[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد الحمد لله الواجد لا من قلة، الموجود لا من علة، والصلاة على المبعوث لأشرف ملة، وآله النجوم والأهلة.
وبعد فيقول المخلوق من الماء المهين العبد الفقير المسكين المستكين المؤمن بوحدانية رب العالمين، المنزه عن أقوال الظالمين، وشبه الظالمين، وضلال المشبهين، وإلحاد المبطلين، وإبطال الملحدين، الشاهد بصدق الأنبياء والمرسلين، وعصمة الأولياء الصديقين، والخلفاء الصادقين، المصدق بيوم الدين، رجب الحافظ صان الله إيمانه، وأعطاه في الدارين أمانه، هذه رسالة في أصول الكتاب سميتها (لوامع أنوار التمجيد، وجوامع أسرار التوحيد) أودعتها ديني واعتقادي، وجعلتها زادي ليوم معادي، قدمتها لوجوب تقديم التوحيد، على سائر العلوم، وأتبعتها كتابا سميته (مشارق أنوار اليقين، في إظهار أسرار حقائق أمير المؤمنين) فكان هذا الكتاب الشريف جامعا لحقائق أسرار التوحيد، والنبوة والولاية، موصلا لمن تأمله وأم له إلى الغاية والنهاية، والله المعين والهادي.
فأقول متوكلا ومتوسلا: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يوافق فيها السر الإعلان، والقلب اللسان، الحي القيوم، الموجود بغير أنية، المعروف بغير كيفية، سبحان الله العظيم في مجده، قيوم بذاته وصفاته، غني عن جميع مخلوقاته، وحده لا شريك له بعد فاقترب، وظهر فاحتجب، فلا بعده بعد مسافة، ولا قربه قرب كثافة، قرب إلى الأسرار ببره ورحمته، وبعد عن الأبصار بأشعة جلال عظمته، نأى عن العيون بشدة جماله؛ واختفى عن العيان بكمال نوره، فظهر بغيبه، وغاب بظهوره، فهو ظاهر لا يرى، وباطن لا يخفى، يعرف بفطر القلوب، وهو في سواتر الغيوب، تجلى بجمال صفاته من كل الجهات، فظهر وتجلى
مخ ۱۳
بكمال ذاته عن كل الجهات، فاستتر الفرد المجرد عن المواد والصور، فهو الرفيع في جلاله، البديع في جماله، وحده لا شريك له، وجوده وجود إيمان لا وجود عيان، دلت عليه آياته، وشهدت بوحدانيته مصنوعاته، وأقرت بربوبيته أرضه وسماواته، كل حادث دليل عليه، ومستند في وجوده إليه، ومشير بالعظمة والكبرياء إليه، فمفهومه ومعناه، تقدس في عزه وعلاه، أنه ذات واحدة لا تحدها فكرة، ولا تحاولها كثرة، لها الجلال والإكرام، والبقاء والدوام، والملك المؤبد، والسلطان السرمد، والعز المنيع، والمجد الرفيع، فالحق عز اسمه وجل جلاله، واحد من جميع الجهات، فرد صمد بكل العبادات، قيوم أحد بأكمل الدلالات، رب وتر بالذات والصفات، معبود حق بسائر اللغات، لا تحكيه العبارات، ولا تحويه الإشارات، فذاته الأزلية الأبدية القيومية الرحمانية، المقدسة بالوحدة الحقيقية، المنزهة عن الكثرة الصورية، مبدأ لسائر الموجودات، ومنبع لسائر الكمالات، موصوفة بأكرم الصفات، مسلوب عن جمال كمالها النقائص والحاجات، متعالية عن الأحياز والجهات، منزهة عن مشابهة المحدثات، مبراة عن المقولات، فسبحان القيوم، الذي لم يزل ولا يزال، الفرد المنزه عن الحلول والانتقال، وحده لا شريك له، كان ولم يزل كائنا، ولا سماء مبنية، ولا أرض مدحية، ولا خافق يخفق، ولا ناطق ينطق، ولا ليل داج، ولا صبح مشرق، كان الله ولا شيء معه، وهو على ما كان لم يتكثر بخلقه أبدا، فسبحان من أين الأين، فلا أين يحويه، وكيف الكيف فلا كيف يحكيه، وتعالى عن المكان والزمان، فلا وقت يباريه، وحده لا شريك له، جل عن أجل معدود، وأمد ممدود، وتعالى عن وقت محدود، الحي الحميد المحمود، قدوس، سبوح، رب الملائكة والروح، حي لا يموت.
