تتضح هذه الفكرة في مسرحية موت دانتون (1835م). وبوشنر يقترب هنا من «جرابه» في ميله لتصوير الواقع التاريخي في صورة شاملة تتشابك فيها العوامل المؤثرة. فنحن نرى أمامنا جماعات من الشعب وأفراد الطبقة المتوسطة وقادة الثورة وأنصارهم وأعدائهم كما نرى الشحاذين والجلادين والعاهرات؛ كل هذا في مشاهد متتابعة مكثفة تسري فيها - على العكس من مسرح جرابه - نبضات إيقاع يشبه الإيقاع الذي نجده في الدراما الإليزابيثية وفي مسرح حركة العاصفة والاندفاع. ويظهر الطابع الملحمي في محاولة الكاتب تصوير الموقف بكل أبعاده ومستوياته، كما يظهر في استقلال اللوحات والمشاهد استقلالا يوشك أن يجعل منها تمثيليات قائمة بذاتها. وتتقدم الفكرة خطوة أخرى في ملهاته «ليونس ولينا»، فتتغلغل في الشكل نفسه، وتذوب - بكل ما فيها من مأساة - في السخرية والملهاة، وإن كانت الحكاية الخرافية التي تقوم عليها الملهاة تعود مرة أخرى فتلتقطها من ناحية المضمون. إن ليونس ولينا - هذه الملهاة المبكية أو المأساة الباسمة! - لا تخرج عن كونها تفسيرا للحياة بما هي ملهاة. إنها تصور الإنسان في لحظة انتصار التاريخ عليه، بل في لحظة تدميره إياه فتصبح الحياة وجها له أكثر من قناع، كما يصبح الإنسان دمية تشدها خيوط غير مرئية، على نحو ما يقول دانتون في المسرحية.
لنقرأ ما يقوله بوشنر لعروسه التي لم يقدر له أن يزف إليها: «لقد درست تاريخ الثورة، وشعرت بأن قدرية التاريخ البشعة تدمرني. إنني أحس في الطبيعة البشرية تشابها مفزعا، كما أجد في العلاقات الإنسانية قوة قاهرة لا مفر منها، أعطيت لكل إنسان ولم تعط لأحد ... ليس الفرد إلا زبدا يطفو على سطح الموجة، وليست العظمة إلا مصادفة مضحكة، ولا سلطان العبقرية سوى لعبة من ألعاب الدمى، وصراع مضحك مع قانون حديدي معرفتنا له هي أقصى ما نستطيع بلوغه، وسيطرتنا عليه ضرب من المحال.»
ويعبر دانتون عن هذا المعنى نفسه بقوله: «نحن نقف دائما على المسرح، وإن كنا نطعن طعنة جادة في نهاية الأمر.» كما يقول هذه العبارة التي يمكن أن تلخص مسرحية ليونس ولينا وتفكير بوشنر كله: «ما نحن إلا دمى، تشدنا من الخيوط قوى مجهولة، والفارق الوحيد هو أننا لا نرى الأيدي التي تجذبها، كما يحدث في الحكايات الخرافية تماما ...»
وقد عارض بوشنر هذه الحكاية الخرافية وسخر بها في شكل الحكاية أو الحدوتة أو في صورة المسرح المألوفة في المسرح الحديث. يدل على هذا ما يقوله أحد المواطنين لزميله في مسرحية موت دانتون: «أجل، الأرض قشرة رقيقة، إنني أخشى على الدوام أن أسقط حيثما وجدت فيها ثقبا. يجب على المرء أن يخطو فوقها بحذر وإلا سقط فيها. ولكن اذهب إلى المسرح. إني أنصحك بهذا!»
المسرح إذا هو المرآة الساخرة بالحياة التي أصبحت هي نفسها مسرحا، كما أصبح المسرح بدوره نوعا من العزاء، أو نوعا من التهكم من ملهاة الحياة. تلك هي حقيقة ليونس ولينا. إن القناع الذي يجسد الجانب المسرحي من الحياة يصبح في هذه السخرية قناع القناع، كما تصبح المسرحية كلها تمثيلا للتمثيل. وإن مضحك الأمير (فاليريو) يسأل وهو يقلب الأقنعة المختلفة بين يديه: «أأنا هذا، أو هذا؟ حقا إنني لأخشى أن أنتزع عن نفسي قشرتها وأتصفحها أمامي.»
