Mawahib al-Jalil min Adillat Khalil
مواهب الجليل من أدلة خليل
خپرندوی
إِدارة إِحياء التراث الإِسلامي
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
(١٤٠٣ - ١٤٠٧ هـ)
د خپرونکي ځای
قطر
ژانرونه
الكتاب: مواهب الجليل من أدلة خليل
المؤلف: أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي
عني بمراجعته: عبد الله إبراهيم الأنصاري
الناشر: إِدارة إِحياء التراث الإِسلامي، قطر
الطبعة: الأولى
جـ ١، ٢: ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣ م
جـ ٣، ٤: ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٦ م
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا الكتاب
بقلم
فضيلة الشيخ عبَد الله إبرَاهيم الأنصاري
مدير عام إدارة إحياء التراث الإسلامي
بدولة قطر
الحمد لله الذي بفضله ونعمته تتم الصالحات. نحمده تعالى ونشكره، ونستعين به ونستغفره. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أهم ما يعتني به العبد في حياته نشر العلم، وتبليغه بأي طريقة تمكنه. وإن من أجل العلوم وأنفعها علم الفقه، الذي يستنير به العبد، حتى يعلم الطريقة التي هو عليها، بمعنى أنه بموجبه يعلم فرض عينه، ويعلم كذلك ما هو واجب عليه -على الكفاية- ومعلوم أن فروع المذاهب الأربعة المدونة تصدى لها فحول علماء المذاهب بالتدوين. وقد اعتنى أكثر هؤلاء باستجلاب الأدلة على مسائلهم الفرعية ما أمكن ذلك، فيزدان الفرع بذلك في عين طالب العلم، ويزداد تبصرًا في أمره. وأقلهم في ذلك مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي الحميري. وإن من أجلّ من دوّن في فروع هذا المذهب العلامة خليل بن اسحاق في مختصره الذي اختصر فيه توضيحه. ولقد أقبل عليه أهل المذهب المالكي إقبالًا لا مثيل له، بالشروح والحواشي والتعاليق، فكان لذلك المرجع الذي يعود إليه أهم مذهب مالك في الفتوى والقضاء والعمل، حتى أنهم ليحكون عن شيخه المنوفي أنه قال: نحن أناس خليليون، إن اهتدى اهتدينا. ومن عظيم عنايتهم أن القليل منهم من لم يحفظ المختصر.
1 / 3
غير أن كل هؤلاء الشيوخ الذين اعتنوا بشرح المختصر المذكور، لم يعطوا عناية لاستجلاب بعض أدلة هذه الفروع، ونفس طالب العلم تواقة إلى معرفة الدليل، حتى قيض الله لهذا العمل أحد طلاب المختصر، ألا وهو الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد المختار الجكني، المدرس بالمسجد الحرام، فقام باستجلاب ما وقف عليه من أدلة خليل، فجاء بحمد الله كتابه بمثابة تاج توج به فروع مذهب إمام الأئمة -إمام دار الهجرة- وغير خاف أنه لا يستطاع التدليل على كل المسائل الفروعية الاجتهادية، وذلك ما حمل المؤلف على تسمية كتابه: مواهب الجليل من أدلة خليل. فأتى بمن التبعيضية ليترك لنفسه خط الرجعة. وما لا يدرك كله لا يترك كله.
إن إدارة إحياء التراث الِإسلامي بدولة قطر، لفخورة بتزويد المكتبة الإِسلامية بالجزء الأول من هذا الكتاب ليحل مكانه اللائق بين رفوفها، وليسد الثغرة التي كانت تنتظره لدى طلاب المختصر الجليل، وسوف يليه بإذن الله بقية الأجزاء.
وإننا لندعو الله -جلت قدرته- أن يعين المؤلف على إتمامه حتى يتسنى لنا طبع بقية أجزائه. كما نرجوه تعالى أن يجزل المثوبة لنا وله، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجه الله تعالى، إنه سميع مجيب.