فسبحانه من أزلي قديم، سبق العدم وجوده، والأزل قدمه، والمكان كونه، وعز عن المزاوجة اسمه، وحده لا شريك له، ليس لقدمه رسم، ولا حد، ولا لملكه قبل ولا بعد، ولا لأمره دفع ولا رد، ولا لسلطانه ضد ولا ند، تقدس القيوم في جلال عظمته، ودوام سلطنته، وحده لا شريك له، لا تدركه الحواس، فيوجد له شكل، ولا يشبه بالناس فيكون له مثل، امتنعت عن إدراك ذاته عيون العقول، وانقطعت دون وصف صفاته أسباب الوصول، حي قيوم، وجوده لذاته بذاته عن ذاته، لا لعلة تقومه فيكون ممكنا، ولا لسبب يتقدمه فيكون
مخ ۱۴
محدثا، ولا لكثرة تزاحمه فيكون للحوادث محلا، حي قبل كل حي، وحي بعد كل حي، واجب الحياة لكل حي، وحي لم يرث الحياة من حي، فهو المعبود الحق، والإله المطلق، أحدي الذات، واحدي الصفات ، أزلي اللاهوت، أبدي الملكوت، سرمدي العظمة، والجلال والجبروت، حي قيوم لا يموت، لا تحكيه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تحجبه السواتر، ولا تبلغه النواظر، لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، وجهه حيث توجهت، وطريقه حيث استقمت، لا تجري عليه الحركة والسكون، فكيف يجري عليه ما هو أجراه، لا إله إلا هو الله، فمن وصف الله سبحانه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد ثناه، ومن ثناه فقد أبطله، إذ ليس في الأشياء؛ وإلا لكان محدودا، ولا منها؛ وإلا لكان معدودا، فهو بعيد عنها، دان إليها، قائم بها، قيوم عليها، لا يتجزى فيعد، ولا يتكثر فيحد، ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا حمده من أشار إليه وتوهمه، الحكم العدل الذي لا يتوهم ولا يتهم، شهدت العقول والنفوس، وشاهدت العيون والمحسوس: أن العالم متغير، وكل متغير جسم، وكل جسم حادث، وكل حادث له محدث، وذلك المحدث هو الخالق المقدر، والبارىء المصور، والجبار المتكبر، لافتقار الأثر إلى المؤثر، فهو الرب القديم، العلي العظيم، الغني الكريم، الجواد الرحيم، الذي صدر العالم عنه وابتدعه، وتعالى عنه، فهو المبتدئ الأول، الذي فاض عن وجود وجود كل موجود، والمبدأ الأول واجب لذاته، والواجب لذاته حي قيوم، والحي القيوم قديم أزلي، والقديم واجب الوجود ودائم الوجود، واحد من جميع الجهات، والواحد الحق يستحيل أن يكون جسما، لأن الجسم يلزمه التركيب والكثرة، وكل مركب له أول، وما له أول محدث، والقيوم الحق مجرد عن كل مادة، منزه عن كل صورة، مقدس عن كل كثرة، مبرأ عن كل وصف، لا يشمله حد أو يبدأ له عد، أو يتناوله رسم، أو يكشفه اسم، لا تحويه الأقطار، ولا تبديه الأفكار، ولا تدركه الأبصار، وكيف تدركه الأبصار وهي خلقه؟ أو كيف تحويه الأقطار وهي صنعه؟ والصنعة على نفسها تدل، وفي مثلها تحل، فسبحانه قيوم حق، لا أول لوجوده، ولا نهاية لملكه وجوده، والعالم كله بالعدم مسبوق، وبالفناء ملحوق، فكلها سوى الحي القيوم محدث ومركب ومفتقر، والحق عز اسمه فرد مجرد، لا كثرة في ذاته وصفاته،
مخ ۱۵
هو واحد لا ينقسم تقديرا ولا حدا، واحدا لا يقارب نظيرا ولا ضدا، واحدا ذاتا ونعتا، وكلمة وعدا، فله الوحدة اللائقة بكرم وجهه، وعز جلاله، كالإلهية المحضة، والإله المطلق هو الله سبحانه، كل الكل، ومعبود الكل، وخالق الكل، والعالي على الكل، والمتعالي عن الكل، والعلي عن الكل، والمنزه عن الكل، والبريء عن الكل، والعالم بالكل، والمظل على الكل؛ والمطلع على الكل، والحافظ الكل، والحفيظ على الكل، والقائم بالكل، والقيوم على الكل.
فالرب الأزل القديم واحد حقا، وصمد يبقى، وقيوم معبود صدقا؛ فسبحان من تفرد بالوحدانية والجلال، وتقدس بالمجد والجمال، وتعزز بالبقاء والكمال، وحكم على الخليقة بالفناء والزوال، فكل شيء هالك إلا وجهه، فليس على الحقيقة معبود حق إلا الله وحده لا إله إلا الله، لا إله إلا الله نفي وإثبات، والحق ثابت لم يزل ولا يزال، والضد جل عن الضد، عدم محض، ينفي الغير من وقع النفي والإثبات، فمعنى كلمة التوحيد، وآية التجريد أنه لا إله في وجود، حي موجود، له الركوع والسجود، واحد لذاته، غني عن جميع مخلوقاته، قادر عالم، حي سميع، بصير مريد، كاره غني، واحد منزه عن كل نقص، طاهر من كل عيب، ذاته وصفاته، مستحق للعبادة، لا إله إلا الله اسمه، والرحمن نعته، والأحد ذاته، والواحد صفاته، واسمه الله، عز عن اسم، علم لذاته المقدسة، جامع لجلال صفات الجلال والعظمة، مانع من الشركة في الحقيقة والتسمية الرحمن، ولا شبيه [له ولا] يسمى أحد بأسمائه، ولا شريك له في ملكه وكبريائه، ولا شبه له في عظمته وآلائه، ولا منازع له في أمره وقضائه، ولا معبود سواه في أرضه وسمائه، رب قديم، وملك عظيم، غني كريم، لا شريك له في الإلهية، ولا شبيه له في الماهية، جل عن الشبيه والمثيل، وتعالى عن التشبيه والتمثيل، عز عن ولد ينفعه، وتقدس عن عدد يجمعه، الواحد الأحد، الذي لا يشبهه أحد، ولا يساويه أحد، له الجلال الباهر، والجبروت القاهر، والملكوت الزاهر، والسلطان الفاخر، هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، الأول بالذات، والآخر بالصفات، والظاهر بالآيات، والباطن عن التوهمات، حارت في إدراك ملكات ملكوته مذاهب التفكير، وغارت عن الرسوخ في علمه جوامع التفسير، تاهت العقول في تيه عظمته، وهامت الأوهام في بيداء عزته، حماها نور الأحدية، وغشاها جلال سبحات الربوبية، عن إدراك حقيقته الإلهية،
مخ ۱۶
فرجع الطرف خاسئا حسيرا، والعقل مبهوتا مبهورا، والفكر متحيرا مذعورا، والوهم مذموما مدحورا؛ فسبحان الملك الحق المتعالي عن الجهات والأمكنة، الذي لا تأخذه نوم ولا سنة، ولا تصف جلال كمال عظمته الألسنة اللسنة، لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يصفه لسان، به كان الخلق لا بالخلق كان.
