ولو كانت «الميتافيزيقا» عند «كانت» هي هذا التحليل، كان هذا الفيلسوف العظيم في طليعة الفلاسفة بالمعنى الذي نقبله لهذه الكلمة، وهو أن «الفلسفة» إما أن تكون تحليلا لكلام الناس، وإما ألا تكون شيئا.
الفصل الثالث
الميتافيزيقا المرفوضة
1
نريد إذن أن نجعل الفلسفة تحليلا منطقيا لقضايا العلوم وعبارات التفاهم في حديثنا اليومي، وقد أسلفنا لك القول (في الفصل الأول) بأن «الفلسفة» لم تكن دائما بهذا التحديد، إنما جرى العرف في كثير من الأحيان أن تدخل فيها مباحث «شيئية» أو «عينية» إلى جانب هذا التحليل المنطقي الذي نريده، وقد كانت هذه المباحث الشيئية تنقسم قسمين رئيسيين؛ فقسم يبحث في «أشياء» لا تدخل في حدود التجربة الحسية كالمطلق والعدم وما إليهما، وهو ما يطلق عليه عادة اسم الميتافيزيقا، وقسم آخر يبحث في «أشياء» العلوم نفسها، كأن تبحث مثلا في الإنسان والطبيعة وما إليهما، وهو ما يطلقون عليه عادة اسم الفلسفة الطبيعية، وقد ذكرنا لك فيما مضى أننا نقترح ترك هذا القسم الثاني من المباحث الفلسفية إلى العلوم ورجالها، فهم أولى به؛ لأنهم بموضوعاته أدرى وعلى بحثه أقدر، كما ذكرنا لك أيضا أننا نريد حذف القسم الأول - أعني الميتافيزيقا بمعناها السالف الذكر - لأن التحليل ينتهي بأقوالها إلى غير معنى، وبذلك لا يبقى للفلسفة إلا ما أردناه لها، وهو تحليل العبارات اللغوية.
إن فلسفتنا التحليلية تقضي على الميتافيزيقا بالحذف لاستحالة أن يكون لكلامها معنى، لكنك قد تقول: إن لكلمة «الميتافيزيقا» معان كثيرة، اختلفت باختلاف الباحثين فيها، فبأي معنى تريد حذفها؟ ما هي «الميتافيزيقا» على وجه التحديد، تلك التي تريد حذفها من دائرة الكلام المفهوم؟
وأظننا - إذ نحاول الإجابة عن هذا السؤال - نرتكز على أرض ثابتة، إذا نحن اتخذنا أرسطو أساسا لنا في تحديد المعنى المراد؛ لأنه هو الذي أنشأ أول كتاب أجمع دارسو الفلسفة جميعا على أنه «ميتافيزيقا»
1
مهما اختلفوا بعد ذلك في تحديد معنى هذه الكلمة، فإنه لمما يستوقف النظر حقا أن «فلاسفة كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجا غزيرا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قط مراجعة أساسية للجواب عن سؤالنا: ما هي الميتافيزيقا؟ وكذلك ازور عن الميتافيزيقا كثيرون، حتى لقد أعلنت طائفة كبيرة من هؤلاء أن الأمر كله من فاتحته إلى ختامه كلام بغير معنى على الإطلاق، لكن حتى هؤلاء لم يتناولوا في كلامهم مراجعة أساسية يبحثون بها ماذا عسى هذه الميتافيزيقا أن تكون.»
2
ناپیژندل شوی مخ