناتج من الشعور بالملل، وفي النهاية بشعور بالاشمئزاز.
وبمجرد أن خرج دارسي من لامتون، كان من الجيد بالنسبة إليه أن يستنشق بعض الهواء العليل وأن يتحرر من رائحة السجن الصعبة، التي هي مزيج من رائحة الأجساد والطعام والصابون الرخيص، وأن يتحرر كذلك من أصوات المفاتيح، ووجه دارسي رأس جواده تجاه بيمبرلي وهو يشعر بدفقة من الارتياح ولديه إحساس بأنه تحرر من السجن.
الفصل الخامس
كان منزل بيمبرلي هادئا وكأنه مهجور، وكان من الواضح أن إليزابيث وجورجيانا لم تعودا بعد. وبالكاد نزل دارسي من على صهوة جواده حين أتى أحد الخدم في الإسطبل من عند زاوية المنزل ليأخذ منه جواده، لكن لا بد أن دارسي عاد في وقت مبكر أكثر مما كان متوقعا، ولم يكن هناك أحد ينتظره عند الباب. دلف دارسي الردهة الساكنة وتوجه إلى غرفة المكتبة حيث فكر أن من المرجح أن يجد الكولونيل بها ولا يطيق صبرا لسماع الأخبار. لكنه فوجئ حين وجد السيد بينيت وحده فيها، ويجلس مختفيا في كرسي عالي الظهر بجوار النار ويقرأ جريدة «إدنبرة ريفيو». وكان من الواضح من الكوب والطبق الفارغين على الطاولة الصغيرة بجانبه أنه تلقى بعض المرطبات بعد أن قطع تلك الرحلة . وبعد أن توقف دارسي للحظة، بفعل اندهاشه، أدرك أنه كان مسرورا للغاية برؤية زائره، وحين نهض السيد بينيت من كرسيه صافحه دارسي بحرارة. «فضلا لا تزعج نفسك يا سيدي. تسرني رؤيتك كثيرا. آمل أنك أوليت قدرا من الرعاية؟» «كما ترى. كان ستاوتن كفئا في ذلك كعادته، وقد قابلت الكولونيل فيتزويليام. وبعد تحيتي قال إنه سيستغل حضوري في السير بجواده قليلا؛ وراودني شعور أنه يجد القعود حبيس المنزل أمرا مثيرا للملل بعض الشيء. وقد رحبت السيدة رينولدز القديرة بي أيضا وطمأنتني أن حجرتي المعتادة دائما ما تكون جاهزة لاستقبالي.» «متى وصلت يا سيدي؟» «قبل 40 دقيقة. لقد استأجرت عربة خفيفة. وتلك ليست هي الطريقة المريحة كثيرا للسفر لمسافة بعيدة؛ فقد كنت أنوي السفر بالعربة الكبيرة. لكن السيدة بينيت اشتكت من أنها في حاجة إليها كي تنقل أحدث أخبار موقف ويكهام المؤسف إلى السيدة فيليبس وعائلة لوكاس والكثير من العائلات الأخرى المهتمة بالأمر في ميريتون. فأن تستخدم في ذلك عربة مستأجرة يعد أمرا مهينا ليس لها فقط، وإنما للأسرة كلها. وحيث إنني سأتركها في هذا الوقت العصيب فلم يكن بإمكاني أن أحرمها من مزيد من الارتياح؛ العربة الكبيرة لدى السيدة بينيت. وليس لدي رغبة في أن أكون سببا في القيام بالمزيد من الأعمال بزيارتي المفاجئة هذه، لكنني فكرت أنك ستسر بوجود رجل آخر في المنزل حين تكون مشغولا مع الشرطة أو عندما تكون مهتما بتوفير الراحة لويكهام. وقد أخبرتني إليزابيث في خطابها أنه من المرجح أن يعود الكولونيل عما قريب لأداء مهامه العسكرية وأن يعود ألفيستون الشاب إلى لندن.»
قال دارسي: «سيرحلون بعد التحقيق الذي سمعت يوم الأحد أنه سيعقد غدا. إن وجودك هنا يا سيدي سيكون عونا للسيدات ومطمئنا لي. لا بد أن الكولونيل فيتزويليام قد أطلعك على وقائع إلقاء القبض على ويكهام.» «لقد أطلعني بإيجاز، لكن لا شك أنه كان دقيقا. كان يبدو عليه أكثر أنه يقدم لي تقريرا عسكريا. حتى إنني كدت أشعر بإلزام لإعطائه التحية العسكرية. في اعتقادي أن إعطاءه التحية العسكرية كان هو التعبير الصحيح، لكنني لا أتمتع بأي خبرة في الأمور العسكرية. ويبدو أن زوج ليديا تمكن في آخر أعماله تلك من الجمع بين الترفيه على العامة، ووضع أسرته في أقصى قدر من الحرج. لقد أخبرني الكولونيل أنك كنت في لامتون لزيارة السجين. فكيف وجدته؟» «بصحة جيدة. والتباين بين مظهره الحالي ومظهره في اليوم التالي لوقوع الاعتداء واضح جدا، لكنه حينها بالطبع كان تحت وطأة الشراب والصدمة. وقد استعاد شجاعته وهيئته المعهودة كلتيهما. وهو متفائل بشدة بما سيئول إليه التحقيق، ويعتقد ألفيستون أن لديه سببا وجيها يدفعه لذلك. فغياب سلاح الجريمة في صالحه بكل تأكيد.»
ثم جلس الرجلان. ورأى دارسي أن عيني السيد بينيت تشردان تجاه جريدة «إدنبرة ريفيو»، لكنه قاوم الرغبة في إكمال القراءة. وقال: «أتمنى لو قرر ويكهام كيف يريد أن ينظر العالم إليه. ففي مدة زواجه كان ملازما في الجيش، ويتسم بالاستهتار، لكنه كان جذابا، وقد أظهر الحب لنا جميعا، فكان يبتسم وكأنه يجني ثلاثة آلاف في العام ويمتلك منزلا رائعا. وفيما بعد، وبعد أن حصل على ترقيته، تحول إلى رجل كثير الأفعال وإلى بطل شعبي، وكان هذا التغير بالطبع نحو الأحسن، وكان مقبولا كثيرا لدى السيدة بينيت. والآن نتوقع أن نراه كشرير ومتهم بجريمة نكراء وعرضة لاحتمالية أن ينتهي الأمر بأن يصبح فرجة للجميع، رغم أنني آمل ألا يحدث هذا. كان ويكهام دائما ما يسعى للشهرة السيئة السمعة، لكن في اعتقادي أن آخر ما تبقى من ماء وجهه أصبح مهددا الآن، وهو ما لا يرغب فيه. لا يمكنني أن أصدق أنه مذنب في جريمة قتل. فالجنح التي اقترفها، ورغم أنها تسببت في الأذى والضرر لضحاياه، فإنها - على حد علمي - لم تكن تشتمل على عنف مورس ضده أو مارسه ضد الآخرين.»
قال دارسي: «لا يمكننا معرفة ما يجري في عقول الآخرين، لكنني أعتقد أنه بريء، وسأحرص على أن يحصل على أفضل تمثيل قانوني ومشورة قانونية.» «في هذا كرم منك، وأعتقد - رغم أنني لا أملك المعلومات المؤكدة - أن هذا التصرف الكريم الذي تدين به عائلتي لك ليس الأول.» ومن دون أن ينتظر منه ردا، أكمل حديثه بسرعة قائلا: «فهمت من الكولونيل فيتزويليام أن إليزابيث والآنسة دارسي مشغولتان بعمل خيري الآن، حيث أخذتا سلة من اللوازم لإحدى الأسر المنكوبة. فمتى نتوقع عودتهما؟»
أخرج دارسي ساعته. وقال: «ينبغي أن تكونا في طريقهما الآن. إذا كنت ترغب في السير قليلا يا سيدي، فيمكنك أن تنضم إلي فنسير نحو الغابة لنلقاهما.»
كان من الواضح أن السيد بينيت على استعداد للتخلي عن الجريدة وعن دفء غرفة المكتبة - رغم أنه من المعروف عنه أنه محب للجلوس - من أجل متعة مفاجأة ابنته. حينها ظهر ستاوتن واعتذر عن عدم وجوده لدى عودة سيده، وأسرع في إحضار معاطف السيدين وقبعتيهما. كان دارسي يتوق كما يتوق رفيقه لرؤية العربة. كان سيمنع القيام بتلك الرحلة لو رأى أنها تنطوي على قدر من الخطر بأي شكل من الأشكال، وكان يعرف أن ألفيستون واسع الحيلة وجدير بالثقة، لكن دارسي ومنذ مقتل ديني أصبح غارقا في شعور بالقلق يتسم بالتشتت، وربما بعدم المنطقية متى تكون زوجته غائبة عن ناظريه، وقد شعر بارتياح حين رأى العربة تبطئ وتتوقف على مسافة 50 ياردة من بيمبرلي. ولم يكن قد أدرك بعد مدى سعادته برؤية السيد بينيت حتى رأى إليزابيث وهي تهرع خارج العربة وتجري نحو والدها وسمعها تقول: «أوه، يا أبي، كم تسعدني رؤيتك!» بينما يطوقها والدها بذراعيه.
الفصل السادس
عقدت جلسة التحقيق في كينجز آرمز في حجرة كبيرة بنيت خلف الحانة قبل ثماني سنوات مضت من أجل توفير مكان للمناسبات العامة المحلية، بما في ذلك مناسبات الرقص العارضة التي تنال التوقير دائما بإضفاء اسم حفل راقص عليها. وكان الحماس المبدئي والزهو بين المحليين هو ما ضمن نجاحها مبكرا، لكن في أوقات الحرب والعوز العصيبة هذه لم يكن هناك مال أو ميل نحو إتيان الأفعال العابثة، والحجرة التي تستخدم الآن في أغلب الأحيان لعقد الاجتماعات الرسمية كانت نادرا ما تمتلئ عن آخرها، وكانت تبدو بمظهر كئيب ومهمل بعض الشيء كأي مكان آخر كان فيما مضى مخصصا للأنشطة المجتمعية. كان صاحب الحانة - ويدعى توماس سيمبكنز - وزوجته قد قاما بالتحضير المعتاد لحدث كانا يعلمان أنه سيستقطب ولا شك عددا كبيرا من الحضور؛ ومن ثم سيدر الربح على الحانة. وعلى يمين باب الحجرة كانت هناك منصة كبيرة بما يكفي لتسع فرقة أوركيسترا صغيرة لعزف الموسيقى الراقصة، وعلى تلك المنصة وضع كرسي خشبي كبير ذو ذراعين كان قد أخذ من الحانة، وعلى جانبيه وضعت أربعة كراسي صغيرة، فكان اثنان على كل جانب من جوانبه، وكانت تلك الكراسي من أجل قضاة كتبة العدل أو أصحاب المناصب المحليين الآخرين الذين اختاروا حضور الجلسة. وأحضرت كل الكراسي المتاحة في الحانة، كما أشارت مجموعات الكراسي ذات الأشكال المختلفة والمتعددة إلى أن الجيران قد أسهموا بكراسي من عندهم أيضا. وكان من المتوقع أن يقف من يصلون متأخرين.
عرف دارسي أن قاضي التحقيق كانت لديه رؤية مفخمة عن مكانته ومسئولياته، وسيكون مسرورا لرؤية مالك بيمبرلي وهو يأتي بعربته الكبيرة في أبهة. وكان دارسي نفسه ليفضل ركوب صهوة جواده، وهذا كما اقترح الكولونيل وألفيستون، لكنه توصل إلى تسوية، وهي الذهاب في عربة صغيرة. وحين دخل الغرفة وجد أنها كانت ممتلئة بالفعل عن آخرها، وكانت هناك المحادثات المعتادة والمتوقعة التي بدت لدارسي خافتة أكثر من المتوقع. ولدى ظهوره توقفت تلك المحادثات، وسادت مظاهر لمس شعر النواصي وغمغمات التحية. ولم يأت أحد إليه - ليس حتى من المستأجرين لديه - ليدعوه إلى الجلوس كما كانوا يفعلون في الظروف العادية، لكنه رأى أن ذلك كان لشعور منهم أن من دواعي امتيازه أن يهم هو بالخطوة الأولى وليس إهانة له.
نظر دارسي حوله ليرى ما إن كان هناك كرسي شاغر في مكان ما في آخر الغرفة، ومن الأفضل لو كان هناك كراسي أخرى شاغرة ليحجزها للكولونيل وألفيستون، لكن في تلك اللحظة صارت جلبة عند الباب، وكان هناك كرسي مدولب كبير من الخيزران بعجلتين صغيرتين في مقدمته وأخريين أكبر منهما في الخلف يدفع بصعوبة عبر الباب. وكان الدكتور جوسايا كليثرو يجلس في الكرسي وساقه اليمنى مدعمة بلوح خشبي بارز، وقدمه ملفوفة بضمادة من الكتان الأبيض وبها جرح كبير. وسرعان ما قام من كانوا يجلسون في المقدمة، ودفع الدكتور كليثرو عبر الغرفة، وقد وجد في دفعه بالكرسي شيء من الصعوبة؛ ذلك أن العجلات الصغيرة كانت عصية على السير، فكانت تتلوى بشدة. وفي الحال، فرغ الكرسيان الموجودان على جانبيه، فوضع قبعته الطويلة على أحدهما ودعا دارسي لكي يجلس على الآخر. أصبحت الآن دائرة الكراسي حولهما فارغة، وكانت هناك على الأقل فرصة لتبادل أطراف الحديث بشكل شخصي.
قال الدكتور كليثرو: «لا أعتقد أن هذا الأمر سيستغرق اليوم بطوله. سيبقي جوناه ميكبيس كل شيء تحت السيطرة. الأمر صعب عليك يا دارسي، وعلى السيدة دارسي بالطبع. أثق في أنها بحالة جيدة.» «هي كذلك يا سيدي، ويسعدني قول هذا.» «من الواضح أنك لا يمكنك أن تضطلع بأي دور في التحقيق بشأن هذه القضية، لكن لا شك أن هاردكاسل أبقاك مطلعا على المستجدات.»
قال دارسي: «لقد ذكر منها بقدر ما يجد أن من الحكمة والحصافة الكشف عنه. فموقفه صعب إلى حد ما.» «في الواقع، هو ليس في حاجة إلى أن يبالغ في حذره. فواجبه يلزمه بإبقاء المسئول الأعلى مطلعا، وسيستشيرني أيضا متى كان ذلك ضروريا، رغم أنني أشك في قدرتي على تقديم الكثير من العون. لكن يبدو أنه وآمر البلدة براونريج والضابط ميسون مسيطرون على الأمور. فهمت أنهم تحدثوا إلى كل شخص في بيمبرلي وأنهم توصلوا إلى أنكم جميعا لديكم حجج غياب، وهذا يكاد يثير الدهشة؛ ففي الليلة السابقة لحفل الليدي آن هناك الكثير من الأشياء التي يكون القيام بها أفضل من التسلل عبر غابة بيمبرلي بنية القتل. وقد أخبرت أن اللورد هارتليب أيضا لديه حجة غياب؛ لذا يمكنكما على الأقل أنت وهو أن تحطا عنكما عناء القلق. وحيث إنه لم يصبح بعد من أفراد طبقة النبلاء، فسيكون من غير الضروري أن يحاكم في مجلس اللوردات - إذا ما اتهم - فهذا إجراء مبهرج لكنه مكلف. وستشعر بقدر كبير من الراحة أيضا حين تعلم أن هاردكاسل تتبع أقرب أقرباء ديني من خلال الفوج العسكري الخاص بالكولونيل. ويبدو أن لديه قريبا واحدا فقط على قيد الحياة، وهي عمة عجوز له، تسكن في كينسنجتون لم يزرها ديني إلا نادرا، لكنها تمثل له دعما ماديا منتظما. لقد قاربت تلك المرأة على بلوغ التسعين من عمرها، وهي طاعنة في السن كثيرا، وأضعف من أن تكون لها مصلحة شخصية في تلك الأحداث، لكنها طلبت أن ترسل جثة ديني - التي أفرج عنها قاضي التحقيق الآن - إلى كينسنجتون من أجل دفنها.»
قال دارسي: «إن كان ديني قد قتل في الغابة بيد أحد من الأشخاص المعروفين أو عن طريق الخطأ، فسيكون من الصواب لي وللسيدة دارسي أن نرسل لها خطاب تعزية، لكن في ظل الظروف الحالية قد يكون هذا تصرفا غير حكيم، بل وحتى غير مرحب به. من الغريب كيف أنه حتى أفظع الأحداث وأغربها يحمل في طياته آثارا اجتماعية، ومن الجيد منك أن تخبرني بهذه المعلومة التي أثق بأنها ستكون مصدر راحة للسيدة دارسي. وماذا عن المستأجرين في العزبة؟ إنني لا أريد أن أسأل هاردكاسل بصورة مباشرة؛ هل برئت ساحتهم جميعا؟» «أجل، أعتقد ذلك. كان معظمهم في منازلهم، وأولئك الذين لا يستطيعون مقاومة الخروج في ليلة عاصفة ليحتموا في الحانة المحلية قدموا الكثير من الشهود، الذين كان بعضهم متزنا حين استجوب ويمكن اعتبارهم موثوقين. ومن الواضح أن أحدا لم يسمع بوجود أي شخص غريب في الجوار. وأنت تعلم بالطبع أن فتاتين ساذجتين تعملان في منزل بيمبرلي قصتا قصة عن رؤية شبح السيدة رايلي يهيم في الغابة؛ وذلك حين زار هاردكاسل بيمبرلي. ويبدو أن السيدة رايلي تختار إظهار نفسها على النحو الملائم في ليلة تمام القمر.»
قال دارسي: «تلك قصة خرافية قديمة. من الواضح أن الفتاتين - كما سمعنا فيما بعد - كانتا في الغابة بسبب تحد ما، ولم يأخذ هاردكاسل الأمر على محمل الجد. كنت أظن حينها أنهما كانتا تقولان الصدق، وأن من المحتمل أنه كانت هناك امرأة في الغابة تلك الليلة.»
قال كليثرو: «لقد تحدث إليهم آمر البلدة براونريج في حضور السيدة رينولدز. وكان من الواضح إصرارهما على أنهما رأتا شبح امرأة في الغابة قبل يومين من وقوع الجريمة، وعلى أنه قد صدرت عنها إشارة تنم عن التهديد قبل أن تختفي بين الأشجار. كما أصرتا على أن ذلك الشبح لم يكن لأي من المرأتين اللتين تسكنان كوخ الغابة، رغم أن من الصعب فهم كيف يمكن لهما أن تؤكدا ذلك بهذا القدر من الثقة؛ حيث إن المرأة كانت ترتدي ثيابا سوداء، كما أنها اختفت بمجرد أن صرخت إحداهما. لو كانت هناك امرأة في الغابة فإن هذا لا يعني الكثير من الأهمية. فهذه الجريمة ليست جريمة ترتكبها امرأة.»
سأله دارسي: «وهل يتعاون ويكهام مع هاردكاسل والشرطة؟» «أرى أنه متقلب؛ ففي بعض الأحيان يجيب عن الأسئلة بمنطقية، وفي أحيان أخرى يحتج بأن الشرطة تضايقه وتزعجه رغم أنه بريء. وأنت تعلم بالطبع أن هناك 30 جنيها وجدت في جيب معطفه؛ وهو لا يزال متحفظا تماما بشأن كيفية حصوله على هذا المبلغ، عدا قوله إن هذا المال كان قرضا ليمكنه من سداد دين في عنقه، وقد أقسم على ألا يبوح بأي شيء أكثر من ذلك. وكما هو متوقع، ظن هاردكاسل أن ويكهام ربما يكون قد سرق المال من جثة الكابتن ديني، لكن في تلك الحالة لم يكن المال ليخلو من بقع الدماء، وذلك بأخذ الدماء التي كانت على يد ويكهام في عين الاعتبار، وأتخيل أن المال أيضا لم يكن ليوضع في محفظته مطويا بعناية بهذا الشكل. لقد اطلعت على المال، ووجدت أنه عملات ورقية مطبوعة حديثا. ومن الواضح أن الكابتن ديني أخبر مالك المنزل بأنه لم يكن يمتلك مالا.»
ثم مرت لحظة لم يتحدث فيها أي منهما، ثم نطق كليثرو قائلا: «أتفهم أن هاردكاسل يشعر بشيء من التردد حيال مشاركتك المعلومات، وذلك حماية لك بقدر ما هو حماية له نفسه، لكن وحيث إنه مقتنع بأن كل العائلة والزوار والخدم في منزل بيمبرلي يمتلكون حجج غياب مقنعة، فقد يبدو التحفظ بشأن إطلاعك على المستجدات المهمة غير مبرر ولا داعي له. ولذا، فعلي أن أخبرك أن الشرطة وجدت سلاح الجريمة، وهو بلاطة حجرية كبيرة مصقولة الحواف اكتشفت تحت بعض أوراق الأشجار على بعد 50 ياردة تقريبا من الفرجة التي اكتشفت فيها جثة ديني.»
تمكن دارسي من إخفاء دهشته وقال بصوت خفيض وهو ينظر أمامه مباشرة. «ما هو الدليل على أن هذا هو في الواقع سلاح الجريمة؟» «لا شيء محدد؛ حيث لا يوجد عليه أي علامة من علامات التجريم كالدماء أو الشعر، لكن الأمر لا يثير الكثير من الدهشة. ففي وقت لاحق من تلك الليلة، تلت الأمطار الغزيرة الرياح التي كانت تهب، ولا بد أن الأرض وأوراق الشجر تخضلت بالماء، لكنني رأيت البلاطة الحجرية، ولا شك أنها بالحجم والشكل اللذين يمكن أن يكونا قد تسببا في إحداث الجرح.»
أبقى دارسي على صوته خفيضا. وقال: «حظرت الغابة على أي أحد من بيمبرلي، لكنني أعرف أن الشرطة كانت تجد في البحث عن سلاح الجريمة. أتعرف الضابط الذي وجده؟» «ليس براونريج ولا ميسون. فقد احتاجت الشرطة إلى مساعدة إضافية؛ ومن ثم أشرك ضباط آخرون من الأبرشية التالية، وكان بينهم جوزيف جوزيف. من الواضح أن والديه كانا متيمين بلقب عائلتهما فأطلقا عليه اللقب نفسه كاسم له في المعمودية. ويبدو الرجل حي الضمير وجديرا بالثقة، لكنني أخمن أنه ليس ذكيا. كان ينبغي عليه أن يترك الحجر في مكانه ويستدعي رجال الشرطة الآخرين كشهود. ولكنه بدلا من ذلك حمله إلى آمر البلدة براونريج مبتهجا.» «إذن لا يوجد أي إثبات على أنه كان في المكان الذي قال إنه قد وجده فيه؟» «لا، لا أتصور ذلك. ولكنني أخبرت بأن هناك عددا من الأحجار المختلفة الحجم في المكان الذي وجد فيه، وكلها تكاد تكون مدفونة في التربة، لكن لا يوجد دليل على أن ذلك الحجر كان بينها. يمكن أن أحدهم قلب كومة من الأحجار أو أنها انقلبت منه عرضا قبل سنوات، ربما في الوقت نفسه الذي كان جدك الأكبر يبني فيه كوخ الغابة، حيث كانت مواد البناء تنقل عبر الغابة.» «هل سيقوم هاردكاسل أو الشرطة بتقديم البلاطة الحجرية هذا الصباح؟» «فهمت أن هذا لن يحدث. فميكبيس يصر على أنه لا ينبغي تقديمه كجزء من الأدلة، فإثبات أن هذا الحجر هو سلاح الجريمة غير ممكن. غاية ما هنالك ستخبر هيئة المحلفين بأن حجرا قد وجد، بل لا يمكن ذكر هذا الأمر حتى؛ فميكبيس حريص على ألا يتحول الأمر إلى محاكمة. سيجعل ميكبيس مهمة هيئة المحلفين بسيطة، ولن تشتمل على التعدي على اختصاصات محكمة الجنايات.» «إذن أتعتقد أنهم سيتهمونه بالجريمة؟» «لا شك في ذلك، بالنظر إلى ما يرون أنه اعتراف من جانبه. سيكون من اللافت للنظر ألا يفعلوا. هاك، أرى أن السيد ويكهام وصل، ويبدو متهلل الوجه بشكل مثير للدهشة بالنسبة إلى رجل في موقفه.»
لاحظ دارسي أن هناك ثلاثة كراسي فارغة يحرسها ضباط شرطة بالقرب من المنصة، واصطحب ويكهام - الذي كان يسير بين اثنين من ضباط السجن مكبلا بالقيود - إلى الكرسي الأوسط بينهم، فجلس فيه، وأخذ الحارسان مكانهما إلى جواره. وبلغت رباطة جأشه درجة اللامبالاة بينما كان يمر بعينه على جمهوره المحتمل بقليل من الاهتمام، ولم يثبت نظره على وجه واحد منهم. وأحضرت الحقيبة التي تحتوي على ملابسه إلى السجن بعد أن أفرج عنها هاردكاسل، وكان ويكهام يرتدي ما بدا أنه أفضل معطف لديه، بينما دلت ملابسه المصنوعة من الكتان على مهارة خادمة غسل الملابس في هايمارتن وحرصها في عملها. ثم التفت ويكهام إلى أحد ضباط السجن مبتسما واستجاب الأخير له بإيماءة. وحين رمقه دارسي بنظرة سريعة، رأى دارسي أنه ينظر إلى شيء من ذلك الضابط الشاب الفاتن الذي سحر فتيات ميريتون اليافعات.
هنا صاح أحدهم بأمر ما، فسكتت الثرثرة ودخل القاضي جوناه ميكبيس مع السير سيلوين هاردكاسل، وبعد أن انحنيا أمام هيئة المحلفين أخذ القاضي مقعده، ودعا السير سيلوين هاردكاسل ليجلس في الكرسي عن يمينه. كان ميكبيس رجلا نحيلا بوجه أبيض كالشمع، وقد يعتقد أن بياض وجهه هذا دل لدى الآخرين على اعتلال ما. كان ميكبيس الآن قد خدم كقاض للتحقيقات مدة 20 سنة، وكان من دواعي فخره الآن وهو في الستين من عمره أنه ترأس كل تحقيق جرى في لامتون أو في كينجز آرمز. وكان لميكبيس أنف طويل رفيع وفم ذو شكل يثير الفضول، فكانت شفته العليا ممتلئة للغاية وعيناه اللتان تقعان تحت حاجبين نحيلين وكأنهما مرسومان بقلم من الرصاص كانتا حادتين وقويتين وكأنه في العشرين من عمره. وكان الجميع يكبرونه كمحام صاحب مكتب محاماة ناجح في لامتون وخارجها، وبازدهار متزايد وموكلين شخصيين ينتظرون مشورته، لم يكن يتساهل قط مع الشهود الذين لا يقدمون شهاداتهم بدقة ووضوح. وفي آخر الحجرة كانت هناك ساعة حائط وجه لها ميكبيس نظرة طويلة تنطوي على الترهيب.
وبدخول ميكبيس نهض الجميع واقفين، ثم جلسوا حين جلس في كرسيه. كان هاردكاسل عن يمينه والضابطان اللذان يجلسان في الصف الأمامي تحت المنصة. أما هيئة المحلفين الذين كانوا يتحدثون فيما بينهم فقد أخذوا مجالسهم ثم نهضوا في الحال. وكان دارسي قد حضر عددا من التحقيقات بصفته قاضيا ورأى أن مجموعة الشخصيات المحلية المعتادة قد اجتمعت من أجل تشكيل هيئة المحلفين؛ فكانت تتكون من الصيدلي جورج وينرايت، وفرانك ستيرلنج صاحب المتجر العمومي في لامتون، والحداد بيل مولينز من قرية بيمبرلي، وجون سيمبسون متعهد دفن الموتى، وكان الأخير يرتدي بزة جنائزية سوداء يقال إنه ورثها من أبيه. وبقية هيئة المحلفين كانت من المزارعين الذين وصلوا في اللحظات الأخيرة ويبدو عليهم أنهم كانوا مرتبكين ومتوترين للغاية. فلم يكن الوقت مناسبا إطلاقا لمغادرتهم مزارعهم.
التفت قاضي التحقيق إلى ضابط السجن. وقال: «يمكنك أن تنزع القيود عن السيد ويكهام. فلم يهرب أي سجين قط تحت سلطتي القضائية.»
فعل ذلك في صمت، وبعد أن دلك ويكهام رسغيه وقف في هدوء وكان يمسح بعينيه الغرفة بين الحين والآخر وكأنه يبحث عن وجه مألوف. حلفت اليمين، وأثناء ذلك كان ميكبيس ينظر إلى هيئة المحلفين بنظرات يملؤها الشك وكأنه رجل يتفحص جوادا ليشتريه وكأن هذا الجواد مثير للشك، وذلك قبل أن يدلي بتصريحه المبدئي المعتاد. «أيها السادة، لقد التقينا من قبل، وأعتقد أنكم تعرفون مهمتكم. وهي الاستماع إلى الشهادات بإمعان وتحديد سبب وفاة الكابتن مارتن ديني، الذي وجدت جثته في غابة بيمبرلي في غضون الساعة العاشرة من ليل يوم الجمعة الموافق 14 أكتوبر. أنتم لستم هنا من أجل المشاركة في محاكمة جنائية، ولا من أجل تعليم الشرطة كيف تجري تحقيقاتها. ومن الخيارات المطروحة أمامكم، اعلموا أنكم لا يمكن لكم أن تقرروا أن الوفاة كانت نتاج حادثة، أو أنها كانت قضاء وقدرا، ولا يمكن لرجل كذلك أن يقتل نفسه بتوجيه ضربة شديدة إلى مؤخر رأسه. وقد يقودكم هذا منطقيا إلى استنتاج مفاده أن حالة الوفاة هنا هي جريمة قتل، وحينها سيكون أمامكم حكمان محتملان. فإن لم يكن هناك أي دليل يشير إلى الشخص المسئول عن هذه الجريمة، فسيكون قراركم هو القتل العمد على يد شخص مجهول أو مجموعة مجهولة من الأشخاص. لقد وضعت أمامكم الخيارات المتاحة، لكن ينبغي علي أن أؤكد أن قراركم بشأن سبب الوفاة يعود إليكم بشكل كامل. وإن قادتكم الشهادات إلى استنتاج أنكم تعرفون هوية القاتل، فسينبغي عليكم حينها أن تعلنوا عن اسمه أو اسمها، وكما هي الحال في كل قضايا الجنايات، سيحتجز مقترف الجريمة وسيقدم للمحاكمة في محكمة الجنايات التالية في ديربي. وإن كان لديكم أي أسئلة تريدون توجيهها للشهود، فارفعوا أيديكم فضلا وتحدثوا بشكل واضح. سنبدأ الآن، وسأبدأ باستدعاء ناثانيال بيجوت أولا، وهو مالك حانة جرين مان، الذي سيقدم شهادته عن بداية آخر رحلة لذلك الرجل المأسوف عليه.»
وبعد ذلك ومما أراح دارسي كثيرا، سار التحقيق بوتيرة سريعة إلى حد كبير. لا شك أن السيد بيجوت تلقى نصيحة بأن من الحكمة في المحكمة أن يتحدث قليلا قدر المستطاع، وبعد أن أقسم اليمين، أكد فقط أن السيد والسيدة ويكهام والكابتن ديني وصلوا إلى الحانة بعد ظهر يوم الجمعة في عربة مستأجرة بعد الرابعة بوقت قصير، وأنهم طلبوا العربة التي كان يبقيها هو في الحانة لتقلهم إلى بيمبرلي في ذلك المساء، حيث سيتركون السيدة ويكهام، ثم سيكمل السيدان طريقهما إلى كينجز آرمز في لامتون. ولم يسمع بيجوت بأي شجار بين ثلاثتهم لا أثناء الظهيرة، ولا حين دلفوا إلى العربة المستأجرة. كان الكابتن ديني هادئا - فهو يبدو كرجل هادئ دوما - وكان السيد ويكهام يتناول الشراب بانتظام، لكن في رأيه لا يمكن أن يقول إنه كان مخمورا وعاجزا.
ثم تبعه جورج برات، سائق العربة، الذي كان من الواضح أن شهادته منتظرة بشدة وقد قصها هو بشيء من الإسهاب، مشيرا دائما إلى سلوك الحصانين بيتي وميلي. كان الحصانان يتصرفان بشيء من العقل حتى دخلا الغابة، حيث أصبحا شديدي التوتر حتى إنه وجد صعوبة في تحريكهما. كان الفرسان دائما ما يكرهان دخول الغابة حين يكون القمر مكتملا؛ وذلك بسبب شبح السيدة رايلي. وربما كان السيدان يتشاجران داخل العربة، لكنه لم يسمعهما؛ لأنه كان يحاول السيطرة على الفرسين. وكان الكابتن ديني هو من أخرج رأسه من النافذة وأمره أن يتوقف ثم غادر هو العربة. وقد سمع الكابتن ديني يقول إن السيد ويكهام أصبح الآن وحده، وأنه لن يشارك في الأمر؛ قال شيئا من هذا القبيل. ثم هرع الكابتن ديني إلى داخل الغابة وفي إثره السيد ويكهام. وبعد ذلك ببرهة قصيرة سمع صوت طلقات النار، لكنه لم يكن واثقا متى سمعها بالتحديد، أما السيدة ويكهام التي كانت في حالة جيدة فصرخت فيه أن يكمل المسيرة إلى بيمبرلي وهو ما فعله. في تلك الأثناء كان الفرسان في حالة من الذعر الشديد بحيث أمكنه التحكم فيهما بصعوبة وخشي أن تنقلب العربة بهما قبل أن يصل إلى بيمبرلي. ثم وصف ما حدث في رحلة العودة، بما في ذلك توقف العربة؛ حتى يتمكن الكولونيل فيتزويليام من الاطمئنان على الأسرة التي تقطن كوخ الغابة. وخمن هو أن الكولونيل غاب في ذلك مدة 10 دقائق.
واكتسب دارسي انطباع أن قصة برات كانت معروفة بالفعل لدى هيئة المحلفين ولدى كل من في لامتون وقرية بيمبرلي وما يتخطاهما، وقد أدلى برات بشهادته في ظل آهات وتنهدات تنم عن التعاطف، خاصة حين أسهب في المحنة التي مر بها الفرسان بيتي وميلي. ولم يكن هناك أي سؤال ليوجه إليه.
ثم استدعي الكولونيل الفيكونت هارتليب بعد ذلك، وأقسم اليمين بثبات وثقة مثيرين للإعجاب. وقص الكولونيل روايته من أحداث المساء باقتضاب لكن في شيء من الحزم، واشتملت روايته على إيجاد الجثة، وهي شهادة تكررت فيما بعد من دون انفعال أو تنميق للكلام على لسان ألفيستون ودارسي في الأخير. وسأل القاضي ثلاثتهم ما إن كان ويكهام قد تحدث، وكرروا جميعا اعترافه المدمر.