ودانتون يقول لصديقه كولو الذي يطالبه بانتزاع الأقنعة: «قد تنتزع معها الوجوه.»
وتعود مسرحية فويسك (التي نشرت سنة 1839م) لتعالج الموضوع نفسه، وهو تدمير التاريخ للإنسان وشل إرادته. فإذا كان الثوار مثل دانتون لا يزالون قادرين على نوع من الفعل، فإن فويسك - وهو شخصية منتزعة من غمار الشعب الكادح البائس - هو المخلوق المسكين الذي لا يقوى على الفعل؛ لأن هناك قوى غيبية مجهولة تدفعه على الحركة وكأنه أداة عاجزة في يدها. يظهر فويسك على خشبة المسرح فتظهر بظهوره شخصية البطل السلبي في المسرح الحديث. إن الوسط الاجتماعي هو الذي يحدد قدره، والمؤلف يحاول من خلاله أن يرسم طريقة لعلاج مجتمع مزقته الأمراض وسحقه الظلم والادعاء (راجع مشهد فويسك مع الطبيب في المسرحية). إنه ضحية هذا المجتمع. وهو البطل المضاد - إن صح هذا التعبير الذي شاع اليوم - الذي سيلعب دورا بارزا في الدراما الحديثة. وشكل المسرحية يعبر عن هذا المضمون أفضل تعبير؛ إذ نجد فويسك المضطهد المطارد يجري كالمجنون من مشهد إلى مشهد، ومن لوحة إلى أخرى، باحثا عن مخرج من الكابوس المخيف الذي يخنقه ويحاصره من كل ناحية. إنه أسلوب في بناء المشاهد وشحنها بالرموز والإشارات يذكرنا بالأسلوب الذي سارت عليه الحركة التعبيرية فيما بعد.
نخلص من هذا كله إلى أن مسرحيتي بوشنر الأخيرتين (ليونس ولينا، وفويسك) علامتان هامتان على طريق المسرح الملحمي المعاصر، وأنهما تنطويان - من ناحية الشكل والمضمون - على مواقف وعناصر ساهمت إلى حد كبير في تحديد صورة هذا المسرح. •••
رأينا من الكلام السابق عن مسرح بوشنر كيف بدأت مرحلة جديدة في الشكل والبناء المسرحي. لقد اقتضت المادة أو المضمون الذي عالجه بوشنر أن يخلق لنفسه بالضرورة أشكالا جديدة تلائمه، فنفذ إلى أرض جديدة لا سبيل إلى تفسيرها من خلال المفاهيم الفكرية والفلسفية العامة، بل لا بد من تفسيرها تفسيرا اجتماعيا وحضاريا؛ فلقد بدأت بمسرح بوشنر عملية تاريخية أخذت تنفذ شيئا فشيئا في أعماق الدراما الحديثة وتعين شكلها إلى حد كبير، كما ظهرت صورة جديدة للبطولة والفعل والفرد بوجه عام.
وإذا كانت الدراما الكلاسيكية الألمانية قد واجهت مسألة الفرد والفردية وحاولت أن تنقذها وتحافظ عليها وتنظر إليها نظرتها إلى مسألة حيوية هامة، فقد وجدنا الفرد يفقد فرديته فجأة في مسرحية بوشنر، أو بمعنى أدق وجدنا فرديته تحدد من خارجه، بحيث اكتسبت البطولة معنى جديدا ولم تعد هي بطولة الفعل، بل بطولة العذاب والتحمل والانكسار. أصبح الإنسان ملتقى قوى تاريخية وغيبية مجهولة توجهه وتحكم تصرفاته التي لم يعد من المستطاع محاسبته عليها. أصبح دمية عاجزة في عالم تحكمه قيم ومواضعات اجتماعية يعجز عن فهمها والمشاركة فيها.
ناپیژندل شوی مخ