خادم العلم
عبد الله إبراهيم الأنصاري
مدير إدارة إحياء التراث الإسلامي
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذى بفضله ونعمته تتم الصالحات. أحمده حمدًا يوافي مزيد نعمه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، أحمده حمد موحد شاكر لما أنعم به من التوفيق، إلى النطق بكلمة التوحيد التي هي أفضل ما نطق به النبيون، كما ورد في الحديث الصحيح: "أفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ"، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وبارك على سيد المرسلين القائل: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّينِ" وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فيقول الفقير إلى رحمة مولاه وعفوه: أحمد بن أحمد المختار الجكني الابراهيمي ثم من المحاضر منهم، الشنقيطي إقليمًا، لقد كانت تساورني منذ أكثر من عشر سنوات فكرة وضع تعليق على مختصر خليل بن اسحاق المالكي يوضح ما تيسر من أدلته، ولقد زاد عزمي على القيام بهذا الموضوع، خصوصًا بعد وفاة شيخنا وابن عمنا فضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين بن المختار بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني ثم اليعقوبي، فقد كان، عليه رحمة الله، يذكر أنه، إن هو أنهى (أضواءُ البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، وبقيت له فسحة أجل، شرع فيها بإذن الله في وضع شرح على المختصر مؤيدًا بالدليل، لكنه توفي عليه رحمة الله في سبع عشرة خلت من ذي
1 / 5
الحجة، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، بعد أن أنهى الكتابة على سورة المجادلة، فكان من واجب تلامذة الشيخ إكمال المسيرة التي كان يواصلها الشيخ، وقد عرض علي بعض الزملاء أن أقوم بإكمال أضواء البيان، فأجبته بعدم استطاعتي لذلك، ورحم الله من عرف قدره، إني لا أستطيع القيام بما التزم به الشيخ؛ من كونه لا يجعل آية من القرآن موضع بحثه حتى تكون تشتمل على إجمال يوضحه القرآن في موضع آخر، مع التزامه الإِتيان بجميع ما يتوارد من القرآن مع تلك الآية، فلو أن الموضوع كان تفسيرًا عاديًا يعنى بالآية ولغتها وفقهها وسبب نزولها وما إلى ذلك، غير أنه لما كان الحال في إيضاح القرآن على ما درج عليه الشيخ ﵀ من أم الكتاب إلى نهاية المجادلة، فقد صرحت بعدم استطاعتي لإِكماله، وجزى الله خير جزائه صديقنا وزميلنا الشيخ عطية بن محمد سالم، القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، فقد قام بواجبه نحو إكمال أضواء البيان، ولما كنت أحد طلبة العلم الذين مارسوا دروس المختصر من أيام نعومة الأظفار، وكنت سمعت من الشيخ غير ما مرة أمنيته أن يتمكن من وضع شرح يوضح أدلة خليل، رأيت من واجبي الإِدلاء بدلوي لتحقيق بعض ما كان يتمناه شيخي عليه رحمة الله، في وضع هذا التعليق، أسوة بزميلي وصديقي الشيخ عطية بن محمد سالم، الذي حقق أمنيته في إكمال الأضواء مع قوة الفارق بيني وبين هذا الصديق، الذي يتبلور في قصوري وقلة اطلاعي وعدم وجودي للوقت اللازم لذلك، لاشتغالي يوميًا بتحصيل النفقة الواجبة.
ولقد كنت أفكر بعض الوقت في جعل نصيحة الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان موضوع تعليقي؛ لاستخراج أدلة ما اشتمل عليه هذا الشرح النفيس من
1 / 6
الفروع الفقهية، فقد كان هذا الشرح هو الذي درست المختصر به على شيخي في الفقه المالكي وقواعده، فضيلة الشيخ سيد جعفر بن سيد محمد بن سيد جعفر بن سيد علي بن سيد محمد بن سيد جعفر الشهير بـ "ديدي" الادريسي نسبًا الشريف، ولقد كدت أفعل لولا أني تذكرت قول رسول الله ﷺ: "الْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" أو كما قال ﷺ، فخشيت أن تتكرر قضية "المنهج إلى المنهج" من قبل أحد بني عمومتي من حفدة هذا الشارح، فعدلت عن ذلك وقررت وضع التعليق على المختصر نفسه، وحيث إن هذا المختصر وضع عليه حتى الآن حول مائة شرح وتعليق، فإنه أصبح غنيًا عن وضع شرح جديد يبين ألفاظه ويوضح معانيه وأحكامه.