وقبل أن يحظى أي أحد آخر بفرصة الحديث، طرح ميكبيس السؤال الأهم. «سيد ويكهام، أنت تصر على براءتك من قتل الكابتن ديني بكل صرامة. إذن لماذا قلت أكثر من مرة حين وجدت الجثة إنك قتلته، وإن مقتله كان خطأك؟»
وأتت الإجابة من دون تردد. «لأن الكابتن ديني يا سيدي ترك العربة بسبب شعوره بالاشمئزاز من خطتي لترك السيدة ويكهام في بيمبرلي وهي غير مدعوة وزيارتها غير متوقعة. كما أنني شعرت أنني كنت لأمنعه من مغادرة العربة والدخول إلى الغابة لولا أنني كنت مخمورا.»
فهمس كليثرو إلى دارسي قائلا: «غير مقنع بالمرة، ذلك الأحمق يفرط في الثقة بنفسه. سيحتاج إلى أن يفعل أكثر من هذا في محكمة الجنايات إذا ما أراد أن ينقذ رقبته من المشنقة. وإلى أي درجة كان مخمورا؟»
لكن لم تطرح أي أسئلة بعد ذلك، وبدا أن ميكبيس كان قانعا لأن يترك هيئة المحلفين تخلص إلى قرارها من دون تعقيب منه، وكان حريصا على ألا يحفز الشهود إلى التكهن مطولا بما كان يعنيه ويكهام بالتحديد من كلماته. ثم أتى آمر البلدة براونريج، وكان من الواضح أنه مسرور من أخذ كل الوقت اللازم ليقص ما قامت به الشرطة، بما في ذلك البحث الذي قامت به الشرطة في الغابة. ولم تتلق أي معلومات عن وجود غرباء في الجوار، وكان لكل قاطني منزل بيمبرلي والأكواخ التي تقع ضمن المنطقة حجج غياب، وكان التحقيق لا يزال جاريا. وقدم الدكتور بيلشر شهادته بمصطلحات طبية كثيرة، استمع لها الحضور بإكبار وإجلال، وبدا انزعاج القاضي منها واضحا، بعدها قال رأيه بلغة واضحة تماما أن سبب الوفاة كان ضربة قوية على مؤخر الرأس، وأن الكابتن ديني لم يكن لينجو من ذلك الجرح لأكثر من بضع دقائق إن كتبت له النجاة، رغم أنه من المستحيل تحديد وقت الوفاة بالضبط. واكتشفت بلاطة حجرية ربما استخدمها المعتدي في جريمته، التي - في رأيه - يمكن أن تسبب بفعل حجمها ووزنها جرحا مشابها إذا ما وجهت الضربة بها بقوة، لكن لم يكن هناك دليل يربط هذا الحجر بالتحديد بالجريمة. ولم ترتفع سوى يد واحدة قبل أن يغادر الطبيب منصة الشهود.
قال ميكبيس: «حسن يا فرانك ستيرلنج، نحن نسمع منك أنت في الغالب. ماذا تريد أن تسأل؟» «سؤال واحد يا سيدي. نحن نفهم أن السيدة ويكهام كانت ستترك في منزل بيمبرلي لتحضر الحفل في مساء اليوم التالي، لكن ليس في حضور زوجها. وأفهم أن السيد دارسي لم يكن ليستقبل السيد ويكهام كنسيب وضيف له.» «وما هي علاقة قائمة السيدة دارسي للمدعوين لحفل الليدي آن بمقتل الكابتن ديني، أو للشهادة التي قدمها الدكتور بيلشر بالأخص؟» «فقط يا سيدي، لو أن العلاقة بين السيد دارسي والسيد ويكهام كانت سيئة للغاية، ومن الممكن أن السيد ويكهام لم يكن هو الشخص المناسب ليستقبل في منزل بيمبرلي، فربما يكون في هذا من وجهة نظري إشارة على نوع شخصيته. إنه لمن الغريب حقا أن يحظر رجل منزله على نسيب له إلا إذا كان ذلك النسيب عنيفا أو معتادا على الشجار.»
وبدا أن ميكبيس يفكر في كلماته في إيجاز قبل أن يجيبه بأن العلاقة بين السيد دارسي والسيد ويكهام - سواء أكانت كأي علاقة عادية بين نسيبين أم لا - قد لا تكون ذات صلة بمقتل الكابتن ديني. إن القتيل هو الكابتن ديني وليس السيد دارسي. فقال: «لنحاول الإبقاء على الوقائع ذات الصلة . كان ينبغي عليك أن تطرح هذا السؤال حيث كان السيد دارسي يدلي بشهادته إن كنت تظن أنه ذو صلة. لكن، يمكن استدعاء السيد دارسي إلى منصة الشهود وسؤاله إن كان السيد ويكهام رجلا عنيفا في العموم.»
وحدث هذا في الحال، وفي إجابة على سؤال ميكبيس وبعد أن ذكر دارسي بأنه لا يزال تحت وطأة القسم، قال دارسي بأنه على حد علمه لم يكن ويكهام قط معروفا بتلك الصفة، وأنه لم يره شخصيا وهو يسلك سلوكا عنيفا من قبل. وأنهما لم يلتقيا لبضع سنوات، لكن في ذلك الوقت كان من المعروف عموما عن السيد ويكهام أنه رجل مسالم ولطيف على المستوى الاجتماعي. «أظن أن هذا يجيب عن سؤال سيد ستيرلنج. رجل مسالم ولطيف على المستوى الاجتماعي. هل هناك أي أسئلة أخرى؟ لا؟ إذن أقترح أن تنظر هيئة المحلفين الآن في قرارها.»
وبعد التشاور رأت هيئة المحلفين أن تنظر في قرارها في شيء من الخصوصية، وبعد أن منعوا من الدخول إلى المكان الذي أرادوا التشاور فيه، وهو المشرب، اختفت المجموعة في الباحة ووقفوا مدة 10 دقائق بعيدا وهم يتهامسون فيما بينهم. ولدى عودتهم سئلوا بشكل رسمي عن قرارهم. هنا وقف فرانك ستيرلنج وقرأ من دفتر صغير من الواضح أن الهدف منه هو النطق بالكلمات بالقدر الضروري من الثقة والدقة. «نجد يا سيدي أن الكابتن ديني توفي جراء ضربة على مؤخر جمجمته، وأن من قام بتلك الضربة هو جورج ويكهام، ومن ثم فإن الكابتن ديني لقي مصرعه على يد المذكور جورج ويكهام.»
قال ميكبيس: «وهذا قراركم جميعا؟» «هذا صحيح يا سيدي.»
خلع ميكبيس نظارته بعد أن نظر في الساعة ثم وضعها في حافظتها. وقال: «بعد الإجراءات الرسمية اللازمة سيخضع السيد ويكهام للمحاكمة في محكمة الجنايات التالية في ديربي. أشكركم أيها السادة، ويمكنكم الانصراف.»
فكر دارسي مليا أن عملية كان يتوقع أن تكون محفوفة بالمآزق اللغوية والإحراج قد ثبت أنها روتينية كاجتماعات الأبرشية الشهرية. كان هناك اهتمام والتزام، لكن لم تكن هناك إثارة واضحة أو لحظات دراماتيكية، وكان عليه أن يتقبل أن كليثرو كان محقا، فنتيجة التحقيق كانت حتمية. وحتى لو قررت هيئة المحلفين أن جريمة القتل وقعت بيد شخص أو أشخاص مجهولين، كان ويكهام ليظل قيد الاحتجاز كمشتبه به رئيسي، وكانت تحقيقات الشرطة المركزة عليه لتستمر بالنتيجة نفسها وبكل تأكيد تقريبا.
ظهر خادم كليثرو الآن مرة أخرى ليحرك الكرسي المدولب. وبعد أن نظر في ساعته، قال كليثرو: «ثلاثة أرباع الساعة من بداية التحقيق إلى نهايته. في رأيي أن الأمر سار بالطريقة نفسها التي خطط لها ميكبيس بالضبط، وكان من الصعب أن يكون قرار هيئة المحلفين خلاف ذلك.»
قال دارسي: «وهل سيكون حكم المحكمة مشابها؟» «كلا يا دارسي، إطلاقا. يمكنني أن أدفع بدفوع فعالة للغاية. وأقترح عليك أن تجد له محاميا ماهرا وأن تنقل القضية إلى لندن إن أمكن. سيكون هنري ألفيستون قادرا على إسداء المشورة لك بشأن الإجراءات المناسبة، فمعلوماتي قد عفا عليها الزمن على الأرجح. سمعت أن ذلك الشاب يتصف بشيء من الراديكالية، رغم كونه وريثا لبارونية قديمة، لكن لا شك أنه محام ماهر وناجح، مع أن الوقت الآن مناسب ليجد لنفسه زوجة ويستقر في ملكيته. إن سلام إنجلترا وأمنها يعتمدان على رجال نبلاء يعيشون في منازلهم أسيادا صالحين يهتمون لشئون خدمهم ويحسنون إلى الفقراء ومستعدين بصفتهم قضاة صلح ليضطلعوا بكافة الأدوار التي تهدف إلى تعزيز السلام والنظام في مجتمعاتهم. ولو عاشت الطبقة الأرستقراطية في فرنسا بهذا الشكل لما قامت الثورة. لكن هذه القضية مثيرة للاهتمام، وستعتمد حصيلتها على إجابة سؤالين اثنين؛ لماذا هرع الكابتن ديني إلى داخل الغابة؟ وماذا كان جورج ويكهام يقصد حين قال إن الأمر كان خطؤه؟ سأتحرى المستجدات اللاحقة بكثير من الاهتمام. لتأخذ العدالة مجراها حتى ولو فني العالم. أتمنى لك يوما طيبا.»
وبهذه الجملة تحرك الكرسي المدولب بصعوبة أيضا عبر الباب حتى اختفى عن الأنظار.
الفصل السابع
بالنسبة إلى دارسي وإليزابيث، امتد الشتاء بين عامي 1803 و1804 كمستنقع أسود كان عليهما أن يكافحا من أجل عبوره، بعلمهما أن الربيع قد لا يجلب عليهم إلا محنة جديدة، بل وربما رعبا أكبر، ستنغص ذكراه عليهما بقية حياتهما. لكن وبطريقة ما كان ينبغي عليهما أن يعيشا تلك الأشهر من دون أن يسمحا لما يشعران به من كرب وضيق أن يلقي بظلاله على منزل بيمبرلي أو يدمر سلام أولئك الذين يعتمدون على تلك العائلة ويثقون بها. ومن حسن الحظ أن مصدر قلقهما ذلك ثبت وأنه لا أساس له إلى حد كبير. فستاوتن والسيدة رينولدز وعائلة بيدويل كانوا هم فقط من عرفوا ويكهام حين كان صبيا، ولم يكن الخدم الأصغر سنا يظهرون اهتماما بأي شيء يحدث خارج بيمبرلي. وقد أعطى دارسي أوامره بألا يتم التحدث في أمر المحاكمة، وكان اقتراب عيد الميلاد المجيد مصدر اهتمام وإثارة أكبر من المصير النهائي لرجل لم تسمع عنه غالبية الخدم.
وكان حضور السيد بينيت هادئا ومثيرا للاطمئنان، فكان في حضوره أشبه كثيرا بشبح حميد مألوف. وقد أمضى بعض الوقت يتحدث إلى دارسي في غرفة المكتبة حين لا يكون دارسي مشغولا، وكان دارسي ماهرا ويقدر الذكاء العالي لدى الآخرين. وكان السيد بينيت يزور ابنته الكبرى في هايمارتن من وقت لآخر ليحرص على أن تكون الكتب في مكتبة بينجلي آمنة من اهتمام الخادمات المفرط، ومن أجل إعداد قائمة بالكتب التي ينبغي الحصول عليها. إلا أنه لم يمكث في بيمبرلي غير ثلاثة أسابيع. فقد تلقى خطابا من السيدة بينيت تشكو فيه أنها تسمع خطوات أقدام خفية خارج المنزل كل ليلة وأنها تعاني خفقان قلبها وارتجافه باستمرار. وينبغي على السيد بينيت أن يعود إلى المنزل في الحال ليقدم الحماية والأمان. ولماذا يهتم بشأن جرائم القتل عند الآخرين في حين أنه من المرجح أن تقع جريمة قتل في لونجبورن إذا ما لم يعد في الحال؟
وقد شعر جميع الخدم في المنزل بغيابه، وسمعت السيدة رينولدز وهي تقول لستاوتن: «من الغريب سيد ستاوتن أننا نفتقد السيد بينيت كثيرا بعد أن غادر في حين أننا لم نكن نراه إلا نادرا حين كان هنا.»
ووجد دارسي وإليزابيث كلاهما عزاءه في العمل، وكان هناك الكثير من الأعمال التي ينبغي القيام بها. كان دارسي مشغولا ببعض الخطط التي وضعها بالفعل لإصلاح أكواخ معينة في العزبة، وكان مشغولا أكثر من أي وقت مضى فيما يتعلق بأمور الأبرشية. وكانت الحرب مع فرنسا - التي أعلنت في شهر مايو الماضي - تؤدي بالفعل إلى الاضطرابات والفقر؛ فقد ارتفعت تكلفة الخبز وكان الحصاد هزيلا. وكان دارسي منخرطا كثيرا في إغاثة المستأجرين لديه، وكان هناك سيل منتظم من الأطفال يحضرون عند المطبخ ليحصلوا على أوعية كبيرة من الحساء المغذي الغليظ المشتمل على لحم كثير. ولم يكن هناك سوى عدد قليل من حفلات العشاء التي لم تكن إلا للمقربين من الأصدقاء، لكن عائلة بينجلي كانت تأتي بانتظام لتقديم الدعم والمساعدة، وكانت هناك خطابات منتظمة من السيد والسيدة جاردنر.
وبعد التحقيق نقل ويكهام إلى سجن المقاطعة الجديد في ديربي، حيث استمر بينجلي في زيارته، وقال إنه كان يجده بروح معنوية عالية في العموم. وفي الأسبوع السابق لعيد الميلاد المجيد سمعوا أخيرا أنه قد تمت الموافقة على طلب نقل المحاكمة إلى لندن، وأنها ستنعقد في أولد بايلي. وكانت إليزابيث مصرة على أن تكون مع زوجها يوم المحاكمة، رغم عدم وجود طلب لوجودها في قاعة المحكمة. وكتبت السيدة جاردنر خطابا بدعوة حارة تطلب فيه من دارسي وإليزابيث أن يقضيا وقتهما في لندن في شارع جريستشرش، وتم قبول تلك الدعوة بكل امتنان. وقبل أن يهل العام الجديد نقل جورج ويكهام إلى سجن كلودباث في لندن وتحملت السيدة جاردنر مسئولية الزيارات المنتظمة ودفع المال من دارسي، وهو الأمر الذي ضمن توفير وسائل الراحة لويكهام وإعلاء قدره بين السجانين والمسجونين. وأفاد السيد جاردنر أن ويكهام ظل متفائلا وأن أحد القساوسة الملحقين بالسجن - وهو القس صمويل كورنبندر - كان يزوره بانتظام. وكان السيد كورنبندر معروفا بمهارته في لعبة الشطرنج، وقد علمها لويكهام وأصبحت ممارستها تحتل جزءا كبيرا من وقت السجين. وكان رأي السيد جاردنر أن السيد القس مرحب به كخصم في الشطرنج أكثر من كونه واعظا بالتوبة، لكن بدا أن ويكهام يحبه كثيرا، وكانت لعبة الشطرنج - التي وصل فيها ويكهام إلى مرحلة الهوس - ترياقا فعالا ضد نوبات الغضب واليأس المفاجئة.
وحل عيد الميلاد المجيد وأقيم حفل الأطفال السنوي كالمعتاد، الذي كان كل أطفال الجوار مدعوين إليه. وكان كل من دارسي وإليزابيث يشعران بأنه ينبغي على الصغار ألا يحرموا تلك المتعة السنوية، خاصة في مثل هذه الأوقات العصيبة. كان ينبغي اختيار الهدايا وتوصيلها إلى كل المستأجرين بالإضافة إلى كل الخدم في المنزل وخارجه، وهي مهمة جعلت إليزابيث والسيدة رينولدز منشغلتين كثيرا، في حين حاولت إليزابيث أن تبقي ذهنها مشغولا ببرنامج للقراءة كانت قد خططت له، وكذلك بمحاولة تحسين أدائها في عزف البيانو بمساعدة جورجيانا. وبوجود القليل من الالتزامات الاجتماعية؛ تسنى لإليزابيث قضاء مزيد من الوقت مع أبنائها أو في زيارة الفقراء والعجائز والمقعدين، وعرف دارسي وإليزابيث أن الأيام التي يقومان فيها بالكثير من النشاطات يمكن أن تبقي حتى أسوأ الكوابيس وأكثرها استمرارا بعيدا عنهما.
وكان هناك بعض الأنباء السارة. كانت لويزا أكثر سعادة منذ أن عاد جورجي إلى أمه، وكانت السيدة بيدويل تجد الحياة أكثر سهولة الآن بعد أن توقف بكاء الطفل عن التسبب في شعور ويل بالألم. وبعد عيد الميلاد أصبحت الأسابيع تمر بشكل أسرع، وكان الموعد المحدد للمحاكمة يقترب.
الجزء الخامس
المحاكمة
الفصل الأول
تقرر عقد المحاكمة في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر مارس في الحادية عشرة صباحا في محكمة أولد بيلي. سيكون ألفيستون في غرفته بالقرب من ميدل تمبل، وقد اقترح أن ينتظر عند عائلة جاردنر في شارع جريستشرش في اليوم السابق للمحاكمة مع جيريميا ميكلدور وهو محامي الدفاع الخاص بويكهام؛ وذلك من أجل شرح إجراء اليوم التالي، وليقدم المشورة لدارسي عن الشهادة التي سيدلي بها. وكانت إليزابيث قلقة من استغراق يومين في الطريق؛ لذا فقد اقترحوا أن يتوقفوا في مدينة بانبيري ليبيتوا ليلتهم، ومن ثم يصلون في ظهر يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر مارس. وحين تغادر أسرة دارسي منزل بيمبرلي ، عادة ما تكون هناك مجموعة من الخدم الأقدمين يقفون عند الباب لتوديعهم، وليعربوا لهم عن تمنياتهم الطيبة، لكن هذه المرة كان رحيلهم مختلفا ولم يكن حاضرا لدى ذلك سوى ستاوتن والسيدة رينولدز بوجهين عابسين ليتمنيا لهم رحلة آمنة وليطمئناهم على أن الحياة في منزل بيمبرلي ستستمر في غيابهم كما ينبغي.
وكان فتح منزل عائلة دارسي سيتسبب في إخلال محلي كبير، وحين كانت عائلة دارسي تزور لندن مدة قصيرة من الوقت للتبضع أو لمشاهدة عرض مسرحي جديد، أو لحضور معرض، أو لأن دارسي مشغول بالأعمال مع محاميه أو مصمم أزيائه؛ كانت العائلة تمكث لدى عائلة هيرست حيث تنضم إليهم الآنسة بينجلي. وكانت السيدة هيرست تحب أن يزورها الآخرون وكانت تتباهى بعرض روائع منزلها وعدد العربات التي تمتلكها والخدم، في حين تذكر الآنسة بينجلي أسماء أصدقائها المميزين البارزين ببراعة وتتناول في حديثها الشائعات الراهنة حول الفضائح المنتشرة في الأماكن المرموقة. وكانت إليزابيث تنخرط في التسلية التي كانت دائما ما تحصل عليها من غرور جيرانها وسخافتهم، شريطة ألا تثير بذلك الشفقة تجاههم، في حين كان دارسي يرى أن الوئام الأسري إذا ما تطلب منه أن يلتقي بأشخاص كان لا يتشارك معهم سوى القليل، فمن الأفضل أن يلتقيهم على نفقتهم وليس على نفقته هو. لكن في هذه المرة لم يتلقوا أي دعوة من عائلة هيرست أو من الآنسة بينجلي. فهناك بعض الأحداث الدرامية وشيء من سوء السمعة اللذان يجعلان من الصواب أن ينأى المرء بنفسه، ولم يتوقعوا أن يروا عائلة هيرست ولا الآنسة بينجلي أثناء المحاكمة. لكن دعوة عائلة جاردنر كانت دعوة عاجلة وودية. وفي ذلك المنزل العائلي المتواضع وغير المتباهي ستجد عائلة دارسي طمأنينة الأصدقاء وأمانهم، وسيجدون فيه أيضا أصواتا تحدثهم بهدوء، ولا تطلب منهم شيئا، ولا تستلزم منهم تفسيرا، وسيجدون مأمنا يساعدهم على الاستعداد للمحنة المقبلة.
لكن حين وصلت عائلة دارسي وسط لندن وصارت أشجار هايد بارك ومساحاتها الخضراء خلفهم، شعر دارسي كأنه يدخل مدينة غريبة عليه، وكأنه يتنفس هواء عفنا رديئا ، ومحاط بعدد كبير من الناس يمثلون عددا كبيرا من التهديد والوعيد. ولم يكن دارسي قد شعر قط بأنه غريب عن لندن بهذا الشكل. كان من الصعب تصديق أن البلاد كانت في حالة حرب؛ فقد بدا الجميع على عجلة من أمرهم، وكان الناس يسيرون وكأنهم مشغولون بشئونهم الخاصة، لكن بين الحين والآخر كان دارسي يرى نظرات الحسد أو الإعجاب التي ترمق عربة أسرة دارسي. ولم يكن هو ولا إليزابيث مستعدين للتعليق بينما كانوا يمرون في الشوارع الواسعة المعروفة جيدا، حيث راح السائق يتقدم شيئا فشيئا، في حذر، بين واجهات المتاجر اللامعة المبهرجة والمضاءة بالمصابيح، وبين عربات الأجرة والعربات الصغيرة ذات العجلتين، وعربات البضائع، والعربات الخاصة التي جعلت الطريق يكاد يكون مسدودا. لكنهم في النهاية استداروا ليدخلوا شارع جريستشرش، وبينما كانوا يتقدمون تجاه منزل عائلة جاردنر فتح باب المنزل، وخرج السيد والسيدة جاردنر ليرحبا بهم وليوجها السائق إلى الإسطبل في مؤخر المنزل. وفي غضون دقائق فرغت الأمتعة، ودخل دارسي وإليزابيث إلى حيث الطمأنينة والأمان اللذان سيكونان ملاذا لهما حتى تنتهي المحاكمة.
الفصل الثاني
أتى ألفيستون وجيريميا ميكلدور بعد العشاء ليقدما لدارسي المشورة وتعليمات مقتضبة، وبعد أن أعربا عن آمالهما وأطيب أمنياتهما، غادرا في أقل من ساعة. كانت تلك الليلة هي إحدى أسوأ الليالي التي تمر على دارسي في حياته. كان السيد جاردنر، وهو المضياف بلا كلل، قد حرص على أن يوجد كل شيء ضروري لتوفير الراحة لدارسي وإليزابيث في غرفة نومهما، فلم تكن الغرفة تقتصر فقط على الفراشين اللذين كان كل من دارسي وإليزابيث يتوق إليهما، وإنما كانت تحتوي أيضا على طاولة بين الفراشين عليها دورق من الماء ومجموعة من الكتب وعلبة بها بسكويت. ولم يكن شارع جريستشرش هادئا تماما، لكن قعقعة العربات وصريرها وأصوات النداء العرضية - على النقيض من هدوء بيمبرلي التام - لم تكن كافية لتبقي دارسي مستيقظا. وقد حاول أن يبعد عن ذهنه قلقه بشأن محنة الغد، لكن ذهنه كان مشغولا كثيرا بأفكار مزعجة كثيرة. كان الأمر كما لو أن صورة له كانت تقف بجوار الفراش، وتنظر إليه نظرات تنم عن توجيه الاتهام وتكاد ترقى إلى الازدراء، وتتدرب على الحجج والاتهامات التي ظن أنه أخضعها للسكوت قبل وقت طويل، لكن حضورها تجدد الآن بحضور تلك الصورة غير المرغوب فيها وبقوة ومنطقية جديدتين. كان من فعله هو، وليس من فعل أحد آخر، أن جعل من ويكهام جزءا من عائلته، وأعطاه حق أن يطلق عليه نسيبه. وغدا سيكون مجبرا على تقديم شهادة إما سترسل عدوه إلى المقصلة أو ستبرئ ساحته. وحتى لو جاء الحكم بأنه «غير مذنب» فإن المحاكمة ستقرب ويكهام أكثر من بيمبرلي، وإذا ما أدين وشنق، فسيحمل دارسي أوزار الرهبة والشعور بالذنب التي سيورثها إلى أولاده والأجيال المستقبلية.
ولم يكن لدارسي أن يشعر بالندم على زواجه؛ فلو فعل لبدا الأمر وكأنه يشعر بالندم على ولادته من الأساس. لقد جلبت عليه تلك الزيجة سعادة لم يكن يظن أنها موجودة، وأمدته بحب كان الصغيران الجميلان اللذان يرقدان في غرفة الأطفال في منزل بيمبرلي يمثلان كفلا وضمانا له. لكن دارسي تزوج في تحد صارخ لكل معتقد مهم يحكم حياته منذ صغره، وكل قناعة مصدرها ذكرى والديه، ولكل شخص في بيمبرلي ولمسئوليات الطبقة الاجتماعية والثروة. وعلى الرغم من عمق انجذابه إلى إليزابيث فإنه كان بمقدوره أن يبتعد عنها، كما ظن أن الكولونيل فيتزويليام قد ابتعد. إن الثمن الذي دفعه رشوة لويكهام لكي يتزوج من ليديا كان ثمن إليزابيث.
وتذكر دارسي لقاءه مع السيدة يونج. كان النزل في منطقة مرموقة من مناطق ميريلبون، وكانت المرأة نفسها تجسيدا للمالكة الحنون صاحبة السمعة الطيبة. وتذكر محادثتهما معا. «إنني لا أقبل إلا بالشبان الذين يتحدرون من أكثر العائلات جدارة بالاحترام وتركوا منازلهم ليعملوا في العاصمة ويبدءوا حياتهم المستقلة. ويعلم والدا هؤلاء أن أبناءهم سيتناولون أفضل الطعام وسيحصلون على أكبر قدر من الرعاية وستراقب سلوكياتهم عيون حصيفة لبيبة. لسنوات طويلة، كنت أحصل على دخل يتخطى حاجز الكفاف، والآن وبعد أن شرحت لك موقفي، يمكننا أن نشرع بالعمل. ولكن أولا هلا أعرض عليك بعض المرطبات؟»
كان دارسي قد رفض عرضها ذلك من دون أي شكل من أشكال التحضر، فقالت: «إنني امرأة عملية ولا أجد غضاضة أبدا في التقيد بشيء من القواعد الرسمية للكياسة، لكن وعلى أي حال لنعفي أنفسنا من ذلك. أنا أعرف ما تريد، وهو مكان جورج ويكهام وليديا بينيت. ربما ستبدأ المفاوضات بتحديد أكبر قدر من المال أنت مستعد لدفعه للحصول على تلك المعلومة، التي أؤكد لك أنك لن تستطيع الحصول عليها من أي أحد آخر سواي.»
بالطبع لم يكن عرضه كافيا، لكنه في النهاية تمكن من تسوية الأمر، وغادر المنزل وكأنه مصاب بالطاعون. وكان ذلك المبلغ هو أول المبالغ المالية الكبيرة التي كان عليه أن يدفعها قبل أن يتمكن من إقناع جورج ويكهام بالزواج من ليديا بينيت.
وحيث كانت إليزابيث منهكة بعد السفر، فقد أوت إلى الفراش في الحال بعد الانتهاء من العشاء. وكانت ناعسة حين دخل الغرفة ليلتحق بها، ووقف دارسي بضع دقائق إلى جوار فراشها، وراح ينظر بحب إلى وجهها الجميل الهادئ؛ ستكون إليزابيث متحررة من سيطرة القلق ساعات قليلة على الأقل. وبمجرد أن أوى دارسي إلى فراشه، راح يتقلب قلقا ويجوب الفراش بحثا عن الراحة التي لم تستطع حتى الوسائد الناعمة توفيرها، لكنه في النهاية شعر بأنه ينجرف إلى النعاس.
الفصل الثالث
خرج ألفيستون من غرفته مبكرا وتوجه إلى محكمة أولد بيلي، وكان دارسي في طريقه إلى هناك وحيدا حين سار عبر الرواق المهيب الذي يؤدي إلى قاعة المحكمة بعد العاشرة والنصف صباحا بقليل. وكان الانطباع الفوري الذي اعتراه أنه دخل قفصا كبيرا يعج بالبشر الثرثارين في مستشفى المجانين. ولم تكن المحاكمة لتبدأ إلا بعد نصف الساعة، لكن المقاعد الأمامية كانت ممتلئة بالفعل بالكثير من الثرثارين من النساء اللائي يرتدين ثيابا عصرية، في حين كانت صفوف المقاعد الخلفية سرعان ما تمتلئ بالحاضرين. وبدا وكأن لندن كلها حاضرة في المحكمة، وكان الفقراء من الناس يكتظون في إزعاج وصخب. وعلى الرغم من أن دارسي أظهر للموظف المسئول وثيقة استدعائه عند الباب، إلا أن أحدا لم يرشده إلى المكان الذي ينبغي عليه الجلوس فيه، ولم يلتفت لحضوره أحد من الأساس. كان اليوم حارا على غير العادة في شهر مارس، وكان الهواء يزداد حرارة ورطوبة، وصارت الأجواء خليطا مقززا من الروائح الكريهة والأجساد غير النظيفة. وبجوار كرسي القاضي كانت هناك مجموعة من المحامين يتحدثون وهم وقوف فيما بينهم، وكان حديثهم عشوائيا وكأنهم يقفون في أحد غرف استقبال الضيوف. ورأى دارسي أن ألفيستون كان بينهم، وحين التقت عينا ألفيستون بعينيه، أتاه في الحال ليحييه وليريه المقاعد المخصصة لجلوس الشهود.
قال ألفيستون: «جهة الادعاء تستدعيك والكولونيل فقط للشهادة بشأن العثور على جثة ديني. وهناك الضغط المعتاد الخاص بعامل الوقت، وسينفد صبر هذا القاضي إذا ما كررت الشهادة نفسها بلا داع. سأظل بالقرب منه؛ وقد نحظى بفرصة للحديث أثناء المحاكمة.»
والآن أخرست الضوضاء والجلبة، وكأنها ذبحت بسكين. ودخل القاضي القاعة. كان القاضي موبرلي مزهوا بوقاره في ثقة، لكنه لم يكن رجلا وسيما، وكان وجهه ذو الملامح الضئيلة - الذي لم يبرز منه سوى عينيه الداكنتين - يكاد لا يظهر من تحت شعر مستعار طويل، مما أضفى عليه، بالنسبة إلى دارسي، مظهر حيوان فضولي يطل من مخبئه. وتفرقت مجموعات المحامين الذين كانوا يتناقشون فيما بينهم، بينما كانوا يأخذون هم وكاتب المحكمة أماكنهم المخصصة وجلست هيئة المحلفين في مقاعدهم المحجوزة لهم. وفجأة كان المتهم يقف في قفص الاتهام، وعلى كلا جانبيه وقف ضابط من الشرطة. شعر دارسي بالصدمة من مظهره. فقد كان أكثر نحافة بالرغم من الطعام الذي كان يصله بانتظام من الخارج، وكان وجهه الأنيق شاحبا، وفكر دارسي أن السبب في هذا هو قضاء أشهر طويلة في السجن أكثر مما كان بسبب محنته التي يمر بها الآن. وبالتحديق فيه، كان دارسي بالكاد يعي مقدمات المحاكمة وتلاوة لائحة الاتهام بصوت واضح، واختيار هيئة المحلفين وحلف القسم. وفي قفص الاتهام وقف ويكهام منتصب القامة، وحين سئل عن دفاعه عن نفسه تجاه التهمة المنسوبة، قال «لست مذنبا » بنبرة صارمة. وحتى في حالته تلك وهو شاحب الوجه مقيد بالأغلال، كان ويكهام لا يزال وسيما.
ثم رأى دارسي وجها مألوفا. لا بد أنها قدمت رشوة لأحدهم ليحتفظ لها بمقعد في الصف الأمامي بين الجالسات من النساء، وقد اتخذت تلك المرأة مجلسها في سرعة وصمت. كانت تجلس الآن في مقعدها، وبالكاد تتحرك بين رفرفة الهوايات والقبعات التي يخلعها أصحابها ويلبسونها. من اللمحة الأولى لم ير دارسي سوى جانب وجهها، لكنها بعد ذلك استدارت بوجهها، وعلى الرغم من أن أعينهما التقت من دون إدراك منها له، كان دارسي شبه متأكد من أنها السيدة يونج؛ فحتى تلك النظرة الخاطفة إلى جانب من وجهها كانت كافية ليتعرف عليها.
وكان دارسي يرغب في ألا تلتقي أعينهما، لكن وبالنظر بين الحين والآخر عبر قاعة المحكمة استطاع أن يرى أنها كانت ترتدي ثيابا غالية، وأنها تتصرف بأناقة وبساطة تتعارضان مع التباهي والتفاخر المبهرج من الجالسات حولها. وكانت قبعتها المزركشة بأشرطة باللونين الأخضر والأرجواني تحيط بوجه بدا يافعا نضرا كالوجه الذي رآه حين التقاها للمرة الأولى. وكانت ترتدي الثياب نفسها التي كانت ترتديها حين دعاها هو والكولونيل إلى بيمبرلي ليجريا معها مقابلة لوظيفة مرافقة لجورجيانا، فظهرت أمام الشابين بمظهر المرأة النبيلة الأصيلة المحتد الطليقة الحديث الموثوقة الجانب، التي تكن تعاطفا عميقا تجاه الفتيات وتدرك تماما المسئوليات التي ستقع على عاتقها. وكانت السيدة يونج مختلفة لكنه لم يكن بالاختلاف الكبير حين تتبعها إلى ذلك المنزل الموقر في ميريلبون. وتساءل دارسي عن الرابطة التي تجمع بينها وبين ويكهام، التي هي قوية بما يكفي ليجعلها من بين الحضور من النساء اللائي وجدن تسلية في رؤية إنسان يكافح من أجل إنقاذ حياته.