إن قلت: متى فقد سبق الكون كونه؛ أو قلت قبله فالقبل بعده؛ أو قلت أين؟ فقد تقدم المكان وجوده؛ أو قلت كيف؟ فقد أصحت (1) عن الوصف صفته؛ أو قلت مم؟ فقد باين الأشياء كلها؛ أو قلت هو، فالهاء والواو كلامه.
بالكلمة تجلى الصانع للعقول، وبها احتجب عن العيون، فسبحان من جوده آية وجوده، وأنوار عظمته مانعة من سهوده، لم يزل، ولا يزال، أزليا أبديا في الغيوب، ليس فيها أحد غيره ولا معبود سواه، لا يجوز عليه التشبيه الذي يرقبه فهمك، ولا التشكيك الذي ينتجه وهمك، الجبار الذي فتق ورتق ظلام العدم بقوته وقهره، فأهل الوجود بلا إله إلا الله، وأتقن نظام الموجودات بقدرته وأمره، فليس خالق إلا الله خالق السماوات، وبالعدل فطرها، وأجرى فيها شمسها وقمرها، فهي دائرة بقهره، طالعة لأمره، ملأها بالأنوار، وقدسها بالأبرار، وحرسها بالشهب الثواقب من الأغيار، وحفظها من الأود والانفطار، فهي عالم الملكوت، وقبة الجبروت، وسرادق العظمة والجلال والجبروت، سقفا مرفوعا، وسمكا محفوظا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار يقبضها، لم يشيدها سبحانه خوفا من سطوة سلطان، ولا خشية من نزول حدثان، بل جعلها دليلا للناظر، وعلما للسائر، تدل آياتها على عظمته، ورفعتها على قدرته، وكمال لطفه وحكمته، فمن نظر في خلق السماوات، وتعاقب حركات السيارات، واختلاف الليل والنهار، وما تضمن ذلك من الحكمة العجيبة، والقدرة الغريبة، بل في نفسه، وتركيب جسده، شاهد في كل لحظة، وعاين في كل لمحة، شاهد حق، وناطق صدق، ينطق بأن صانعه حي قيوم قدير، ويشهد بأن موجده رب حكيم خبير.
سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وقمر ذو إشراق، وسراج وهاج، وسحاب صاعد، وماء فجاج، وأجسام ذات أعضاء، وأحياء وأمشاج، والكل يدلون
مخ ۱۷
على الصانع القدير، فسبحان من فطر الخلائق على عظائم المختلفات، وأنطقهم بغرائب اللغات، وقدر لهم الأعمار والأرزاق والأقوات، فهو الخالق العليم، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا يغيب عن حفظه مكيال قطرة، فكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، لأن الخالق عالم بخلقه، محيط بصنعه، ومؤلف بين عناصره، شاهد بحقائقه وسرائره، مدرك بباطنه وظاهره، فهو العالم بخفيات الغيوب، الشاهد لسرائر القلوب، فالأعضاء شهوده، والجوارح جنوده، والضمائر غيوبه، والسرائر عيانه، فلا يخفى عليه شيء من خلقه، ولا يعزب عنه شيء من صنعه، وكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، فسبحانه من قادر عليم؛ لم يزل على الأسرار رقيبا، ومن الأرواح قريبا، وعلى الأعمال حسيبا، فهو الرقيب القريب، الشاهد الذي لا يغيب، فسبحان القيوم القدير، المتكلم الخبير، السميع البصير، سمعه منزه عن الأصمخة والآذان، وبصره منزه عن الحدقة والأجفان، وكلامه جل عن الآلات واللسان، فطر العقول فلا ضد حضره حين فطرها، وبرأ النفوس فلا ند خبره حين اختبرها، وحده لا شريك له، الروح قطرة من قطرات بحار ملكوته، والنفس شعلة من شعلات جلال جبروته، والسماوات السبع والأرض ومن فيهن ذرة من ذرات قدرته، وسبعون ألف عالم أثر من آثار حكمته، والعالم بأسره سر من أسرار صنعته، والكل شاهد بأنه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له في جلال كبريائه وعظمته، أهل السماوات يظنونه من الأرض، وأهل الأرض يظنونه في السماء، وهو الصمد الديان، المنزه عن الأين والمين، الموجود في كل مكان، المتعالي عن الإدراك بالبصر والعين، العالي عن الحدوث والحدثان ، الواحد الفاضل عن الاثنين، المعبود في كل زمان.