لذلك، فقد قررت عدم الاعتناء بشرح المختصر محيلًا طلبة العلم في ذلك إلى عشرات الشروح التي تزخر المكتبات بها، لكنَّ موضوع عنايتي هو وضع ما استطعت الوقوف عليه من أدلة فروع هذا المختصر الذي هوما به الفتوى في مذهب الإِمام مالك بن أنس، الذي أُفضل الأخذ برأيه في مسائل الاجتهاد، وكثيرًا ما سمعت -ولا سيما في المشرق- من بعض طلبة العلم ممن كان ينتجع شكير الحزمية، الذي اهتز وربا حديثًا، كثيرًا ما كنت أسمع من بعض هؤلاء الذين لا يتردد طالب علم في أنهم من القسم الثاني، من حديث أبي موسى المتفق عليه: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ (به) مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ منهَا نُقْيَةٌ، أو قال، ثُغْبَةٌ قَبِلتِ الْمَاءَ، فَأنبتَت الْكَلَأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرِ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادَبُ أمْسكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تُنْبِت
1 / 7
الْكَلأَ فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
فالنبي ﷺ قسم الناس بالنسبة إلى ما جاء به من الهدى إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: شبه من تحمل العلم وتفقه به، بالأرض الطيبة يصيبها المطر فتنبت وينتفع الناس بها.
ثانيًا: شبه من تحمل العلم ولم يتفقه به بالأرض الصلبة التي لا تنبت، ولكنها تمسك الماء فيأخذه الناس وينتفعون به.
ثالثًا: شبه من لم يحمل علمًا ولم يتفقه، بالقيعان التي لا تنبت ولا تمسك الماء، فهو الذي لا خير فيه.
أقول: كثيرًا ما أسمع من بعض طلبة العلم -ممن هم من القسم الثاني من أقسام الناس بموجب هذا الحديث- يقولون: من أين لخليل قوله كذا؟. من أين لمالك قوله كذا؟. وما أدى بهم إلى ذلك إلا أنهم لم يتذوقوا طعم الفقه.
إنهم أوعية علم فقط ينتفع به من يسمعه منهم ممن فقهه الله في الدين، وذلك ما دعا رسول الله ﷺ إلى قوله: "نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ". وفي رواية: "فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ".
وقد كانت فروع المذهب المالكي من أكثر الفُروعِ جريًا على الأدلة، لا يماثله في ذلك أي مذهب من المذاهب المدونة فروعها، ذلك أن مذهبي الشافعي وأحمد معروفان بأنهما أهل الحديث، ومذهب أبي حنيفة معروف
1 / 8
بالرأي، وقد جمع مذهب مالك الأخذ من الكتاب والسنة والقياس.
قال في مراقي السعود:
وموجِبٌ تغليبَ الْارجحِ وَجَبْ … لديه بحثُ عن إمام منتخَب
إذا علمتَ فالإِمامُ مالكُ … صحَّ له الشأْوُ الذي لا يدركُ
للأثر الصحيح مع حسن النظر … في كل فن كالكتاب والأثر
ولما كان أصحابنا اشتغلوا في تدوين الأحكام بالاكتفاء بنسبتها إلى القائل بها من شيوخهم، دون استجلاب أدلتها، ثقة منهم بهم، واعتمادًا على قاعدة هي قولهم: الناقل أمين ما لم يثبت عدم ذلك، وجد الناقدون إليهم سبيلًا.
والحق أن هذه القاعدة غير مسلمة وأن الأصل في الناس الجرح حتى تثبت العدالة عندنا.؟!
قال في المنهج المنتخب:
طهارة الأعيان أصل وكذا … براءةٌ لا بعدَ تعمير خُذا
عكسًا بعكس ويسارٌ جرحُ … جمعٌ تساوٍ والظهورُ شرحُ
ومحل الشاهد من البيتين قوله: جرح، أي والأصل في الناس الجرح حتى تثبت العدالة، ونسبه شيخ مشائخنا محمد الأمين بن أحمد زيدان في المنهج إلى المنهج إلى مالك والشافعي.