الفصل الرابع
الآن وقد حان الوقت لتلقي جهة الادعاء كلمتها الافتتاحية، رأى دارسي أن هناك تغيرا حدث للسيدة يونج. كانت لا تزال تجلس منتصبة، لكنها كانت تحدق إلى قفص الاتهام بحدة وتركيز، وكأنها من خلال الصمت بينهما والتقاء أعينهما تستطيع أن توصل رسالة للسجين، ربما كانت رسالة فحواها الأمل أو التجلد. ولم تستمر تلك النظرة إلا ثواني قليلة، لكنها كانت لحظة من الوقت اختفت خلالها من أمام دارسي أبهة المحكمة وألوان زي القاضي القرمزية وألوان ثياب الحاضرين البهية، وأصبحت وكأنها لم تعد موجودة، وأصبح لا يعي خلالها سوى هذين الشخصين واستغراق كل منهما في الآخر. «السادة هيئة المحلفين، إن القضية المطروحة أمامكم الآن تمثل فاجعة لنا جميعا، وهي قضية قتل وحشية على يد ضابط سابق بالجيش في حق صديق له ورفيق سابق له في الجيش. وعلى الرغم من أن الكثير مما حدث سيظل لغزا؛ ذلك أن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يدلي بشهادته حيال ما جرى هو المجني عليه، إلا أن الحقائق واضحة وضوح الشمس وتتجاوز الحدس والتخمين، وستعرض هذه الحقائق عليكم بالأدلة. لقد غادر المدعى عليه حانة جرين مان في قرية بيمبرلي بمقاطعة ديربيشاير وفي صحبته الكابتن ديني والسيدة ويكهام في نحو الساعة التاسعة من يوم الجمعة الموافق الرابع عشر من شهر أكتوبر، ومروا على الطريق عبر الغابة باتجاه منزل بيمبرلي حيث ستقضي السيدة ويكهام الليلة ومدة من الزمن غير محددة، في حين سينتقل الكابتن ديني والسيد ويكهام إلى كينجز آرمز في لامتون. وستسمعون شهادات عن وقوع خلاف بين المدعى عليه والكابتن ديني بينما كانا في الحانة، وكذلك شهادة بالكلمات التي نطق بها الكابتن ديني حين غادر العربة وهرع إلى داخل الغابة. ثم تبعه ويكهام بعد ذلك. ثم سمع صوت طلقات نار، وحين لم يعد ويكهام من الغابة، انتقلت العربة بالسيدة ويكهام التي كانت في حالة اضطراب شديد إلى منزل بيمبرلي وشكلت فرقة إنقاذ. وستسمعون شهادات عن إيجاد الجثة على لسان اثنين من الشهود يتذكرون تلك اللحظة المهمة بشكل واضح. كان المدعى عليه يجثو بجوار الجثة وهو ملطخ بالدماء وردد مرتين كلمات واضحة تماما، واعترف بأنه قتل صديقه. ومن بين الكثير من الحقائق التي قد تبدو غير واضحة وتشكل لغزا، تبرز تلك الحقيقة؛ كان هناك اعتراف وقد تكرر، وأقترح عليكم أنه اعتراف مفهوم ولا لبس فيه. لم تلاحق مجموعة الإنقاذ أي قاتل محتمل آخر، وكان السيد دارسي حريصا على أن يبقي ويكهام تحت الحراسة وأن يبلغ القاضي في الحال، وعلى الرغم من إجراء بحث شامل وطويل لم نجد أي دليل على وجود غرباء آخرين في الغابة في تلك الليلة. أما عن الأشخاص الموجودين في كوخ الغابة؛ وهم امرأة عجوز وابنتها ورجل على شفا الموت، فمن غير الممكن أن يكونوا قد استخدموا تلك البلاطة الحجرية الثقيلة التي يعتقد أنها تسببت بالجرح القاتل. وستسمعون شهادات بأن أحجارا من تلك النوعية يمكن أن توجد في الغابة، وكان ويكهام سيعرف أين يبحث عن مثلها؛ ذلك أنه على معرفة بتلك الغابة منذ طفولته.
إن تلك الجريمة وحشية للغاية. فهناك مسئول طبي سيؤكد أن الضربة التي وجهت إلى الجبهة لم تفعل سوى أنها أعجزت الضحية، وأنها أتبعت بهجوم عنيف قاتل حدث حين كان الكابتن ديني يحاول الهروب وقد أعمته دماؤه. من الصعب تخيل جريمة أكثر شناعة وبشاعة من هذه. ولن يمكننا أن نعيد الكابتن ديني إلى الحياة، لكن يمكن له أن يحصل على العدالة، وكلي ثقة أيها السادة من هيئة المحلفين أنكم لن تترددوا في الحكم بإدانة المدعى عليه. والآن سأطلب شهادة أول شهود جهة الادعاء.»
الفصل الخامس
سمع صوت عال ينادي: «ناثانيال بيجوت.» وفي الحال أخذ مالك حانة جرين مان مكانه على منصة الشهود، وأمسك بالكتاب المقدس عاليا بشيء من التشريف، ثم حلف اليمين. كان الرجل يرتدي بزة يوم الأحد التي كان يرتديها غالبا في الكنيسة، لكنه كان يرتديها بثقة رجل يشعر بالارتياح في ملابسه، ووقف لحظة يمر بعينيه بتأن على هيئة المحلفين بنظرة رجل يثمن مرشحين غير واعدين لوظيفة شاغرة في الحانة. وفي النهاية ثبت نظره على محامي جهة الادعاء وكأنه واثق من أنه سيتمكن من التعامل مع أي شيء يطرحه عليه السير سيمون كارترايت. وحسبما طلب منه، قدم ناثانيال بيجوت اسمه وعنوانه: «ناثانيال بيجوت، مالك حانة جرين مان، بقرية بيمبرلي، مقاطعة ديربيشاير.»
كانت شهادته مباشرة ولم تستغرق إلا قليلا. وردا على أسئلة محامي جهة الادعاء، أخبر المحكمة أن جورج ويكهام والسيدة ويكهام والكابتن ديني الراحل وصلوا إلى الحانة في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر أكتوبر لآخر مرة في عربة مستأجرة. كان السيد ويكهام قد طلب بعض الطعام والنبيذ واستئجار عربة لتأخذ السيدة ويكهام إلى بيمبرلي في وقت لاحق من تلك الليلة. وقد أخبرته السيدة ويكهام حين كان يصطحب المجموعة إلى المشرب أنها كانت ستمضي ليلتها في منزل بيمبرلي لتحضر حفل الليدي آن في اليوم التالي. «وقد بدت متحمسة كثيرا.» وردا منه على المزيد من الأسئلة، قال إن السيد ويكهام قد أخبره أنه بعد الذهاب إلى منزل بيمبرلي سيطلب من العربة أن تستمر في طريقها إلى كينجز آرمز في لابمتون حيث سيقضي ليلته والكابتن ديني، وفي الصباح التالي سيذهب إلى مسرح لندن.
قال السيد كارترايت: «إذن لم تكن هناك إشارة في ذلك الوقت بخصوص أن يمكث السيد ويكهام أيضا في منزل بيمبرلي؟» «ليس على حد ما سمعت يا سيدي، ولم يكن ذلك متوقعا. فالسيد ويكهام كما يعرف بعضنا غير مرحب به إطلاقا في منزل بيمبرلي.»
سادت غمغمة في أرجاء المحكمة. وبصورة غريزية تيبس دارسي في جلسته. كان الجميع يخوضون منعطفا خطرا في وقت أبكر مما توقع. ثبت دارسي عينيه على محامي جهة الادعاء، لكنه كان يعرف أن أعين هيئة المحلفين كانت مثبتة عليه. لكن وبعد سكتة قصيرة غير سيمون كارترايت مسار الحديث. «هل دفع لك السيد ويكهام ثمن الطعام والنبيذ وأجرة العربة؟» «فعل يا سيدي، حين كانوا في المشرب. وقد قال الكابتن ديني للسيد ويكهام: «إنها رحلتك، سيتعين عليك أن تدفع. ليس معي إلا ما يكفي لبقائي في لندن».» «هل رأيتهم وهم يغادرون في العربة؟» «رأيتهم يا سيدي. كانت الساعة حينها التاسعة إلا الربع تقريبا.» «وحين انطلقوا، هل لاحظت الحالة التي كانوا عليها، أقصد العلاقة بين السيدين؟» «لا يمكنني أن أقول إنني لاحظت ذلك يا سيدي. كنت أعطي التعليمات لبرات سائق العربة. كانت السيدة تحذره ليكون حريصا أكثر وهو يضع صندوقها في العربة؛ لأنه كان يحمل فستانها الذي سترتديه في الحفل. لكن يمكنني القول إنني رأيت الكابتن ديني كان هادئا للغاية ولم يتغير حاله عما كان عليه حينما كانوا يتناولون الشراب في الحانة.» «هل عاقر أي السيدين الشراب بكثرة؟» «لم يشرب الكابتن ديني سوى الجعة وليس أكثر من نصف لتر تقريبا. وشرب السيد ويكهام لترا من الجعة ثم تحول إلى الويسكي. وبحلول الوقت الذي انطلقا فيه، كان وجهه محمرا، ولم يكن أي منهما ثابتا على قدميه، لكنه كان يتحدث بشكل واضح بما يكفي، رغم أن صوته كان عاليا، وركب العربة من دون أي مساعدة.» «هل سمعت أي حوار دار بينهما حين ركبا العربة؟» «لا يا سيدي، ليس على حد ما أذكر. كانت السيدة بيجوت هي من سمعت السيدين يتجادلان، كما أخبرتني، لكن ذلك كان في وقت مبكر.» «سنسمع شهادة زوجتك. هذا كل ما لدي من أسئلة لك سيد بيجوت، يمكنك النزول عن المنصة إلا إن كان لدى السيد ميكلدور ما يسألك بشأنه.»
التفت ناثانيال بيجوت ليواجه محامي جهة الدفاع بشيء من الثقة، بينما كان السيد ميكلدور ينهض من مكانه. «إذن لم يكن أي من السيدين في مزاج مناسب للحديث. هل وصلك انطباع أنهما كانا مطمئنين إلى السفر برفقة أحدهما الآخر؟» «لم يصدر عنهما أي شيء يشير إلى كونهما غير مطمئنين، ولم يكن هناك جدال بينهما حين انطلقا في رحلتهما.» «لم يكن هناك أي إشارة على وجود جدال أو شجار؟» «لم ألحظ شيئا يا سيدي.»
لم يكن هناك المزيد من الاستجواب للشاهد، فغادر ناثانيال بيجوت منصة الشهود وهو واثق من أنه ترك انطباعا إيجابيا.
استدعيت مارثا بيجوت بعد ذلك وسادت فوضى وجيزة في الزاوية البعيدة من قاعة المحكمة، حيث كانت امرأة قصيرة ممتلئة تحاول أن تحرر نفسها من حشد من الداعمين يغمغمون لها بعبارات التشجيع، وراحت تتبختر في طريقها إلى منصة الشهود. كانت المرأة ترتدي قبعة مزخرفة بكثافة بأشرطة وردية متموجة بدت جديدة، ولا شك أنها اشترتها كإجلال منها لأهمية هذه المناسبة . كانت القبعة لتبدو أكثر إثارة للإعجاب لولا أنها كانت تعلو كتلة كثيفة من الشعر الأصفر اللامع، وبين الحين والآخر كانت تلمس القبعة وكأنها تتأكد من أنها لا تزال على رأسها. ثبتت المرأة نظرها على القاضي حتى نهض محامي جهة الادعاء ليخاطبها، بعد أن أومأت هي له إيماءة مشجعة. قدمت المرأة اسمها وعنوانها، وأقسمت اليمين بنبرة واضحة، وأكدت على رواية زوجها بشأن وصول ويكهام والكابتن ديني.
همس دارسي إلى ألفيستون: «لم تستدعى للشهادة أثناء التحقيق. أهذا شيء جديد؟»
قال ألفيستون: «أجل، وقد يمثل ذلك خطرا.»
سألها سيمون كارترايت: «كيف كان الجو العام في الحانة بين السيد والسيدة ويكهام والكابتن ديني؟ أيمكنك أن تقولي سيدة بيجوت إن تلك المجموعة كانت سعيدة؟» «لم أكن لأقول ذلك يا سيدي. كانت السيدة ويكهام تتمتع بروح معنوية طيبة، وكانت تضحك. فهي امرأة لطيفة وتتحدث بحرية يا سيدي، وكانت هي من أخبرتني والسيد بيكوت حين كنا في المشرب أنها كانت ستحضر حفل الليدي آن، وأن ذلك سينطوي على متعة كبيرة؛ لأن السيد والسيدة دارسي لم يعرفا أنها كانت آتية وأنهما لن يتمكنا من صدها، ليس في ليلة عاصفة كتلك. وكان الكابتن ديني هادئا للغاية، لكن السيد ويكهام كان قلقا وكأنه يريد الانصراف.» «وهل سمعت أي شجار أو جدال، أي حديث بينهما؟»
انتفض السيد ميكلدور واقفا في الحال ليعترض أن جهة الادعاء توجه الشهادة، فأعيدت صياغة السؤال: «هل سمعت أي شيء من المحادثة التي دارت بين الكابتن ديني والسيد ويكهام؟»
أدركت السيدة بيجوت سريعا ما يرمي إليه. «ليس أثناء وجودهما في الحانة يا سيدي، لكن بعد أن تناولا اللحم البارد والشراب، طلبت السيدة ويكهام أن يحمل صندوقها إلى الطابق الأعلى حتى يتسنى لها أن تبدل ملابسها قبل أن ينطلقوا إلى بيمبرلي. ولم تكن سترتدي فستان الحفل، وإنما شيئا لطيفا لتدخل به منزل بيمبرلي. وقد أرسلت سالي وهي خادمتي لمساعدتها. وبعد ذلك ذهبت إلى المرحاض في الباحة، وحين فتحت الباب بهدوء لكي أخرج منه، رأيت السيد ويكهام والكابتن ديني يتحدثان معا.» «وهل سمعت ما كانا يقولان؟» «سمعت يا سيدي. حيث لم يكونا بعيدين عني سوى بضعة أقدام. رأيت أن وجه الكابتن ديني كان شديد البياض. وقد قال: «كان الأمر خداعا من البداية إلى النهاية. أنت أناني تماما. ليس لديك أدنى فكرة عما تشعر به المرأة».» «وهل أنت واثقة من تلك الكلمات؟»
ترددت السيدة بيجوت. «في الواقع يا سيدي، ربما أخطأت في ترتيب الكلمات، لكن لا شك أن الكابتن ديني قال إن السيد ويكهام أناني، وإنه لا يفهم كيف تشعر النساء، وإن هناك خداعا من البداية إلى النهاية.» «وماذا حدث حينها؟» «لم أكن أريد للسيدين أن يرياني وأنا أغادر المرحاض؛ لذا فقد أغلقت الباب حتى آخره تقريبا، ورحت أراقبهما من الفتحة حتى ذهبا.» «هل تقسمين على أنك سمعت هذه الكلمات؟» «في الواقع، أنا حلفت اليمين بالفعل يا سيدي. وأنا أدلي بشهادتي بموجب ذاك اليمين.» «فعلا أيها السيدة بيجوت، وأنا مسرور من أنك تدركين أهمية هذه الحقيقة. ماذا حدث بعد أن دخلت مرة أخرى إلى الحانة؟» «دخل السيدان بعدها ببرهة قصيرة يا سيدي، وصعد السيد ويكهام إلى الغرفة التي خصصتها لزوجته. ولا بد أن السيدة ويكهام كانت قد انتهت من تبديل ملابسها حينها حيث نزل السيد ويكهام وقال إن الصندوق قد أعيد إغلاقه، وإنه جاهز لينقل إلى العربة. ثم ارتدى السيدان معطفيهما وقبعتيهما ونادى السيد بيجوت على برات من أجل أن يحضر العربة.» «وكيف كان حال السيد ويكهام حينها؟»
ساد الصمت لحظة وكأن السيدة بيجوت لم تكن واثقة من معنى سؤاله. فقال هو بشيء من نفاد الصبر: «أكان مستفيقا أم كانت هناك علامات على تناوله الشراب؟» «بالطبع كنت أعرف أنه تناول الشراب يا سيدي، وقد بدا وكأنه حظي بأكثر من كفايته. أعتقد أن صوته كان مدغما حين قال وداعا. لكنه كان لا يزال ثابتا على قدميه، ودخل العربة من دون أي مساعدة، ثم انطلقوا في طريقهم.»
وساد الصمت ثانية. ثم نظر محامي جهة الادعاء في أوراقه وقال: «شكرا لك سيدة بيجوت . هلا تمكثين في مكانك في الوقت الراهن من فضلك؟»
ونهض جيريميا ميكلدور. وقال: «إذن، إذا كان هناك حديث غير ودي - ولنقل بأنه كان خلافا - فهو لم ينته بالصراخ أو استخدام العنف. هل لمس أي الرجلين الآخر أثناء المحادثة التي سمعتها في الباحة؟» «لا يا سيدي، ليس على حد ما رأيت. كان من الغباء أن يتحدى السيد ويكهام الكابتن ديني للدخول معه في عراك. فقد كان الكابتن ديني في رأيي أطول منه ببضع بوصات، وأقوى منه بنية.» «وهل رأيت حين دخلا إلى العربة إن كان أي منهما مسلحا؟» «كان الكابتن ديني مسلحا يا سيدي.» «إذن وعلى حد ما تقولين، كان الكابتن ديني - وبغض النظر عن رأيه في سلوك رفيقه - مسافرا في العربة معه من دون أن يقلق بشأن وقوع اعتداء جسدي عليه؟ فقد كان هو الأطول والأقوى منه بنية. هل كان هذا هو الموقف على حد ما تذكرين؟» «أعتقد ذلك يا سيدي.» «ليس الأمر بما تعتقدين سيدة بيجوت. هل رأيت الرجلين يدخلان إلى العربة، وكان الكابتن ديني وهو الأطول بينهما مسلحا؟» «أجل يا سيدي.» «إذن وحتى لو كانا قد تشاجرا، فإن حقيقة أنهما كانا يسافران معا لم تكن لتثير قلقك؟» «كانت السيدة ويكهام تسافر معهما يا سيدي. لم يكونا ليشرعا في عراك بينهما والسيدة ويكهام برفقتهما في العربة. كما أن برات ليس بأحمق. وعلى الأرجح، لو وقع أي شجار بينهما، كان برات ليوجه الجياد نحو العودة إلى الحانة.»
وطرح جيريميا ميكلدور سؤالا أخيرا. «لماذا لم تقدمي هذه الشهادة في التحقيق سيدة بيجوت؟ ألم تكوني مدركة لأهميتها؟» «لم يسألني أحد عن ذلك يا سيدي. فقد أتى السيد براونريج إلى الحانة بعد التحقيق وسألني حينها.» «لكن لا شك أنك أدركت قبل حديث السيد براونريج معك أنك لديك شهادة ينبغي تقديمها أثناء التحقيق؟» «ظننت يا سيدي أنهم سيأتون ويسألونني إن هم أرادوا مني أن أتحدث، ولم أكن لأجعل جميع من في لامتون يسخرون مني. فمن الشائن ألا تتمكن امرأة من الذهاب إلى المرحاض من دون أن يسأل الناس عن ذلك على الملأ. ضع نفسك مكاني أيها السيد ميكلدور.»
هنا انطلقت قهقهات قصيرة سرعان ما كتمت. وقال السيد ميكلدور إنه لم يكن لديه المزيد من الأسئلة، وبعد أن ثبتت قبعتها على رأسها بقوة أكبر، راحت السيدة بيجوت تخطو خطوات ثقيلة عائدة إلى كرسيها في ارتياح واضح وسط همسات التشجيع من داعميها.
الفصل السادس
أضحت إدارة سيمون كارترايت للدعوى القضائية واضحة الآن وكان دارسي يقدر مهارته في ذلك. فالقصة تحكى مشهدا تلو الآخر، الأمر الذي فرض الترابط المنطقي والمصداقية على السرد كما خلق في قاعة المحكمة شيئا من الترقب الحماسي الخاص بالمسرح، بينما كانت تطورات القصة تتكشف أمامهم. لكن دارسي فكر في ماهية الأغراض الأخرى لمحاكمة على جريمة قتل سوى الترفيه العام؟ كان الممثلون يرتدون ملابسهم من أجل أداء الأدوار المخصصة لهم، وكان هناك ضجيج التعليقات السعيدة قبل أن تظهر الشخصية المخصصة للمشهد التالي، ثم تأتي اللحظات التي تكون فيها الدراما في أقصى مستوياتها حين يدخل الممثل الرئيسي إلى قفص الاتهام، ولا يكون أمامه أي مهرب من مواجهة المشهد الأخير؛ الموت أو الحياة. كان هذا مثالا على تطبيق القانون الإنجليزي وهو قانون يحظى بالاحترام في أوروبا بأسرها، وهل هناك سبيل آخر لإصدار حكم مثل هذا بشكل عادل بكل ما يتضمنه من قطعية وحسم يبعثان على الارتياع؟ كان قد استدعي دارسي ليكون حاضرا، لكنه حين نظر حوله في قاعة المحكمة، ورأى الألوان البهية والقبعات التي تتحرك يمنة ويسرة في أيدي الأغنياء المتأنقين، وكذلك كآبة الفقراء، شعر دارسي بالعار ليكون واحدا منهم.
استدعي جورج برات الآن ليدلي بشهادته. وعلى منصة الشهود كان يبدو أكبر سنا مما كان يتذكره دارسي. وكانت ملابسه نظيفة لكنها لم تكن جديدة، ومن الواضح أنه غسل شعره مؤخرا، وكان الآن يقف منتصبا وفي وجهه حبوب مدببة بلون شاحب، مما أضفى عليه مظهر المهرج المرعب. وحلف جورج برات اليمين بتمهل، وكانت عيناه مثبتتين على الورقة وكأن اللغة المكتوبة بها كانت غريبة عليه، ثم راح يحدق إلى كارترايت وكأنه طفل مقصر متوسل.
من الواضح أن محامي جهة الادعاء قد قرر أن استخدام العطف هنا سيكون هو الأداة الأكثر فاعلية. فقال: «لقد حلفت اليمين يا سيد برات، ما يعني أنك أقسمت على تحري الصدق في المحكمة ردا على أسئلتي، وفي أي شيء قد تقوله. والآن أريدك أن تخبر المحكمة بكلماتك ما حدث ليلة الجمعة الموافقة للرابع عشر من شهر أكتوبر.» «كنت سأصحب السيدين ويكهام والكابتن ديني والسيدة ويكهام إلى بيمبرلي في عربة السيد بيجوت، ثم سأترك السيدة في المنزل، وأستكمل اصطحاب السيدين إلى كينجز آرمز في لامتون. لكن السيد ويكهام والكابتن ديني لم يصلا إلى بيمبرلي قط.» «أجل نعرف ذلك. كيف كنت ستصل إلى بيمبرلي؟ من أي بوابة كنت ستدخل؟» «من البوابة الشمالية الغربية يا سيدي، ثم كنت سأسير عبر الممر في الغابة.» «وماذا حدث؟ هل كان هناك أي صعوبة في عبور البوابة؟» «لا يا سيدي. فقد أتى جيمي مورجان ليفتحها. كان قد قال بأن أحدا لن يمر، لكنه كان يعرفني وتركنا نمر حين قلت بأنني كنت أصحب السيدة ويكهام إلى الحفل. وكنا قد قطعنا مسافة نصف ميل تقريبا أو نحو ذلك من الممر، حين طرق أحد السيدين - وأعتقد أنه الكابتن ديني - على العربة من أجل أن أتوقف، ومن ثم توقفت. ثم خرج من العربة وتوجه نحو الغابة. وراح يصيح بأنه لن يشارك في الأمر أكثر من ذلك، وأن السيد ويكهام كان وحده الآن.» «أكانت تلك هي الكلمات التي نطق بها تحديدا؟»
سكت برات لحظة. «لست واثقا يا سيدي. ربما كان قد قال: «أنت وحدك الآن يا ويكهام. لن أتحمل المزيد من ذلك».» «وماذا حدث بعد ذلك؟» «خرج السيد ويكهام من العربة في إثره، وراح يقول له إنه أحمق وإن عليه العودة، لكنه لم يفعل. لذا تبعه إلى داخل الغابة. وخرجت السيدة من العربة تنادي عليه ليعود وألا يتركها، لكنه لم يلتفت لها. وحين اختفى في الغابة دخلت إلى العربة مرة أخرى وبدأت تبكي وترثي حالها . وهكذا ظللنا واقفين في مكاننا يا سيدي.» «ألم تفكر في الدخول بنفسك إلى الغابة؟» «لا يا سيدي. لم يكن بإمكاني ترك السيدة ويكهام ولا الجياد؛ لذا مكثت في مكاني. لكن بعد برهة كان هناك صوت طلقات نيران، وبدأت السيدة ويكهام تصرخ وقالت لي إننا سنقتل جميعا، وإن علي أن أقود العربة إلى بيمبرلي بأسرع ما يمكنني.» «وهل كانت الطلقات النارية قريبة منكما؟» «لست واثقا من ذلك يا سيدي. لكنها كانت قريبة بما يكفي لكي نسمعها بوضوح.» «وكم كان عدد الطلقات التي سمعتها؟» «ربما كانت ثلاثا أو أربعا. لست متأكدا تماما يا سيدي.» «إذن ماذا حدث بعد ذلك؟» «ضربت الجياد بالسوط فأخذت تركض، وذهبنا إلى بيمبرلي وكانت السيدة تصرخ في أثناء ذلك طوال الطريق. وحين توقفنا أمام الباب كادت تقع خارج العربة. وكان السيد دارسي وبعض الرفقة يقفون عند الباب. ولا يمكنني أن أتذكر من هم بالتحديد، لكنني أعتقد أنه كان هناك رجلان والسيد دارسي وسيدتان. وقد ساعدت السيدتان السيد ويكهام في دخول المنزل، وقال السيد دارسي بأن أظل إلى جانب الجياد حيث كان يريد مني أن آخذه وبعض الرجال إلى المكان الذي دخل منه الكابتن ديني والسيد ويكهام إلى الغابة. ومن ثم انتظرته يا سيدي. ثم جاء السيد الذي أعرف الآن أنه الكولونيل فيتزويليام إلى مدخل المنزل بسرعة كبيرة وانضم إلى المجموعة. وحين أحضر شخص ما نقالة وبعض الأغطية والمصابيح، ركب الرجال الثلاثة العربة - وهم السيد دارسي والكولونيل ورجل آخر لم أكن أعرفه - وعدنا إلى الغابة. ثم خرج الرجال من العربة وساروا في المقدمة حتى وصلنا إلى المسار الذي يؤدي إلى كوخ الغابة وذهب الكولونيل ليتأكد من أن العائلة بخير، وليخبرهم أن يوصدوا الباب عليهم. ثم أكمل الرجال الثلاثة مسيرهم حتى رأيت المكان الذي اختفى فيه الكابتن ديني والسيد ويكهام. ثم طلب مني السيد دارسي أن أنتظرهم هناك، ودلفوا إلى الغابة.» «لا بد أن تلك اللحظات كانت عصيبة عليك يا برات.» «كانت كذلك حقا يا سيدي. كنت مرعوبا لأن أحدا لم يكن بصحبتي ولم يكن معي سلاح، وبدا أن الوقت الذي انتظرتهم فيه طويلا جدا يا سيدي. لكنني بعد ذلك سمعتهم قادمين. وقد أحضروا جثة الكابتن ديني على نقالة، أما السيد ويكهام الذي كان لا يستطيع الوقوف على قدمه ثابتا فقد ساعده الرجل الثالث على الركوب في العربة. ثم أدرت الجياد وعدنا بطيئا إلى بيمبرلي حيث كان الكولونيل والسيد دارسي يسيران خلفنا ويحملان النقالة، وكان الرجل الثالث في العربة مع السيد ويكهام. وأما ما تلا ذلك من أحداث، فمشوش في ذهني يا سيدي. أعلم أن النقالة قد حملت إلى مكان ما، أما السيد ويكهام الذي كان حينها يصيح بصوت عال، ولا يكاد يستطيع الصمود في وقفته فقد أخذ إلى داخل المنزل وطلب مني الانتظار. وفي النهاية خرج الكولونيل وأخبرني بأن علي أن آخذ العربة إلى كينجز هيد وأن أخبرهم أن السيدين لن يأتيا، وأن علي المغادرة من هناك سريعا قبل أن يطرحوا علي الأسئلة، وحين أعود إلى جرين مان يتعين ألا أخبر أحدا بشيء عما حدث، وإلا سأواجه مشكلات مع الشرطة. وقال إن الشرطة ستأتي لتتحدث إلي في اليوم التالي. وكنت قلقا حيال أن يطرح علي السيد بيجوت أي أسئلة لدى عودتي، لكنه والسيدة بيجوت كانا قد خلدا إلى الفراش. وفي ذلك الحين كانت الرياح قد هدأت وبدأت أمطار غزيرة تهطل. وفتح السيد بيجوت نافذة حجرة نومه، ونادى إن كان كل شيء على ما يرام، وإن كانت السيدة قد ذهبت إلى بيمبرلي. قلت له إنها ذهبت إلى هناك وطلب السيد بيجوت مني أن أتفقد الجياد، وأن أخلد إلى النوم. كنت في غاية التعب والإرهاق يا سيدي، وفي صباح اليوم التالي كنت نائما حين جاءت الشرطة في تمام السابعة صباحا. وقد أخبرتهم بما حدث، تماما كما أخبرك به الآن يا سيدي، على قدر ما أتذكر ولم أخف شيئا.»
قال كارترايت: «شكرا لك سيد برات. كانت شهادتك في غاية الوضوح.»
هنا نهض السيد ميكلدور في الحال. وقال: «لدي سؤال أو اثنان لك يا سيد برات. حين طلب منك السيد بيجوت أن تقود العربة إلى بيمبرلي؛ أكانت تلك هي المرة الأولى التي ترى فيها هذين السيدين معا؟» «أجل يا سيدي.» «وكيف بدت العلاقة بينهما بالنسبة إليك؟» «كان الكابتن ديني هادئا للغاية، وكان من الواضح أن السيد ويكهام تناول الشراب، لكن لم يكن هناك جدال أو شجار بينهما.» «هل كان هناك تردد من جانب الكابتن ديني في ركوب العربة؟» «كلا يا سيدي. فقد ركب العربة برضا تام.» «هل سمعت أي حديث دار بينهما أثناء الرحلة قبل أن تتوقف العربة؟» «لا يا سيدي. لم يكن ذلك سهلا حيث الرياح ووعورة الطريق إلا إذا كانا يصيحان بصوت مرتفع للغاية.» «ولم يكن هناك صراخ؟» «لا يا سيدي، لم أسمع شيئا.» «إذن وعلى حد علمك، انطلقت تلك المجموعة وهم متوافقون، ولم يكن لديك سبب يدفعك لتوقع أي مشكلة؟» «لا يا سيدي، لم يكن لدي سبب لذلك.» «أعرف أنك أخبرت هيئة المحلفين أثناء التحقيق عن المشكلة التي واجهتها في السيطرة على الجياد حين كانوا في الغابة. لا بد أن تلك الرحلة كانت عصيبة عليهم.» «أوه، ذلك صحيح يا سيدي. فبمجرد أن دخلت الجياد إلى الغابة أصبحت مهتاجة، وراحت تصهل وتضرب الأرض بأقدامها.» «لا بد أنها كانت صعبة المراس للسيطرة عليها.» «صحيح يا سيدي، كانت كذلك إلى حد كبير. فلا يوجد حصان واحد يحب دخول الغابة في ليلة يكتمل فيها القمر - ولا بشر كذلك.» «هل بإمكانك أن تكون متأكدا تماما من الكلمات التي تلفظ بها الكابتن ديني حين غادر العربة؟» «في الواقع يا سيدي، سمعته يقول إنه لن يساير السيد ويكهام بعد الآن، وأن السيد ويكهام كان وحيدا الآن، أو شيء من هذا القبيل.» «شيء من هذا القبيل. شكرا لك سيد برات، هذا كل ما لدي من أسئلة.»
نزل برات عن منصة الشهود وهو سعيد أكثر مما كان عليه حين اعتلاها. وهمس ألفيستون إلى دارسي قائلا: «لا توجد مشكلة هنا. لقد تمكن ميكلدور من إلقاء ظلال الشك على شهادة برات . والآن يا سيد دارسي، سيحين دورك أنت أو الكولونيل.»
الفصل السابع
حين نودي اسمه، استجاب دارسي بصدمة جسدية تدل على تفاجئه رغم أنه كان يعرف أن دوره قد اقترب ولن يدوم انتظاره طويلا. تقدم دارسي عبر قاعة المحكمة وحاول أن يسيطر على ذهنه. كان من المهم أن يحافظ على رباطة جأشه، ويسيطر على انفعالاته. وكان عازما على ألا ينظر إلى ويكهام أو السيدة يونج أو إلى عضو هيئة المحلفين الذي كان يحدق إليه بغلظة في كل مرة كان يجول فيها بعينيه على هيئة المحلفين. وكان دارسي يثبت أنظاره على محامي جهة الادعاء وهو يجيب عن الأسئلة، وبين الحين والآخر كان يرمق هيئة المحلفين أو القاضي الذي جلس بلا حراك وكأنه تمثال بوذا، طاويا يديه الصغيرتين البدينتين على المكتب، وعيناه شبه مغمضتين.
وكان الجزء الأول من الاستجواب مباشرا. فردا منه عن الأسئلة التي وجهت له، راح يقص أحداث أمسية حفل العشاء، وذكر الحضور حينها، كما ذكر مغادرة الكولونيل والآنسة درسي، ووصول العربة بالسيدة ويكهام وهي في حالة شديدة من الاضطراب، وفي النهاية أشار إلى قراره بأخذ العربة والعودة بها إلى الممر في الغابة؛ ليعرفوا ما حدث، وما إذا كان السيد ويكهام والكابتن ديني في حاجة إلى أي مساعدة.
قال سيمون كارترايت: «أكنت تتوقع وجود بعض الأخطار، أو ربما وقوع شيء مأساوي؟» «إطلاقا يا سيدي. بل كنت آمل، بل وحتى أتوقع أن أسوأ ما حدث للسيدين هو أن أحدهما قد وقعت له حادثة بسيطة تسببت في إصابته في الغابة، وأننا سنلتقي بالكابتن ديني والسيد ويكهام كليهما في طريق عودتهما إلى بيمبرلي أو إلى الحانة، وأحدهما يساعد الآخر. وكان ما قالته السيدة ويكهام وأكده بعدها برات أنه سمع إطلاق نار وهو ما أقنعني أنه من اللازم تشكيل مجموعة لإنقاذهما. كان الكولونيل فيتزويليام قد عاد في الوقت المناسب؛ ليكون عضوا في تلك المجموعة وكان مسلحا.» «سيدلي الفيكونت هارتليب بشهادته بالطبع في وقت لاحق. فهل نستطيع أن نتابع؟ هلا تتفضل الآن بوصف الرحلة إلى داخل الغابة والأحداث التي أدت إلى اكتشاف جثة الكابتن ديني.»
