61

ويطمئن بنو إسرائيل إلى هذه الحظوة وإن لم يستحقوها بولاء أو إيمان، ويتنبأ المتنبئون والأنبياء فينعون عليهم خيانة الإله كما جاء في سفر أرميا: «إن آباءكم قد تركوني وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها، وسجدوا لها، وإياي تركوا، وشريعتي لم يحفظوها، وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم، وها أنتم ذاهبون كل واحد وراء عناد قلبه الشرير حتى تسمعوا لي ...»

ولكنهم يعودون فيسمعون من صاحب النذير أن الله يريدهم شعبا له: «وأجعل عيني عليهم للخير، وأرجعهم إلى هذه الأرض، وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم، وأعطيهم قلبا ليعرفوني أني أنا الرب؛ فيكونوا لي شعبا، وأنا أكون لهم إلها؛ لأنهم يرجعون إلي بكل قلوبهم ...»

ودامت هذه العقيدة إلى عصر الميلاد؛ فتهيأت العقول لعقيدة أرفع منها وأعدل وأقرب إلى المساواة بين الناس، فكان يحيى المغتسل - يوحنا المعمدان - يزعزع هذه الثقة بالخلاص لغير سبب من عمل أو إيمان، ويخاطب القوم كلما تمادوا في اغترارهم بالنسبة إلى إبراهيم الخليل قائلا: «إن الله قادر على أن يخلق لإبراهيم أبناء من حجارة الأرض؛ فإن لم يخلصوا في إيمانهم فلا أمل لهم في الخلاص.»

وتحولت الدعوة المسيحية من بني إسرائيل إلى الأمم على الرغم من بني إسرائيل؛ لأن السيد المسيح شبههم بالمدعوين الذين أقيم لهم العرس فتعللوا بالمعاذير وتخلفوا عن إجابة الدعوة: «فقال هذا: إني اشتريت حقلا وعلي أن أخرج فأنظره ... وقال ذاك: إني اشتريت أزواجا من البقر وسأمضي لأجربها، فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي من تراه من المساكين، فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي؛ فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»

ولم تتحول الدعوة المسيحية عن بني إسرائيل إلا بعد إعراضهم عنها، وإصرارهم على الإعراض في كل بقعة من بقاع فلسطين توجهت إليها دعوة السيد المسيح وتلاميذه. أما قبل ذلك فكانت الدعوة مقصورة عليهم، صريحة في تقديمهم على غيرهم من الأمم: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد، يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا. فلم يجبها بكلمة، فتقدم إليه تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها؛ لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد، أعني، فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك! ليكن لك ما تريدين ...»

وتحولت دعوة السيد المسيح ودعوة الرسل المسيحيين إلى الأمم غير مقصورة على بني إسرائيل، ولكنهم كانوا يدعون الأمم لأنهم أحق بإبراهيم من أبنائه بالجسد؛ إذ كان المستجيبون للدعوة أبناء إبراهيم بالروح. •••

وإذا روجع تاريخ الأديان قبل ألفي سنة لم يوجد منها دين واحد خرجت دعوته من نطاق القومية فعمت شعوب الإنسانية على اختلاف أصولها وأجناسها.

وقد وجدت في الصين شعوب بلغت في ذلك العهد مائة مليون أو تزيد، ووجدت في الهند شعوب تقاربها في العدد، ولم يعرف هؤلاء ولا هؤلاء دعوة الإنسانية إلى دين واحد؛ بل كانت الصين تدين بعبادة الأسلاف، وكل بيت له هيكله وعبادته على حدة، وكانت ديانة الهند ديانة الطبقة الغالبة ينفرد الأحبار بتلاوة أسفارها، ويحرمون على الطبقات المحرومة تلاوتها والتعرض لفهمها وتفسيرها، ويقول جوتاما ريشي في بعض كتب الفيدا: «إذا سمع الفيدا رجل من المنبوذين، فمن واجب الملك أن يصب الرصاص المذاب في أذنيه.»

هذه مقدمات الدعوات الدينية قبل الدعوة المحمدية بعدة قرون، وتقف المقدمات عند هذه الدعوات، ثم يستمع الناس إلى دعوة من أعماق جزيرة العرب تنادي بني الإنسان جميعا إلى دين واحد، وإله واحد، وحق واحد:

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13].

ناپیژندل شوی مخ