على أني ألفت النظر إلى أنه ليس كل مسائل المختصر تنتمي إلى مذهب
1 / 9
مالك، لأن كل مسألة جاء دليل عليها من الكتاب أو السنة أومن إجماع الأمة، لا يمكن أن تضاف إلى مذهب كائن من يكون، ولا يجوز فيها التقليد أبدًا؛ إذ لا تقليد إلا في محل الاجتهاد، ولا يجوز الاجتهاد في محل ورد فيه نص؛ لأن نصوص الكتاب والسنة حاكمة على كل المجتهدين، ولا يجوز لأي مجتهد مخالفة النص بحال من الأحوال. نعم، قد يرد النص مجملًا فيحمله هذا المجتهد على أحد احتماليه أو احتمالاته بدليل شرعي، ويحمله الآخر على غير ذلك بدليل آخر؛ ولابد لطالب العلم أن يفرق بين الاتباع والتقليد، والفرق بينهما واضح؛ وهو أن كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلد له، وأن كل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبع له.
قال شيخنا ﵀ في أضواء البيان عند قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (^١) الآية -عند التنبيه الرابع- ما نصه: وأمَّا كون العمل بالوحي اتباعًا لا تقليدًا فهو أمر قطعي، والآيات الدالة على تسميته اتباعًا كثيرة جدًا. قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (^٢). وقال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (^٣). وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (^٤) وقال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
_________
(^١) سورة محمد: ٢٤.
(^٢) سورة الأعراف: ٣.
(^٣) سورة الزمر: ٥٥.
(^٤) سورة الأعراف: ٢٠٣.
1 / 10
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (^١). وقال تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (^٢). والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، فالعمل بالوحي هو الاتباع كما دلت عليه الآيات. ا. هـ. منه بتصرف.
فإذا تقرر ذلك أشكلت نسبة جميع ما في المختصر من المسائل إلى مذهب الإِمام مالك؛ لأن مسائل الزكاة والطهارة والصلاة والصوم والحج إلى غير ذلك من العبادات ثابتة في جلها بالنص، وكذلك جل المعاملات. والعبرة في جميع ذلك بالاتباع فقط، ولا مذهب فيه لكائن من يكون، إذ لا مذهب إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
على أنه سوف تفوت مسائل كثيرة لا يستطاع التدليل عليها، لأن السبيل إليها محض الاجتهاد البحت، مع أني سوف أبذل قصارى جهدي في إجرائها على قواعد المذهب، خلافيات كانت تلك القواعد أو وفاقيات؛ نحو قولهم: هل الأمر يقتضي تكرارًا أو لا؟. وهل يجب الأخذ بأول الأمور أو أواخرها؟. وهل النكاح قوت أو تفكه؟. ونحو ذلك. ومن أمثلة القواعد الوفاقيات: المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، ومن استعجل شيئًا قبل أو انه عوقب بحرمانه. إلى غير ذلك. وقد جعلت ديدني أني إن وجدت للمدونة نصًا في الموضوع سقته، فإن كان مرفوعًا اكتفيت به، وإن كان مجرد فتوى من الإمام نظرت، فإن عارضها النص أتيت به رادًا لتلك الفتوى، عملًا بقول قدوتي مالك ﵀
_________
(^١) سورة الأنعام: ١٥٥.
(^٢) سورة الأنعام: ١٠٦.
1 / 11
حيث ثبت عنه: ما وافق من رأي الكتاب والسنة فخذوا به، وما لا فاضربوا به الجدار. ا. هـ. وغير محتاج إلى لفت النظر إلى أني أضرب الذكر صفحًا عن الفروع المقدرة المفروضة وما أكثرها في المختصر. وبالله التوفيق.
هذا، والمركب صعب، والبضاعة مزجاة، ولذلك فقد حذوت حذو سلفي الصالح الشيخ خليل بن اسحاق -علينا وعليه رحمة الله- سائلًا بلسان التضرع والخشوع لله تعالى أن يعين وأن يوفق بمنه وكرمه إلى النظر بعين الرضا والصواب إلى عملي هذا، وأن يجعله خالصًا لوجهه تعالى، وأن يجعله من عملي الذي يجري عليَّ بعد موتي وعلى مشائخي، لأن ما تعلمته عليفم هو مما ورثوه من العلم.