لم تكن هناك حاجة لدارسي لكي يتدرب على هذا السؤال، لكنه وعلى الرغم من ذلك أمضى بعض الوقت في اختيار الكلمات التي عليه استخدامها، ونبرة صوته التي عليه أن يتحدث بها. كان دارسي قد أخبر نفسه بأنه سيكون حاضرا أمام محكمة قضائية، وليس مع مجموعة من أصدقائه يسرد عليهم قصة ما. وكان التفكر في أمر الصمت - الذي لم يكسر حاجزه سوى صوت أقدامهم على الأرض وصوت صرير العجلات - أمرا لا مفر منه؛ فكل ما يحتاج إليه الآن هو ذكر الحقائق بشكل صريح ومقنع. والآن راح دارسي يسرد أن الكولونيل ترك المجموعة بعض الوقت ليحذر السيدة بيدويل وابنها المحتضر وابنتها أن هناك مشكلة قد تقع، ولكي يطلب منهم أن يغلقوا الباب. «هل أخبرك الفيكونت هارتليب وهو ذاهب إلى الكوخ أن تلك كانت نيته؟» «أجل.» «وكم مضى على غيابه؟» «في اعتقادي، ليس أكثر من 15 دقيقة، لكن مدة غيابه بدت حينها أطول بطريقة ما.» «ثم أكملتم مسيركم بعدها؟» «صحيح. كان برات قد استطاع بشيء من اليقين تحديد المكان الذي دلف منه الكابتن ديني إلى الغابة، فدخلنا منه وحاولت أنا ورفاقي حينها أن نكتشف المسار الذي سلكه أحدهما أو كلاهما. وبعد بضع دقائق، قد تصل إلى 10، وصلنا إلى الفرجة ووجدنا جثة الكابتن ديني، وكان السيد ويكهام جاثيا عليها وينتحب.» «وكيف كان حال السيد ويكهام؟» «كان مضطربا اضطرابا شديدا وأعتقد من كلامه ومن رائحة فمه أنه كان يعاقر الشراب بشراهة. كان وجه الكابتن ديني ملطخا بالدماء وكانت هناك دماء على يد السيد ويكهام ووجهه - وظننت حينها أن ذلك بسبب لمسه لصديقه.» «وهل تحدث السيد ويكهام بشيء؟» «لقد فعل.» «وماذا قال؟»
وأخيرا كان هذا هو السؤال الذي يخشاه ولثوان قليلة كان ذهنه في حالة فراغ تام. ثم نظر إلى كارترايت وقال: «أعتقد يا سيدي أنني أستطيع تذكر الكلمات بدقة إن لم أكن أذكرها بالترتيب الصحيح. وقد قال ويكهام بحسب ما أتذكر: «لقد قتلته. إنه خطئي. كان صديقي الوحيد ، وقد قتلته.» ثم كرر: «إنه خطئي».» «وفي ذلك الوقت، ماذا كنت تعتقد أنه يقصد بكلامه هذا؟»
كان دارسي مدركا أن المحكمة بأسرها كانت تتطلع إلى إجابته. فانتقل بعينه إلى القاضي الذي فتح عينيه ببطء ونظر إليه. وقال: «أجب عن السؤال سيد دارسي.»
حينها أدرك دارسي بشيء من الذعر أنه كان عليه أن يظل صامتا عدة ثوان. ثم قال وهو يوجه حديثه إلى القاضي: «كنت أنظر إلى رجل في حالة اضطراب من أشد ما يمكن، وكان جاثيا على جثة صديقه. وفي رأيي أن السيد ويكهام كان يقصد أن صديقه لم يكن ليقتل لو لم يكن هناك خلاف بينهما ترك الكابتن ديني على إثره العربة وهرع إلى الغابة. كان ذلك هو انطباعي حينها. فلم أر أي أسلحة. وكنت أعلم أن الكابتن ديني كان هو الأضخم فيهما كما كان مسلحا. وسيكون من الحماقة كثيرا أن يتبع السيد ويكهام صديقه إلى الغابة من دون إنارة أو سلاح وفي نيته قتله. لم يكن السيد ويكهام حتى ليجد تأكيدا على وجود الكابتن ديني بين الأشجار والشجيرات الكثيفة في ظل وجود ضوء القمر كمصدر الإضاءة الوحيد له. وبدا لي أن ما حدث ليس بجريمة قتل ارتكبها السيد ويكهام، سواء بدافع أو مع سبق الإصرار.» «هل رأيت أي شخص أو سمعت بوجوده غير اللورد هارتليب أو السيد ألفيستون حين دخلتم الغابة أو في مسرح الجريمة؟» «لا يا سيدي.» «إذن أنت تقول وأنت تحت حلف اليمين إنك وجدت جثة الكابتن ديني وكان السيد ويكهام ملطخا بالدماء ويجثو على جثته ويقول إنه مسئول عن مقتل صديقه، ليس مرة واحدة وإنما قالها مرتين.»
والآن كان الصمت أطول. شعر دارسي للمرة الأولى وكأنه حيوان تم اصطياده. وفي النهاية قال: «تلك هي الوقائع يا سيدي. أنت سألتني عن رأيي في معنى تلك الوقائع حينها. وأخبرتك بما كنت أعتقد حينها ولا أزال أعتقده الآن، وهو أن السيد ويكهام لم يكن يعترف بارتكابه جريمة قتل، لكنه كان يتحدث بما كان يمثل الحقيقة في واقع الأمر ، وهو أنه لولا أن الكابتن ديني غادر العربة ودخل الغابة لما التقى بقاتله قط.»
لكن كارترايت لم يكن قد انتهى. فقال وهو يغير مسار الحديث: «في حال وصلت السيدة ويكهام إلى منزل بيمبرلي بشكل غير متوقع، ومن دون إشعار منها بذلك، هل كنت لتستقبلها؟» «كنت لأفعل.» «هي بالطبع أخت زوجتك السيدة دارسي. هل كان السيد ويكهام أيضا سيصبح مرحبا به في ظل نفس الظروف؟ هل كان هو والسيدة ويكهام مدعوين إلى الحفل؟» «هذا سؤال افتراضي يا سيدي. ليس هناك سبب لمجيئهما الحفل. فنحن لم نتواصل منذ وقت طويل، ولم أكن أعرف عنوانهما.» «أجد يا سيد دارسي أن إجابتك مخادعة إلى حد ما. هل كنت لتدعوهما لو كنت تعرف عنوانهما؟»
حينها نهض جيريميا ميكلدور وخاطب القاضي. «سيدي، ما هي الصلة التي يمكن أن توجد بين قائمة المدعوين لدى السيد دارسي وجريمة قتل الكابتن ديني؟ لا شك أننا جميعا أحرار في اختيار من نريد أن نستقبلهم في منازلنا، سواء أكانوا على درجة من القرابة أم لم يكونوا كذلك، وذلك من دون الحاجة إلى تبرير أسبابنا أمام محكمة قضائية في ظل ظروف لا يمكن للدعوة فيها أن تكون ذات صلة.»
تحرك القاضي في جلسته وكانت نبرته صارمة بصورة غير متوقعة. فقال: «ألديك سبب لهذا السؤال سيد كارترايت؟» «لدي سبب يا سيدي، وهو أن أسلط الضوء على العلاقة بين السيد دارسي ونسيبه، ومن ثم أوضح لهيئة المحلفين بصورة غير مباشرة لمحة من شخصية السيد ويكهام.»
فقال القاضي: «أشك إن كان عدم وجود دعوة للحفل يمكن أن يقدم لمحة عن الطبيعة الجوهرية للمرء.»
والآن نهض جيريميا ميكلدور. ثم التفت إلى دارسي. «أتعرف شيئا عن تصرفات السيد ويكهام وسلوكه في الحملة على أيرلندا في شهر أغسطس من عام 1798؟» «أجل يا سيدي. أعرف أنه كرم كجندي شجاع، وأنه أصيب خلال الحملة.» «على حد علمك، هل سجن قط من أجل جناية ارتكبها أم كان في مشكلات مع الشرطة؟» «لم يكن كذلك على حد علمي يا سيدي.» «وهل كنت لتعرف هذه الأشياء حيث إنه متزوج من أخت السيدة دارسي؟» «لو كانت أشياء خطيرة أو متواترة، لكنت علمت بها.» «قيل إن ويكهام كان تحت تأثير الشراب. فما هي الخطوات التي اتخذت من أجل السيطرة عليه حين وصلتم إلى منزل بيمبرلي؟» «أخلد إلى الفراش وأرسلنا في طلب الدكتور ماكفي ليساعد كلا من السيدة ويكهام وزوجها.» «لكن الباب لم يكن موصدا عليه كما لم يكن هناك أحد لحراسته.» «لم يكن الباب موصدا عليه، لكن كان هناك اثنان يراقبانه.» «وهل كان ذلك ضروريا حيث كنت تظن أنه بريء؟» «كان مخمورا يا سيدي، ولم يكن بالإمكان تركه بمفرده يتجول في أرجاء المنزل، خاصة وأن لدي أطفالا. كما كنت قلقا أيضا من حالته الجسدية. فأنا قاض يا سيدي، وعرفت أن كل شخص مرتبط بهذا الأمر ينبغي أن يكون متاحا للاستجواب حين يصل السير سيلوين هاردكاسل.»
جلس السيد ميكلدور واستكمل سيمون كارترايت استجوابه. «سؤال أخير سيد دارسي. كانت مجموعة البحث تتألف من ثلاثة أشخاص، كان أحدهم مسلحا. كما كان لديك مسدس الكابتن ديني الذي ربما كان استخدامه ممكنا. ولم يكن لديك سبب يدفعك للشك بأن الكابتن ديني قتل قبل مدة من إيجادك لجثته. فلماذا لم تبدأ بالبحث؟» «بدا لي أن أول فعل من الضروري القيام به هو العودة بأسرع ما يمكن إلى منزل بيمبرلي بجثة الكابتن ديني. كان من المستحيل تقريبا استبيان ما إن كان هناك من يختبئ في الغابة الكثيفة، وافترضت أن القاتل هرب بالفعل.» «قد يعتقد البعض أن تبريرك هذا غير مقنع بعض الشيء. فلا شك أن الاستجابة الأولى لإيجاد رجل مقتول هي محاولة القبض على قاتله.» «لم يخطر ببالي ذلك يا سيدي، في ظل تلك الملابسات.» «لا، بالطبع يا سيد دارسي. يمكنني أن أفهم أن هذا لم يخطر ببالك. فقد كنت بالفعل في حضرة رجل كنت تعتقد أنه هو القاتل، رغم اعتراضك على ذلك. فلم إذن ستذهب للبحث عن أي شخص آخر؟»
وقبل أن يتمكن دارسي من الإجابة، ختم سيمون كارترايت انتصاره بكلمات أخيرة. «لا بد أن أهنئك سيد دارسي، على حدة ذهنك، الذي يبدو أنه يتمتع بمهارة بارزة في التفكير في أفكار متسقة حتى في أثناء لحظات يكون معظمنا فيها مصدوما فنستجيب بصورة أقل عقلانية. ففي النهاية كان الأمر مسببا لذعر غير مسبوق. وقد سألت عن ردة فعلك تجاه الكلمات التي نطق بها المدعى عليه حين وجدته أنت ورفاقك جاثيا على الجثة ويده ملطخة بدماء صديقه القتيل. لقد كنت قادرا ومن دون تردد ولو لحظة واحدة على أن تستنتج حتمية نشوب خلاف تسبب في خروج الكابتن ديني من العربة والهروب إلى الغابة، وعلى أن تتذكر الفارق في الطول والوزن بين الرجلين، وعلى أن تلاحظ كذلك عدم وجود أي سلاح في مسرح الجريمة يمكن استخدامه في إصابة القتيل بأي من الجرحين. فلا شك أن القاتل تخلص من الأسلحة ولم يتركها في الأرجاء. شكرا لك. يمكنك مغادرة منصة الشهود الآن.»
ومما أدهش دارسي بعض الشيء أن السيد ميكلدور لم ينهض مجددا ليستجوبه وتساءل ما إذا كان هذا بسبب أن محامي جهة الدفاع لم يجد شيئا يستطيع فعله للتخفيف من حدة الضرر الذي تسبب به. ولم يتذكر دارسي عودته إلى كرسيه. وبمجرد أن جلس دارسي في مكانه، شعر بغضب عارم تجاه نفسه جعله يائسا. فراح ينعت نفسه بالغبي فاقد الأهلية. ألم يرشده ألفيستون بعناية إلى كيفية الإجابة عن الاستجواب؟ «توقف لتفكر قبل أن تجيب، لكن لا تتوقف طويلا بحيث تبدو وكأنك تمكر، وأجب عن الأسئلة ببساطة ودقة، ولا تقل شيئا أكثر مما تسأل بشأنه، ولا تبالغ أبدا؛ فلو أن كارترايت رغب في المزيد فبمقدوره أن يسألك. وغالبا ما تكون الكوارث التي تحدث على منصة الشهود نتيجة البوح بالكثير، وليس بالقليل.» لقد باح بأكثر مما يجب، وكان ذلك كارثيا. لا شك أن الكولونيل سيكون أكثر حصافة، لكن الضرر قد وقع.
شعر دارسي بيد ألفيستون على كتفه. فقال بنبرة بائسة: «لقد ألحقت ضررا بالدفاع، أليس كذلك؟» «إطلاقا. بل قدمت حديثا مؤثرا لجهة الدفاع كشاهد لجهة الادعاء ، وهذا أمر لا يستطيع ميكلدور فعله. وقد سمعت هيئة المحلفين حديثك وهذه نقطة مهمة، ولا يستطيع كارترايت أن يمحو ما أودعته في أذهانهم.»
وراح الشهود يدلون بشهادتهم لجهة الادعاء واحدا تلو الآخر. وشهد الدكتور بيلشر على سبب الوفاة، وسرد الضباط بشيء من التفصيل محاولاتهم العقيمة لتحديد الأسلحة الفعلية للجريمة، رغم أن هناك بلاطات حجرية اكتشفت تحت أوراق الأشجار في الغابة؛ ورغم محاولات البحث الحثيثة والتحقيقات، لم يكتشف أي دليل على وجود هاربين أو أي شخص آخر في الغابة حينذاك.
والآن، حان النداء على الكولونيل الفيكونت هارتليب ليعتلي منصة الشهود، صمت مطبق، وتساءل دارسي لماذا قرر سيمون كارترايت الاحتفاظ بهذا الشاهد المهم لجهة الادعاء للنهاية. أكان يرغب في أن يجعل الانطباع الذي سيخلفه يدوم أكثر إن كان هو آخر ما ستسمعه هيئة المحلفين؟ كان الكولونيل يرتدي زيه الرسمي وتذكر دارسي أنه كان لديه موعد في وقت لاحق من اليوم في وزارة الحرب. تقدم الكولونيل نحو منصة الشهود وكأنه يسير في نزهته الصباحية، وانحنى انحناءة خفيفة لتحية القاضي، وحلف اليمين ووقف ينتظر كارترايت ليبدأ استجوابه، وفكر دارسي أنه في ذلك كان يبدو قليل الصبر بعض الشيء كجندي لديه حرب يريد الفوز بها، وكان الكولونيل مستعدا لأن يظهر من الاحترام ما يكفي للمحكمة، بينما ينأى بنفسه عن قرائنها. وقف الكولونيل في وقار فرضه عليه زيه الرسمي، وكان الكولونيل ضابطا يوصف بأنه من بين أشجع الجنود وأكثرهم وسامة في الجيش البريطاني. ساد الهمس في قاعة المحكمة وسرعان ما أسكت، ورأى دارسي أن صفوف النساء المتأنقات كن يتكئن للأمام في مجالسهن - وفكر دارسي أنهن كن يشبهن كلاب الراعي الصغيرة التي ترتعش فرحا أمام وجبة لذيذة.
واستجوب الكولونيل عن كل تفصيلة من تفاصيل الأحداث، منذ أن عاد من نزهته المسائية على ظهر حصانه ليلتحق بمجموعة البحث حتى وصول السير سيلوين هادركاسل ليتولى زمام التحقيق. وكان قد انطلق بجواده في وقت مبكر إلى حانة كينجز آرمز في لامتون حيث انخرط في محادثة خاصة مع زائرة في أثناء الوقت الذي كان الكابتن ديني يتعرض فيه للقتل. ثم سأله كارترايت عن الجنيهات الثلاثين التي وجدت في حوزة ويكهام، وقال الكولونيل في هدوء إن المال كان قد أعطي إلى المدعى عليه ليساعده في تسوية دين كان عليه، وإن ضرورة البوح بشيء كهذا في المحكمة هو ما أقنعه بالرجوع عن وعد كان قد قطع بينهما بأن تظل هذه الأموال طي الخصوصية. وأنه لا ينوي الكشف عن اسم فاعل الخير المقصود، لكنه لم يكن الكابتن ديني، وكذلك لم يكن لهذا المال أي علاقة بمقتله.
هنا نهض السيد ميكلدور من مكانه. وقال: «أيها الكولونيل، أيمكنك أن تقدم للمحكمة ما يؤكد أن الكابتن ديني لم يكن هو المقصود بهذا القرض، وأنه لا يمت لجريمة قتله بأي صلة؟» «يمكنني ذلك.»
ثم عاد كارترايت مرة أخرى إلى معنى الكلمات التي نطق بها ويكهام على جثة صديقه. وما هو الانطباع الذي كان لدى الشاهد عما تحمله من معنى؟
هنا توقف الكولونيل برهة قبل أن يتحدث. ثم قال: «لست قديرا يا سيدي على النظر فيما بداخل أذهان الناس، لكنني أتفق مع الرأي الذي قدمه السيد دارسي. بالنسبة إلي كانت المسألة تتعلق بالغريزة أكثر مما تتعلق بالاعتبار الفوري والمفصل للشهادة. وأنا لا أستخف بالغريزة ولا أستهين بها؛ فقد أنقذت حياتي في مناسبات عدة، والغريزة تستند بالفعل إلى إدراك كل الوقائع البارزة، وهذا أمر لا يعد خاطئا بالضرورة؛ لأن المرء ليس على وعي بها.» «لم أفكر في هذا الأمر، سيدي. فأنا لا أقدم على منطقة عدائية مجهولة بقوة غير ملائمة، تاركا ظهري مكشوفا.» «وماذا عن قرار ترك جثة الكابتن ديني والبدء في الحال بالبحث عن قاتله، ألم يجل ذلك بخاطرك قط؟ أظن أنك لو كنت قررت فعل ذلك لكنت أمسكت بزمام الأمور؛ حيث إنك قائد بارز ومميز.»
لم يكن هناك المزيد من الأسئلة، وبدا من الواضح أن شهادة الشهود لجهة الادعاء قد تمت. فهمس ألفيستون إلى دارسي قائلا: «كلام ميكلدور رائعا. لقد أقر الكولونيل بشهادتك وخيم الشك على موثوقية شهادة برات . بدأت أشعر بالأمل، لكننا لا يزال أمامنا حديث ويكهام ودفاعه عن نفسه وتوجيهات القاضي إلى هيئة المحلفين.»
الفصل الثامن
كان واضحا من أصوات الشخير التي كانت تسمع من آن لآخر أن احترار قاعة المحكمة قد دفع إلى النوم، لكن الآن كان هناك همس ولمز وفورة من الاهتمام حين اعتلى ويكهام في النهاية منصة الشهود ليتحدث. كان صوت ويكهام واضحا وثابتا من دون أن تنتابه الانفعالات، وظن دارسي وكأنه يقرأ الكلمات التي يمكن أن تنقذ حياته ولا يتحدثها من تلقاء نفسه. «أقف أمامكم الآن وأنا متهم في جريمة قتل الكابتن مارتن ديني، وقد رددت على تلك الاتهامات بأنني لست مذنبا. وأنا بريء تماما من جريمة قتله، وها أنا ذا أقف الآن أمام المحكمة. لقد خدمت مع الكابتن ديني قبل أكثر من ست سنوات في الجيش، وحينها أصبح صديقا مقربا ورفيقا في السلاح. واستمرت تلك الصداقة وأصبحت حياته مهمة لي بقدر أهمية حياتي. إنني كنت لأدافع عنه ضد أي اعتداء عليه ولو كلفني ذلك حياتي، وكنت لأدافع عنه بحياتي لو كنت حاضرا حين وقع عليه ذلك الاعتداء الجبان الذي أودى بحياته. قيل في الشهادة إنه كان هناك خلاف بيننا حين كنا في الحانة قبل أن ننطلق في تلك الرحلة المشئومة. ولم يكن ذلك الخلاف أكثر من خلاف ينشب بين الأصدقاء، لكن الخطأ خطئي. كان الكابتن ديني - وهو رجل شريف ويتمتع بإنسانية عميقة - يظن أنني كنت مخطئا حين استقلت من مهنتي من دون أن أمتهن مهنة موثوقة أخرى، ومن دون أن يكون لدي منزل تستقر فيه زوجتي. وإضافة إلى ذلك كان يظن أن خطتي في ترك السيدة ويكهام في منزل بيمبرلي لتقضي ليلتها هناك، وتحضر الحفل في اليوم التالي كانت تتسم بالاستهتار، وأن الأمر لم يكن ليروق للسيدة دارسي. وأظن أن نفاد صبره نتيجة تصرفاتي هو ما جعل صحبتي له لا تطاق، وأن ذلك هو السبب الذي جعله يوقف العربة ويهرع إلى داخل الغابة. وقد ذهبت في إثره لكي أحثه على الرجوع . كانت الليلة عاصفة والغابة تقع في أماكن لا يمكن المرور عبرها، وقد تنطوي على الخطورة. ولا أنكر أنني نطقت بالكلمات التي نسبت إلي، لكنني كنت أقصد أن مسئولية موت صديقي تقع على عاتقي؛ لأن اختلافنا هو ما دفعه إلى الدخول إلى الغابة. وكنت قد شربت الكثير من الخمر، لكنني أتذكر بكل وضوح الاشمئزاز الذي شعرت به حين وجدته ورأيت وجهه المخضب بالدماء - وذلك من بين الكثير من الأشياء التي لا يمكنني أن أتذكرها. كانت عينه تؤكد ما كنت أعرفه بالفعل، وهو أنه كان قد مات. كنت حينها في حالة من الصدمة والرعب والذعر والأسف، وكأنني كنت غائبا عني وأتصرف بطريقة آلية، لكنني لم أكن منخرطا في تلك الحالة كثيرا لدرجة تمنعني من معرفة الفعل الذي يمكنني الإتيان به من أجل إدراك قاتله والقبض عليه. فأخذت مسدسه وأطلقت عدة أعيرة باتجاه ما ظننت أنه كان شخصا يحاول الهروب، ورحت أتبعه مسافة أعمق داخل الغابة. وفي تلك الأثناء كان تأثير الشراب الذي تناولته قد بدأ يظهر، ولا أتذكر شيئا بعد ذلك حتى كنت جاثيا بجوار جثة صديقي وأمسك برأسه. وحينها وصلت إلينا مجموعة الإنقاذ.
أيها السادة أعضاء هيئة المحلفين، إن الدعوى المرفوعة ضدي لن تصمد. لو كنت قد ضربت صديقي على جبهته، وبخبث أكبر، على مؤخر رأسه، فأين هي الأسلحة؟ فبعد بحث شامل ومكثف، لم يقدم أي من الأسلحة في المحكمة. وإن كان هناك ادعاء بأني تبعت صديقي بنية قتله، فكيف لي أن أتغلب على رجل أطول وأقوى مني ومسلح بسلاح ناري؟ ولماذا سأفعل ذلك؟ لم يقدم دافع واحد لهذا القتل. وحقيقة عدم وجود أي أثر لشخص غريب يختبئ في الغابة لا يمكن أن تعني عدم وجوده من الأساس؛ فما كان الرجل لينتظر في مسرح الجريمة. ولا يسعني سوى أن أقسم - وأذكر أنني الآن تحت القسم - إنني لست مشاركا بأي شكل في جريمة قتل الكابتن مارتن ديني، وأنا مستعد للمحاكمة بكل ثقة.»
ساد الصمت برهة، ثم همس ألفيستون إلى دارسي قائلا: «لم يكن حديثه جيدا.»
فقال دارسي بنبرة خفيضة: «كيف ذلك؟ أعتقد أنه قال ما يكفي. فقد أوضح الحجج الأساسية وأبرزها، ولم يقدم أي دليل على وجود شجار حاد بينهما، وكذلك عدم وجود سلاح للجريمة، واللامنطقية في اتباعه لصديقه بنية قتله، وغياب الدافع. فما الخطب فيما قال؟» «من الصعب شرح ذلك، لكني استمعت إلى الكثير من خطابات المدعى عليهم، وأخشى أن هذا لن يفلح. وعلى الرغم من الحرص البادي في بنية خطابه، فإنه يفتقر إلى ذلك العنصر الحيوي الذي يتأتى من الحرص على تأكيد براءته. فبطريقة إلقائه خطابه، وافتقاره إلى الشغف ودقته في كلامه؛ ربما يكون قد أقر بأنه غير مذنب، لكنه لا يشعر بأنه بريء. وهذا شيء تستشعره هيئة المحلفين، ولا تسألني كيف لهم ذلك. ربما يكون غير مذنب في جريمة القتل هذه، لكنه يحمل عبء الذنب.» «وهكذا نحن جميعا؛ أليس الشعور بالذنب جزءا من كوننا بشرا؟ لا شك أن هيئة المحلفين تشعر الآن بشك له أساس منطقي. هذا الخطاب يعد كافيا بالنسبة إلي.»
فقال ألفيستون: «آمل أن يكون كافيا لهيئة المحلفين، لكنني لست متفائلا.» «لكن لو كان مخمورا؟» «لا شك أنه قال إنه كان مخمورا وقت وقوع الجريمة، لكنه لم يكن مخمورا بالشكل الذي يتطلب ركوبه العربة عند الحانة بمساعدة أحد. ولم يعقب على هذا السؤال أثناء سماع الشهادات، لكن في رأيي أن حالة السكر التي كان فيها في ذلك الوقت موضع للتساؤل.»
حاول دارسي أثناء الخطاب أن يركز على ويكهام، لكنه الآن لم يستطع مقاومة النظر إلى السيدة يونج. ولم يكن هناك احتمال أن تتلاقى أعينهما. فقد كان نظرها مثبتا على ويكهام، وفي بعض الأحيان كان يراها وهي تحرك شفتيها وكأنها تستمع إلى سرد لشيء كتبته هي بنفسها، أو ربما كانت تصلي في سرها. وحين نظر إلى منصة الشهود مرة أخرى كان ويكهام يحدق أمامه؛ والتفت حين بدأ سيادة القاضي موبرلي مخاطبة هيئة المحلفين.
الفصل التاسع
لم يبد سيادة القاضي موبرلي أي ملاحظات، والآن كان قد انحنى إلى الأمام قليلا تجاه هيئة المحلفين، وكأن الأمر لم يكن يعني بقية الموجودين في المحكمة، وكان الصوت الجميل الذي جذب دارسي في البداية واضحا الآن بما يكفي ليسمعه كل الحاضرين. وعرج القاضي على الشهادات والأدلة بإيجاز ولكن بعناية، وكأن الوقت لم يكن له أهمية. وانتهى حديثه بكلمات شعر دارسي أنها تضفي مصداقية لجهة الدفاع، وارتفعت روحه المعنوية. «أيها السادة أعضاء هيئة المحلفين، لقد استمعتم بكثير من الصبر وباهتمام بالغ على ما يبدو إلى الشهادات التي أدلي بها في هذه الجلسة الطويلة، والآن حان الوقت لكي تدرسوها وتقدموا حكمكم. كان المتهم فيما مضى جنديا ولديه سجل يشهد بما يتمتع به من بسالة واضحة، وعلى ذلك حصل على وسام، لكن لا ينبغي لهذا أن يؤثر في قراركم، الذي ينبغي له أن يكون مبنيا على الشهادات والأدلة التي قدمت لكم. والمسئولية الملقاة على عاتقكم ثقيلة لكنني واثق من أنكم ستنفذون واجبكم من دون خوف أو محاباة بما يتفق مع القانون.
إن اللغز الرئيسي هنا - هذا إن كان يصح إطلاق كلمة لغز على المسألة - الذي يلف هذه القضية هو سبب دخول الكابتن ديني إلى الغابة حين كان بإمكانه أن يظل في العربة في الأمان والراحة؛ فمن غير المعقول أن يقع هجوم عليه في وجود السيدة ويكهام. وقد قدم المتهم تفسيره عن سبب طلب الكابتن ديني أن تتوقف العربة، ومن واجبكم أن تعرفوا ما إن كان هذا التفسير مرضيا لكم أو غير ذلك. والكابتن ديني ليس على قيد الحياة ليفسر سبب فعله، وليست هناك شهادة أخرى من شأنها أن توضح هذه المسألة غير التي قدمها السيد ويكهام. وعلى غرار الكثير في هذه القضية، كان تفسير ذلك افتراضيا، وكانت الشهادة تحت القسم، وهي ليست مبنية على آراء لا أساس لها، ومن ثم يمكن أن تقدموا حكمكم بشكل آمن؛ الظروف التي وجدت مجموعة البحث في سياقها جثة الكابتن ديني وسمعوا الكلمات المنسوبة إلى المتهم. وقد سمعتم تفسيره عن مغزاه منها، والأمر إليكم لتقرروا ما إن كنتم تصدقونه أو لا . وإن كنتم على يقين بما لا يدع مجالا للشك أن جورج ويكهام مدان بقتل الكابتن ديني، فسيكون حكمكم بأنه مدان؛ وإن لم يكن هذا اليقين مستقرا عندكم فالمتهم بريء. والآن أترككم لمداولاتكم. وإن كنتم ترغبون في أن تتجهوا إلى مكان تتشاورون فيه بشأن حكمكم، فقد تم تخصيص غرفة لذلك وهي متاحة.»
الفصل العاشر
بحلول نهاية المحاكمة شعر دارسي بأنه مستنزف، وكأنه كان هو من يقف في قفص الاتهام. وكان يتوق لأن يطلب من ألفيستون أن يطمئنه، لكن غطرسته ومعرفته بأن مضايقته له ستكون مزعجة ولا طائل منها جعلتاه يلتزم الصمت. ولم يكن هناك شيء يستطيع أحد فعله الآن سوى الانتظار والأمل. وقد اختارت هيئة المحلفين التوجه إلى الغرفة الخاصة من أجل التشاور في حكمهم، وفي غيابهم أصبحت قاعة المحكمة تعج بالضوضاء مرة أخرى وكأنها قفص يحتوي على الكثير من الببغاوات؛ حيث كان الحضور يناقشون فيما بينهم الشهادات التي قدمت ويراهنون على حكم هيئة المحلفين. ولم يكن انتظارهم طويلا. فبعد أقل من 10 دقائق، عادت هيئة المحلفين. وسمع دارسي صوت موظف المحكمة الآمر الحازم والعالي وهو يسأل هيئة المحلفين: «من هو رئيس المحلفين؟» «أنا يا سيدي.» ثم وقف ذلك الرجل الطويل الداكن البشرة الذي كان يحدق إلى دارسي كثيرا أثناء المحاكمة، وكان هو رئيسهم. «هل وصلتم إلى حكم؟» «فعلنا.» «أتجدون المتهم مدانا أم غير مدان؟»
وجاءت الإجابة من دون تردد. «مدان.» «وهل هذا حكمكم جميعا؟» «أجل.»
وهنا علم دارسي أنه لا بد أن يكون قد تنهد. فقد شعر بيد ألفيستون على ذراعه، يحاول تهدئته. والآن أصبحت المحكمة تعج بالأصوات - خليط من التأوهات والصيحات والاحتجاجات التي صارت تتزايد حتى خفتت فجأة وكأنه كان إكراها جماعيا من نوع ما، وتحولت كل الأعين على ويكهام. أما دارسي الذي كان لا يزال غارقا في غضبه، فقد أغلق عينيه ثم أجبر نفسه على أن يفتحهما وثبت نظره على قفص الاتهام. كان لويكهام حينها وجه جامد وشاحب وكأنه يرتدي قناعا من أقنعة الموت. وفتح فاه وكأنه يريد الحديث ، لكن لم تجد الكلمات مخرجا لها. كان يقبض على حافة القفص وبدا للحظة وكأنه يترنح، وشعر دارسي بعضلات جسده تنقبض، بينما كان يرقب ويكهام وهو يستعيد ثباته، واستطاع بجهد بالغ ملحوظ أن يجد القوة لكي يقف منتصبا. وحدق ويكهام إلى القاضي وهنا جاء صوته، وكان في البداية مبحوحا، ثم بعد ذلك أصبح عاليا وواضحا. «أنا بريء من هذه التهمة، يا سيدي. أقسم أمام الرب إنني لست بمذنب.» وبعينين مذهولتين جاحظتين، راح يدور بعينيه في أرجاء غرفة المحكمة وقد انقطع عنه الأمل وكأنه يريد أن يرى وجها مألوفا له، أو يجد صوتا يؤكد على براءته. ثم قال مرة أخرى بصوت قوي أكثر: «لست مذنبا، يا إلهي، لست مذنبا.»
والتفت دارسي إلى حيث كانت السيدة يونج جالسة، التي كانت ترتدي ملابس محتشمة، وتلتزم الصمت وسط الأخريات اللائي يرتدين الملابس الحريرية والقطنية ويمسكن بمراوحهن. كانت حينها قد غادرت. لا بد أنها غادرت بمجرد أن نطقت هيئة المحلفين بقرارها. كان دارسي يعرف أن عليه أن يجدها، وكان يعرف أنه في حاجة إلى أن يعرف الدور الذي لعبته هي في مأساة موت ديني، وأنه في حاجة إلى أن يكتشف سبب وجودها هنا، وسبب تعلق أنظارها بويكهام وكأن هناك قوة أو عزما يتناقل فيما بينهما.
تحرر دارسي من ألفيستون وشق طريقه نحو الباب. كان الباب مغلقا بحزم في وجه حشد من الخارج كانوا قد أصروا على الحضور بفعل الصخب المتزايد من الداخل. والآن كان الصخب في قاعة المحكمة يرتفع مرة أخرى، معبرا عن إثارة أقل للشفقة وعن غضب أكبر. وظن دارسي أنه سمع القاضي يهدد الحشد باستدعاء الشرطة أو أفراد الجيش لطرد المشاغبين، وكان شخص قريب منه يقول: «أين القلنسوة السوداء؟ لماذا لا يضع القلنسوة اللعينة على رأسه وينطق بالحكم؟» وكانت هناك صيحة وكأنها تنم عن الانتصار، وحين نظر حوله، رأى قبعة سوداء تلوح فوق الحشد في يد شاب مرفوع على كتفي رفيق له وعرف وهو يرتجف أن تلك كانت هي القلنسوة السوداء.
