ويجوز أن تكون مصحفة من كلمة الكليس اليونانية بمعنى المعبد والمجمع، أو من كلمة الكلس بمعنى التكليس أو الطلاء، فلما تم بناؤها أمر بتحويل الحج إليها، وكتب إلى النجاشي يقول: «إنه ليس بمنته حتى يصرف إليها العرب أجمعين» ... فقيل فيما قيل: إن أناسا من العرب كانوا يذهبون إلى هذه الكعبة الجديدة ليدنسوها، وإن سيدا من سادات تميم فعل ذلك وتحدى أربابها أن تصيبه بأذاها إن كانت لها قدرة الأرباب، فكان من جراء ذلك هجوم أبرهة على مكة في عام الفيل المشهور.
هذه محاولة لا شك في الغرض منها، وهو الاستيلاء على طريق الحجاز من اليمن إلى الشام.
والمحاولة الأخرى كانت من محاولات السياسة الخفية لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، فارتضى قيصر لملك مكة رجلا من ساداتها هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وكتب له رسائل يبلغها قومه، فعاد بها وجمع القوم إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر ، وينذرهم بسوء العاقبة في الشام إذا هم عصوه، وأهون ما هنالك أن يغلق أبوابها في وجوههم وهم يذهبون إليها ويعودون منها كل عام، قال: «يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم وأنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة
3
من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به، وينقطع مرفقكم منه.»
وهذه المحاولة السياسية غرضها - كما هو ظاهر - كغرض تلك المحاولة العسكرية، وكلتاهما تثبت شيئا واحدا، وهو قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان في الجنوب، وأن دولة الروم لم تكن تريدها باختيارها، وإنما كانت مشغولة بها، معنية بتحويلها إلى حوزتها، فلم تستطع أن تنال منها منالها، واستطاعت «الكعبة» أن تحفظ مكانها على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها؛ بل استطاعت ذلك لخلوها من تلك العروش، وقيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص، وعلى تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم ومعبوداتهم دون أن يسخرهم المسخرون، أو يستبد بهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة وبذل الإتاوة.
قداسة الكعبة
والأساس المهم الذي قامت عليه مكانة البيت المكي: أن البيت بجملته كان هو المقصود بالقداسة غير منظور إلى الأوثان والأصنام التي اشتمل عليها، وربما اشتمل على الوثن المعظم يقدسه بعض القبائل وتزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة «البيت» عند المعظمين والمزدرين، واختلفت الشعائر والدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه ووثنه، ولم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره، والمتكفلون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم - من ثم - أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، ويعطوا البيت غاية حقه من الرعاية والتقدير ...
وعلى هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، ولا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلية بلفظها وجملة معناها كالصلاة والصوم والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت، أن أبا ذر قال له: «يا ابن أخي! صليت مرتين قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم ، فسأله: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله!»
ناپیژندل شوی مخ