خلق الإنسان فقدره، وأحسن خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، خلقه من ماء مهين نطفة، وأنشأه من الحق شرعة ومنهاجا، وفطره على التوحيد، وأوقد له من العقل سراجا، وحل له رباط الضريح (1) بأنامل الفرج والاعتبار، وأخرجه من مشيمة الرحم بيد المشية والرحمة والاقتدار، ودفع له دم الطمث في الصدر لبنا، وغذاه برزقه، وأخرجه إليه سهلا لينا ورباه بلطفه، وأنبته نباتا حسنا، وجعل له سمعا يسمع آياته، وعقلا يفهم كلماته، ويدرك
مخ ۱۸
صفاته، وبصرا يرى قدرته، وفؤادا يعرف عظمته، وقلبا يعتقد توحيده، ولسانا ينشر تمجيده، وجعل جسده مدينته، والروح منه خليفته، وقلبه كعبته وبيته، الذي أطاف به ملائكته، وكرمه وفضله، وفض له سوابغ النعماء، وأمره بمعرفته، ليشكره على عميم العطاء والنعماء، وأسكنه دار المحنة والابتلاء، وأرسل عليه الرسل ونصب له الأدلاء، وساقه بسوط القهر إلى ميدان الفناء، وساوى بالموت بين الملوك والفقراء، ذلك لطف وعدل لنفوذ قلم القضاء، والوصول إلى دار البقاء، وإعادتهم بعد الموت لطفا واجبا لإيصال العوض والجزاء، فسبحان من فطر الخلائق، فلم يعي بخلقهم حين ابتدأهم، ولم يستأنس بهم حين أوجدهم وأنشأهم، ولم يستوحش لفقدهم إذ أماتهم وأفناهم، ولم يعجزه بعثهم إذ هو أهون عليه إذا دعاهم، للمحسنات وناداهم، تبارك القوي القدير، علمه بهم قبل التكوين كعلمه بهم بعد الإيجاد والتبيين، فسبحان من ألهم، ومن له الفضل والمنن.
آمنت بذي الملك والملكوت، وأسلمت لذي العزة والجبروت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، الرب المنفرد بالوحدانية وعدم القرين، الحي القوي، العلي الغني عن المعين، شهدت بواجب الوجود، ومفيض الكرم والجود، بالأحدية التي لا تحد والوحدانية التي لا تعد، والصمدانية التي ليس لها قبل ولا بعد، والإلهية البسيطة التي كل لها ملك ومملوك، وعبدت من سري وفؤادي وروحي وخيالي وسوادي، بأن الله هو الحق المبين وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، الرب الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
شهدت لربي ومولاي مصور ذاتي، ومقدر صفاتي، الذي له نسكي وصلاتي ومحياي ومماتي، بأنه هو الذي لا إله إلا هو رب كل شيء، وخالق كل شيء ومعبود كل شيء، وملك كل شيء، ومالك كل شيء وبيده ملكوت كل شيء، القيوم الأول، قبل وجود كل شيء، والحي الباقي بعد فناء كل شيء، الواحد المسلوب عنه الشبيه والنظير، الأحد الذي لا كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وأن هذه الصفات الإلهية، والمدائح الربانية، لا يستحقها أحد سواه، ولا يملكها ويستوجبها إلا الله وأنه سبحانه حكم عدل لا جور في قضيته، ولا ظلم في مشيئته وأنه
مخ ۱۹
تجري الأمور على ما يقضيه لا على ما يرتضيه، وأعتقد أنه من عرف بهذا الاعتقاد وحده، ونزهه عن مشاهدة المحدثات وعبده، وأعلن شكر الإله وحمده، فهو مؤمن مخلص قد شملته العناية والمنة، ووجبت له النجاة والجنة، وذلك كله بلطفه وعنايته وحوله وقوته ومنه وهدايته وإرشاده ودلالته.
فسبحان من ابتدأ بالفضل، وكلف بالعدل، ومدح العلم وذم الجهل، وأفاض اللطف، وأوضح السبيل، ونصب الدليل، وأرسل الرسل، وبعث الأنبياء (عليهم السلام) حكاما لإظهار أمره، ونشر عدله، ونصب الأوصياء (عليهم السلام) أعلاما لكمال دينه، وبيان فضله، بعثهم بالهدى ودين الحق، رسلا مبشرين ومنذرين، صادقين معصومين، إليه يدعون، وعنه يقولون، وبأمره يعملون، ثم جعلنا وله الحمد من أمة خير الأنبياء (عليهم السلام)، وأطيب مخلوق من الطين والماء، وأشرف مبعوث شرفت به الأرض والسماء، الجسد المطهر، والروح المقدس المعطر، الذي تعطرت به البطحاء، البشير النذير، السراج المنير، أول الأنبياء بالنور، وآخرهم بالظهور، وسرهم في الأصلاب والظهور، أكرمهم شيعة، وأعظمهم شريعة، وأفصحهم كلاما، وأرفعهم قدرا، وأشرفهم كتابا، وأعزهم جنابا، أشرف من تشرفت به الأعواد والأعضاء (1) المنطق الالهي، أفصح من نطق بالضاد، النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، والرءوف الرحيم، الأول، الآخر، الباطن، الظاهر، الفاتق، الراتق، الفاتح، الخاتم، العالم، الحاكم، الشاهد، القاسم، المؤيد، المنصور، أبي القاسم محمد بن عبد الله، الحميد المحمود، الصادق الأمين، العزيز المبين، المنتجب من خاص الطين، المبعوث رحمة للعالمين، صفي الله وصفوته ، وإمام أصفيائه يوم البعث والنشور، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، (صلى الله عليه وآله الطاهرين).