وأعترف مقدمًا بالقصور وقلة الاطلاع، وأرجو من اطلع على خطإ ارتكبته إلى المبادرة بالتنبيه عليه، فإنه لا يسلم مؤلف من هفوة ولا جواد من كبوة، والأسوة في قوله ﵎: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (^١). ذكر أبو عبد الله القرطبي عند هذه الآية أنه لا يمكن بحال أن يؤلف مؤلف إلا ظهر فيه مصداق هذه الآية الكريمة، ويحكى لذلك عن قدوتنا وإمامنا محمد بن ادريس الشافعي عليه رحمة الله أنه لما أنهى الأم قدم المكتوب لأصحابه قائلًا: خذوا هذا، مع العلم أن به أخطاءً كثيرة. فردوا عليه أن أصلح الخطا قبل أن تناولنا الكتاب. فقال: لو اهتديت إلى مواضع الأخطاء ما وضعتها.
_________
(^١) سورة النساء: ٨٢.
1 / 12
فقالوا: وما يدريك إذًا؟. قال: كتاب الله تعالى حيث يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ ..
هذا الشافعي، فما ظنك بمن هو في القرن الخامس عشر؛ يغمره الجهل وتحيط به الشبهات في مأكله وملبسه ومسكنه، ويعوقه عدم التفرغ وقلة المراجع لقلة الامكانيات؟!.
وعلى كل حال فقد عزمت على تحقيق ما كان يتمناه شيخي في حياته بعد الاستخارة النبوية، متكلا على الله جل شانه، راجيًا منه تعالى التوفيق والعون والسداد والرشاد. وسميته (مواهب الجليل من أدلة خليل). وإني على قصوري وعجزي وعجري وبجري، لواثق بربي عزوجل أنه سوف يحقق أمنيتي بإكماله وبتوفيقي فيه وتيسيره لي، وأنه سوف يغمرني به وشيخي، بل وجميع مشائخي برضاه وبرحمته غدًا في الجنة مستقر رحمة الله، فقد صح لي عنه جلا وعلا فيما يرويه عنه نبيه ﷺ أنه قال: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" وظني به تعالى أنه سوف يرحمني بتحقيق أمنيتي هذه وبتيسير هذا الكتاب وبقبوله، وإنه هو الغفار للذنوب، سوف يغفر لي ذنوبي جميعها على كثرتها، فيرحمني برحمته التي سبقت غضبه، سبحانه ما أكرمه، يطاع فيشكر ويعصى فيغفر، عليه توكلت هو حسبي ونعم الوكيل.
نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 / 13
﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (^١).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته، وهذا أوان الشروع في المقصود:
المؤلف
أحمد بن أحمد الحكنى المختار الشنقيطي
_________
(^١) سورة غافر: ٦٥.
1 / 14
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المختصر
قال فىِ المختصر: بسم الله الرحمن الرحيم يَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُضْطَرُّ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ، المُنْكَسِرُ خاطِرُه لقلة العمل والتَّقْوى، خَلِيلُ بن اسْحَاقَ (١) المالكي: الحمد لله حمدًا يُوَافِي ما تَزَايدَ مِنَ النِّعَمِ، والشُكْرُ له عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنَ الْفَضْل والكَرَمِ، لا أحصي ثناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على محمد سيد العرب والعجم، والمبعوث لسائر الأمم، وبعد: فقد سألني جماعةً -أبَانَ اللهُ لنا ولهم معالم التحقيق، وسَلَكَ بنا وبهم أنْفَعَ طَرِيقٍ- مُخْتَصَرًا عَلى مذهب الإمام مالك (٢) بن أنس رحمه الله تعالى مبينًا لما به الفَتْوى، فأجبت
(١) عرف نفسه هنا وذلك مدعاة للوثوق بتأليفه، لأن التأليف المجهول صاحبه لا يعبأ به.
فذكر أنه يدعى خليل بن اسحاق. قال الدردير. ابن موسى ووهم من قال: ابن يعقوب. كان ﵀ مجمعًا على فضله وديانته وكان من جند المنصورة؛ يلبس زي الجند المتقشفين. وكان ذا دين وفضل وزهد وانقباض عن الناس، وقد جمع بين العلم والعمل ونفع الله به المسلمين، وله تصانيف كثيرة. توفي في/ ١٣/ ربيع الأول سنة ٧٧٦ هـ. انتهى. من الديباج باختصار.
