لا تزال هناك
هناك حيث ولدت في أرض إسبانيا.
وليلة أقمنا جمعية «بوكر» صخابة، و«أركوس» في يده أربع «بنات»، وفي يدي أربعة «ملوك»، وطفقنا نتزايد، فلما دفع بكل ما أمامه إلى الصحن، انتزع بنطلونه ووضعه على الطاولة، وحين رأى الأربعة «الملوك» في يدي، دار بوجهه إلى الغابة خاطبا: «ألا اشهدي يا باسقات الأشجار، ودوني يا طيورها، إن «أركوس» ما عرى جسده عن بنطلونه لو عرف أنه في حضرة ملوك أربعة!»
ويوم انتثرنا وهجرنا البلدة إلى الأحراج، كيف جاء «أركوس» يودعنا باكيا، وكيف فر إلى «مانيلا» واختبأ في أحد بيوتها، وكيف جاءه اليابانيون فأقفلوا الأبواب عليه وعلى عائلته وكلبه، وكيف رشوا الزيت وأشعلوا النار، فلم يظهر بعدئذ في رماد تلك العائلة إلا سن «أركوس» الذهبية.
وها أنا ومخيبر على الدرجات الرخامية السبع نتذكر! وأيام الجوع، حينما نغلي أوراق البطاطا البرية، ونحسوها شورباء! وحين طاردنا ذلك الديك أربعة كيلومترات حتى ظفرنا به! وكيف عشنا على الرز المسلوق طوال شهرين، لا قهوة، ولا سكر، ولا دخان، ولا شيء نأكله، إلا الخوف والجوع والرز المسلوق وبعض الأعشاب؟!
ومخيبر كيروز، هذا الواقف إلى جانبي، من ينسى إقدامه إذ سمع صياح جارة له عجوز تستغيث من منزل اشتعلت فيه النيران، كيف قحم السعير، واحتمل العجوز وقفز بها من النافذة، فلما هنئوه على شجاعته، أجاب متواضعا: ظننتها صبية!
وقفت على تلك الدرجات أستعرض الماضي المروع، فلا أشعر بغصة، وأصغي إلى قلبي فلا أسمع خفقانه، وألمس عيني فلا دموع. هل حجرت المآسي عواطفي، حتى لأقف على أطلال منزل الصديق الحبيب الذي مات وعائلته حريقا فلا أتأثر؟ لقد مضى عام على تلك الفواجع، فمتى تمتصها مشاعري وترسب في قلبي وتطفو على إحساسي؟ متى أحدث الناس بهذه الحكايات، إن لم أحدثهم بها اليوم؟ ولئن لم تملك الأحزان نفسي، فلم لا يهزها زهو الظفر؟ فهؤلاء اليابانيون القتلة الطغاة هم يعضون التراب، وها نحن ننعم بالحرية نفعل ما نشاء ونصيح بما نريد. ولقد أتخمنا أكل الدجاج حتى إذا رأيت دجاجة هربت منها. وها هي سيارتي ذات الثمانية سلندرات تلمع على جانب الطريق، مذيعة أن أيام فقري تولت؛ فما بالي لا يهزني الفرح؟ أحقا أن عذاب الأماني تبقى عذابا حتى تتحقق فتفسد؟ هل انقلبت عاطفتي إلى جماد، فلا ذكرى الأوجاع تهزها، ولا نشوة الفوز تسكرها؟ رب يسر لي دمعة أذرفها أو خفقة في قلبي، تثبت لي أني لا أزال حيا!
ولقد تاهت بي التأملات؛ فغفلت أن مخيبر لا يزال هناك قريبا مني، فأيقظني صوته مخاطبا: سعيد! «نعم» أجبت. وتطلعت إليه فإذا هو غير الفتى الذي عرفته الدقائق التي خلت.
يمر على الإنسان في حياته لحظات يبدو فيها أكبر من الدنيا، هكذا ظهر في تلك اللمحة مخيبر كيروز؛ فقد طغى على محياه نور سماوي، وتنهد فاشرأب صدره الفسيح، وتاهت نظراته كأنه نبي يسمع وحيا. - سعيد ... لو أن «أركوس» حي!
شكرا لك ربي! إن الكلمة الكبرى التي خرست عنها سينطق بها رفيقي. هذا مخيبر ابن «أرز الرب»، ابن «بشراي»، مواطن جبران خليل جبران. هذا فتى الفطرة الذي لم تفسده الثقافة. إنه ليفوه بكلمة أكبر من هذه الهضبة التي نحن عليها.
ناپیژندل شوی مخ