وكافح دارسي من أجل أن يحتفظ بمكانه عند الباب، حيث كان الحشد بالخارج قد فتحه، وتمكن من المرور بصعوبة عبر الحشد؛ إذ راح يشق طريقه بينهم بمرفقيه ليخرج إلى الطريق. وعلى الطريق كانت هناك حالة فوضى وهياج أخرى من نفس التأوهات والصيحات وجوقة من الأصوات الصارخة، وفكر دارسي أن كل هذا ينم عن الشفقة أكثر مما ينم عن الغضب. ورأى عربة كبيرة توقفت، وكان الحشد يحاول أن يجذب سائقها عن مقعده. وكان السائق يصيح: «لم يكن ذلك خطئي. أنتم رأيتم المرأة. لقد ألقت بنفسها تحت العجلات!»
كانت المرأة راقدة في مكانها وقد سحقتها العجلات الثقيلة فكانت وكأنها حيوان ضال، وكانت دماؤها تسيل في دفق أحمر فتجمعت على شكل بركة تحت أقدام الجياد. وحين اشتمت الجياد رائحة الدماء، اهتاجت وشبت ووجد السائق صعوبة في السيطرة عليها. ونظر دارسي إلى ذلك المنظر نظرة واحدة، ثم التفت مبتعدا وراح يتقيأ بشدة في بالوعة الصرف. وبدا أن تلك الرائحة الكريهة تنشر سما في الهواء. ثم سمع دارسي صوتا يصيح قائلا: «أين عربة الموتى؟ لماذا لا يحملونها بعيدا؟ ليس من اللائق أن يتركوها على الطريق.»
حاول الراكب في العربة أن يخرج منها، لكنه حين رأى مظهر الحشد تقهقر إلى داخل العربة وأنزل ستائرها، وكان من الواضح أنه ينتظر وصول ضباط الشرطة ليستعيدوا النظام. وأخذ الحشد يزداد، ومن بينهم كان هناك أطفال يحدقون إلى المرأة بلا فهم منهم وسيدات يحملن رضعا لهن على أذرعهن وخاف الرضع من الضجيج فبدءوا في البكاء. ولم يكن هناك شيء بإمكان دارسي فعله. كان الآن في حاجة إلى أن يعود إلى قاعة المحكمة، ويبحث عن الكولونيل وألفيستون على أمل أن يوفرا له شيئا من الطمأنينة؛ وكان يعلم في نفسه أن ذلك غير ممكن.
ثم رأى دارسي القبعة المزخرفة بالشرائط الأرجوانية والخضراء. لا بد أنها سقطت عن رأسها وتدحرجت إلى الرصيف وتوقفت عند قدميه الآن. راح دارسي يحدق إلى القبعة وكأنه في حالة غيبوبة. وبالقرب منه كانت هناك امرأة مذهولة، تحمل رضيعا باكيا تحت ذراعها وفي يدها الأخرى كانت تمسك بزجاجة من النبيذ، فتقدمت تلك المرأة ثم توقفت ووضعت القبعة على رأسها. ثم قالت وهي تبتسم إلى دارسي: «لم تعد في حاجة إليها بعد الآن، أليس كذلك؟» ثم ذهبت.
الفصل الحادي عشر
كان وجود جثة امرأة مقتولة قد صرف انتباه بعض الرجال ممن هم عند الباب إليها، فتمكن دارسي بصعوبة من شق طريقه إلى المقدمة وكان بين آخر ستة من الرجال تمكنوا من الدخول. هنا صاح شخص ما بصوت جهوري: «هناك اعتراف! لقد جاءوا باعتراف!» وفي الحال أصبحت قاعة المحكمة غارقة في الجلبة والصخب. بدا الأمر للحظة أن ويكهام سيجر من قفص الاتهام، لكنه وفي الحال كان محاطا بضباط المحكمة، وبعد أن وقف منتصبا بضع لحظات كان خلالها في حالة من الذهول، جلس ويكهام وقد غطى وجهه بيديه. تعالى الصخب والضوضاء. حينها رأى دارسي الدكتور ماكفي والقس بيرسيفال أوليفانت محاطين بضباط الشرطة. وراح دارسي يرقب بينما كان يتم إحضار كرسيين كبيرين ثقيلين نحوهما، فغاص كلاهما فيهما من شدة الإنهاك، وكان دارسي في أثناء ذلك مشدوها من فكرة حضورهما. وحاول دارسي أن يشق طريقه نحوهما عبر الحشد الكثيف، لكن الحشد كان كتلة بشرية غير قابلة للاختراق.
كان الناس قد تركوا مقاعدهم واقتربوا الآن من القاضي. ورفع الأخير مطرقته وراح يطرق بها بعنف، وفي النهاية تمكن من جعل صوته مسموعا، فخفتت الضوضاء. «أيها الضابط، أغلق الأبواب. وإن حدث المزيد من الاضطراب فسآمر بإخلاء المحكمة. إن الوثيقة التي اطلعت عليها توحي بأن اعترافا موقعا ويشهد عليه رجلان هما الدكتور أندرو ماكفي والقس فيرسيفال أوليفانت. أيها السادة، أهذا توقيعكما؟»
تحدث الدكتور ماكفي والسيد أوليفانت معا. فقالا: «هما توقيعانا يا سيدي.» «وتلك الوثيقة التي سلمتموها، أهي مكتوبة بخط يد الرجل الذي وقع فوق توقيعكما؟»
أجاب الدكتور ماكفي. «جزء منها يا سيدي. كان ويليام بيدويل في آخر حياته وكتب اعترافه وهو متكئ على الفراش، لكنني أثق في أن خطه واضح بما يكفي لقراءته رغم كونه مرتعشا. لكن الفقرة الأخيرة، وكما يوحي الفرق بين الخطين، قد كتبتها أنا بإملاء من ويليام بيدويل. كان حينها قادرا على الحديث، لكنه لم يكن قادرا على الكتابة إلا من التوقيع باسمه.» «إذن سأطلب من محامي جهة الدفاع أن يقرأها. وبعدها سأنظر في الطريقة المثلى لتكملة المحاكمة. وإن قاطع أحد ذلك فسأخرجه من هنا.»
أخذ جيريميا ميكلدور الوثيقة وبعد أن عدل نظارته، مر عليها بعينيه ثم بدأ يقرأ بصوت عال وواضح. وكانت قاعة المحكمة بأكملها صامتة:
أقدم أنا، ويليام جون بيدويل، هذا الاعتراف بإرادتي الحرة كسرد حقيقي لما حدث في غابة بيمبرلي في ليلة الرابع عشر من شهر أكتوبر الماضي. وأفعل ذلك وأنا أعلم تماما بأنني على شفير الموت. كنت في الفراش في الطابق العلوي بالغرفة الأمامية، لكن الكوخ كان خاليا إلا من ابن أختي جورج، وكان في فراشه. أما أبي فكان يعمل في منزل بيمبرلي. وكان هناك صوت صياح عال من قفص الدجاج، وخشيت أمي وأختي لويزا من أن يكون ثعلب قد جال في الأرجاء فذهبت لأتحقق الأمر. ولكن أمي لم تكن تحب أن أغادر فراشي؛ لأني لا أتمتع بقوة كبيرة، لكنني أردت أن أنظر من النافذة. واستطعت أن أستند إلى الفراش حتى وصلت إلى النافذة. كانت الرياح تهب بشدة وكان القمر مضيئا، وبينما نظرت إلى الخارج رأيت ضابطا يرتدي زيه الرسمي وكان يقف أمام الكوخ ينظر إليه. فانسحبت إلى خلف الستائر حتى يتسنى لي رؤية المكان من دون أن يراني أحد.
وقالت لي أختي إن ضابطا من الجيش عين في لامتون في العام السابق كان قد حاول الاعتداء على شرفها، وعرفت بشكل غريزي أن هذا الرجل هو المقصود وأنه عاد ليأخذها بعيدا. فما هي الأسباب الأخرى التي ستجعله يأتي إلى الكوخ في مثل هذه الليلة؟ ولم يكن أبي موجودا ليحميها، وكان ما يحزنني دائما أنني عاجز ميئوس منه، غير قادر على العمل بينما كان يجد هو العمل، وكنت أضعف من أن أستطيع حماية عائلتي. فلبست خفي وتمكنت من النزول إلى الطابق السفلي. وأخذت قضيب تزكية النار من الموقد وخرجت من الباب.
بدأ الضابط يتقدم نحوي وكان يرفع يده وكأنه أتى مسالما، لكنني كنت أعرف أنه لم يكن كذلك. وسرت نحوه مترنحا وانتظرت حتى اقترب مني. وبكل ما أوتيت من قوة، هويت بالقضيب عليه فأصابه مقبضه في جبينه. لم تكن الضربة قوية لكنها جرحته وبدأ الدم يسيل منه. حاول الضابط أن يمسح الدم عن عينيه لكنني كنت أعرف أنه لا يستطيع الرؤية. فعاد الضابط وهو يترنح نحو الأشجار وشعرت بنشوة انتصار كبيرة أمدتني بالقوة. وكان قد غاب عن أنظاري حين سمعت صخبا كبيرا وكأنه صوت سقوط شجرة. فدلفت إلى داخل الغابة وأنا أمسك بجذوع الأشجار لأستند عليها ورأيت أنه تعثر في شاهد قبر الكلب، وسقط على مؤخر رأسه، فارتطم رأسه في الشاهد الحجري. كان الرجل ثقيل الجثة، وكان صوت سقوطه مدويا، لكني لم أعرف أن سقوطه أودى بحياته. ولم أشعر بشيء إلا بالفخر لأنني أنقذت أختي العزيزة. وبينما كنت أشاهده راح يتدحرج عن الحجر ثم وقف على ركبتيه وراح يزحف مبتعدا. كنت أعرف أنه يحاول الهروب مني، رغم أنني لم أكن أتمتع بالقوة التي تمكنني من اللحاق به. وأدركت حينها أنه لن يعود.
ولا أذكر عودتي إلى الكوخ، لكني أذكر فقط أني مسحت مقبض القضيب في منديلي الذي ألقيت به في نار الموقد. وأذكر تاليا أمي وهي تساعدني في صعود الدرج وتودعني الفراش وتوبخني لأنني غادرته. ولم أقل شيئا عما حدث بيني وبين الضابط. وفي صباح اليوم التالي عرفت أن الكولونيل فيتزويليام جاء إلى الكوخ ليخبر أمي عن الرجلين المفقودين، لكني لم أكن أعرف شيئا عن ذلك.
وكتمت ما حدث حتى بعدما عرفت أن السيد ويكهام قد أحيل إلى المحكمة. كنت أعيش في سلام شهورا بينما كان هو مسجونا في لندن، لكني عرفت بعدها أن علي أن أقدم هذا الاعتراف حتى يعرف الناس الحقيقة حال إدانته. وقررت أن أبوح بما لدي للقس أوليفانت، وأخبرني هو أن محاكمة السيد ويكهام ستعقد في غضون أيام قليلة، وأن علي أن أكتب هذا الاعتراف في الحال لكي يأخذه إلى المحكمة قبل أن تبدأ المحاكمة. وفي الحال أرسل السيد أوليفانت في طلب الدكتور ماكفي، واعترفت الليلة أمامهما وسألت الدكتور ماكفي عن المدة التي يتوقع أن أبقى فيها على قيد الحياة. وقال إنه غير واثق من ذلك، لكنني لن أعيش أكثر من أسبوع على الأرجح. وقد حثني هو أيضا على كتابة هذا الاعتراف وتوقيعه، وهذا ما فعلت. لم أكتب شيئا سوى الحقيقة وأنا أعرف أني سأذهب قريبا لأحاسب على كل ما قدمت من خطايا أمام عرش الرب، وأرجو في ذلك رحمته.
قال الدكتور ماكفي: «استغرقت منه هذه الوثيقة أكثر من ساعتين لكتابتها بدعم من مسودة قدمتها له. ولم يكن لدي أو لدى القس أوليفانت أي شك أنه كان يعرف أن موته كان وشيكا وأن ما كتبه أمام أعين الرب هو الحقيقة.»
ساد الصمت برهة، ثم امتلأت قاعة المحكمة بالصخب مرة أخرى، وكان الناس واقفين يصيحون ويضربون الأرض بأقدامهم، وبدأ بعض الرجال يرددون ما تناقله بقية الحشد وأصبح صيحة منسقة تقول: «أخرجوه! أخرجوه! أطلقوا سراحه!» والآن كان هناك الكثير من الضباط ومسئولي المحكمة الذين أحاطوا بقفص الاتهام حتى إنه بالكاد تمكن رؤية ويكهام.
ثم جاء الصوت الجهوري يأمر بالصمت مرة أخرى. وخاطب القاضي الدكتور ماكفي. فقال: «أيمكنك أن تشرح يا سيدي لماذا أحضرت هذه الوثيقة الهامة إلى المحكمة في آخر لحظة من المحاكمة وأنا على وشك النطق بالحكم؟ إن هذا الوصول الدرامي الذي لا داعي له يمثل إهانة لي ولهذه المحكمة، وأطالبك بتفسير لذلك.»
قال الدكتور ماكفي: «نقدم خالص اعتذارنا سيادة القاضي. إن الورقة مؤرخة قبل ثلاثة أيام حين سمعت أنا والقس أوليفانت بالاعتراف. كان الوقت حينها في ساعة متأخرة من الليل وقد انطلقنا باكرا في الصباح التالي متوجهين إلى لندن في عربتي. ولم نتوقف إلا لكي نتناول بعض المرطبات ولكي نروي الجياد. وكما ترى يا سيادة القاضي، فإن القس أوليفانت الذي تخطى عمره الآن 60 عاما في حالة شديدة من الإنهاك.»
فقال القاضي بنبرة حادة: «هناك الكثير من تلك المحاكمات التي يتم فيها تأخير الأدلة المهمة للغاية. لكن يبدو أنكما لستما مخطئين، وأنا أتقبل اعتذاركما. والآن سأنفرد بمستشاري للتشاور بشأن الخطوة التالية التي سنتخذها. وسيؤخذ المدعى عليه إلى السجن الذي كان قد أودع فيه بينما ينظر وزير الداخلية ووزير العدل ورئيس المحكمة العليا وبعض كبار المسئولين القانونيين الآخرين في مسألة الحصول على عفو ملكي. وسأدلي بدلوي في تلك المسألة بصفتي قاضيا للمحكمة الابتدائية. وفي ضوء هذه الوثيقة، لن أصدر حكمي، لكن حكم هيئة المحلفين سيظل باقيا. ويمكنكما أن تطمئنوا أيها السادة، فالمحاكم في إنجلترا لا تصدر أحكاما بالإعدام على رجل ثبتت براءته.»
سادت غمغمة أرجاء قاعة المحكمة التي بدأت تفرغ من الحضور. كان ويكهام واقفا وأصابعه قابضة على حافة قفص الاتهام، وكانت مفاصل أصابع يده بيضاء من التوتر. كان ساكنا شاحب الوجه وكأنه في حالة غيبوبة. فقام أحد الضباط بإرخاء أصابعه واحدا تلو الآخر، وكأنه طفل. ثم فتح له ممر بين قفص الاتهام والباب الجانبي، وأخذ ويكهام في صمت ومن دون أن ينظر خلفه ليعود إلى زنزانته.
الجزء السادس
شارع جريستشرش
الفصل الأول
اتفق على أن يكون ألفيستون حاضرا مع السيد ميكلدور في حال كانت هناك حاجة إلى وجوده من أجل العفو، وظل ألفيستون في الخلف في قاعة المحكمة حين عاد دارسي إلى شارع جريستشرش حيث كان يتوق إلى لقاء إليزابيث. وكانت الساعة قد دقت الرابعة قبل أن يعود ألفيستون وحده ليقول إنه من المتوقع أن تنتهي كل إجراءات العفو كاملة في يوم بعد غد، وأنه حينها سيستطيع أن يرافق ويكهام من السجن ويحضره إلى شارع جريستشرش. وكان يحدوهم الأمل في أن يتم ذلك في سرية كبيرة وبعيدا عن معرفة العامة. حيث ستكون هناك عربة مستأجرة تنتظر عند الباب الخلفي لسجن كولدباث وأخرى تنتظر عند الباب الأمامي للسجن كوسيلة تمويه. وكانت ثمة ميزة أنهم تمكنوا من الحفاظ على سرية مكوث دارسي وإليزابيث لدى عائلة جاردنر، وليس في نزل عصري كما كان متوقعا بشدة ، وإذا أمكن الحفاظ على سرية الوقت الذي سيطلق سراح ويكهام فيه، فستتوفر أمامهم فرصة كبيرة تتمثل في وصول ويكهام إلى شارع جريستشرش من دون أن يلاحظه أحد. وفي الوقت الراهن، كان ويكهام قد أعيد إلى سجن كولدباث، لكن القس الملحق بالسجن الذي كون معه علاقة صداقة - واسمه المبجل كورنبندر - كان قد اتخذ الترتيبات اللازمة لإقامة ويكهام معه هو وزوجته ليلة إطلاق سراحه، وقد عبر ويكهام عن رغبته بأنه يريد الذهاب إلى هناك مباشرة بعد أن حكى قصته لدارسي والكولونيل، رافضا بذلك دعوة السيد والسيدة جاردنر بأن يمكث في شارع جريستشرش. وكانت عائلة جاردنر قد شعرت أنه من الصواب توجيه مثل هذه الدعوة، لكن ساد ارتياح عام بينهم بعد رفضها.
قال دارسي: «إن إنقاذ حياة ويكهام يبدو كمعجزة لي، لكن لا شك أن حكم هيئة المحلفين كان فاسدا ولا يتسم بالعقلانية ولم يكن ليدان إطلاقا.»
فرد ألفيستون قائلا: «لا أتفق معك. لقد تكرر ما عدوه هم اعترافا مرتين وقد صدقوه، كما كان هناك الكثير من الوقائع التي تركت من دون تبرير. أكان الكابتن ديني ليترك العربة ويهرع نحو غابة كثيفة وموحشة في ليلة كتلك فقط؛ من أجل أن يتجنب الإحراج الذي سيشعر به أثناء وجوده لدى وصول السيدة ويكهام إلى منزل بيمبرلي؟ إنها في نهاية المطاف أخت السيدة دارسي. وكم من المرجح أن ويكهام أقحم نفسه في أمور غير قانونية في لندن، وكان عليه أن يخرس ديني قبل أن يغادرا ديربيشاير؛ حيث إن ديني لم يعد متواطئا؟
لكن كان هناك شيء آخر ربما أسهم في الخروج بذلك الحكم، ولم أعلم به إلا حين تحدثت إلى أحد أعضاء هيئة المحلفين عندما كنت لا أزال في المحكمة. من الواضح أن رئيس هيئة المحلفين لديه ابنة أخت، وهي أرملة وهو يحبها كثيرا، وكان زوجها قد شارك في التمرد الأيرلندي وقتل فيه. ومنذ ذلك الحين وهو يحمل ضغينة كبيرة تجاه الجيش. ولو كان قد أفصح عن تلك المعلومة، فلا شك أنه سيصبح بمقدور ويكهام أن يعترض على ذلك العضو بعينه من هيئة المحلفين، لكن الأسماء لم تكن متطابقة، وكان من غير المرجح أن يكتشف هذا السر. وقد أوضح ويكهام قبل المحاكمة أنه لم يكن ينتوي الاعتراض على اختيار أعضاء هيئة المحلفين - وفي ذلك حق له - أو تقديم شهود ثلاثة يتحدثون باسمه. يبدو أن ويكهام كان متفائلا حقا، لكنه على وجه العموم كان ينزع إلى الاستسلام للقدر منذ البداية. إن ويكهام ضابط متميز، وقد أصيب أثناء خدمة بلاده، والآن كان راضيا ومذعنا لمحاكمته بكل ثقة. وإن لم تكن كلمته تحت القسم كافية، فأنى له أن يبحث عن العدالة؟»
قال دارسي: «لكن لدي شاغل واحد وأريد رأيك فيه. أتعتقد حقا يا ألفيستون أن في استطاعة رجل يحتضر أن يوجه ضربة قوية كتلك الضربة الأولى؟»
فرد ألفيستون بقوله: «أعتقد ذلك. لقد عرفت بعض القضايا أثناء مسيرتي المهنية التي وجد فيها رجال يعانون أمراضا عضالا، قوة مذهلة متى ما تحتم عليهم ذلك. وقد كانت الضربة خفيفة، وبعدها لم يتعمق بعيدا في الغابة، لكن ما لا أستطيع تصديقه هو أنه عاد إلى فراشه من دون مساعدة من أحد. أعتقد أن من المرجح أكثر أنه ترك باب الكوخ منفرجا وأن أمه خرجت ووجدته وساعدته في العودة إلى المنزل والفراش. ومن المرجح أنها هي من مسحت مقبض القضيب الحديدي وأحرقت المنديل. إلا أنني أشعر - كما أعرف أنك تشعر بذلك أيضا - أن العدالة لم تكن لتتحقق بالإعلان عن هذه الشكوك والشبهات. فليس هناك دليل عليها ولن يكون أبدا، وأعتقد أننا ينبغي أن نستبشر ونبتهج بالعفو الملكي الذي سنحصل عليه، وأن ويكهام - الذي أظهر شجاعة كبيرة أثناء خوضه محنته تلك - قد أصبح حرا طليقا ليبدأ حياة نأمل أن تكون أكثر نجاحا.»
تناول الجميع العشاء مبكرا في صمت تام تقريبا. وتوقع دارسي أن الارتياح الناتج عن إفلات ويكهام من الشنق على الملأ سيكون منحة عظيمة جدا بحيث تتضاءل أمامها كل دواعي القلق الأخرى، لكن ظلت دواعي القلق الضئيلة الأخرى تشغل ذهنه في ظل ارتياحه من أكبرها . فما هي القصة التي سيسمعونها حين يصل ويكهام؟ كيف سيتفادى هو وإليزابيث خوفهما من فضول العامة أثناء مكوثهم مع عائلة جاردنر، وما هو الدور الذي لعبه الكولونيل - إن كان قد لعب دورا من الأساس - في هذا الشأن الغامض؟ شعر دارسي بحاجة ملحة ليعود إلى بيمبرلي، وكان مثقلا بهاجس - رأى أنه غير منطقي - يشعره بأن كل شيء قد لا يكون على ما يرام هناك. وكان يعلم أن إليزابيث مثله لم تنم بهناء إلا نادرا مدة شهور كاملة، وأن الكثير من عبء هذه الكارثة - الذي كانت تشاركه إياه - كان نتيجة إعياء شديد أصاب جسدها وذهنها. وشعرت بقية المجموعة بأنها مصابة بشعور الذنب نفسه النابع من عدم قدرتهما على الاحتفاء بهذا الإنقاذ الإعجازي لحياة ويكهام. وكان كل من السيد والسيدة جاردنر شرهين في تناول الطعام، لكن العشاء اللذيذ الذي طلبت السيدة جاردنر إعداده لم تمتد له يد، وسرعان ما ذهب ضيوفها إلى فرشهم بعد أن قدمت آخر مجموعة من الأطباق.
وأثناء تناول الإفطار، كان من الواضح أن الروح المعنوية للمجموعة قد ارتفعت؛ فقد كانت الليلة الماضية هي الأولى التي تمر من دون تخيلات مروعة مما أدى إلى حصولهم على قسط من الراحة والنوم الهانئ، وبدت المجموعة الآن أكثر استعدادا للتعاطي مع كل ما يحمله اليوم الجديد. كان الكولونيل لا يزال في لندن، أما الآن فقد وصل إلى شارع جريستشرش. وبعد أن أطرى على السيد والسيدة جاردنر، قال: «لدي ما أخبرك به يا دارسي بخصوص دوري في هذه المسألة برمتها، الذي يمكنني أن أفصح عنه الآن بسلام ومن حقك أن تسمعه قبل أن يأتي ويكهام. وأفضل أن أتحدث إليك على انفراد، لكن يمكنك بالطبع أن تمرر ما سأقول إلى السيدة دارسي.»
وشرح للسيدة جاردنر غرضه من زيارته، واقترح أن ينفرد بدارسي في غرفة الجلوس، التي فكرت هي في أن تجعلها متاحة بأكثر وسائل الراحة استعدادا لاجتماع سيكون صعبا بلا شك على جميع الأطراف في اليوم التالي حين يصل ويكهام برفقة ألفيستون.
اتخذ كل من الكولونيل ودارسي مجلسيهما، وانحنى الكولونيل في كرسيه للأمام قليلا. ثم قال: «أجد أنه من المهم أن أتحدث أنا أولا حتى تستطيع أن تحكم على القصة التي سيخبرك بها ويكهام في مقابل القصة التي سأرويها لك. وليس لدى أي منا سبب يدفعنا للفخر، لكنني أثناء تلك المحنة لم أتصرف إلا بما يقتضي الصالح العام، وجاملته بأن صدقت أنه كان يشعر بنفس الشعور على حد سواء. ولن أحاول أن أبرر تصرفي في هذه المسألة، بل سأحاول فقط أن أشرحه لك، وسأحاول فعل ذلك باقتضاب.
كان ذلك في أواخر شهر نوفمبر من عام 1802 حين تلقيت خطابا من ويكهام في منزلي في لندن؛ حيث كنت أقطن حينها هناك. يقول الخطاب بإيجاز إنه كان يواجه متاعب، وإنه سيكون ممتنا إن وافقت على لقائه؛ أملا منه في أن أتمكن من إسداء النصح وتقديم المساعدة له. ولم تكن لدي رغبة في أن أنخرط في ذلك، لكنني كنت ملزما معه بشكل ما، ولم يكن بإمكاني تجاهل ذلك. ففي أثناء التمرد الأيرلندي كان ويكهام قد أنقذ حياة كابتن يافع يخدم تحت إمرتي، وكان ابنا لي بالمعمودية، وقد كان ذلك الكابتن مصابا إصابات خطيرة. ولم ينج روبرت من إصاباته طويلا، لكن إنقاذه منح أمه - ومنحني كذلك أيضا - فرصة توديعه وضمان أنه مات ميتة مريحة. لم تكن تلك خدمة يمكن لأي رجل ذي شرف أن ينساها، وحين قرأت خطاب ويكهام وافقت على لقائه.
لم تكن القصة غير شائعة، وسأخبرك إياها ببساطة. إن زوجته كما تعرف - وليس هو - كانت تحل على هايمارتن بشكل دوري، وفي تلك الأثناء كان ويكهام يمكث في نزل محلي أو غرف مستأجرة تكون رخيصة قدر الإمكان، وكان يشغل نفسه بأقصى ما يمكنه حتى تختار السيدة ويكهام العودة إليه. كانت حياتهما في تلك الفترة لا تتسم بالاستقرار أو النجاح. وبعد أن ترك ويكهام الخدمة في الجيش - وفي رأيي أن هذا القرار كان أكثر قراراته طيشا - صار يتنقل بين الوظائف، ولم يمكث في مكان واحد مدة طويلة. وآخر وظيفة شغلها كانت مع بارون وهو السير والتر إليوت. ولم يكن ويكهام صريحا في الإفصاح عن سبب تركه الوظيفة، لكنه قال ما يكفي ليوضح أن البارون كان متأثرا كثيرا بجمال السيدة ويكهام؛ وذلك لأجل راحة الآنسة إليوت، وأن ويكهام نفسه لم يكن مترددا في التقرب من السيدة. أنا أخبرك بكل هذا لأطلعك على طبيعة الحياة التي كانوا يعيشونها. والآن كان ويكهام يبحث عن موعد جديد؛ وفي غضون ذلك، بحثت السيدة ويكهام عن منزل مؤقت ومريح مع السيدة بينجلي في هايمارتن، وتركت ويكهام ليتدبر شئونه.
قد تتذكر أن صيف عام 1802 كان دافئا وجميلا للغاية، ومن ثم ومن أجل أن يوفر المال، كان ويكهام يقضي بعض الوقت في النوم في الخارج؛ وهذا ليس بالأمر الصعب بالنسبة إلى جندي. فلطالما كان ويكهام مغرما بغابة بيمبرلي، وكان يسير أميالا كثيرة من أحد النزل بالقرب من لامتون ليقضي الأيام وبعض الليالي نائما هناك تحت الأشجار. وهناك التقى بلويزا بيدويل. وكانت هي أيضا تشعر بالضجر والوحدة. كانت لويزا قد انتهت من العمل في منزل بيمبرلي من أجل أن تساعد والدتها في تمريض أخيها المريض، ولم يكن خطيبها يأتي لزيارتها إلا نادرا حيث كان مشغولا كثيرا بأعماله. والتقت لويزا بويكهام صدفة في الغابة. إلا أن ويكهام لم يكن باستطاعته قط أن يقاوم امرأة جميلة، وربما كانت النتيجة محتومة إلى حد كبير بالنظر إلى شخصيته وضعفها. ثم بدآ يلتقيان كثيرا، وأخبرته هي بمجرد أن تأكدت شكوكها أنها تحمل طفلا منه. في البداية تصرف ويكهام تجاهها بتعاطف وكرم أكبر مما يمكن لمن يعرفوه أن يتوقعوا؛ فقد بدا بالفعل مفتونا بها بحق، وربما كان واقعا بحبها قليلا. ولكن أيا كانت دوافعه أو عواطفه تجاهها، فقد أعدا خطة معا. كانت لويزا ستبعث بخطاب إلى أختها المتزوجة التي تعيش في بيرمنجهام، وستذهب إليها بمجرد أن تكون هناك مخاطرة بظهور حملها عليها، وتضع طفلها هناك ثم تظهر به وكأنه ابن أختها. وكان ويكهام يأمل أن يقبل السيد والسيدة سيمبكنز بمسئولية تربية الطفل وكأنه ابن لهما ، لكنه أدرك أنهما كانا يحتاجان إلى المال. وكان ذلك هو السبب الذي جعله يأتيني، ولا أعرف حقا أي مكان آخر كان يمكن له أن يبحث فيه عن المساعدة.
ورغم أنني لم أنخدع بشخصيته، فإنني لم أشعر قط تجاهه بمشاعر مريرة مثلك يا دارسي، وكنت مستعدا لتقديم المساعدة. كما كان هناك دافع أقوى بالنسبة إلي، وهو الرغبة في إنقاذ بيمبرلي من أي إشارة إلى وجود فضيحة بها. فبالنظر إلى زواج ويكهام من الآنسة ليديا بينيت، قد يكون ذلك الطفل ابن أخ أو ابن أخت لك وللسيدة دارسي ولعائلة بينجلي؛ رغم كونه طفلا غير شرعي. وكان الترتيب يقتضي بأن أقرضه ثلاثين جنيها من دون فائدة؛ على أن يدفعها على شكل دفعات متى كان ذلك مناسبا له. ولم أكن واقعا تحت تأثير أي خداع بأنه سيدفع المال، لكنه كان مبلغا أستطيع تدبيره، وكنت لأدفع أكثر من 30 جنيها كي أضمن أن ابنا لقيطا لجورج ويكهام لم يكن يعيش في عزبة بيمبرلي أو يلعب في غابتها.»
قال دارسي: «كان ذلك كرما منك يصل إلى حد الغرابة، وكان البعض يقول إن ذلك غباء منك؛ نظرا إلى معرفتك بشخصيته. ولا بد أن أقول بأنك كانت لديك مصلحة شخصية تتخطى رغبتك في إنقاذ بيمبرلي من هذا الدنس.» «إن كانت لدي مصلحة شخصية أخرى، فإن هذا لم يكن ليشوه سمعتي. أعترف أنني في ذلك الوقت كنت أحمل آمالا - ربما ترقى إلى توقعات بالفعل - لم تكن منطقية، لكنني أتقبل الآن أنها لن تتحقق أبدا، لكن في رأيي - وبالنظر إلى الأمل الذي كان بداخلي حينها وبمعرفتي لما كنت أقوم به - كنت أنت أيضا لتضع خطة لتنقذ منزلك ونفسك من الإحراج والعار.»
ومن دون أن ينتظر منه ردا، استطرد الكولونيل قائلا: «كانت الخطة مباشرة نسبيا. فبعد ولادتها للطفل، كانت لويزا ستعود بالطفل إلى كوخ الغابة بدعوى أن أخاها ووالديها سيرغبان في رؤية حفيدهما الجديد هذا. كان من المهم بالطبع لويكهام أن يرى أن هناك طفلا له يتمتع بالصحة وعلى قيد الحياة . وبعدها كان ويكهام ولويزا سيحصلان على المال في صباح يوم حفل الليدي آن؛ حيث يكون كل من في بيمبرلي مشغولين. وكانت هناك عربة ستنتظر على المسار داخل الغابة. حينها كانت لويزا ستعيد الطفل إلى أختها ومايكل سيمبكنز. وكان الأشخاص الوحيدون الذين سيكونون في كوخ الغابة هما السيدة بيدويل وويل، وهما الوحيدان اللذان سيكونان على علم بهذه الخطة. ولم تكن هذه الخطة بسر يمكن لفتاة أن تتوقع أن تخفيها عن والدتها، أو عن أخيها الذي كانت مقربة منه ولم يكن يغادر الكوخ قط؛ لكن ثلاثتهم كانوا مصرين على ألا يعرف بيدويل بهذه الخطة أبدا. وكانت لويزا قد أخبرت أمها أن والد الطفل كان أحد ضباط الجيش الذي غادر لامتون في الصيف المنصرم. لكنها في ذلك الوقت لم يكن لديها أدنى فكرة أن عشيقها كان ويكهام.»
عند هذه المرحلة توقف الكولونيل وأخذ كأسا من النبيذ، وراح يشربها ببطء. ولم يتحدث أي منهما وراحا ينتظران في صمت. ومرت دقيقتان على الأقل قبل أن يبدأ الكولونيل حديثه مرة أخرى. «وهكذا، وعلى حد علمي أنا وويكهام، رتب كل شيء بصورة مرضية. الطفل ستقبله خالته وزوجها وسيحبانه، ولن يعرف الطفل والديه الحقيقيين أبدا، وستتزوج لويزا زيجة ملائمة خطط لها مسبقا، وهكذا استقرت الأمور.