آمنا بالله وبمحمد (صلى الله عليه وآله)، وبما دعانا إليه، واتبعنا النور الذي أنزل معه (2)، وهدانا إليه، وصيه الذي خص بالولاء واللواء والإخاء (3)، نص النبي عليه، أخاه وأمينه، وخليفته وقائد جيشه، وحامل رايته، وسلطان رسالته، وإمام أمته، مفديه بروحه، ومتساويه
مخ ۲۰
بمحنه، عضده المعاضد، وساعده المساعد يوم شدته، سيد الوصيين، وإمام المتقين، وديان الدين، وصاحب اليمين، وعلم المهتدين، وخليفة رب العالمين، وسر الله وحجته، وآية الله وكلمته، في الأولين والآخرين، القائم بالحق، الإمام المبين مولانا وسيدنا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كمل بحبه الدين، وقال بولايته أهل اليقين، ورجحت به الموازين، وبعده عترته الطاهرين، وذريته الأكرمين، وأبناءه المعصومين، وأوصياءه المنتجبين، وأسباطه المرضيين (عليهم السلام)، الهداة المهديين، خلفاء النبي الكريم، وأبناء الرءوف الرحيم، وامناء العلي العظيم، ورثة المرسلين، وبقية النبيين، وسادة الأولين والآخرين، نواميس العصر، وأخيار الدهر، ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، وأشهد يا رب، وأعتقد أن قولك حق، ووعدك صدق، وأمرت بالبعث والنشور، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الدين عند الله الإسلام، جزى الله محمدا (صلى الله عليه وآله) خير الجزاء، وحيى الله محمدا (صلى الله عليه وآله) بالسلام.
اللهم فلك الحمد على ما أنطقتني به من حمدك، وعلمتني من مدحك، ولك الحمد على ما ألهمتني من شكرك، وأرشدتني إليك من ذكرك، ولك الحمد على أيسر ما كلفتني من طاعتك، وأوفر ما أنعمتني من نعمتك، اللهم فلك الحمد حمدا متواليا متعاليا مترادفا مباركا طيبا، أبدا سرمدا مجردا مؤبدا، باقيا لقيامك لا أمد له، حمدا يزيد على حمد الحامدين لك، حمدا لا يندرس في الأزمان ولا ينتقص في العرفان، ولا ينقص في الميزان، حمدا يزيد ولا يبيد، ويصعد ولا ينفد، ولك الحمد يا من لا تحصى محامده ومكارمه، ومنحه، وصنائعه، وعواطفه وعوارفه، ولا تعد أياديه ومواهبه السوابغ السوائغ الدوائم، الدوائب الفوائض، الفواضل ، وأياديه الجليلة الجميلة الجزيلة وكرمه الكبير الكثير وفضله الوافر الوافي، وجوده الباقي الهامر، وبره الباهر وشمسه الزاهي الزاهر.
اللهم أنت ربي ورب كل شيء، لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وإياك أعبد، ولذاتك وصفاتك المنزهة أنزه وأوحد، وباسمك العظيم أسبح وأقدس، وأهلل وأمجد، ولجلال وجهك الكريم أركع وأسجد، ولفضلك القديم وبرك العميم أشكر وأحمد، وإلى أبواب كرمك وجودك الفياض ونعمك أسعى وأقصد، أسألك اللهم بجلال الوحدانية،
مخ ۲۱
والقدرة الربانية، والمحامد الإلهية، والمدائح الرحمانية، والأنوار المحمدية، والأسرار العلوية، والعصمة الفاطمية، والعزة الزكية، الهادية، المهدية، مقاماتك، وآياتك، وعلاماتك، وتجلياتك، لا فرق بينها وبينك، إلا أنهم عبادك وخلقك، أن تصلي على محمد وآل محمد، الذين لأجلهم ثبتت السماء، وثبتت الأرض على الماء، واخترتهم على العالمين، وفرضت طاعتهم على الخلائق أجمعين، وأبقيتني على إيمانك، والتصديق بمحمد عبدك، ورسولك، والولاية بخير الوصيين علي أمير المؤمنين، والتمسك بالهداة من عترته الطاهرين، سفينة النجاة وسادة الوصيين، والبراءة من أعدائهم الضالين، فإني رضيت بذلك يا رب العالمين، اللهم وهذا صراطك الحق، ودينك الصدق، الذي تحبه وترضاه، وتحب من دانك به، وتجيب دعاه، اللهم صل على محمد وآل محمد، وثبتني على هذا الدين القيم، واجعله ثابتا، وحازما وناطقا به لساني، ومؤمنا وموقنا ومصدقا له سري وإعلاني، ومنقادا وتابعا وعاملا به جوارحي، وأركاني، ونورا وإقبالا في لحدي وأكفاني، فقد تشبثت بأذيال الكرم والرجاء، وقرعت بأنامل التصديق والتوفيق أبواب الإيمان والولاء، فاجعله اللهم خالصا لوجهك، يا ديان العباد، وزادا ليوم الحشر والتناد، إنك الكريم الجواد، وأعظم من سئل فجاد، يا أرحم الراحمين.
مخ ۲۲
[خطبة الكتاب]
مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين (عليه السلام) الحمد لله المتفرد بالأزل، والأبد، والصلاة على أول العدد، وخاتم الأمد، محمد وآله الذين لا يقاس بهم من الخلق أحد (1).