(٢) مالك هو إمام دار الهجرة؛ مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان -بفتح المعجمة أوله بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة- ابن خثيل -بالتصغير- ابن عمرو بن الحارث -وهو ذو أصبح- الأصبحي المدني الحميري نسبة إلى حمير، وفي عمود النسب للعلامة الشيخ أحمد البدوي بن محمدا -بدال ممدودة- المجلسي الموريتاني المتوفي تقريبًا عام ١٢٢٠ هـ. قال: =
1 / 15
سؤالهم بعد الاستخارة مشيرًا بفيها للمدونة (١)، وبأوِّلَ إلى اختلاف شارحيها في فهمها وبالاختيار للخمي (٢)، لكن إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره هو في
= وانسب لحمير بني الجمهور … شعب إمام طيبة المشهور
ذكر في هذا البيت أن بني الجمهور هم شعب مالك بن أنس، وأنهم من حمير. ونقلت في تكملتي لحماد على الأنساب من تكملة البوحسني له؛ أن الجمهور بالضم هو ابن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير بن معاوية بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عوف بن زهير بن الهميسع بن حمير. والله أعلم.
وعلى كل حال فهو أبو عبد الله المدني الفقيه أحد الأعلام في الإسلام، وهو إمام دار الهجرة. قال ابن عيينة في حديث أبي هريرة: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة -وهو مالك- وكذا قال عبد الرزاق. كان ﵀ ثقة ثبتًا. مات بالمدينة في صفر عام ١٩٧ هـ. وعاش ٨٩ سنة وقيل غير ذلك. ا هـ.
(١) يعني إذا قال "فيها" ونحو ذلك من كل ضمير مؤنث عائد إلى غير مذكور غائب، فإنما يريد به المدونة؛ وهي المسائل التي دونها قاضي القيروان أسد بن الفرات على محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ثم عن مالك وتسمى الأسدية، فتلطف سحنون بابن الفرات حتى أخذها منه ثم عرضها على ابن القاسم وهذبها ونقحها، واختصرها الشيخ ابن أبي زيد القيرواني وابن أبي زمنين. ا. هـ. جواهر الإكليل.
(٢) ذكر أن من مصطلحه أنه يشير بمادة الاختيار، سواءٌ أكان بصيغة الاسم أو بصيغة الفعل لاختيار اللخمي، لكنه إن كان بالفعل فهو لاختياره من قبل نفسه، وإن كان بالاسم فهو لاختياره من الاختلاف الكائن بين الشيوخ قبله، واللخمي هو أبو الحسن علي بن محمد الربعي، قيرواني نزل صفاقس فكان فيها فاضلًا، له تعليق على المدونة سماه التبصرة، مفيد حسن لكنه ربما اختار فيه وخرج، فخرجت اختياراته عن المذهب المالكي ويشهد لذلك قول القائل:
لقد مزقت قلبي سهام جفونها … كما مزق اللخمي مذهب مالك
مات عام ٤٩٨ هـ.
1 / 16
نفسه، وبالإِسم فذلك لاختياره من الخلاف، وبالترجيح لابن يونس (١) كذلك، وبالظهور لابن (٢) رشد كذلك، وبالقول للمازري (٣) كذلك، وحيث قلت: خلافٌ. فذلك لاختلاف في التشهير، وحيث ذكرت قولين أو أقوالًا؛ فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة، واعتبر من المفاهيم مفهوم الشرط.
وأُشيرُ بُصحِّحَ أَوِ استحْسِنَ إلى أَنَّ شيخًا غير الذين قدمتهم صحَّحَ هذا أو استظهره، وبالتَّردُّدِ لتردد المتأخرين في النَّقْلِ أو لعدم نص المتقدمين، وبلو إلى خلاف مذهبيٍّ. والله أسأل أن ينفع به من كتبه أو قرأهُ أو حصله أو سعى في شيءٍ منه. والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا في القول والعمل، ثم أعتذر لذوي الألباب من التقصير الواقع في هذا الكتاب، وأسأل بلسان التضرع والخشوع
(١) ويشير بمادة الترجيح وبنفس التفصيل إلى ابن يونس؛ وهو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس الصقلي؛ كان فقيهًا إمامًا فرضيًا، وكان ملازمًا للجهاد موصوفًا بالنجدة، ألَّف كتابًا في الفرائض وكتابًا جامعًا للمدونة أضاف إليها غيرها من الأمهات. وتوفي عام ٤٦١ هـ.
