موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

ابن محمد جمال الدين قاسمي d. 1332 AH
32

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

پوهندوی

مأمون بن محيي الدين الجنان

خپرندوی

دار الكتب العلمية

مَعَ الْغَفْلَةِ لَيْسَ بِمُنَاجَاةٍ الْبَتَّةَ، وَلَوْ حَلَفَ الْإِنْسَانُ وَقَالَ: لَأَشْكُرَنَّ فُلَانًا وَأُثْنِي عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ حَاجَةً، ثُمَّ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى لِسَانِهِ فِي النَّوْمِ لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَوْ جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ حَاضِرٌ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُضُورَهُ وَلَا يَرَاهُ لَا يَصِيرُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ، إِذْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ خِطَابًا وَنُطْقًا مَعَهُ مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ حَاضِرًا فِي قَلْبِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَجْرِي هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ إِلَّا أَنَّهُ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ غَافِلٌ لِكَوْنِهِ مُسْتَغْرِقَ الْهَمِّ بِفِكْرٍ مِنَ الْأَفْكَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ يُوجِبُهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ عِنْدَ نُطْقِهِ لَمْ يَصِرْ بَارًّا فِي يَمِينِهِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ، وَالْمُخَاطَبُ هُوَ اللَّهُ ﷿، وَالْقَلْبُ بِحِجَابِ الْغَفْلَةِ مَحْجُوبٌ عَنْهُ فَلَا يَرَاهُ وَلَا يُشَاهِدُهُ، بَلْ هُوَ غَافِلٌ عَنِ الْمُخَاطَبِ وَاللِّسَانُ يَتَحَرَّكُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَمَا أَبْعَدَ هَذَا عَنِ الْمَقْصُودِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِتَصْقِيلِ الْقَلْبِ وَتَجْدِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ ﷿ وَرُسُوخِ عَقْدِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَحُضُورُ الْقَلْبِ هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ، وَمَنْ عَرَفَ سِرَّ الصَّلَاةِ عَلِمَ أَنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّهَا. بَيَانُ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ الَّتِي بِهَا تَتَمَيَّزُ حَيَاةُ الصَّلَاةِ يَجْمَعُ تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى كَثْرَتِهَا سِتُّ جُمَلٍ: حُضُورُ الْقَلْبِ، وَالتَّفَهُّمُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالْهَيْبَةُ، وَالرَّجَاءُ، وَالْحَيَاءُ، فَلْنَذْكُرْ تَفَاصِيلَهَا ثُمَّ أَسْبَابَهَا ثُمَّ الْعِلَاجَ فِي اكْتِسَابِهَا. أَمَّا التَّفَاصِيلُ: فَالْأَوَّلُ: حُضُورُ الْقَلْبِ وَنَعْنِي بِهِ أَنْ يَفْرَغَ الْقَلْبُ عَنْ غَيْرِ مَا هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ بِهِ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مَقْرُونًا بِهِمَا، وَلَا يَكُونُ الْفِكْرُ جَائِلًا فِي غَيْرِهِمَا، وَالتَّفَهُّمُ لِمَعْنَى الْكَلَامِ أَمْرٌ وَرَاءَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَهُوَ اشْتِمَالُ الْقَلْبِ عَلَى الْعِلْمِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، وَكَمْ مِنْ مَعَانٍ لَطِيفَةٍ يَفْهَمُهَا الْمُصَلِّي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالتَّعْظِيمُ وَرَاءَ الْحُضُورِ، وَالْفَهْمُ زَائِدٌ عَلَيْهِمَا، وَالْهَيْبَةُ زَائِدَةٌ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خَوْفٍ مَنْشَؤُهُ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ، وَالرَّجَاءُ الطَّمَعُ بِمَثُوبَتِهِ تَعَالَى، وَيُقَابِلُهُ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى بِتَقْصِيرِهِ، وَالْحَيَاءُ اسْتِشْعَارُ تَقْصِيرِهِ وَتَوَهُّمُ ذَنْبٍ. وَأَمَّا أَسْبَابُ هَذِهِ الْمَعَانِي السِّتَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ سَبَبُهُ الْهِمَّةُ، فَإِنَّ قَلْبَكَ تَابِعٌ لِهِمَّتِكَ فَلَا يَحْضُرُ إِلَّا فِيمَا يُهِمُّكَ، وَمَهْمَا أَهَمَّكَ أَمْرٌ حَضَرَ الْقَلْبُ فِيهِ شَاءَ أَمْ أَبَى فَهُوَ مَجْبُولٌ عَلَى ذَلِكَ وَمُسَخَّرٌ فِيهِ، وَالْقَلْبُ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَطِّلًا بَلْ جَائِلًا فِيمَا الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَا حِيلَةَ وَلَا عِلَاجَ لِإِحْضَارِ الْقَلْبِ إِلَّا بِصَرْفِ الْهِمَّةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْهِمَّةُ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مَنُوطٌ بِهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا. وَأَمَّا التَّفَهُّمُ: فَسَبَبُهُ بَعْدَ حُضُورِ الْقَلْبِ إِدْمَانُ الْفِكْرِ وَصَرْفُ الذِّهْنِ إِلَى إِدْرَاكِ الْمَعْنَى، وَعِلَاجُهُ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الْإِقْبَالِ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّشَمُّرِ لِدَفْعِ الْخَوَاطِرِ. وَعِلَاجُ دَفْعِهَا قَطْعُ مَوَادِّهَا، أَعْنِي النُّزُوعَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَنْجَذِبُ الْخَوَاطِرُ إِلَيْهَا.

1 / 35