وبعد يقول الواثق بالفرد الصمد رجب الحافظ البرسي أعاذه الله من الحسد، وآمنه يوم يفر الوالد من الولد.
اعلم أن بعض الحاسدين، الذين ليس لهم حظ في الدين، من باب كاد الحسد أن يغلب القدر، لما بسطت لهم تجويد الكتاب المجيد، فكان مطويا عنهم أخذوا بطرفيه وأزاحوني، ولما نشرت لهم مطوي منثور الأخبار، وأبرزت إليهم بواطن الأسرار، من خدور الأفكار، حسدوني، وكذبوني، ولاموني، وملوني، وساموني، وسأموني؛ وكلما وضعت لهم سرير التواضع، ومددت لمودتهم يمين الخاضع، جزموا بعامل الهجر بودي وخفضوني، وأنكروني بعد أن عرفوني، ونكروني بعد أن عرفوني، ولا ذنب لي غير أني رويت زبد الأخبار، ووريت زند الأخيار، فذاع ندها، ونظم خيطها، وذاع شذاها، فضمخ طيبا قبل منها العليل. وبل الغليل، ولما كان أكثرها من الأمر الخفي، والسر المخفي، الذي يضطرب لإيراده القلب السقيم اضطراب السليم، ويطرب لسماعه الفؤاد السليم، إذ لا حظ للمزكوم والمشموم، عند ملاحظة طيب المشروب والمشموم، فهو كما قيل:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
فحمل بعض ما أوردت، جهلا بما أردت، قوم من القردة، إلى آخرين من الحسدة، وأداها من لا يعلم إلى من لا يفهم، والمرء عدو ما جهله، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فكانوا كما
مخ ۲۳
قيل:
يعرفها من كان من جنسها
وسائر الناس لها منكر
أو كما قيل:
لو كنت تعلم كل ما علم الورى
طرا لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فصرت تحسب كل من
يهوى بغير هواك ليس بعالم
حتى أوصلوها بلسان البغضاء، إلى الإخوان من الفقهاء، وهم أهل المذهب المذهب، والمنهاج الذي ليس لهم منهاج، لكن لا يدرك غامض المعقول بالمنقول، فكيف بما وراء العقول، ولا يلزم من معرفة علم واحد الإحاطة بسائر العلوم، وما منا إلا له مقام معلوم، وكل ميسر لما خلق له، ومبتهج بما فضله الله وفض له، ونعم الله السوابغ والسوائغ (التوابع) الشرائع الدوائم الدوائب، الفوائض الفواضل، السائرة إلى عباده، الواصلة إلى بلاده، لا تنقطع ركائبها، ولا تنقشع سحائبها، وباب الفيض مفتوح، وكل من الجواد الكريم ممنوح، وليس وصول المواهب الربانية، والعثور على الأسرار الإلهية، بأب وأم، بل الله يختص برحمته من يشاء، وإن تقطعت من الحاسد الأحشاء، ولما أوردوها لهم بلسان يحرفون الكلم عن مواضعه، لم يلمحوا بالنظر الباطن زواهر جواهرها من أصداف أصدقائها (1)، ولم ينهوا عيون العقول عن زيغها وإصدافها، ولم يتحلوا بها فيتزينوا ولم يصغوا بأسماع العقول إلى استماع إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا (2) بل صدقوهم في الفتنة والريبة، وصادقوهم في استماع النميمة والغيبة، فجعلوا الكذب الشنيع، لسهام التشنيع غرضا، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا (3) فنسبوه- إذ لم يفهموه- إلى قول الغلاة، ولا من أسرار الهداة (4)، فكانوا كما قال أمير المؤمنين علي: لقلنا غير مأمون على الدين، بصرت فيهم بما بصرت كما قيل:
أعادي على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار في تجول
مخ ۲۴
أو كما قيل:
حاسد يعنيه حالي
وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن مني
وفؤادي منه خالي
وغير ملومين في الإنكار لأنه صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان (1)، وإذا رد المنافق أسرار علي (عليه السلام) لبغضه، وردها الموافق بجهله بعد ما نقل أنه صعب مستصعب فإن كان يعلمه فما هو الصعب المستصعب، وإن لم يعرفه فكيف شهد على نفسه أنه ليس بمؤمن ممتحن، فهلا صمت فسلم، أو قال إن علم، فمن وجد فؤاده عند الامتحان، ورود نسمات أسرار ولي الرحمن، قد اشمأز وقشعر، ومال عن التصديق وأزور، فذاك بعيد عن الإيمان، قريب من الشيطان، لأن حب علي (عليه السلام) هو المحك بلا شك، فمن تخالجته الشكوك فيه فليسأل أمه عن أبيه (2)، من نقص جوهره عن العيار، فليس له مطهر إلا النار، وإنما دعاهم إلى الإنكار الجهل والحسد، وحب الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، والميل مع النفس والهوى، ومن يتبع الهوى فقد هوى، لأن هذه النفس الإنسانية هي التي تحب أن تعبد من دون الله وأن لا ترى الفخر والسؤدد إلا لها، وأن ترى الكل عبيدا لها، لأنها سلسلة الشيطان التي بها يتدلى إلى هذا الحرم الرباني، وإليها الإشارة بقوله وأجريته مجرى الدم مني، ولذلك قال (عليه السلام) «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» (3) وفي النقل أن الله تعالى لما خلق النفس ناداها من أنا؟ فقالت النفس: فمن أنا؟
فألقاها في بحر الرجوع الباطن حتى وصلت إلى الألف المبسوط وخلصت من رذائل دعوى الأنانية الأينية ورجعت إلى نشأتها، ثم ناداها: من أنا؟ فقالت: أنت الواحد القهار (4)، ولهذا قال: «اقتلوا أنفسكم فإنها لا تدرك مقاماتها إلا بالقهر» (5).