(٢) ويشير بمادة الظهور وبنفس التفصيل السابق لابن رشد؛ وهو الإِمام محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد القرطبي؛ زعيم فقهاء وقته بالأندلس والمغرب، والمعترف له بصحة النظر وجودة التأليف ودقة الفهم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، له التآليف النافعة. توفي عام ٥٢٥ هـ.
(٣) ويشير بمادة القول وبنفس التفصيل السابق إلى المازري؛ وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الصقلي، ينسب إلى مازرة -بفتح الزاي وكسرها- مدينة بجزيرة صقلية تسمى الأن بسيسيلية قرب مالطة، وهو إمام أهل أفريقية وما وراءها من المغرب، له التآليف النافعة الكثيرة. توفي عليه رحمة الله عام ٥٢٦ هـ.
1 / 17
وخطاب التذلل والخضوع أن ينظر بعين الرضا والصواب، فما كان من نقص كملوه أو من خطإ أصلحوه، فقلما يخلص مصنف من الهفوات، أو ينجو مؤلف من العثرات.
* * *
1 / 18
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الطهارة
باب في أحكام الطهارة
يُرْفَعُ الْحَدَثُ (١) وَحُكْمُ الْخَبَثِ (٢) بِالْمُطْلَق (٣) وَهُوَ مَا صَدَقَ عليه اسْمُ ماءٍ بِلَا قَيْدٍ
(١) الحدث وصف حكمي مقدر على أعضاء المكلف جميعها أو بعضها، يترتب بموجبه منع المكلف من الصلاة ومن كل ما تشترط فيه الطهارة.
(٢) وحكم الخبث هو الوصف المقدر شرعًا قيامه بعين النجاسة.
(٣) صفة حذف موصوفها وأقيمت مقامه. أي بالماء المطلق من التقييد بشيءٍ لا ينفك عنه.
فالمطلق في الاصطلاح هو اعتبار الماهية من حيث هي هي، فإذا اعتبرت الماهية من حيث الوصف كانت مقيدة. ودليل الطهارة بالماء هو قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ الآية من الفرقان. وحديث الموطإ عن أبي هريرة: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". يعني البحر؛ لأنه جواب لسؤال سائل: أفنتوضأ بماء البحر؟. وأخرجه البغوي: باب أحكام المياه، وأبو داود في الطهارة والترمذي كذلك.
أما إذا تقيد بما ينفك عنه؛ كماء البحر أو ماء البئر أو ماء المطر أو ماء الغدير ونحو ذلك، فإن ذلك القيد لا يخرجه عن طهوريته؛ لحديث أبي سعيد الخدري في بئر بُضاعة: قال: قال رسول الله ﷺ "إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. ولحديث أبي أمامة الباهلي ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ "إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنهِ". أخرجه ابن ماجه.
1 / 19
وَإنْ جُمِعَ مِنْ نَدىً (١) أوْ ذَابَ بعد جُمُودِهِ (٢). "أَوْ كَانَ سُؤْرَ بَهِيمَةٍ (٣) أوْ حَائضٍ (٤) أوْ جُنُبٍ أوْ فَضْلَةَ (٥) طهارتهما أوْ كَثيرًا خُولِطَ بِنَجَسٍ (٦) لم يُغَيِّرْ أوْ شُكَّ فِي مُغيِّرهِ
(١) الندى هو الماء الذي ينزل من السماء آخر الليل على ورق الشجر، وطهورية ماء السماء دليلها القرآن كما علمت آنفًا من آية الفرقان، علمًا بانه روى البيهقي من حديث عبد الله بن الزبير عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني مع النبي ﷺ في ماءٍ من السماء وإني لأدلك ظهره وأغسله.
(٢) وأما دليل طهورية الماء الذائب بعد جموده فحديث عائشة عند البخاري ومسلم والبيهقي واللفظ له قالت: كان رسول الله ﷺ يتعوذ يقول: "اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِالْمَاءِ والثَلْجِ وَالْبَرَدِ".