ويكهام ليس بالرجل الذي يحب أن يتصرف من تلقاء نفسه حين يكون هناك رفيق أو حليف موجود إلى جواره، وفي ذلك افتقار إلى الحكمة يعلل حماقته في أخذ السيدة ليديا بينيت معه حين هرب من دائنيه والتزاماته في برايتون. والآن اعترف ويكهام أمام صديقه ديني، وبشكل مفصل أكثر للسيدة يونج، التي يبدو أن وجودها في حياته كان له تأثير مسيطر عليه منذ كان يافعا. في اعتقادي أن ما كان داعما لويكهام وزوجته أثناء مدة تعطله عن العمل كان راتبا منتظما يتلقاه من السيدة يونج. وقد طلب ويكهام من السيدة يونج أن تزور الغابة سرا من أجل أن تخبره بمدى التقدم الذي يحرزه الطفل، وهذا هو ما فعلته تلك السيدة، فكانت تتظاهر بأنها زائرة والتقت لويزا بعد أن رتبت لذلك معها، وكانت لويزا تحمل الطفل في الغابة. إلا أن نتيجة ذلك اللقاء كانت غير سارة فيما يتعلق بأحد الجوانب؛ فقد أحبت السيدة يونج الطفل حال رؤيتها له، وكانت مصرة على أن تتبناه هي وليس عائلة سيمبكنز. ثم تحول ما بدا كارثة إلى أفضلية لصالحها؛ ذلك أن مايكل سيمبكنز كتب أنه لم يكن مستعدا لتربية طفل لرجل آخر. من الواضح أن العلاقات بين الأختين لم تكن على ما يرام حين كانت لويزا تعترف لأختها، وكان للسيدة سيمبكنز ثلاثة أطفال بالفعل، ولا شك أنها ربما ستلد المزيد. كانت عائلة سيمبكنز ستعتني بالصبي لثلاثة أسابيع أخرى فقط، وليس أكثر من ذلك؛ من أجل أن تتمكن لويزا من البحث عن منزل له. أخبر ويكهام بهذه الأخبار على لسان لويزا، وأخبرت السيدة يونج بها على لسانه هو. بالطبع كانت لويزا يائسة. حيث كان يتعين عليها أن تجد منزلا للطفل، وسرعان ما كان عرض السيدة يونج يعد حلا لكل مشكلاتهما.
وكان ويكهام قد أخبر السيدة يونج باهتمامي بهذا الأمر وبالثلاثين جنيها التي كنت قد وعدت بها وسلمتها بالفعل إلى ويكهام. وكانت السيدة يونج تعرف أنني سأكون في بيمبرلي من أجل حضور حفل الليدي آن؛ حيث تلك كانت عادتي حين أكون في إجازة من الجيش، وكان ويكهام دائما ما يرغب في معرفة ما يجري في منزل بيمبرلي، وذلك بشكل كبير من خلال التقارير التي تقدمها له زوجته التي كانت كثيرة التردد على هايمارتن. وراسلتني السيدة يونج على عنواني في لندن، وقالت إنها مهتمة بتبني الطفل وإنها ستكون في حانة كينجز آرمز لمدة يومين، وإنها كذلك ترغب في مناقشة احتمالية ذلك معي؛ وذلك لأنها تعرف أنني طرف معني بالأمر. وقد حددنا موعدا للقائنا في التاسعة من الليلة السابقة ليوم حفل الليدي آن حيث افترضت السيدة يونج أن الجميع سيكون مشغولا كثيرا، ولن يلحظ أحد غيابي. ولا شك لدي يا دارسي أنك رأيت أنه من الغرابة والفظاظة أن أغادر غرفة الموسيقى بذلك الشكل القاطع ، متعللا بأنني أردت الخروج في نزهة على صهوة جوادي. لكن لم يكن أمامي أي خيار سوى أن أحضر في الموعد، رغم أنني لم يكن لدي شك كبير حيال ما كانت تريده تلك السيدة. أنت تذكر أنها كانت جذابة ومتأنقة في لقائنا الأول بها، وأجد أنها لا تزال امرأة جميلة، رغم أنني لم أكن لأتعرف عليها الآن بأي درجة من اليقين بعد مرور ثماني سنوات.
وكانت المرأة في غاية الإقناع. لا بد أنك تتذكر يا دارسي أنني لم ألتق بها إلا مرة واحدة حين عقدنا معها مقابلة عمل كمرافقة محتملة للآنسة جورجيانا، وأنت تعرف كم كانت مثيرة للإعجاب والقبول. من الواضح أنها كانت ناجحة على الصعيد المالي؛ فقد وصلت إلى الحانة بعربتها الخاصة، وفي رفقتها السائق وخادمة لها. وقد قدمت لي خطابات من البنك الخاص بها تثبت أنها كانت قادرة على تقديم الدعم المالي للطفل، لكنها قالت وهي مبتسمة إنها امرأة حذرة وإنها تتوقع أن يضاعف مبلغ الثلاثين جنيها، لكن بعد ذلك لن تكون هناك حاجة إلى دفع المزيد من المال لها. وإن تبنت هي الطفل فسيبعد عن بيمبرلي إلى الأبد.»
قال دارسي: «كنت تضع نفسك تحت سلطة امرأة تعرف أنها فاسدة، وتكاد تكون على يقين من أنها مبتزة. فبخلاف المال الذي تتلقاه من النزلاء لديها، كيف لها أن تعيش في مثل هذا الترف؟ كنت تعرف من خلال تعاملاتنا السابقة معها أي نوع من النساء كانت.»
قال الكولونيل: «كانت تلك تعاملاتك أنت يا دارسي وليس تعاملاتي. أعترف أنه كان قرارا مشتركا بيننا بأن تتولى السيدة يونج أمر رعاية الآنسة دارسي، لكن تلك كانت هي المناسبة الوحيدة السابقة التي التقيتها فيها. وربما كان لك تعاملات أخرى معها فيما بعد، لكنني لست مطلعا عليها ولا أريد أن أعرف بها. بعد أن استمعت إليها وتفحصت الأدلة التي قدمتها، اقتنعت أن الحل المقدم لطفل لويزا كان منطقيا وصائبا. من الواضح أن السيدة يونج كانت مولعة بالطفل، وعلى استعداد أن تجعل نفسها مسئولة عن تعليمه ورعايته في المستقبل؛ وفوق كل ذلك كان سينتقل بعيدا عن بيمبرلي، ولن يكون له أي صلة بها أبدا. كان ذلك هو الاعتبار الأول بالنسبة إلي، وأعتقد أنك كنت ستفعل ذلك أيضا. ولم أكن لأتصرف بما هو ضد رغبات الأم بشأن طفلها، ولم أفعل ذلك أيضا.» «هل كانت لويزا ستسعد حقا لو أن طفلها أعطي لمبتزة وعشيقة؟ أكنت تعتقد حقا أن السيدة يونج لن تعود لتطلب المزيد من المال مرات ومرات؟»
ابتسم الكولونيل. وقال: «يا دارسي، أحيانا ما تذهلني سذاجتك، ومدى ضآلة معرفتك بالعالم خارج حدود بيمبرلي؛ ذاك المكان الذي تعشقه. إن الطبيعة البشرية ليست سوداء أو بيضاء كما تفترض أنت. لا شك أن السيدة يونج مبتزة، لكنها كانت ناجحة في ذلك ورأت أن الابتزاز هو عمل يمكن التعويل عليه؛ ما دامت تديره بالمنطق والاحتياط. إن المبتزين غير الناجحين هم من ينتهون إلى السجن أو إلى منصة الإعدام. كانت تطلب ما يمكن لضحاياها أن يقدموا لها، لكنها لم تكن تتسبب قط في إفلاسهم أو إصابتهم باليأس، وكانت تفي بوعدها. ولا شك لدي أنك دفعت لها المال من أجل أن تحافظ على صمتها حين صرفتها عن خدمتك. فهل تحدثت هي قط عما رأت أثناء خدمتها الآنسة دارسي؟ وبعد أن فر ويكهام وليديا، وأقنعتها أن تعطيك العنوان، لا بد أنك دفعت لها مالا كثيرا للحصول على تلك المعلومات، لكن هل تحدثت قط بما حدث؟ أنا لا أدافع عنها؛ فأنا أعرف ما هي عليه، لكنني وجدت أن التعامل معها أسهل من التعامل مع معظم الصالحين.»
قال دارسي: «لست بتلك السذاجة يا فيتزويليام كما تعتقد. أنا أعرف منذ مدة طويلة كيف تقوم بعملها. إذن ماذا حدث لخطاب السيدة يونج الذي بعثته إليك؟ من المثير للاهتمام معرفة الوعود التي قطعتها لك لتغريك ليس فقط بدعم خطتها لتبني الطفل، وإنما بدفع المزيد من المال. فأنت لست ساذجا بما يكفي لتعتقد أن ويكهام سيرد لك الثلاثين جنيها.» «لقد أحرقت الخطاب حين كنا نمضي تلك الليلة في غرفة المكتبة . انتظرت حتى رحت في النوم وألقيت به في النار. فلم أستطع أن أرى فائدة أخرى منه. فحتى ولو كانت دوافع السيدة يونج محل شك وتخلت هي عن وعدها، فكيف لي أن أتخذ إجراءات قانونية ضدها؟ إنني دائما ما أعتقد أن أي خطاب يحتوي على معلومات ينبغي ألا تكون معروفة للعامة هو خطاب ينبغي إتلافه؛ فليس هناك ضمانة أخرى. أما بالنسبة إلى المال، فقد اقترحت، وكنت في ذلك واثقا تماما، أن أتركه للسيدة يونج لتقنع ويكهام بأن يتخلى عنها. وكنت في ذلك على قدر كبير من الثقة بأنها ستنجح؛ فقد كانت تتمتع بخبرة ومغريات أفتقر أنا إليها.» «ونهوضك في الصباح الباكر حين اقترحت أن نبيت في غرفة المكتبة، وزيارتك لويكهام لتطمئن عليه؛ أكانت تلك التصرفات جزءا من خطتك؟» «كنت أريد أن أؤكد عليه أن الملابسات التي تلقى في سياقها الثلاثون جنيها ينبغي أن تظل طي الكتمان لو وجدته مستيقظا وصاحيا ولو سنحت الفرصة أمامي، وأن عليه أن يلتزم كتمانه أمام أي محكمة إلا إذا كشفت أنا بنفسي عن الحقيقة، وكان هو حرا ليؤكد على كلامي. وإن كانت الشرطة استجوبتني أو سئلت في المحكمة، كنت سأقول إن سبب إعطائي إياه 30 جنيها هو مساعدته في تسوية دين في عنقه، وكان ذلك حقيقيا بالفعل، وإنني كنت قد أعطيته كلمتي بألا أكشف أبدا عن الملابسات المحيطة بذلك الدين.»
فقال دارسي: «لا شك لدي أن أي محكمة لن تضغط على الكولونيل اللورد هارتليب ليحنث بوعده. لكن ربما يريدون أن يتأكدوا ما إن كان المال موجها لديني أو لا.» «حينها سأكون قادرا على الرد بأنه لم يكن موجها له. فقد كان من المهم لجهة الدفاع أن ترسخ لهذه الحقيقة في المحاكمة.» «كنت أتساءل عن سبب إسراعك لرؤية بيدويل وثنيه عن الانضمام إلينا في العربة والعودة إلى كوخ الغابة قبل أن ننطلق للبحث عن ديني وويكهام. لقد تصرفت قبل أن تكون للسيدة دارسي الفرصة لتصدر أوامرها لستاوتن أو السيدة رينولدز. بدا لي في ذلك الوقت أنك كنت ستساعد على نحو غير ضروري، بل وحتى بعجرفة؛ لكنني الآن أفهم سبب حتمية إبعاد بيدويل عن كوخ الغابة في تلك الليلة، ولماذا ذهبت إلى الكوخ لتحذر لويزا.» «كنت متعجرفا، وأعتذر عن ذلك متأخرا. كان من الضروري بالطبع أن تعلم السيدتان أننا قد يتعين علينا التخلي عن الخطة التي تقتضي أخذ الطفل في الصباح التالي. كنت قد سئمت خداعهما وشعرت بأن الوقت قد حان من أجل الحقيقة. فأخبرتهما أن ويكهام والكابتن ديني كانا تائهين في الغابة، وأن ويكهام - وهو والد الطفل من لويزا - كان متزوجا بأخت زوجة السيد دارسي.»
قال دارسي: «لا بد أن لويزا ووالدتها كانتا في حالة من الكرب المفزع. ومن الصعب تخيل صدمتهما عند معرفة أن الطفل الذي تربيانه كان ابن ويكهام اللقيط، وأنه كان هو وصديق له تائهين في الغابة. وقد سمعا صوت طلقات النار ولا بد أنهما توقعا وقوع الأسوأ.» «لم يكن بيدي شيء يمكنني فعله لأطمئنهما به. لم يكن هناك وقت أمامي. وقد قالت السيدة بيدويل حينها لاهثة: «سيتسبب هذا في مقتل بيدويل. ابن ويكهام هنا في الكوخ! الوصمة التي لحقت ببيمبرلي، والصدمة المروعة لسيدنا والسيدة دارسي، والعار الذي لحق بلويزا وبنا جميعا.» ومن المثير للاهتمام أنها رتبت الأمر بهذا الترتيب. وقد كنت قلقا على لويزا. كانت قد أغمي عليها تقريبا، ثم تسللت نحو أحد الكراسي بجوار المدفأة وجلست فيه ترتجف بشدة. كنت أعلم أنها في حالة صدمة، لكن لم يكن هناك شيء أستطيع فعله. فقد غبت بالفعل مدة أطول مما كنت تتوقع أنت وألفيستون.»
فقال دارسي: «لقد عاش بيدويل ومن قبله أبوه وجده في الكوخ وخدموا جميعا عائلتي. وشعورهم بالكرب هو نوع طبيعي من الحب والوفاء. وبالفعل، لو كان الطفل قد ظل في بيمبرلي أو كان يزورها حتى بانتظام، لكان ويكهام قد حظي بمدخل لعائلتي ومنزلي، وكنت سأجده بغيضا تماما. ولم يقابل كل من بيدويل أو زوجته ويكهام الكبير، لكن لا بد أن حقيقة أنه نسيبي ولا يزال غير مرحب به أبدا قد أطلعتهم عن مدى عمق القطيعة بيننا، وأنه لا يمكن استئصالها.»
قال الكولونيل: «ثم بعد ذلك وجدنا جثة ديني، وبحلول الصباح كانت السيدة يونج وكل من في حانة كينجز آرمز، وكذلك بالفعل كل من كانوا في الجوار، كانوا سيعرفون بأمر جريمة القتل التي وقعت في غابة بيمبرلي، وأن ويكهام قد ألقي القبض عليه. فهل كان بإمكان أحد أن يصدق أن برات غادر حانة كينجز آرمز في تلك الليلة من دون أن يقص قصته؟ لم يكن لدي حينها أدنى شك أن رد فعل السيدة يونج سيكون العودة إلى لندن من دون الطفل. وربما لا يعني هذا أنها تخلت تماما عن أي أمل لتبني الطفل، لكن ربما سيبصرنا ويكهام حين يصل بأمر هذه النقطة. هل سيكون السيد كورنبندر بصحبته؟»
قال دارسي: «أظن ذلك. لقد قدم خدمات عظيمة لويكهام وآمل أن تأثيره عليه سيمتد؛ رغم أنني لست متفائلا. ذلك أن ويكهام مرتبط كثيرا على الأرجح بزنزانة السجن، ومشهد أنشوطة حبل المشنقة، وبأشهر من الاستماع إلى الخطب بحيث لن يرغب في أن يمضي المزيد من الوقت في صحبته إلا في حدود الضرورة. وحين يصل ويكهام سنسمع منه بقية تلك القصة المؤسفة. أشعر بالأسف لك يا فيتزويليام؛ لأنك أصبحت منخرطا في هذا الأمر مع ويكهام ومعي. إن اليوم الذي رأيت ويكهام فيه وأعطيته الثلاثين جنيها كان يوم حظ سيئ لك. وأنا أتقبل فكرة أنك كنت تتصرف لصالحه هو حين دعمت عرض السيدة يونج لتبني الطفل. ولا يسعني سوى أن آمل أن يكون الطفل قد استقر مع عائلة سيمبكنز بسعادة وبشكل دائم بعد بدايته المروعة تلك في الحياة.»
الفصل الثاني
بعد الغداء بوقت قصير، جاء موظف من مكتب ألفيستون ليؤكد أن العفو الملكي سيمنح لويكهام بحلول ظهيرة اليوم التالي، ولكي يسلم دارسي خطابا قال بأن ليس من المتوقع أن يرد عليه في الحال. كان الخطاب من القس صمويل كورنبندر من سجن كولدباث، وجلس دارسي وإليزابيث يقرآنه معا.
القس صمويل كورنبندر المبجل
سجن كولدباث
سيدي
قد تفاجأ بتلقي هذا الخطاب في الوقت الراهن من رجل غريب عنك، رغم أن السيد جاردنر - الذي التقيت به - ربما يكون قد تحدث عني، وينبغي علي أن أبدأ خطابي باعتذار عن التطفل على خصوصيتك حيث تحتفل أنت وأسرتك بنجاة نسيبك من تهمة غير عادلة وميتة شائنة. إلا أنك إن قررت أن تقرأ خطابي، فكلي ثقة بأنك ستوافقني أن الأمر الذي أطرحه مهم وطارئ بعض الشيء، وأنه يؤثر عليك وعلى أسرتك.
لكن ينبغي علي أن أقدم نفسي أولا. اسمي صمويل كورنبندر وأنا واحد من القساوسة المعينين في سجن كولدباث حيث قضيت آخر تسع سنين في مساعدة المتهمين الذين ينتظرون محاكماتهم وأولئك الذين أدينوا بالفعل. وقد أتى في صدارة هؤلاء السيد جورج ويكهام، الذي سرعان ما سيكون معك ليقدم لك تفسيرات بشأن الملابسات التي أدت إلى مقتل الكابتن ديني، الذي علمت به بالطبع.
سأضع هذا الخطاب في يد المحترم السيد هنري ألفيستون الذي سيوصله إليك رفقة رسالة من السيد ويكهام. لقد أراد السيد ويكهام أن تقرأ تلك الرسالة قبل أن يحضر أمامك لتكون على علم بالدور الذي لعبته في خططه المستقبلية. لقد تحمل السيد ويكهام مدة حبسه بشجاعة كبيرة، لكن - بصورة غير طبيعية - كان أحيانا ما تغلبه إمكانية إصدار حكم ضده بالإدانة، حينها كان واجبي أن أوجه أفكاره للرب الذي يمكن له أن يغفر لنا جميعا كل ما مضى ويمدنا بالقوة لمواجهة ما ينتظرنا. ومن خلال محادثاتنا علمت لا محالة بالكثير عن طفولته وحياته فيما بعد. ولا بد لي أن أوضح أنني - وكعضو إنجيلي في كنيسة إنجلترا - لا أومن بالاعتراف السماعي، لكنني أرغب في أن أطمئنك بأن كل الأسرار التي يبوح لي بها السجناء تظل طي الكتمان. وقد شجعت السيد ويكهام أن يأمل في الحصول على حكم يقضي ببراءته وفي لحظات تفاؤله - التي يسرني أن أقول إنها كانت كثيرة - كان يوجه عقله وأفكاره تجاه مستقبله وزوجته.
وقد عبر السيد ويكهام عن رغبته القوية في ألا يظل في إنجلترا، وأنه يرغب في تجربة حظه في العالم الجديد. ولحسن الحظ أنا في وضع يسمح لي بأن أساعده على عزمه ذلك. فقد هاجر أخي التوءم - واسمه جيريميا كورنبندر - قبل خمس سنوات إلى مستعمرة فيرجينيا السابقة حيث أسس لعمل يقوم على ترويض الخيول وبيعها، وقد ازدهر عمله كثيرا، ويرجع سبب ذلك إلى معرفته ومهارته التي يتمتع بها. وبسبب توسع عمله، هو يبحث الآن عن مساعد له؛ رجل يمتلك خبرة مع الجياد، وقبل عام واحد تقريبا راسلني بخطاب ليشركني في الأمر، وقال إن أي مرشح أوصي به سيستقبله استقبالا طيبا وسيثبته في الوظيفة مدة ستة أشهر كفترة تجربة. وحين جاء السيد ويكهام إلى سجن كولدباث وبدأت زياراتي له، علمت مبكرا أنه يتمتع بخبرات ومهارات تجعل منه مرشحا مناسبا للعمل لدى أخي إذا ما وجد بريئا من تلك التهمة الجسيمة كما كان يتوقع ويأمل. إن السيد ويكهام راكب ماهر وقد أثبت أنه يتمتع بالشجاعة. وقد ناقشت المسألة معه وهو يتوق لأن يستغل هذه الفرصة، وعلى الرغم من أنني لم أتحدث مع السيدة ويكهام، إلا أنه أكد لي أنها متحمسة مثله تماما لمغادرة إنجلترا واستغلال الفرص المتاحة في العالم الجديد.
لكن، كما تتوقع، هناك مشكلة بشأن المال. إن السيد ويكهام يأمل أنك ستكون طيبا بما يكفي لتقدم له قرضا بالمبلغ المطلوب الذي سيشتمل على تكلفة الرحلة، وراتبا يكفي مدة أربعة أسابيع قبل أن يتسلم أول راتب له. وسيحصل السيد ويكهام على منزل معفي من الأجرة، ومزرعة الجياد - وهي التسمية التي يطلقها أخي على عمله - تقع على بعد ميلين من مدينة ويليامزبيرج. ومن ثم فلن تكون السيدة ويكهام محرومة من الصحبة والتمدن اللذين تكون سيدة رفيعة النسب مثلها في حاجة إليهما.
فإن قبلت بهذه الاقتراحات وكنت قادرا على المساعدة، فسأسر بلقائك في أي وقت وأي مكان مناسبين لك، وسأقدم لك تفاصيل المبلغ المالي المطلوب، والترتيبات التي ستعرض عليه، وخطابات التوصية التي ستضمن لك منزلة كمنزلة أخي في فيرجينيا، تلك المنزلة التي لست في حاجة إلى أن أقول إنها استثنائية. فهو رجل منصف ورب عمل عادل ، لكنه لا يتساهل مع عديمي النزاهة أو الكسالى. وإن كان من الممكن للسيد ويكهام أن يتحصل على عرض يظهر نحوه حماسة، فسيبعده هذا عن كل المغريات. وتبرئة ساحته من هذه الجريمة وكذلك سجله كجندي شجاع سيجعلان منه بطلا قوميا، وعلى الرغم من أن شهرته القائمة على هذه الأشياء قد لا تدوم طويلا، فإنني أخشى أن سوء سمعته ستحول بينه وبين إصلاح حياته، وهو الأمر الذي يؤكد لي ويكهام أنه مصر على القيام به.
يمكنك يا سيد دارسي أن تراسلني في أي وقت من النهار أو المساء على العنوان السالف ذكره، وأود أن أطمئنك إلى حسن نيتي في هذا الصدد ورغبتي في إمدادك بأي معلومات قد تطلبها حيال الموقف المعروض عليك.
المخلص لك بشدة يا سيدي العزيز
صمويل كورنبندر
قرأ دارسي وإليزابيث الخطاب في صمت، ثم ومن دون أن يضيف تعليقا، أعطى دارسي الخطاب إلى الكولونيل.
وقال دارسي: «في رأيي أنني ينبغي أن ألتقي بذلك القس، وأن نعرف أكثر بشأن هذه الخطة قبل أن نرى ويكهام. فإن كان العرض صادقا فعلا ومناسبا كما يبدو، فلا شك أنه سيمثل حلا لمشكلتي أنا وبينجلي إن لم تكن مشكلة ويكهام أيضا. إلا أنني لم أعلم بعد بالمبلغ الذي سيتكلفه هذا، لكن إن ظل ويكهام وليديا في إنجلترا، فبصعوبة نتوقع أن يستطيعا العيش من دون الحصول على المساعدة بصفة منتظمة.»
فرد الكولونيل فيتزويليام: «أظن أن السيدة دارسي والسيدة بينجلي كلتيهما كانت تسهم في نفقات ويكهام من مصادرهما الخاصة. ولكي أكون صريحا، سيشكل هذا الأمر مصدر راحة من الالتزامات المالية على كلتا العائلتين. وفيما يتعلق بسلوك ويكهام في المستقبل، أجد من الصعب أن أشارك القس ثقته في انصلاح أحوال ويكهام، لكنني أظن أن جيريميا كورنبندر سيكون كفئا فيما يتعلق بحسن سلوك ويكهام في المستقبل أكثر من عائلته نفسها. وسأسر بالإسهام في المبلغ المطلوب، الذي أتخيل أنه لن يكون مضنيا.»
فأجابه دارسي: «المسئولية هنا تقع على عاتقي أنا. سأرد في الحال على السيد كورنبندر على أمل أن نتمكن من اللقاء في وقت مبكر من الغد قبل أن يصل ويكهام وألفيستون.»
الفصل الثالث
وصل القس صمويل كورنبندر المبجل في اليوم التالي بعد أن كان في الكنيسة في اليوم التالي استجابة لخطاب وصله من دارسي وتسلمه بيده. وكان مظهر الرجل غير متوقع، حيث كان دارسي قد توقع استنادا إلى خطابه أن يجد رجلا في أواخر منتصف العمر أو أكبر من ذلك، لكن دارسي فوجئ حين رأى أن السيد كورنبندر كان يبدو في الشكل أصغر من العمر الذي أوحى به أسلوبه في الكتابة وأنه يستطيع تحمل صرامة وظيفته ومسئولياتها من دون أن يفقد مظهره اليافع أو عنفوان شبابه. وعبر دارسي عن امتنانه لكل ما قدمه القس المحترم من أجل مساعدة ويكهام في تحمل مدة سجنه، لكن من دون أن يذكر تحول ويكهام الواضح تجاه نمط حياة أفضل، وهو أمر كان عاجزا عن التعليق بشأنه. وأحب دارسي السيد كورنبندر الذي لم يكن في غاية الجدية ولا مطواعا أكثر من اللازم، والذي جاء بخطاب من أخيه وبكل المعلومات المالية اللازمة؛ لتمكين دارسي من اتخاذ قرار مستنير بشأن مدى وجوب مساعدته للسيد والسيدة ويكهام في تأسيس حياة جديدة، يبدو أنهما يتوقان إليها كثيرا، وكذلك بشأن مدى قدرته على فعل ذلك.
كان الخطاب القادم من فيرجينيا قد استلم قبل ثلاثة أسابيع مضت. وفيه عبر السيد جيريميا كورنبندر عن ثقته في حكم أخيه، وبينما لم يبالغ في المزايا التي يمكن للعالم الجديد أن يقدمها، رسم صورة مطمئنة للحياة التي يمكن أن يحظى بها المرشح الموصى به.
إن العالم الجديد ليس بملجأ للكسالى أو المجرمين أو المنبوذين أو العجزة، لكن بالنسبة إلى شاب تمت تبرئة ساحته تماما من جريمة قتل وأظهر جلدا أثناء محنته وشجاعة استثنائية في ميدان المعركة، فيبدو أنه يتمتع بالمؤهلات التي ستضمن الترحيب به. وأنا أبحث عن رجل يجمع بين المهارة العملية - ويفضل لو كانت في ترويض الجياد - ودرجة جيدة من التعليم، وكلي ثقة أنه سينضم إلى مجتمع يضاهي أي مدينة أوروبية متحضرة فيما يتعلق بالذكاء واتساع رقعة اهتماماته الثقافية، الذي سيوفر فرصا تكاد تكون غير محدودة. وأظن أن بإمكاني أن أتوقع أن أحفاد من يرغبون في الانضمام إلى هذا المجتمع الآن سيكونون مواطنين في دولة قوية كالدولة التي تركوها إن لم تكن أقوى منها؛ دولة ستستمر في ضرب مثال على الاستقلال والحرية للعالم أجمع.
قال القس كورنبندر: «كما يمكن لأخي أن يثق في حكمي فيما يتعلق بالتوصية بالسيد ويكهام؛ فأنا أيضا أثق في حسن نيته في القيام بكل ما يمكنه لمساعدة هذين الزوجين الشابين في الشعور بأنهم في وطنهم وفي محاولة التألق في العالم الجديد. وهو حريص للغاية على جذب المهاجرين المتزوجين من إنجلترا. وحين أرسلت إليه موصيا بالسيد ويكهام، كان ذلك قبل شهرين من محاكمته، لكنني كنت متفائلا بأنه ستبرأ ساحته، وأنه هو الرجل الذي يبحث أخي عنه بالتحديد. إنني أكون سريعا آرائي عن المسجونين ولم أخطئ من قبل بشأن ذلك. وبينما أحترم ثقة السيد ويكهام، فقد لمحت أن هناك جوانب في حياته تستطيع أن تجعل الحصيف من الرجال مترددا، لكنني استطعت أن أطمئن أخي أن السيد ويكهام تغير وأنه مصر على الحفاظ على ذلك التغيير. لا شك أن فضائله تفوق عيوبه، وأخي ليس بغير منطقي بحيث يتوقع الكمال منه. لقد أخطأنا جميعا، يا سيد دارسي، ولا يمكننا أن نبحث عن العفو والصفح من دون أن نظهرهما في حياتنا. وإن كنت مستعدا لتمويل تكلفة هذه الرحلة والمبلغ الصغير اللازم للسيد ويكهام لكي يعول نفسه وزوجته في الأشهر القليلة الأولى من حصوله على الوظيفة، فسيكون من المتاح لهما أن يسافرا بحرا من ليفربول على متن السفينة «أزميرالدا» في غضون أسبوعين. أنا أعرف القبطان ولدي ثقة كبيرة فيه وفي وسائل الراحة في السفينة. أعتقد أنك في حاجة إلى بضع ساعات لتفكر في الأمر، ولا شك أنك تريد مناقشته مع السيد ويكهام، لكنك ستساعدني كثيرا لو أعلمتني بقرارك بحلول التاسعة من مساء الغد.»
فقال دارسي: «نتوقع أن يصل جورج ويكهام إلى هنا مع محاميه السيد ألفيستون في هذه الظهيرة. وفي ضوء ما تقول فإنني واثق من أن السيد ويكهام سيقبل بعرض أخيك بكل امتنان. أفهم أن خطة السيد والسيدة ويكهام الحالية هي أن يذهبا الآن إلى لونجبورن ويمكثا هناك حتى يتخذا قرارا بشأن مستقبلهما. والسيدة ويكهام تتوق إلى رؤية والدتها وأصدقاء طفولتها؛ وإن هاجرت هي وزوجها، فمن غير المرجح أن تراهما مرة أخرى.»
كان صمويل كورنبندر ينهض من مكانه ليغادر. فقال: «هذا مستبعد للغاية. فالرحلة على متن السفينة في المحيط الأطلنطي ليست بالهينة، وقلة هم فقط من معارفي في فيرجينيا من قاموا برحلة عودة، أو أرادوا أن يقوموا بها. أشكرك يا سيدي على استضافتي رغم قصر المهلة الزمنية وعلى كرمك بالموافقة على العرض الذي قدمته لك.»
فقال دارسي: «إن امتنانك هذا هو كرم منك، لكنه غير مستحق. فمن غير المرجح أن أندم على قراري. أما السيد ويكهام فقد يفعل.» «لا أعتقد ذلك يا سيدي.» «ألن تنتظر حتى تراه حين يصل؟» «لا يا سيدي. لقد قدمت له كل خدمة بوسعي. ولن يرغب في رؤيتي قبل مساء اليوم.»
وبهذه الكلمات سلم على دارسي بقوة غير عادية، وارتدى قبعته وانصرف.
الفصل الرابع
كانت الساعة هي الرابعة بعد ظهر اليوم حين سمعوا صوت خطوات أقدام، ثم أصوات أشخاص، وعرفوا أن القادمين من أولد بايلي قد وصلوا أخيرا. وعندما نهض دارسي على قدميه، كان مدركا حالة الانزعاج الحاد. كان دارسي يعرف إلى أي مدى يعتمد نجاح الحياة الاجتماعية على التطلعات الوثيرة للأعراف والتقاليد المستحسنة، وكان منذ طفولته يدرس الأفعال المتوقعة من الرجال النبلاء. ولا شك أن والدته بين الحين والآخر كانت تفصح له عن وجهة نظر لطيفة أكثر، وهي أن حسن السلوك يتألف في الأساس من مراعاة مشاعر الآخرين وتقديرها، خاصة لو كان المرء يتعامل مع شخص من طبقة اجتماعية أدنى، وكان ذلك أمرا تغفله عمته الليدي كاثرين دي بورج بشكل ملحوظ. لكن الآن أصبح في حيرة من أمره بفعل كل من الأعراف والنصح المسدى إليه. فلم تكن هناك قواعد لاستقبال رجل يقضي العرف بأن يناديه بنسيبه الذي حكم عليه بالموت شنقا على الملأ قبل بضع ساعات مضت. بالطبع كان دارسي فرحا بنجاة ويكهام من حبل المشنقة، لكن أكان ذلك في مصلحة راحة باله وسمعته كما هو في مصلحة الحفاظ على ويكهام؟ إن مقتضيات الأخلاق والشفقة تفرض عليه بالطبع أن يسلم عليه بحرارة، لكن تلك الإيماءة بدت له غير ملائمة كما كانت غير صادقة.
وكان السيد والسيدة جاردنر قد أسرعا خارجين من الغرفة بمجرد أن سمعا وقع الأقدام، واستطاع دارسي الآن سماع صوتيهما يعلو بالترحاب، لكنه لم يتمكن من سماع الرد. ثم فتح الباب ودخل آل جاردنر، وكانوا يحثون ويكهام على الدخول وإلى جواره ألفيستون بلطف ودماثة.
أمل دارسي ألا تظهر على وجهه أمارات الصدمة والذهول. فقد كان من الصعب تصديق أن الرجل الذي استجمع قوته من أجل الوقوف منتصبا في قفص الاتهام والتأكيد على براءته بنبرة واضحة وعازمة وثابثة كان هو ويكهام نفسه الذي يقف أمامه الآن. بدا ويكهام الآن هزيل الجسد وكانت الملابس التي كان قد ارتداها من أجل المحاكمة قد بدت كبيرة عليه جدا، فبدت رخيصة ورديئة وذات مقاس غير مناسب لرجل لم يكن من المتوقع أن يرتديها وقتا طويلا. وكان وجهه لا يزال يحمل أمارات الشحوب غير الصحي الناتج عن مكوثه في السجن، لكن حين التقت أعينهما وثبت كل منهما عينيه على الآخر لحظة، رأى دارسي في عيني ويكهام لمحة من نفسه السابقة، رأى نظرة تنم عن الحذر وربما عن الازدراء. وفوق كل شيء، بدا ويكهام منهكا، وكأن صدمة الحكم عليه بالإدانة والارتياح الناتج عن إرجاء تنفيذ العقوبة كانا أكثر مما يمكن للجسد البشري احتماله. لكن ويكهام القديم كان لا يزال حاضرا ورأى دارسي الجهد والشجاعة اللتين حاول بهما أن يقف منتصبا ويواجه أيا مما سيأتي.