مخ ۲۵
فصل [قصور الفهم عن إدراك مرتبة أمير المؤمنين (عليه السلام)]
وكيف أنكروه، وما عرفوه، وبمجرد السمع له ردوه، وهو لعمري غرة فخر الأنوار، ودرة بحر الأسرار وزبدة مخض الأسرار ومعرفة أسرار الجبار، لأنه النهج الأسلم، والاسم الأعظم، والترياق الأكبر، والكبريت الأحمر، ولكن ذا المذاق الوثي، والصدر الشجي، لا يفرق بين الحنظل والسكر.
ولما كانت الموهبة من الكلم (1) المخزون أنكرتها العقول لقصورها عن ارتقاء عالي قصورها، وصعقت عند سماع نفخة صورها، فالغالي والقالي هلكا في بحر الإفراط والتفريط، والتالي والموالي وقفا عند ظاهر التشكيك والتخليط. فالقالي حجبه عن نورهم العالي ظلمة الكبر والحسد، والغالي تاه في تيه أسرارهم فضل عن سبيل الرشد، والتالي قاسهم بالبشر فوقف عن أسرارهم وقعد، والعارف نظر إلى ما فضلوا به من المواهب الإلهية فعرف أنهم سر الواحد الأحد، وأن ظاهرهم باطن الخلائق، وباطنهم عين الحقائق، وغيب الإله الخالق، فعلم من قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو (2)، فهم مفاتح غيب الله التي لا يعلم فضلها وسرها إلا الله، وإن رفيع شرفهم لا تنال أيدي العقول علاه، وخفي سرهم لا تدرك الأفهام والأوهام معناه، ولهذا قيل في الحكمة: لا تحدث الناس بما يسبق إلى العقول إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل من أسمعته نكرا يوسعك منه عذرا، وليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال تجد له رجال. وقال ابن عباس للنبي (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله أأحدث بكل ما أسمع؟ فقال: نعم إلا أن يكون حديثا لا تبلغه العقول، فيجد السامع منه ضلالة وفتنة.
مخ ۲۶
وقال رجل للصادق (عليه السلام): أخبرني لما ذا رفع النبي عليا على كتفه؟ قال: ليعرف الناس مقامه ورفعته . فقال: زدني يا ابن رسول الله. فقال: ليعلم الناس أنه أحق بمقام رسول الله. فقال:
زدني. فقال: ليعلم الناس أنه إمام بعده والعلم المرفوع. فقال: زدني. فقال: هيهات والله لو أخبرتك بكنه ذلك لقمت عني وأنت تقول إن جعفر بن محمد كاذب في قوله أو مجنون.
وكيف يطلع على الأسرار غير الأبرار. وقال علي بن الحسين (عليهما السلام):
إني لأكتم من علمي جواهره
كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن
إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا (1)
ولا غرو فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول للملإ من قريش: قولوا لا إله إلا الله. فيقولون، ثم يقول: اشهدوا أني محمد رسول الله، فيشهدون، ثم يقول: صلوا إلى هذه البنية، فيصلون، ثم يقول: صوموا رمضان في الهواجر، فيصومون، ثم يأمرهم بإخراج الزكاة فيخرجون، ثم يقول: حجوا واعتمروا، فيحجون ويعتمرون، ثم يدعوهم إلى الجهاد وترك الحلائل والأولاد، فيجيبون. ثم يقول: إن عليا وليكم بعدي، فيعرضون، ولا يسمعون، فيناديهم بلسان التوبيخ وهم لا يسمعون: قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون (2)، ثم يتلو عليهم مناديا وهم لا يشعرون: يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (3).
ويؤيد هذه القواعد: ما رواه الحسن بن محبوب عن جابر بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): يا علي أنت الذي احتج الله بك على الخلائق حين أقامهم أشباحا في ابتدائهم وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى . فقال: ومحمد نبيكم، قالوا: بلى.
قال: وعلي إمامكم. قال: فأبى الخلائق جميعا عن ولايتك والإقرار بفضلك وعتوا عنها استكبارا إلا قليلا منهم وهم أصحاب اليمين وهم أقل القليل، وإن في السماء الرابعة ملكا يقول في تسبيحه: سبحان من دل هذا الخلق القليل من هذا العالم الكثير، على هذا الفضل
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
مخ ۲۷
الجزيل (1).
ويؤيد ذلك: ما ورد في كتاب الوحدة عن ابن عباس أنه قال: مبغض علي من يخرج من قبره وفي عنقه طوق من نار، وعلى رأسه شياطين يلعنونه، حتى يرد الموقف (2).