(٣) دليله حديث جابر بن عبد الله ﵁ عند البغوي، أن النبي ﷺ سئل: أيتوضأ بما
أفضَلت الحمر؟. قال: "نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا". وهذا الحديث رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي. وفي الموطإ من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضًا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟. فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
(٤) الدليل على طهارة سؤر الحائض ما أخرجه ابن خزيمة من حديث عائشة قالت: كان رسول الله يؤتى بالإناء فأبدأ فأشرب وأنا حائض، ثم يأخذ ﷺ الإناء فيضع فاه على موضع فيَّ. وآخذ العرق فأعضه، ثم يضع فاه على موضع فِيَّ. وهو حديث إسناده صحيح. وقال د. الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة: إن مسلمًا أخرجه من طريق وكيع، قال ابن خزيمة: لو كان سؤر الحائض نجسًا لما شرب ﷺ ماءً نجسًا غير مضطر إلى شربه.
(٥) أما دليل طهورية فضلة طهارة الجنب؛ فمن ذلك ما رواه ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة ﵂. أخرجه في بلوغ المرام وقال أخرجه مسلم.
ولأصحاب السنن؛ اغتسل بعض أزواج النبي ﷺ في جفنة فجاء يغتسل منها فقالت: إني كنت جنبًا. فقال: "إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنبُ" وصححه الترمذي وابن خزيمة. ا. هـ. بلوغ المرام. وأخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث أن النبي ﷺ توضأ بفضل غسلها من الجنابة.
(٦) دليله ما تقدما "إن الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" قال ابن حجر في التلخيص: أخرجه أحمد =
1 / 20
هل يَضُرُّ (١)؟. أوْ تَغَيَّرَ بِمُجَاوَرَةٍ (٢) وَإنْ بِدُهْنٍ لَاصَقَ (٣) أوْ بِرَائحَةِ قَطِرَانِ (٤) وعَاءِ مُسَافِرٍ أوْ بِمتوَلِّدٍ (٥) منهُ أوْ بِقرَارِهِ كَمِلْحٍ أوْ بِمَطْروح فيهِ ولو قَصْدًا مِنْ تُرابٍ أوْ مِلْحٍ، والأرْجَحُ السَّلَبُ بِالْمِلْحِ وَفي الاتِّفَاقِ عَلى السَّلَبِ بِهِ إن صنعَ تَرَدُّدٌ (٦). لَا
= والشافعي وأصحاب السنن والدارقطني والحاكم والبيهقي وقال: صححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو محمد بن حزم.
(١) اليقين أنه طهور قبل طروّ الشك في تغيره، أو الشك في المغير الميقن هل هو مما يسلب طهورية الماء أولا؟. فهو والحالة هذه يبقى على طهوريته للقاعدة المتفق عليها والتي هي من أمهات الفقه التي أسس عليها. كما قال في مراقي السعود:
قد أسس الفقه على رفع الضرر … وأن ما يشق يجلب الوطر
ونفي رفع العلم بالشك، وأن … يُحكم العرف وزاد من فطن
كون الأمور تبع المقاصد … ..................... الخ
ومحل الشاهد منها قوله: ونفي رفع العلم بالشك؛ أي اليقين لا يرفع بالشك، ويؤيده قوله ﷺ المتفق عليه "فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أوْ يَشُمَّ رِيحًا". الحديث.
(٢) لم أطلع على دليل فيه يرجع إليه، وعليه العمل في المذهب. والله أعلم.
(٣) الذي يؤيده الدليل هو ما ذهب إليه ابن عرفة وابن مرزوق والأجهوري وتلامذته؛ من أنه تسلب طهوريته بريح دهن لاصق سطحه، والدليل ما تقدم في الحديث" الْمَاء طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أوْ طَعْمُهُ أوْ لَوْنُهُ".
(٤) استثناءُ رائحة القطران هنا تحتاج إلى دليل يرجع إليه من النقل لم أجده.
(٥) المتولد منه كالطحلب -بضم الطاءِ- وقراره كالملح والتراب والمغرة ونحو ذلك، ودليل عدم سلب الطهورية بالمتولد والمقر واضح في قوله ﷺ في البحر: "هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ".
(٦) ما ذهب إليه المؤلف هنا مذهب ابن أبي زيد القيرواني، وذهب ابن يونس أن الملح المقصود طرحه يسلب طهورية الماء، وفرق الباجي بين الملح المصنوع والملح المعدني قال: الأول يسلب الطهورية دون الثاني. وتردد المتأخرون في الاتفاق على أن الملح المصنوع يسلب طهورية=
1 / 21