قالت السيدة جاردنر: «سيدي العزير، أنت في حاجة إلى النوم. ربما تكون في حاجة إلى الطعام، لكنك في حاجة إلى النوم أكثر من أي شيء آخر. يمكنني أن أصحبك إلى غرفة يمكنك الحصول فيها على قسط من الراحة، ثم يمكننا أن نحضر لك فيها بعض الطعام. ألن يكون من الأفضل أن تنام، أو على الأقل تستريح ساعة قبل أن تتحدث؟»
ومن دون أن يشيح بعينيه من على المجموعة المجتمعة أمامه، قال ويكهام: «شكرا لك سيدتي، على كريم لطفك، لكنني حين أنام فسأنام ساعات طوالا، وأخشى أنني معتاد على الأمل بألا أستيقظ أبدا. لكنني في حاجة إلى التحدث مع الرجال هنا، ولا يمكنني الانتظار. إنني بحال جيدة بما يكفي يا سيدتي، لكن إن كان هناك شيء من القهوة المركزة وربما بعض المرطبات ...»
فرمقت السيدة جاردنر دارسي بنظرة سريعة ثم قالت: «بالطبع. أعطيت الأوامر بالفعل، وسأشرف على تنفيذها في الحال. سنتركك أنا والسيد جاردنر هنا لتحكي قصتك. وعلى حد علمي فالقس كورنبندر سيأتي لزيارتك قبل العشاء وهو يعرض عليك ضيافته لك الليلة؛ حيث ستكون في منأى عن الإزعاج، وستحصل على قسط هانئ من النوم. وسنعلمك أنا والسيد جاردنر بمجرد وصوله.» وبهذا خرجا من الغرفة وأغلق الباب في هدوء.
نبه دارسي نفسه من حالة من التردد والحيرة غمرته لحظة، ثم تقدم نحو ويكهام بذراع ممدودة، وقال بنبرة بدت له رسمية وباردة: «أهنئك يا ويكهام على شجاعتك التي أظهرتها أثناء مكوثك في السجن، وعلى نجاتك من هذه التهمة الجائرة بأمان. من فضلك خذ راحتك، ويمكننا أن نتحدث حين تتناول شيئا من الطعام والشراب. هناك الكثير لنتحدث بشأنه لكن يمكننا أن ننتظر.»
فقال ويكهام: «أفضل أن أتحدث الآن.» ثم غاص في الكرسي واتخذ الآخرون مجالسهم. وساد صمت غير مريح بينهم حتى أغاثهم بعد لحظات فتح الباب ودخول خادم ومعه صينية كبيرة تحمل إبريق قهوة، وطبقا من الخبز والجبن واللحم البارد. وبمجرد أن غادر الخادم الغرفة، صب ويكهام قهوته وشربها. وقال: «معذرة على سوء آدابي. فقد كنت مؤخرا في مدرسة رديئة لممارسة السلوك الحضاري.»
وبعد عدة دقائق أكل فيها ويكهام الطعام بنهم أزاح الصينية جانبا وقال: «حسنا، ربما من الأفضل أن أبدأ. سيتمكن الكولونيل فيتزويليام من تأكيد الكثير مما أقول. أنتم تعتبرونني شريرا بالفعل؛ لذا فإنني أشك أن شيئا مما أقول وأضيف إلى قائمة آثامي التي ارتكبتها سيثير ذهولكم.»
فقال دارسي: «لست في حاجة إلى الاعتذار. فقد واجهت هيئة من المحلفين، ونحن لسنا بهيئة أخرى منهم.»
أطلق ويكهام ضحكة، فكانت أقرب إلى نباح عال وقصير وأجش. ثم قال: «إذن علي القول بأنني آمل أن تكون أقل تحيزا. وأتوقع أن الكولونيل فيتزويليام قد أطلعك على الحقائق الأساسية.»
قال الكولونيل: «ما قلت إلا ما علمت، وهو قليل، ولا أعتقد أن أي أحد منا يصدق أن الحقيقة الكاملة قد قيلت أثناء محاكمتك. ولذا فقد انتظرنا عودتك لنسمع منك القصة كاملة ويحق لنا ذلك.»
ولم يتحدث ويكهام من فوره. فقد جلس ينظر إلى يديه المشبوكتين، ثم رفع رأسه وكأنه لا يجد الطاقة لفعل ذلك، وبدأ يتحدث بنبرة تكاد لا تنم عن أي تعبير، وكأنه يحفظ قصته عن ظهر قلب. «لا بد أنكم عرفتم أنني والد الطفل من لويزا بيدويل. لقد التقينا المرة الأولى في الصيف قبل الماضي حين كانت زوجتي في هايمارتن حيث كانت تحب أن تقضي هنا بضعة أسابيع في الصيف، وحيث إنني لم أكن مرحبا بي في ذلك المنزل، فقد جعلت من عادتي أن أمكث في أرخص الحانات المحلية التي يمكنني إيجادها، وحيث يمكنني أن أرتب للقاء ليديا بين الحين والآخر وعن طريق الصدفة. كانت الأرض في هايمارتن ستصاب بالتلوث لو أنني سرت هناك ذات مرة، وكنت أحب أن أقضي وقتي في غابة بيمبرلي. فقد أمضيت بعض أسعد ساعات طفولتي فيها، وقد عاد إلي شيء من تلك السعادة الطفولية حين التقيت بلويزا. صادفتها تتجول في الغابة. كانت تشعر بالوحدة كثيرا. وكانت حبيسة الكوخ مدة طويلة لتهتم بأخيها المريض بمرض عضال، وكانت لا تستطيع رؤية خطيبها إلا نادرا، وكانت أعمال خطيبها وطموحاته تبقيه منشغلا في بيمبرلي. ومما قالت عنه رسمت له صورة رجل عجوز غبي، لا يولي اهتمامه إلا إلى استكمال خدمته ولا يتمتع بالرؤية التي تمكنه من معرفة أن خطيبته كانت تشعر بالضجر والقلق. وكانت لويزا ذكية أيضا، وهي ميزة فيها لم يكن ليقدرها حق قدرها حتى ولو كان يتمتع بالذكاء ليدرك وجودها فيها. وأعترف أنني أغويتها، لكنني أؤكد لكم أنني لم أجبرها على شيء. فأنا لا أجد أن من الضروري أبدا أن أغتصب امرأة، ولم أعرف قط من قبل شابة تتوق إلى الحب مثلها.
وحين اكتشفت لويزا أنها تحمل طفلا كان ذلك يمثل فاجعة لكل منا. فقد أوضحت لي في حزن شديد أنه ينبغي ألا يعرف أحد بهذا الأمر أبدا، إلا والدتها بالطبع التي كان من الصعب إخفاء الأمر عنها. وشعرت لويزا أنها لن تستطيع أن تثقل أخاها بهذا العبء في آخر شهوره في الحياة، لكنها اعترفت له حين خمن ما حدث. وكان أكثر ما يقلقها هو ألا تصيب والدها بالحزن. فقد كانت تلك الفتاة المسكينة تعرف أن احتمال جلب العار على بيمبرلي سيكون أسوأ له من أي شيء آخر قد يحدث لها. ولم أستطع أن أدرك لماذا يمثل طفل ناتج عن الحب أو اثنين كل هذا العار، فتلك مشكلة شائعة كثيرا في العائلات الكبيرة، لكن كان هذا هو ما تشعر به. وكانت فكرتها أن تذهب لأختها المتزوجة - بتستر من والدتها - قبل أن تصبح حالتها ملحوظة أكثر، وأن تمكث هناك حتى بعد أن تضع وليدها. وكانت الفكرة تقضي بأن يعرف الطفل على أنه لأختها، واقترحت أنا عليها أن تعود به بمجرد أن تتمكن من السفر لتريه لجدته. فقد كنت في حاجة إلى التأكد من أن هناك طفلا حيا يتمتع بالصحة قبل أن أقرر أفضل ما ينبغي القيام به. واتفقنا على أنني سأجد المال بطريقة ما من أجل إقناع عائلة سيمبكنز بأن تأخذ الطفل وتربيه على أنه طفل لهم. حينها أرسلت إلى الكولونيل فيتزويليام نداء يائسا طالبا مساعدته، وحين أتى الوقت الذي سيعود فيه جورجي إلى عائلة سيبمبكنز أعطاني 30 جنيها. في رأيي أنكم تعرفون كل هذا بالفعل. وقال الكولونيل بأنه تصرف بدافع التعاطف مع جندي خدم تحت إمرته ، لكن لا شك أنه كانت لديه أسباب أخرى؛ وهي شائعات ونميمة سمعتها لويزا من الخدم بأن الكولونيل ربما يبحث لنفسه عن زوجة في بيمبرلي. ورجل حصيف ومتباه مثله - وخاصة لو كان ثريا ومن الطبقة الأرستقراطية - لا يصاهر فضيحة أبدا، لا سيما شأنا وضيعا وشائنا كهذا. ولم يكن الكولونيل فيتزويليام ليصبح أكثر قلقا من دارسي حين يرى ابني غير الشرعي وهو يلعب في غابة بيمبرلي.»
فسأله ألفيستون: «أعتقد أنك لم تخبر لويزا قط بهويتك الحقيقية؟» «سيكون هذا من الحماقة، ولم يكن ليؤدي إلا إلى زيادة شعورها بالحزن. لقد فعلت ما يفعله معظم الرجال وهم في موقفي. وأهنئ نفسي على أن قصتي كانت مقنعة، ومن المرجح كثيرا أن تحرك العاطفة في أي امرأة شابة سريعة التأثر. لقد أخبرتها أن اسمي فريدريك ديلانسي، فدائما ما كنت أحب تلك الحروف الأولى، وأنني جندي جريح في الجيش الأيرلندي - وكان هذا صحيحا إلى حد كبير - وأنني عدت إلى الوطن لأجد زوجتي الحبيبة العزيزة قد ماتت وهي تلد، وأن ابني مات معها. لقد زادت تلك القصة الطويلة الملحمية من حب لويزا وإخلاصها لي، وكنت مضطرا إلى زخرفة هذه القصة بقولي إنني سأذهب فيما بعد إلى لندن لأبحث عن وظيفة، وإنني سأعود لاحقا لأتزوج بها، وحينها يمكن لطفلنا أن يغادر عائلة سيمبكنز ويأتي للعيش معنا كعائلة. وكما أصرت لويزا، حفرنا أحرفنا الأولى سويا على جذوع الأشجار على سبيل التعهد بحبي والتزامي. وأعترف أنني كنت آمل أن تتسبب تلك الأحرف الأولى بالأذى. وقد وعدت بأن أرسل الأموال إلى عائلة سيمبكنز بمجرد أن أجد مسكنا لي في لندن وأدفع أجرته.»
فقال الكولونيل: «كانت تلك حيلة شائنة يا سيدي، على فتاة ساذجة وبريئة. وأفترض أنك بعد ولادة الطفل كنت ستختفي للأبد، وستكون هذه هي النهاية.» «أعترف بالحيلة، لكن نتيجتها بدت لي مرغوبا فيها. فلويزا سرعان ما ستنساني وتتزوج من خطيبها، وسيتربى الطفل لدى أشخاص هم عائلته. لقد سمعت بطرق أسوأ بكثير من تلك في التعامل مع الأبناء غير الشرعيين. ولكن لسوء الحظ سارت الأمور بشكل خاطئ. وحين عادت لويزا إلى المنزل مع طفلها، والتقينا كعادتنا عند قبر الكلب، كانت تحضر رسالة من مايكل سيمبكنز. لم يعد مايكل سيمبكنز يرغب في أن يقبل بالطفل بشكل دائم، حتى ولو كنت سأدفع له مبلغا كبيرا من المال. فقد كان لديه وزوجته ثلاث بنات بالفعل، ولا شك أنه كان سيحصل على المزيد، ولم يكن ليفرح إطلاقا بأن يكون جورجي هو الذكر الأكبر في أسرته، ويتمتع بأسبقية على أي ابن مستقبلي له من صلبه. ومن الواضح أيضا أنه كانت هناك مشكلات بين لويزا وأختها حين كانت معهم تنتظر وضع الطفل. وأعتقد أن الأحوال نادرا ما تسير على ما يرام إن كانت هناك امرأتان في مطبخ واحد. وقد بحت للسيدة يونج بأن لويزا كانت تحمل طفلا، وقد أصرت على رؤية الطفل، وقالت إنها سترتب للقاء لويزا والطفل في الغابة. وقد وقعت السيدة يونج في حب جورجي، وكانت تصر على أن تأخذه لتتبناه. كنت أعرف أنها كانت ترغب في الأطفال، لكن لم يكن لدي أدنى فكرة أن حاجتها إلى الأطفال كانت بهذا الإلحاح إلا في ذلك الحين. وقد كان الطفل وسيما، كما كان من صلبي بالطبع.»
شعر دارسي أنه لم يعد يستطيع أن يبقى صامتا. كان هناك الكثير من الأشياء التي يرغب في معرفتها. فقال: «أعتقد أن السيدة يونج كانت هي تلك المرأة الداكنة التي لمحتها الخادمتان في الغابة. كيف لك أن تشركها في أي مخطط يتعلق بمستقبل طفلك، وهي امرأة يظهر من سلوكها - على حد علمي - أنها من بين أكثر بني جنسها انحطاطا وخسة ووضاعة؟»
والآن كاد ويكهام يقفز من كرسيه. كانت مفاصل أصابعه على ذراعي الكرسي بيضاء، واحمر وجهه فجأة من شدة الغضب. «ربما تعرف الحقيقة أيضا. إن إلينور يونج هي المرأة الوحيدة التي أحبتني، ولم تفعل أي امرأة أخرى - ومن بينهن زوجتي - أن منحتني الرعاية والعطف والدعم والإحساس بأنني مهم لها كما فعلت أختي. أجل، هذه هي الصلة، إنها أختي غير الشقيقة. أعرف أن هذا سيثير اندهاشكم. فوالدي كان يتمتع بسمعة كونه الأكثر كفاءة وولاء وإثارة للإعجاب من بين خدم السيد دارسي الراحل، وكانت تلك هي حقيقته بالفعل. أما أمي فكانت صارمة متزمتة معه، كما كانت معي؛ فلم يكن هناك الكثير من الضحك في منزلنا. وكان أبي رجلا يشبه الكثير من الرجال، وحين كان يذهب إلى لندن لأداء أعمال للسيد دارسي لأسبوع أو اثنين، كان يعيش حياة مختلفة. ولا أعلم شيئا عن المرأة التي كان يرافقها، لكنه على فراش موته باح لي بأنه كانت له ابنة. ولكي أمنحه الفضل، فلا بد أن أقول إنه فعل ما بوسعه ليقدم لها الدعم، لكنني لم أعلم عن حياتها الأولى سوى القليل، فلم أعرف سوى أنها كانت في مدرسة في لندن، ولم تكن تلك المدرسة بأفضل من الملجأ. وقد هربت أختي منها حين كانت في الثانية عشرة من عمرها، وفقد أبي التواصل معها من بعد ذلك، ولما كان تقدمه في السن وزيادة المسئوليات عليه في بيمبرلي أثقل مما يستطيع هو تحمله، فلم يتمكن من البحث عنها بنفسه. لكنه كان يفكر فيها دائما، وقد توسل إلي من أجل أن أفعل كل ما يمكنني. كانت المدرسة قد أغلقت أبوابها منذ وقت طويل، وكان مالكها غير معروف، لكنني تمكنت من التواصل مع أشخاص في المنزل المجاور كانوا على علاقة صداقة بفتاة كانت لا تزال على تواصل معها. وكانت تلك الفتاة هي من أعطتني التلميحات الأولى التي تشير إلى المكان الذي يمكن أن أجد إلينور فيه. وفي النهاية وجدتها. وحينها كانت بعيدة كل البعد عن الفقر والعوز. فقد تزوجت مدة قصيرة من رجل أكبر منها ترك لها مبلغا كافيا من المال لشراء منزل في ميريلبون، حيث كانت تستقبل الساكنين، الذين كان معظمهم من الشباب الذين يتحدرون من أسر وعائلات ذات شأن، وكانوا قد تركوا منازلهم من أجل العمل في لندن. وكانت أمهاتهم اللائي يحببنهم ممتنات كثيرا لتلك السيدة المبجلة الحنون التي كانت تصر على ألا تستقبل أي امرأة شابة في المنزل، سواء كساكنة أو كزائرة.»
فقال الكولونيل: «كنت أعرف هذا. لكنك لم تذكر الطريقة التي كانت أختك تعيش بها، ولم تذكر الرجال تعيسي الحظ الذين كانت تبتزهم.»
واجه ويكهام صعوبة في السيطرة على غضبه. فقال: «لقد تسببت في حياتها كلها بأضرار أقل مما يتسبب به الكثير من المدبرات ذات الشأن. إن زوجها لم يترك لها صداقا مؤجلا للوفاة، وكانت مجبرة على أن تتحصل على عيشها من ذكائها. سرعان ما وقع كل منا في غرام الآخر، ربما لأننا كنا نتشارك الكثير من الأشياء. كانت أختي ماهرة. وقالت إن أفضل ميزة أتمتع بها - وربما هي الميزة الوحيدة - أن النساء يحببني وأنني أتمتع بالبراعة التي تجعلني مقبولا لديهن. وأفضل آمالي لتجنب الفقر وتفاديه كان عن طريق الزواج من امرأة ثرية، وكانت أختي ترى أنني أتمتع بالصفات التي تؤهلني لتحقيق ذلك. وكما تعلمون فقد انتهى أملي الأول والواعد إلى لا شيء حين ظهر دارسي عند رامزجيت ولعب دور الأخ الساخط.»
هب الكولونيل واقفا على قدميه قبل أن يتحرك دارسي. وقال: «هناك اسم لا يمكنك أن تنطقه بشفتيك، ليس في هذه الغرفة ولا في أي مكان آخر إن كنت تجد لحياتك قيمة أيها السيد.»
حدق إليه ويكهام بشيء من ثقته القديمة. وقال: «لست بجديد على هذا العالم أيها السيد، بحيث أعلم أن هناك سيدة لها اسم لا يمكن أن تلوثه الفضيحة، وأنها تتمتع بسمعة عفيفة بالفعل، وأعلم أيضا أن هناك نساء يساعد أسلوب حياتهن في حماية تلك العفة وحراستها. وأختي كانت واحدة من أولئك. لكن لنعد إلى المسألة التي نناقشها. لحسن الحظ أن رغبات أختي قدمت حلا لمشكلاتنا. والآن وحيث إن أخت لويزا رفضت أن تأخذ الطفل، كان لا بد لنا أن نجد له منزلا بطريقة ما. فأبهرت إلينور لويزا بقصص عن الحياة التي سيحياها الطفل، ووافقت لويزا أن تأتي إلينور إلى الكوخ في صباح يوم الحفل الذي يقام في بيمبرلي وأن تأخذ الطفل وتذهب به إلى لندن حيث سأبحث عن عمل، وسترعاه هي بصورة مؤقتة حتى نتمكن أنا ولويزا من الزواج. وبالطبع لم نذكر لها عنوان أختي هناك.
ثم سارت الخطة على نحو خاطئ. وعلي أن أعترف أن ذلك كان خطأ إلينور؛ فهي لم تكن معتادة على التعامل مع النساء، وكان من سياستها ألا تتعامل معهن. فقد كان التعامل مع الرجال بسيطا، وكانت تعرف كيف تقنعهم وتتملقهم. فحتى بعد أن كانوا يدفعون لها المال، لم يكن الرجال ليصبحوا في عداوة معها إطلاقا. ولم تكن إلينور تطيق صبرا على تذبذبات لويزا العاطفية. فبالنسبة إليها كان الأمر مسألة تفكير سليم؛ فقد كانت هناك حاجة ماسة وضرورية لإيجاد منزل لجورجي، وكان بإمكانها هي أن توفر منزلا أعلى مقاما من منزل عائلة سيمبكنز بكثير. وببساطة لم تكن لويزا تحب إلينور وبدأت ثقتها فيها تتزعزع؛ فقد كانت إلينور تتحدث كثيرا عن ضرورة حصولها على الثلاثين جنيها التي وعدنا بها عائلة سيمبكنز. وأخيرا وافقت لويزا على أن يؤخذ الطفل بحسب المخطط، لكن كانت هناك دائما المخاطرة التي تتمثل في عناد لويزا في اللحظة التي ستبتعد فيها عن طفلها. لهذا السبب كنت أريد ديني معنا حين ذهبنا لنأخذ جورجي. كنت واثقا من أن بيدويل سيكون في منزل بيمبرلي، وأن كل خادم آخر سيكون مشغولا للغاية، وكنت أعرف أنه لن تكون هناك مشكلة في أن تدخل عربة أختي من البوابة الشمالية الغربية لعزبة بيمبرلي. فمن المذهل ما يمكن لشلن أو اثنين أن يفعلاه من تذليل لمثل هذه الصعوبات الصغيرة. كانت إلينور قد رتبت من قبل لقاء في حانة كينجز آرمز في لامتون مع الكولونيل في الليلة السابقة للحفل من أجل أن تخبره بتغير الخطة.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «بالطبع لم أر السيدة يونج منذ كنا نجري معها مقابلة للعمل كمربية. وقد أذهلتني بسحرها الآن كما فعلت حينها. كما قدمت لي تفاصيل عن وضعها المالي. وقد أخبرت دارسي عن أنني كنت مقتنعا بأن ما تقدمه من اقتراح سيكون هو الأفضل من أجل الطفل، وبالطبع ما زلت أومن أنه سيكون من الأفضل للسيدة يونج أن تتبنى جورجي . وبعد أن أخذت على عاتقي الذهاب إلى كوخ الغابة حين كنا في طريقنا للتحقق من أمر طلقات النار، فكرت أنه من الصواب أن أخبر لويزا أن عشيقها هو ويكهام، وأنه متزوج وأنه وصديق له كانا مفقودين في الغابة. بعد هذا لن يكون هناك أي أمل أبدا للسيدة يونج - وهي صديقة ويكهام وكاتمة أسراره - أن تحصل على الطفل.»
فقال دارسي: «لكن لم يكن هناك أي خلاف قط على أن تكون لويزا قادرة على اتخاذ قرار بهذا الشأن.» ثم التفت دارسي إلى ويكهام. واستطرد: «كنت تضع في حسبانك أنك ستأخذ الطفل عنوة لو لزم الأمر.»
فقال ويكهام في لا مبالاة واضحة: «كنت سأفعل أي شيء، أي شيء، لأجعل إلينور تحصل على جورجي. إنه ابني، وكان مستقبله هو ما يهم كلينا. ومنذ تقابلنا أنا وإلينور وأنا لم أكن قادرا قط على إعطائها أي شيء في مقابل دعمها وحبها. والآن كان لدي شيء يمكنني أن أعطيها إياه، شيء كانت تريده هي بشدة، ولم أكن لأسمح لغباء لويزا وترددها أن يعرقلا ذلك.»
فقال دارسي: «وما هي تلك الحياة التي كان ذلك الطفل ليحياها، حين تربيه امرأة كتلك؟»
لم يجبه ويكهام. كانت أعينهم جميعا مثبتة عليه ورأى دارسي - من بين خليط من مشاعر الذعر والشفقة - أن ويكهام كان يكافح من أجل أن يسيطر على انفعالاته. كان سلوك الثقة الذي كان يروي به قصته - والذي يكاد يرقى إلى اللامبالاة - قد اختفى. مد ويكهام يده المرتجفة ليحصل على القهوة، لكن عينيه كانتا غارقتين بالدموع، فلم يكن يرى شيئا، ولم يفعل سوى أنه أسقط القهوة من على الطاولة. لكن أحدا لم يتحدث، ولم يتحرك حتى انحنى الكولونيل ووضع إبريق القهوة في مكانه بعد أن التقطه من على الأرض.
وفي النهاية وبعد أن سيطر ويكهام على نفسه قال: «كان الطفل سيجد الحب، أكثر مما وجدت أنا في طفولتي، أو أنت في طفولتك يا دارسي. إن أختي لم تلد طفلا قط، والآن كانت هناك فرصة أن تولي رعايتها لطفلي. ليس لدي شك أنها طلبت المال، فتلك كانت الطريقة التي تعيش بها، لكنها كانت ستنفق ذلك المال على الطفل. لقد رأته أختي. إنه طفل جميل. ابني طفل جميل. والآن لن أتمكن من رؤية أي منهما مرة أخرى أبدا.»
جاء صوت دارسي خشنا. «لكنك لم تستطع أن تقاوم مغريات الإفضاء إلى ديني. لم يكن أمامك للمواجهة سوى امرأة عجوز ولويزا، وآخر شيء كنت تريده هو أن تصاب لويزا بالهستيريا وترفض أن تسلم الطفل. كان لا بد أن يتم كل شيء في هدوء إن كنت لا تريد أن تثير انتباه الأخ المريض. كنت في حاجة إلى رجل آخر، صديق يمكن لك أن تعتمد عليه، لكن ديني لم يكن ليشارك قط في الأمر بمجرد أن فهم أنك ستأخذ الطفل عنوة إن لزم الأمر، رغم أنك وعدتها بالزواج، وهذا هو سبب تركه للعربة. كان اللغز أمامنا هو سبب ابتعاد ديني عن الطريق الذي كان سيعود من عليه إلى الحانة، أو لماذا لم يظل في العربة على نحو معقول أكثر حتى تصل العربة إلى لامتون عندما كان سيصبح بمقدوره أن يغادر من دون تفسير. لقد مات لأنه كان في طريقه ليحذر لويزا بيدويل من نواياك. والكلمات التي نطقت بها على جثته كانت حقيقية. أنت قتلت صديقك. لقد قتلته كما لو أنك ضربته بسيف. أما ويل، الذي كان يحتضر وحيدا، فقد ظن أنه كان يحمي أخته من غاو لها. وبدلا من ذلك فقد قتل الرجل الوحيد الذي كان قد أتى من أجل تقديم المساعدة.»
لكن ويكهام كان يفكر في موت شخص آخر. فقال: «حين سمعت إلينور كلمة «مذنب» كانت حياتها قد انتهت. كانت تعلم أنني سأكون ميتا في غضون ساعات. كانت ستقف عند سفح المشنقة وتشهد آخر معاناتي إن كان في ذلك راحة لي في خاتمتي، لكن هناك بعض الفظائع والأهوال التي لا يمكن حتى للحب أن يصمد أمامها. ليس لدي شك أنها كانت قد خططت لموتها من قبل. فقد خسرتني أنا والطفل، لكن على الأقل كان بإمكانها أن تحرص على أنها سترقد مثلي في قبر مدنس.»
كان دارسي على وشك أن يقول إن تلك المهانة الأخيرة كان تفاديها ممكنا، لكن ويكهام أخرسه بنظرة منه وقال: «كنت تزدري إلينور في حياتها، فلا تتفضل عليها الآن وقد ماتت. إن القس كورنبندر يقوم بما هو ضروري ولسنا في حاجة إلى مساعدة منك. فهو يتمتع بسلطة في مجالات بعينها في الحياة لا يتمتع بها حتى السيد دارسي مالك بيمبرلي.»
لم ينطق أحد بكلمة. وفي النهاية، قال دارسي: «ماذا حدث للطفل؟ أين هو الآن؟»
وكان الكولونيل هو من أجابه. «أخذت على عاتقي مهمة معرفة ذلك. لقد عاد الطفل إلى عائلة سيمبكنز؛ ومن ثم فالجميع يعتقد أنه مع والدته. لقد تسبب مقتل ديني في الكثير من القلق والاضطراب في بيمبرلي، ولم تجد لويزا صعوبة في إقناع عائلة سيمبكنز أن يستعيدوا الطفل ويبعدوه عن الخطر. وقد أرسلت لهم مبلغا كبيرا من المال من دون الإفصاح عن هويتي، وعلى حد علمي لم يكن هناك أي مقترح بأن الطفل سيترك العيش مع عائلة سيمبكنز، رغم أن المشكلات قد تنشأ في العاجل أو الآجل. لكنني لا أرغب في أن أكون مشاركا في هذا الشأن أكثر من ذلك؛ ومن المرجح كثيرا أنني سأتولى شأنا أكثر أهمية. إن أوروبا لن تتحرر من بونابارت حتى يهزم شر هزيمة في البر والبحر، وآمل أن أكون من بين أولئك الذين سيحظون بشرف المشاركة في تلك المعركة الكبرى.»
كان الجميع الآن منهكا ولم يجد أحد شيئا آخر لديه كي يدلي به. وكان من المريح لهم أن فتح السيد جاردنر الباب ليعلن عن قدوم السيد كورنبندر في وقت أبكر من المتوقع.
الفصل الخامس
رفعت عن كواهل الجميع أثقال من الشعور بالقلق والانزعاج بانتشار أخبار العفو عن ويكهام، لكن لم يكن هناك تفش لمظاهر الابتهاج بذلك. فقد تحمل الجميع الكثير؛ فلم يعد بإمكانهم فعل شيء أكثر من تقديم أصدق الشكر على نجاته، والاستعداد للاستمتاع بالعودة إلى منازلهم. كانت إليزابيث تعرف أن دارسي يشاركها حاجتها الملحة في بدء رحلة العودة إلى بيمبرلي، وفكرت أن باستطاعتهما أن ينطلقا في رحلتهما في الصباح التالي. إلا أن ذلك كان مستحيلا. فقد كانت هناك أعمال يقوم به دارسي مع محاميه فيما يتعلق بنقل الأموال إلى القس كورنبندر، ثم منه إلى ويكهام، كما تسلم خطابا من ليديا في اليوم السابق يقول إنها ستأتي إلى لندن لترى زوجها الحبيب حين تسنح الفرصة الأولى لذلك، وأنها ستعود معه إلى لونجبورن مبتهجين بنجاته. ستسافر ليديا بعربة العائلة وسيصحبها خادم، ورأت أن من المسلم به أنها ستمكث في شارع جريستشرش. ومن السهل أن يتم إيجاد فراش لجون في نزل محلي. وحيث إنها لم تذكر الوقت الذي من المرجح أن تصل فيه في اليوم التالي، انشغلت السيدة جاردنر من فورها في إعادة ترتيب المكان، وكانت تحاول بطريقة ما أن تتدبر مساحة لعربة ثالثة في الإسطبل. وكانت إليزابيث تشعر بإنهاك شديد، وتطلب الأمر منها إرادة قوية لكي تكبح نفسها من الانخراط في تنهيدات عميقة. وكانت رغبتها في رؤية الأطفال هي الرغبة الأولى أمامها الآن، وكانت تعلم أن دارسي يشاركها إياها، وخططا معا أن ينطلقا في رحلتهما في اليوم بعد التالي.
وبدأ اليوم التالي بإرسال خطاب سريع إلى بيمبرلي يعلمان فيه ستاوتن بالموعد المرتقب لوصولهما إلى المنزل. وبإتمام كل الأمور الرسمية الضرورية وكذا حزم الحقائب، بدا أن هناك الكثير من الأشياء التي على إليزابيث ترتيبها بحيث لم تر دارسي إلا قليلا. كان قلباهما مثقلين فلم يستطيعا التحدث، وكانت إليزابيث تعلم - أكثر مما تشعر - أنها سعيدة أو ستكون سعيدة بمجرد أن تصل إلى منزلها. وكان الجميع قلقا من أن يجد حشدا صاخبا من المهنئين طريقهم إلى شارع جريستشرش بمجرد أن تنتشر أخبار العفو، لكن هذا لم يحدث لحسن حظهما. أما العائلة التي رتب كورنبندر لويكهام أن يمكث معها فكانت مجهولة تماما، وكان موقع سكنها غير معروف، وكانت الزمرة التي تريد التهنئة من الناس تتجمع حول السجن.
ثم وصلت عربة آل بينيت وفيها ليديا بعد الغداء في اليوم التالي لذلك ، لكن ذلك لم يثر اهتمام العامة أيضا. ومما أصاب عائلة جاردنر وعائلة دارسي بالارتياح أن ليديا تصرفت بعقلانية ورشد أكثر مما كان متوقعا منها. فالاضطرابات التي مرت بها في الشهور السابقة ومعرفتها أن زوجها يحاكم وحياته على المحك قد أخمدا صخب سلوكها المعتاد منها، بل إنها حتى شكرت السيدة جاردنر على ضيافتها، وأظهرت لذلك شيئا يقارب امتنانا صادقا واعترافا بما تدين به لكرمهم وحسن ضيافتهم. أما مع إليزابيث ودارسي فكانت أقل اطمئنانا، لكنها لم تنطق لهما بكلمة شكر.
وقبل العشاء أتى القس كورنبندر من أجل أن يأخذها إلى مكان مسكن ويكهام. وقد عادت بعد ثلاث ساعات تحت جنح الظلام بروح معنوية مرتفعة. كان لا يزال زوجها ويكهام الوسيم الشجاع الذي لا يقاوم، وراحت تتحدث عن مستقبلهم معا بكل ثقة تؤكد أن تلك المغامرة هي بداية ازدهارهما وشهرتهما. كانت ليديا دائما مستهترة، وكان من الواضح تماما أنها تتوق مثل ويكهام إلى الهجرة من إنجلترا للأبد. ثم التحقت بويكهام حيث يسكن في حين كان زوجها يسترد عافيته، وما كان تحملها لصلوات مضيفها المبكرة وكذلك صلوات المائدة التي كان يتلوها قبل كل وجبة إلا قليلا، وبعد ثلاثة أيام كانت عربة آل بينيت تقعقع عبر شوارع لندن، وتقترب من الطريق المؤدي للشمال نحو هيرتفوردشاير ولونجبورن.
الفصل السادس
استغرقت الرحلة إلى ديربيشاير يومين؛ حيث إن إليزابيث كانت تشعر بإعياء شديد، ولا ترغب في السفر ساعات طوالا على الطريق. وبحلول منتصف صباح يوم الإثنين التالي للمحاكمة أحضرت العربة عند الباب الأمامي، وبعد أن عبر آل دارسي عن شكرهم الذي كان من الصعب عليهم إيجاد الكلمات المناسبة له، كانوا في طريقهم إلى المنزل. وكانا غافيين في معظم أوقات الرحلة، لكنهما كانا مستيقظين حين عبرت العربة حدود الريف إلى ديربيشاير، وبسرور بالغ من جانبهما كانت العربة تمر عبر القرى المألوفة لهما، وفي الشوارع التي راحا يتذكرانها. كانا يعلمان بالأمس أنهما سعداء فقط؛ أما اليوم فأصبحا يشعران بقوة الفرحة وهي تشع من كل خلية في كيانهما. وما كان وصولهما إلى منزل بيمبرلي ليختلف كثيرا عن رحيلهما عنه. فقد كان الخدم بأكملهم مصطفين وهم يرتدون زيهم الرسمي النظيف المكوي من أجل تحيتهم، وكانت عين السيدة رينولدز دامعة حين انحنت لتحيتهم ورحبت بإليزابيث في صمت حيث كانت مشاعرها أعمق من أن توصف بالكلمات.
