والفلاسفة التجريبيون من الإنجليز: «لوك» و«هيوم» و«باركلي» وأتباعهم، هم من أولئك الذين نظروا إلى الفلسفة على أنها طريقة في التحليل، فلو استبعدت ما كتبوه في علم النفس؛ وجدت بقية آثارهم تحليلات لبعض المعاني،
9
وهكذا قل في «بنتام» و«جون ستيوارت مل»، فهؤلاء جميعا يحاولون التحديد والتحليل لهذا المعنى أو ذلك ... ولم نقل شيئا عن «كانت» الذي جاء الشطر الأعظم من فلسفته «نقدا» - أي تحليلا - للأسس التي تقوم عليها العلوم.
غير أن رجال المذهب الوضعي التحليلي المعاصر، يتفردون بما يميزهم حتى من أسلافهم الأقربين في القرن التاسع عشر - مثل «مل» و«ماخ» و«كارل بيرسن» - إذ يتميزون بحذفهم للميتافيزيقا من قائمة الكلام المقبول، فهم يحذفون الميتافيزيقا حذفا تاما على أساس تحليلاتهم المنطقية للعبارات اللغوية، ثم يتميزون كذلك بتفرقتهم بين قضايا المنطق والرياضة من جهة، وقضايا العلوم الطبيعية من جهة أخرى، على حين كان المحللون السابقون يفسرون هذه بما يفسرون تلك، كما فعل هيوم نفسه، أو يفسرون تلك بما يفسرون هذه كما فعل «مل» حين رد القضايا الرياضية إلى أصول حسية، وفي كلتا الحالين يكون إشكال، ففي الحالة الأولى ينتهي الأمر بالتشكك في العلوم الطبيعية ما دامت لا توصل إلى يقين الرياضة، وفي الحالة الثانية ينتهي الأمر بجعل قضايا الرياضة احتمالية لا يقينية.
فلئن كان التحليل شائعا في الفلسفة منذ قديم، إلا أن أصحاب التحليل من المعاصرين قد تميزوا بما يبرزهم - دون سائر الأسلاف - من خصائص (و«مور» على رأس هؤلاء المعاصرين)، وها نحن أولاء محدثوك فيما يلي عن بعض طرائق التحليل التي يصطنعها المعاصرون، التي تنتهي إلى ما انتهوا إليه من نتائج، وأهمها حذف الميتافيزيقا.
ليس المراد بالتحليل تعريفا للألفاظ، فالتعريف يكون للحدود كل على حدة، أما التحليل فيكون لعبارة كاملة، وفضل التحليل على التعريف هو أنه حينما يتعذر تعريف حد ما تعريفا مباشرا؛ نلجأ إلى تحليل العبارة التي يرد فيها ذلك الحد المراد تعريفه، فإذا ما استبدلت بالعبارة كلها عبارة أخرى تساويها معنى، مع استغنائها عن الحد المراد تعريفه، كنت بمثابة من قدم تعريفا لذلك الحد بطريق غير مباشر.
لكن ليس المراد بالتحليل أن نترجم عبارة إلى عبارة أخرى مساوية لها في معناها - سواء كانت الترجمة إلى نفس لغة العبارة الأولى أو إلى لغة أخرى - بل لا بد أن تجيء العبارة الثانية التي هي تحليل للأولى أكثر إبرازا للعناصر التي تنطوي عليها العبارة الأولى، بهذا لا يكون التحليل مجرد ترجمة عبارة إلى عبارة تساويها، بل يشترط - كما قلنا - أن تجيء العبارة الثانية مساوية للأولى في معناها، ومضافا إلى ذلك زيادة في الوضوح وفي عرض عناصر المعنى؛ لأنه لو كانت العبارة «ك» مجرد ترجمة للعبارة «ق» لا أكثر، فإن «ق» تكون أيضا ترجمة للعبارة «ك»، أما إن كانت «ك» تحليلا للعبارة «ق»، فلا تكون «ق» تحليلا للعبارة «ك».
ونسوق لذلك مبدئيا مثلا بسيطا، ساقه «مور» في هذا الصدد: إنني أكون قد حللت عبارة «زيد شقيق عمرو» حين أبرز العناصر المضغوطة في كلمة «شقيق»، فأقول: «إن زيدا وعمرا ذكران، والوالدان اللذان أنسلا زيدا هما الأبوان اللذان أنسلا عمرا»، فها هنا أسمي العبارة الثانية تحليلا للأولى، لكن ليست الأولى تحليلا للثانية، ولو كان الأمر مجرد وضع عبارة مكان أخرى تساويها معنى؛ لكانت الأولى تحليلا للثانية بمقدار ما تكون الثانية تحليلا للأولى، فالعنصر الهام في عملية التحليل هو السير نحو الزيادة في الوضوح بإبراز العناصر الخبيئة في العبارة المراد تحليلها، ويختصر «الدكتور وزدم» عملية التحليل بالوصف الموجز الآتي:
إنك تحلل القضية «ق» لو وجدت عبارة أخرى «ق
1 » تكشف عن مكنون «ق» أكثر من «ق» نفسها.
ناپیژندل شوی مخ