وكان أول ما زارا هو غرفة الحضانة، حيث حياهما فيتزويليام وتشارلز بصيحات وقفزات تنم عن الغبطة، وأمضيا بعض الوقت يسمعان الأخبار من السيدة دونوفان. وقد حدث الكثير من الأشياء في أثناء الأسبوع الذي قضياه في لندن، حتى إن إليزابيث شعرت وكأنها غابت شهورا. ثم حان الوقت للسيدة رينولدز لتقدم تقريرها. فقالت: «تأكدي فضلا يا سيدتي أنني ليس لدي أي أخبار محزنة أقولها لك، لكن هناك شأن ذو أهمية ينبغي علي أن أتحدث إليك به.»
فأشارت إليزابيث إلى أن يذهبا كالمعتاد إلى غرفة جلوسها الخاصة. ودقت السيدة رينولدز الجرس ووجهت بأن يأتيهما الشاي، وجلستا أمام النار التي كانت قد أشعلت من أجل أن تبعث المزيد من الراحة أكثر مما أشعلت من أجل بث الدفء، وبدأت السيدة رينولدز حديثها. «لقد سمعنا بالطبع عن اعتراف ويل فيما يتعلق بموت الكابتن ديني، وهناك الكثير من التعاطف مع السيدة بيدويل، رغم أن عددا من الناس انتقدوا ويل؛ لأنه لم يتحدث في وقت مبكر ووفر على السيد دارسي وعليك والسيد ويكهام الكثير من الكرب والمعاناة. لا شك أنه كان مدفوعا بحاجته إلى امتلاك الوقت؛ لإصلاح العلاقة بينه وبين الرب، لكن البعض يشعرون أن ثمن ذلك كان غاليا جدا. لقد دفن في باحة الكنيسة؛ وقد تحدث السيد أوليفانت عنه بكل صدق، وشعرت السيدة بيدويل بالامتنان لحضور عدد كبير من الناس جنازته، وجاء الكثير منهم من لامتون. كانت الأزهار جميلة للغاية، وجمعت والسيد ستاوتن إكليلا ليرسل إلى الكنيسة باسم السيد دارسي واسمك. فقد كنا واثقين من أن هذا هو ما ستفعلان. لكنني أريد أن أحدثك عن لويزا.
لقد جاءتني في اليوم التالي لمقتل الكابتن ديني وطلبت مني أن نتحدث في سرية تامة. فأخذتها إلى غرفة جلوسي حيث انهارت من حزن عظيم يصيبها. وحين تمكنت من تهدئتها بعد الكثير من الصبر وبصعوبة كبيرة، أخبرتني بقصتها. لم يكن لديها أدنى فكرة أن والد طفلها كان السيد ويكهام، وذلك حتى زار الكولونيل الكوخ ليلة وقوع المأساة، ويؤسفني يا سيدتي أنها انخدعت بشدة بالقصة التي أخبرها هو بها. لم تكن لويزا ترغب في رؤيته مرة أخرى إطلاقا، وقد بدأت تكره الطفل. ولم يعد السيد سيمبكنز أو أختها يرغبان في تربية الطفل، ولم يكن جوزيف بيلينجز - الذي عرف بأمر الطفل - مستعدا لأن يتزوج بها إن كان هذا يعني أن يتحمل مسئولية ابن رجل آخر. لقد باحت له بسر عشيقها، لكنها لم تكشف قط اسم السيد ويكهام، ومن رأيي ورأي لويزا أيضا أنه ينبغي ألا يكشف عنه أبدا من أجل أن ننأى ببيدويل عن الخزي والكرب. كانت لويزا في حاجة ماسة إلى إيجاد منزل يحتضن جورجي، وكان هذا هو سبب مجيئها لي، وكنت مسرورة لمساعدتها. قد تذكرين يا سيدتي أنني تحدثت عن أرملة أخي - اسمها السيدة جودارد - التي كانت تملك مدرسة ناجحة لبعض السنوات في هايبيري. وقد تزوجت إحدى الساكنات عندها وهي الآنسة هاريت سميث من مزارع محلي اسمه روبرت مارتن، وهما سعيدان معا. ولهما من البنات ثلاث، ومن الأبناء واحد، لكن الطبيب أخبرها أن من غير المرجح أن تنجب المزيد من الأطفال وهي ترغب بشدة هي وزوجها في الحصول على ابن آخر ليكون رفيقا لابنهما. والسيد والسيدة نايتلي من دونويل هما أكثر الأزواج أهمية في هايبيري، والسيدة نايتلي صديقة للسيدة مارتن، وكانت دائما ما تبدي اهتمامها وحبها لأطفالها. كانت السيدة نايتلي جيدة بما يكفي لترسل لي خطابا - إضافة إلى تلك الخطابات التي تلقيتها من السيدة مارتن - لتؤكد لي مساعدتها واهتمامها المستمر بجورجي إذا ما أتى إلى هايبيري. وقد بدا لي أن هذا هو أفضل مكان يمكن أن يذهب إليه، ومن ثم فقد رتبنا أن يعود الطفل إلى السيدة سيمبكنز بأسرع ما يمكن حتى يؤخذ من بيرمنجهام بدلا من أن يؤخذ من بيمبرلي حيث سيتعرف على العربة التي سترسلها السيدة نايتلي بكل تأكيد. وقد سارت الأمور كما خططنا لها تماما، ثم تلقيت من الخطابات بعد ذلك ما يؤكد استقرار الطفل بأمان وسلام، وأنه سعيد وفاتن وتحبه العائلة بأكملها حبا كبيرا. وبالطبع، احتفظت بهذه المراسلات لتطلعي عليها. وحين علمت السيدة مارتن بأن جورجي لم يكن معمدا حزنت كثيرا، لكنها عمدته الآن في هايبيري تحت اسم جون؛ تيمنا بوالدها.
إنني آسفة لأنني لم أخبرك بهذا من قبل، لكنني وعدت لويزا بأن كل هذا سيحدث في سرية تامة رغم أنني أوضحت لها تماما أنني لا بد أن أخبرك يا سيدتي. كانت الحقيقة ستثير حزن بيدويل كثيرا، وهو يعتقد - كما يعتقد الجميع في بيمبرلي - أن الطفل جورجي قد عاد إلى أمه السيدة سيمبكنز. آمل أنني فعلت الصواب يا سيدتي، لكنني كنت أرى مدى رغبة لويزا الجامحة في ألا يستطيع الوالد إيجاد طفله مرة أخرى، وفي أن يكون الطفل في مكان جيد يحظى فيه باهتمام وحب كبيرين. ولويزا لا ترغب في أن تراه مرة أخرى، أو تعرف عن التقدم الذي يحرزه، وبالطبع لا تعرف البيت الذي ذهب إليه. كان يكفيها أن تعرف أن الطفل سيحظى بالحب والاهتمام.»
فقالت إليزابيث: «لم يكن هناك ما هو أفضل من ذلك لتقومي به وسأحترم ثقتك هذه بالطبع. وسأكون ممتنة كثيرا لو كان بإمكاني أن أقرر استثناء واحدا؛ حيث ينبغي أن يعرف السيد دارسي بذلك. وأنا متأكدة من أن السر لن يخرج من بيننا. فهل استكملت لويزا الآن خطبتها إلى جوزيف بيلينجز؟» «فعلت يا سيدتي، وقد خفف السيد ستاوتن من مهام جوزيف بيلينجز من أجل أن يحظى بقضاء المزيد من الوقت معها. في رأيي أن السيد ويكهام أصابها بالتشوش والقلق، لكن أيا كانت ما شعرت به تجاهه فقد تحول الآن إلى كره، وتبدو راغبة الآن في أن تتطلع للمستقبل وللحياة التي ستحظى بها وجوزيف معا في هايمارتن.»
كان ويكهام - بغض النظر عن مساوئه - رجلا ماهرا ووسيما وجذابا، وتساءلت إليزابيث ما إن كانت لويزا - وهي تلك الفتاة التي كان القس أوليفانت يعدها على درجة عالية من الذكاء - قد حصلت على لمحة من حياة أكثر إثارة، لكن لا شك أن أفضل ما يمكن أن يحدث قد حدث مع طفلها، وربما معها هي أيضا. سيكون مستقبلها أن تعمل خادمة صالون في هايمارتن - حيث ستكون زوجة كبير الخدم - وبمرور الوقت لن يكون ويكهام بالنسبة إليها سوى ذكرى بعيدة. وبدا من غير المنطقي لإليزابيث - بل ومن الغريب - أن تشعر لويزا بشيء من الأسى أو الندم.
خاتمة
في صباح أحد أيام بواكير شهر يونيو، تناول دارسي وإليزابيث إفطارهما معا في الشرفة. كان النهار ساطعا، ويحمل إمكانية رؤيتهما للأصدقاء ومشاركتهما البهجة. فقد تمكن هنري ألفيستون من أخذ إجازة قصيرة من مسئولياته في لندن، ووصل في المساء السابق، ومن المتوقع حضور عائلة بينجلي على الغداء والعشاء.
قال دارسي: «سأكون ممتنا كثيرا يا إليزابيث، إن سرت معي بجوار النهر. هناك أشياء في حاجة إلى أن أقولها؛ أشياء تطرق ذهني منذ مدة طويلة، وكان لا بد أن أبوح بها بيننا في وقت سابق.»
أذعنت إليزابيث، وبعد خمس دقائق كانا يسيران معا على الممر العشبي المجاور للنهر. وكانا في أثناء ذلك صامتين حتى عبرا الجسر؛ حيث يضيق مجرى النهر، ويؤدي إلى المقعد الذي وضع في ذلك المكان حين كانت الليدي آن تنتظر طفلها الأول؛ ليوفر لها مكانا مريحا وملائما. كان المقعد يطل على المنظر الجميل للماء، وخلفها منزل بيمبرلي، وهو مكان كان دارسي وإليزابيث يحبانه، ودائما ما كانا يتجهان إليه في مسيرهما. كان اليوم قد بدأ بضباب مبكر، وكان كبير البستانيين دائما ما يتنبأ بأن هذا ينبئ بيوم حار، والأشجار التي كانت قد خسرت البراعم الرقيقة الأولى لأوراق الربيع الخضراء، أصبحت الآن في أبهى حللها مكسوة بالأوراق، في حين اشتركت ضفاف الأزهار الصيفية ومياه النهر المتلألئة في احتفال حي بالجمال والوفاء.
وكان ما أشعرهما بالراحة هو وصول الخطاب الذي كثيرا ما طال انتظاره من أمريكا إلى لونجبورن، وتسلم إليزابيث نسخة منه هذا الصباح على يد كيتي. لم يكتب ويكهام سوى سرد مقتضب، وأضافت إليه ليديا بضعة أسطر على عجل. كانت استجابتهما تجاه العالم الجديد تنم عن الحماسة. فكتب ويكهام بصفة رئيسية عن الجياد الرائعة، وعن خططه هو والسيد كورنبندر على إنتاج جياد السباق، بينما كتبت ليديا أن ويليامزبيرج تعد متطورة في كافة المناحي والأشكال عن ميريتون المضجرة، وأنها كونت صداقات بالفعل مع بعض الضباط وزوجاتهم المتمركزين في حامية للجيش بالقرب من المدينة. وقد بدا من المحتمل أن ويكهام وجد أخيرا مهنة من المرجح كثيرا أن يستمر فيها؛ وفيما يتعلق بمسألة ما إذا كان قادرا على الاحتفاظ بزوجته، كان آل دارسي يشعرون بالامتنان كثيرا؛ نظرا إلى أن ثلاثة آلاف ميل من مياه المحيط تفصلهم عنها.
قال دارسي: «كنت أفكر في ويكهام وفي الرحلة التي واجهها هو وأختنا، وللمرة الأولى وبكل صدق أتمنى له التوفيق. إنني واثق من أن المحنة الكبيرة التي مر بها قد تؤدي حقا إلى الإصلاح الذي كان القس كورنبندر واثقا للغاية بشأنه، وأن العالم الجديد سيستمر في تحقيق كافة آماله وأمانيه، لكن الماضي جزء لا يتجزأ من تكوين الشخص في الحاضر، وأمنيتي الوحيدة الآن هي ألا أراه مرة أخرى أبدا. إن محاولته لإغواء جورجيانا كانت شائنة وبغيضة لدرجة أنني لا أستطيع أن أفكر فيها أبدا من دون أن أشعر بالمقت والاشمئزاز. لقد حاولت أن أبعد الحادثة كلها عن ذهني وكأنها لم تحدث، وهي حيلة كنت أعتقد أنها ستكون سهلة لو أنني وجورجيانا لم نتحدث عنها فيما بيننا.»
كانت إليزابيث صامتة للحظات. لم يكن ويكهام شبحا يلقي بظلاله على سعادتهما، ولا يمكن له أن يخرب الثقة التامة التي كانت بينهما سواء أتحدثا بها أم لم يفعلا. إن لم يكن ذلك زواجا سعيدا لما أصبح للكلمات معنى. كما أن صداقة ويكهام فيما مضى مع إليزابيث لم تذكر قط من قبل؛ وذلك بسبب دقة الأمر الذي كان كلاهما يشعر به، لكنهما كانا متفقين على رأيهما فيما يتعلق بشخصية ويكهام وأسلوب حياته، وشاركت إليزابيث زوجها عزمه على ألا يتم استقبال ويكهام في بيمبرلي مرة أخرى أبدا. وباحترامها لدقة الأمر نفسه لم تتحدث إليزابيث إلى دارسي قط عن هروب جورجيانا المقترح، الأمر الذي رأى دارسي أنه كان خطة من ويكهام ليضع يده على ثروة جورجيانا، ولينتقم لنفسه على الإهانات التي كان يظن أنه تعرض لها في الماضي. كان قلب إليزابيث يمتلئ بالحب تجاه زوجها والثقة في حكمه وقراره بحيث لم تكن به مساحة للانتقاد؛ ولم يكن بإمكانها أن تتخيل حتى أنها تصرفت مع جورجيانا من دون تفكير أو اهتمام، لكن ربما حان الوقت لكي يواجه الأخ وأخته ماضيهما، ويتحدثا عنه مهما كان قاسيا.
فقالت إليزابيث بنبرة رقيقة: «هل ذاك الصمت بينك وجورجيانا قد يعد خطأ يا عزيزي؟ علينا أن نتذكر أن شيئا كارثيا لم يقع. فقد وصلت إلى رامزجيت في الوقت المناسب واعترفت جورجيانا بكل شيء، وشعرت هي بارتياح كبير لفعل ذلك. إننا حتى لا نستطيع أن نتأكد من أنها كانت ستهرب معه في الواقع. ينبغي عليك أن تنظر إليها من دون أن تتذكر دوما ما هو مؤلم لكما. وأعرف أنها تتوق إلى أن تشعر بأنك سامحتها.»
فقال دارسي: «أنا من هو في حاجة إلى السماح. إن مقتل ديني جعلني أواجه مسئولياتي، ربما للمرة الأولى، ولم تكن جورجيانا وحدها هي من أصابها الجرح من إهمالي وتقصيري. لم يكن ويكهام ليهرب مع ليديا قط، ولم يكن ليتزوجها قط ويدخل عائلتكم إن كنت كبحت كبريائي، وأخبرت بحقيقته حين ظهر للمرة الأولى في ميريتون.»
قالت إليزابيث: «لم يكن بمقدورك أن تفعل ذلك من دون أن تفشي سر جورجيانا.» «ربما كانت كلمة تحذير في الوقت المناسب لتؤدي الغرض. لكن السوء والإثم يمتد لما هو أبعد من ذلك في الماضي؛ إلى قراري بأن أبعد جورجيانا عن المدرسة وأن أضعها في رعاية السيدة يونج. كيف لي أن أكون أعمى وغير مكترث ومهملا بهذه الدرجة، تجاه أبسط الاحتياطات. ألست أنا أخاها، والرقيب عليها، والشخص الذي وثق والدي ووالدتي فيه ليرعاها ويبقيها في أمان ؟ كانت في ذلك الوقت في الخامسة عشرة فقط من عمرها، ولم تكن سعيدة في المدرسة. كانت تلك المدرسة عصرية ومكلفة، لكنها لم تكن تقدم لها الحب والرعاية، بل نمت فيها الكبرياء وقيم عالم التأنق والعصرية، وليس التعليم النافع والمنطق السليم. كان من الصواب أن تغادر جورجيانا تلك المدرسة، لكنها لم تكن مستعدة لذلك الوضع الذي أعددته لها. فهي مثلي تتسم بالخجل من المجتمع ولا تثق به؛ وقد رأيت ذلك بنفسك حين كنت مع السيد والسيدة جاردنر وكنت تتناولين المرطبات للمرة الأولى في بيمبرلي.»
فقالت إليزابيث: «لقد رأيت أيضا ما كنت أراه دائما، وهو الثقة والحب الذي كان موجودا بينكما.»
ثم استطرد دارسي وكأنها لم تتحدث. فقال: «وقد وضعتها في ذلك الوضع - أولا في لندن - ثم عاقبتها بنقلها إلى رامزجيت! كانت في حاجة إلى أن تبقى في بيمبرلي؛ كانت بيمبرلي هي موطنها. وكان بإمكاني أن أحضرها إلى هنا، وأن أجد لها امرأة مناسبة لتكون رفيقتها، وربما بحثت لها عن مربية لتزيدها علما، أهملت حتى توفير القدر الضروري منه، وقد انشغلت حتى عن أن أكون بجوارها لأقدم لها الحب والدعم الذي يقدمه الأخ. بدلا من ذلك وضعتها تحت رعاية امرأة سأفكر فيها دوما على أنها كانت تجسيدا للشر، رغم أنها الآن ترقد ميتة، وتتجاوز أي مصالحة دنيوية. أنت لم تتحدثي عن هذا الأمر قط، لكن لا بد أنك تساءلت لماذا لم تظل جورجيانا معي في بيمبرلي، وهو المنزل الوحيد الذي تعده هي موطنا لها.» «أقر بأنني كنت أتساءل بين الحين والآخر، لكن بعد أن قابلتك وجورجيانا معا لم أستطع أن أصدق أنك تصرفت تجاهها بفعل أي دافع آخر سوى سعادتها ورفاهها. أما عن رامزجيت، فربما أوصى الأطباء بأن تنتعش بهواء البحر. ربما أصبحت بيمبرلي مشبعة جدا بالحزن بعد أن مات والداك فيها، وربما تسببت مسئوليتك تجاه التركة في صعوبة تخصيص وقت كبير لجورجيانا كما كنت ترغب. رأيت أنها كانت سعيدة لكونها معك وكنت واثقة من أنك كنت تتصرف تجاهها دوما كأخ محب لها .» هنا سكتت إليزابيث لحظة، ثم استطردت: «ماذا عن الكولونيل فيتزويليام؟ كان يرافقك كوصي. وأعتقد أنكما قابلتما السيدة يونج معا؟» «أجل، بالفعل. أرسلت عربة لتحضرها إلى بيمبرلي من أجل لقائها ثم دعوناها بعد ذلك لتمكث على العشاء. وباستعراض ما حدث حينها، يمكنني أن أرى كيف تم التلاعب بسهولة بشابين سريعي التأثر بها. لقد قدمت نفسها كخيار مثالي لمن يحصل على مسئولية فتاة يافعة. وقد ظهرت بذلك المظهر، وتحدثت بالكلمات المناسبة، وادعت بأنها ذات حسب ونسب، وأنها متعلمة وتكن تعاطفا تجاه اليافعين، وأنها تتمتع بأخلاق لا تشوبها شائبة وسلوكيات فوق مستوى الشبهات.» «ألم تذكر أحدا ممن يشهدون لها بذلك؟» «كانت استشهاداتها مذهلة. كانوا بالطبع أشخاصا مزيفين. وقبلناهم بصفة أساسية لأن مظهرها أغوانا، ولأنها بدت مناسبة ظاهريا للمهمة، وعلى الرغم من أننا كان ينبغي علينا أن نراسل أرباب عملها السابقين، إلا أننا أهملنا فعل ذلك. لم نتواصل سوى مع شخص واحد ممن استشهدت به وقد برهنت الشهادة التي تلقيناها فيما بعد أنه كان من معارف السيدة يونج، وأنه كان مزيفا كطلبها الأصلي. أعتقد أن فيتزويليام أرسل الخطاب، وأنه ظن أن الأمر كان متروكا لي وأتقبل أنا أن الأمر كان مسئوليتي؛ فقد استدعي للعودة إلى الفوج العسكري، وكان مشغولا بأشياء أكثر إلحاحا. إنني أنا من ينبغي عليه أن يحمل عبء الذنب. لا يمكنني أن ألتمس العذر لأي منا، لكنني التمست الأعذار لنا حينها.»
فقالت إليزابيث: «كان ذلك التزاما شاقا على شابين مثلكما لم يكونا متزوجين، حتى ولو كان أحدهما أخا. ألم يكن هناك أي قريبة أو صديقة مقربة للعائلة كان بمقدور الليدي آن أن تشركها كوصية على جورجيانا؟» «تلك كانت المشكلة. كان الخيار البديهي حينها هي الليدي كاثرين دي بيرج، وهي الأخت الكبرى لأمي. ولو اختارت أمي أحدا غيرها لدب شقاق سيدوم طويلا بينهما. لكنهما لم تكونا مقربتين قط، وكانت تصرفاتهما مختلفة تماما. كانت أمي تعد في العموم متزمتة في آرائها ومشبعة بكبرياء طبقتها الاجتماعية، لكنها كانت الأطيب والألطف تجاه من هم في حاجة أو ورطة، وكان حكمها لا يخطئ أبدا. وأنت تعرفين كيف هي الليدي كاثرين، أو بالأحرى كيف كانت. إن طيبتك الكبيرة معها بعد الفاجعة التي أصابتها هي ما بدأ يلين قلبها تجاهك.»
قالت إليزابيث: «لا أستطيع أبدا أن أفكر في مآخذ الليدي كاثرين من دون أن أتذكر أن زيارتها إلى لونجبورن، وإصرارها على معرفة ما إن كانت هناك خطبة بيننا، وإصرارها على منع ذلك إن كانت هناك خطبة هو في الواقع ما قربنا بعضنا من بعض.»
قال دارسي: «حين سردت كيف أجبت على تدخلها، عرفت أن هناك أملا. لكنك كنت امرأة بالغة؛ امرأة تحمل الكثير من الكبرياء بما لا يسمح أن تتغاضى عن غطرسة الليدي كاثرين. كانت الليدي كاثرين ستكون وصية كارثية على فتاة في الخامسة عشرة من عمرها. وكانت جورجيانا دائما ما تحمل في نفسها شيئا من الخوف تجاهها. وكنا دائما ما نتلقى الدعوات في بيمبرلي التي مفادها أنه يتعين على أختي أن تزور روزينجز. وكان اقتراح الليدي كاثرين أن تشارك أختي ابنة خالتها في مربية لهما وأن تنشآ معا كأختين.» «ربما بنية أن تصبحا أختين. فقد أوضحت لي الليدي كاثرين أنك كنت مقدرا لابنتها.» «كانت هي من قدرت ذلك، وليس أمي؛ وكان ذلك سببا إضافيا لعدم اختيار الليدي كاثرين كواحدة من الأوصياء على جورجيانا. لكنني على الرغم من أنني آسى على تدخل خالتي في حياة الآخرين، فإنها كانت ستصبح أكثر مسئولية مما كنت. ولم تكن السيدة يونج لتؤثر عليها. لقد خاطرت بسعادة جورجيانا، وربما بحياتها، حين وضعتها تحت وصاية تلك المرأة. كانت السيدة يونج تعرف منذ البداية ما تريد، وكان ويكهام جزءا من الخطة منذ اليوم الأول. لقد انشغل بمعرفة كل ما يحدث في بيمبرلي، وأخبرها أننا كنا نبحث عن رفيقة لجورجيانا، ولم تضيع هي وقتا في التقدم للوظيفة. وبقدرة ويكهام القوية في أسر النساء وإيقاعهن، عرفت السيدة يونج أن أفضل فرصة له ليحصل على نمط الحياة الذي شعر بأنه يستحقه هو الزواج من امرأة ثرية، وقد وقع اختياره على جورجيانا لتكون ضحيته.» «إذن أنت تظن أن تلك كانت خطة شائنة من جانبهما منذ اللحظة الأولى التي التقيتما فيها؟» «بلا أدنى شك. لقد خططت هي وويكهام إلى فرارهما منذ البداية. وقد اعترف هو بذلك حين كنا في شارع جريستشرش.»
جلس دارسي وإليزابيث بعض الوقت صامتين، وكانا يحدقان إلى حيث كان تيار الماء يدور ويلتف على الأحجار المسطحة على النهر. ثم نبه دارسي نفسه.
وقال: «لكن هناك المزيد وينبغي أن أتفوه به. كيف لي أن أكون غير عابئ ومتغطرسا بهذه الدرجة، بحيث أرغب في التفريق بين بينجلي وجين؟ لو أنني كلفت نفسي الحديث معها ومحاولة معرفة مدى طيبتها ورقتها، لأدركت أن بينجلي سيكون رجلا محظوظا إن استطاع الفوز بحبها. أعتقد أنني كنت أخشى أنني سأجد صعوبة كبيرة في التغلب على حبي لك إن تزوج بينجلي وأختك، وقد كان حبي لك شغفا أصبح حاجة ملحة، لكنها كانت حاجة أقنعت نفسي بأنني لا بد أن أتغلب عليها. وبفعل الظلال التي ألقتها حياة جدي الأكبر على العائلة تعلمت منذ نعومة أظفاري أن الممتلكات العظيمة تأتي بمسئوليات عظيمة، وأن مسئولية رعاية بيمبرلي والكثيرين الذين تعتمد حياتهم وسعادتهم عليها ستقع على عاتقي. وتعلمت أيضا أن الرغبات الشخصية والسعادة الفردية تأتيان دوما في المرتبة الثانية بعد هذه المسئولية التي تكاد تكون مقدسة.
كانت القناعة بأن ما أفعل كان خطأ هي ما أدت إلى ذلك العرض الأول الشائن، وحتى ذلك الخطاب الذي تبعه والذي أردت أن أبرر به جزءا على الأقل من سلوكي. لقد تقدمت للزواج منك عامدا بكلمات لا يمكن لأي امرأة تحب عائلتها أو تحترمها أو تتحلى بأي كبرياء أو احترام؛ أن تقبل بها، وبرفضك القاسي وخطابي الذي كنت أبرر فيه لنفسي اقتنعت أن كل أفكاري تجاهك قد قتلت ودفنت إلى الأبد. لكن هذا لم يحدث. فبعد أن افترقنا كنت لا تزالين تشغلين بالي وتملكين قلبي، وحين كنت أنت وعمك وعمتك تزورون ديربيشاير وحين التقينا صدفة في بيمبرلي عرفت بكل تأكيد أنني لا أزال أحبك ، وأنني لن أتوقف عن حبك أبدا. حينها بدأت أظهر لك - من دون أن يحدوني الكثير من الأمل - أنني تغيرت وأنني أصبحت الرجل الذي قد تظنين أنه يستحق أن يكون زوجا لك. كنت كطفل صغير يتباهى بألعابه ويئس من الفوز بالاستحسان.»
وبعد أن توقف برهة أكمل حديثه قائلا: «إن فجائية التغيير النابع من ذلك الخطاب الشائن الذي سلمته إليك في روزينجز، والغطرسة والغضب غير المبرر، والكبرياء والإهانة التي أهنت بها أسرتك، كل هذا متبوعا بعد وقت قصير بترحيبي بالسيد والسيدة جادرنر في بيمبرلي - ورغبتي في إصلاح الوضع، والتكفير عن ذنبي وكسب احترامك بطريقة ما، بل وحتى أملي فيما هو أبعد من ذلك، كان ملحا كثيرا بحيث لم يكبح التعقل والحذر جماحه. لكن كيف لك أن تصدقي أنني تغيرت؟ كيف يمكن لأي كائن عاقل أن يصدق ذلك؟ لا بد أن السيد والسيدة جاردنر حتى قد عرفا بسمعتي أنني أتسم بالغطرسة والكبرياء، وأنهما ذهلا من تغيري. وسلوكي تجاه الآنسة بينجلي، لا بد أنك وجدت ذلك مستهجنا. لقد رأيت ذلك حين أتيت إلى نيذرفيلد لزيارة جين حين كانت مريضة. لماذا أعطيت كارولين بينجلي أملا بأن زرت العائلة كثيرا، رغم أنني لم أكن أنتوي أي شيء تجاهها؟ لا بد أن فظاظتي معها كانت مهينة لها في بعض الأحيان. ولا بد أن بينجلي كان يعقد آمالا على وجود تحالف بيننا، ذلك الصديق العزيز. بالنسبة إلي، لم يكن سلوك صديق أو رجل نبيل تجاه أي منهما. الحقيقة أنني كنت مشمئزا من نفسي كثيرا، حتى إنني لم أعد مناسبا للعيش في مجتمع آدمي.»
قالت إليزابيث: «لا أظن أن كارولين بينجلي تشعر بالإهانة بسهولة حين تسعى وراء غرض ما، لكن إذا كنت مصرا على الاعتقاد أن خيبة أمل بينجلي من خسارته لتحالف أوثق تفوق عاقبة الزواج من أخته، فلن أحاول أن أحررك من هذا الوهم. لا يمكن أن تكون متهما بخداع أي منهما، فلم يكن هناك شك قط حول مشاعرك. وأما عن التغيير في سلوكك تجاهي، فلا بد أن تتذكر أنني كنت أعرفك وأقع في الحب. وربما صدقت أنك تغيرت لأنني كنت في حاجة إلى أن أصدق ذلك من كل قلبي. وإن كان التفكير المنطقي هو ما هداني إلى ذلك، ألم تثبت صحة تفكيري؟» «أوه يا عزيزتي، أنت محقة تماما.»
واستطردت إليزابيث: «لدي الكثير لأندم عليه كما لديك، وكان لخطابك ميزة، وهي أنه جعلني أفكر للمرة الأولى في أنني ربما أكون مخطئة بشأن جورج ويكهام؛ فكيف من غير المرجح أن الرجل النبيل الذي اختاره السيد بينجلي ليكون صديقه المقرب قد تصرف بالطريقة التي وصفها السيد ويكهام، وكان مراوغا فيما يتعلق بآمال والده، ولا يحركه سوى الحقد. إن الخطاب الذي تكرهه بهذه الدرجة كانت له فائدة واحدة على الأقل.»
فقال دارسي: «كانت تلك العبارات عن ويكهام هي الكلمات الوحيدة الصادقة في الخطاب برمته. من غريب أنني كتبت الكثير عامدا إلى الإساءة إليك وإهانتك، ولكنني لم أتحمل فكرة أن تنظري إلي على أنني الرجل الذي وصفه لك ويكهام، رغم أننا كنا مفترقين.»
اقتربت إليزابيث منه أكثر وجلسا في صمت مدة لحظات. ثم قالت: «لقد تغيرنا الآن عما كنا عليه حينها. دعنا لا ننظر إلى الماضي إلا لنستقي منه البهجة، ولننظر إلى المستقبل بكل ثقة وأمل.»
فقال دارسي: «كنت أفكر في أمر المستقبل. أعرف أنه من الصعب أن تقتلعيني من بيمبرلي، لكن ألن يكون من المبهج أن نعود إلى إيطاليا ونعيد زيارة الأماكن التي قضينا فيها رحلة زفافنا؟ يمكننا أن نسافر في نوفمبر ونتجنب الشتاء الإنجليزي. ولن نقضي وقتا طويلا في الخارج إن كنت لا تحبين أن تتركي الأولاد.»
هنا ابتسمت إليزابيث. «سيكون الأطفال في أمان في رعاية جين، أنت تعرف كم تحب هي أن تعتني بهم. والعودة إلى إيطاليا ستكون سارة كثيرا، لكن ينبغي علينا أن نؤجلها. كنت على وشك أن أخبرك بخططي لشهر نوفمبر القادم. في وقت مبكر من ذلك الشهر، آمل أن أحمل ابنتنا على ذراعي يا عزيزي.»
لم يستطع دارسي أن يتحدث، لكن فرحته التي غمرت وجهه وتسببت في ترقرق عينيه بدمعة، وكذلك قبضته القوية على يدها كانتا كافيتين. وحين استجمع شتات صوته قال: «هل أنت بخير؟ ينبغي أن أغطيك بشال. هل سيكون من الأفضل لو عدنا إلى المنزل لتستريحي. هل كان ينبغي أن تكوني جالسة هنا؟»
فضحكت إليزابيث. «إنني على ما يرام؛ ألست كذلك دوما؟ وهذا هو أفضل مكان أخبرك فيه بهذا الخبر. أنت تذكر أن هذا هو المقعد الذي كانت الليدي آن تستريح فيه حين كانت تنتظر قدومك. لا يمكنني بالطبع أن أعدك بفتاة. فهناك شعور يراودني بأنني سأكون أما للأولاد فقط، لكن إن كان المولود ولدا فسنجد له مكانا.» «سنفعل يا حبيبتي، في غرفة الحضانة وفي قلوبنا.»
وأثناء الصمت الذي تلا ذلك رأيا جورجيانا وألفيستون ينزلان عن السلم من منزل بيمبرلي نحو المرج الأخضر بجوار النهر. فقال دارسي بحدة هزلية: «ما هذا الذي أرى أيتها السيدة دارسي؟ أختنا والسيد ألفيستون يسيران يدا في يد وعلى مرأى من نوافذ بيمبرلي كلها؟ أليس هذا بصادم؟ ماذا يمكن أن يعني هذا؟» «أترك لك تحديد هذا يا سيد دارسي.» «لا يمكنني أن أستنتج سوى أن ألفيستون يريد أن يخبرنا بشيء، أو أنه يريد أن يطلب مني شيئا ربما.» «ليس ليطلب منك يا حبيبي. ينبغي أن نتذكر أن جورجيانا لم تعد خاضعة لوصايتك. سيكون كل شيء على ما يرام بينهما، وقد أتيا ليس ليطلبا شيئا وإنما ليخبراك. لكن هناك شيئا واحدا يحتاجان إليه ويأملان فيه، وهي مباركتك.» «سيحصلان على مباركتي من كل قلبي. لا يمكنني أن أفكر في رجل آخر أفضل منه لأطلق عليه أخا. وسأتحدث مع جورجيانا هذا المساء. لن يكون هناك المزيد من الصمت بيننا.»
ثم قاما معا من على المقعد، ووقفا يراقبان بينما يتقدم ألفيستون وجورجيانا نحوهما مسرعين عبر العشب اللامع، وقد تعالت أصوات ضحكاتهما فوق موسيقى تيار الماء، وكان كل منهما لا يزال ممسكا بيد الآخر.
ناپیژندل شوی مخ