وعنه مرفوعا إليه من كتاب بصائر الدرجات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: يا علي والذي بعثني نبيا بالحق، واصطفاني على سائر الخلق، إنك لو صببت الدنيا على المنافق ما أحبك، ولو ضربت خيشوم المؤمن ما أبغضك، فلا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا كافر منافق (3).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المخالف لعلي بعدي كافر ومشرك وغادر، والمحب له مؤمن صادق، والمبغض له منافق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، والمقتفي لأثره لا حق (4):
بحب علي تزول الشكوك
ويعلو الولاء ويزكو النجار
فإما رأيت محبا له
فثم العلاء وثم الفخار
وإما رأيت عدوا له
ففي أصله نسب مستعار
فلا تعذلوه على بغضه
فحيطان دار أبيه قصار
فوجب علي تنزيها للدين عن ظن الملحدين، وشك الجاحدين، واعتذارا إلى المؤمنين، بحكم من صنف، فقد استهدف، أن أورد في هذه الرسالة لمعة من خفي الأسرار، ومكنون الآثار، وبواطن الأخيار، وأميط عن محياها سدف الخفاء، ليبدو للطالب شهاب الاقتداء، في سماء الليلة الليلاء.
فإذا اتضحت بذلك خفايا الأسرار، وفضحت عن دررها أصداف الآثار، وبان بيان البيان، لمن ينظر فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر (5).
مخ ۲۸
فصل [أسرار علم الحروف]
ولما كان سر الله مودعا في خزانة علم الحروف وهو علم مخزون، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، ولا يناله إلا المقربون، لأنه منبع أسرار الجلال، ومجمع أسماء الكمال، افتتح الله به السور، وأودعه سر القضاء والقدر، وذلك بأن الله تعالى لما أراد إخراج الوجود من عالم العدم إلى عالم الكون، أراد العلويات والسفليات باختلاف أطوار تعاقب الأدوار وأبرزها من مكامن التقدير، إلى قضاء التصوير، عبأ فيها أسرار الحروف التي هي معيار الأقرار، ومصدار الآثار؛ لأن الباري تعالى بالكلمة تجلى لخلقه وبها احتجب ثم أوجد طينة آدم في العمل الذي هو عبارة عن الاختراع الأول، من غير مثال، ولا تعديل تمثال.
ثم ركز في جبلة العماء (1) نسبة من تلك الحروف ورتبها حتى استشرق منها في عالم الإيجاد، بلطائف العقل لإشراق الظهور، ثم نقله بعد ذاك في أطوار الهباء الذي هو عبارة عن الاختراع الثاني، ورتب فيه رتبة من الحروف التي ركزها في جبلة العماء حتى استشرقها في عالم الإيجاد بلطائف روحه في الاختراع الثاني، ثم نقله بأطوار الذر الذي هو عبارة عن الإبداع الثاني، وأوجد فيه نسبة من الحروف التي وضعها في جبلتها الفطرية، حتى استشرق بها في عالم الإيجاد بلطائف القلب في الإبداع الثاني، فالحروف معانيها في العقل، ولطائفها في الروح، وصورها في النفس، وانتقاشها في القلب، وقوتها الناطقة في اللسان، وسرها المشكل في الأسماع. ولما كان المخاطب الأول هو المخترع الأول، وهو العقل النوراني، كان خطاب الحق بما فيه من معاني الحروف، ومجموع هذه الحروف في سر العقل كان ألفا واحدا لأنه بالقوة الحقيقية مجموع الحروف، وهو الذي سمع أسرار العلوم بحقيقة هذه الحروف قبل سائر الأشياء، والعقل هو صاحب الرمز والإشارة، والحقيقة والإيماء،
مخ ۲۹
والإدراك. والحروف في لطيفة الروح شكل الضلعين من أضلاع المثلث المتساوي الأضلاع، ضلع قائم، وآخر مبسوط على هذه الصورة، والقائم ضلع الألف، والمبسوط ضلع الباء، وإنما قلنا بأن الحروف في لطيفة الروح شكل ضلعين، لأن فيض الأنوار البسيطة التي في العقل بالفعل هي في الروح بالقوة فاتفقا في وجود الأسرار، وتباينا في اختلاف الأطوار، ومن حيث إن الروح تستمد من العقل، والنفس تستمد من الروح، وجميع الأنوار العلوية تستمد من نور العرش، كذلك سائر الحروف تستمد من نور الألف، ورجوع السفلي والعلوي منها إليها، وكل حرف من الحروف قائم بسر الألف والألف سر الكلمة، وملائكة النور الحاملون للعرش من ذوات هذه الحروف، والأول منها المتعلق بالعقل اسمه الألف والموحدون لحضرة الجلال أربعة: العقل، والروح، والنفس، والقلب هو الموحد الرابع، وتوحيده بسر الحروف التي أوجدها الحق في جبلته ، لأن القلب لوح النقوش الربانية، بل هو اللوح المحفوظ بعينه. ومن هاهنا اختلفت الحروف باختلاف أوضاعها ونسبتها إلى أحوال آدم؛ فالدال يوم خلقه، وخط الجيم يوم تسويته، وخط الباء يوم نفخ الروح فيه، وخط الألف يوم السجود؛ فكان تركيب البنية الإنسانية بالحكمة الإلهية من شكل تربيعي، وتربيع طبيعي، ومن عالمي الاختراع والإبداع، فعلم أن العالم العلوي والسفلي بأجمعه داخلان تحت فلك الألف الذي هو عبارة عن الاختراع الأول، والعرش العظيم، والعقل النوراني، والجبروت الأعلى، وسر الحقيقة وحضرة القدس وسدرة المنتهى، وساير الحروف إجمالا وتفصيلا انبعثت عنه، وجميعها باختلاف أطوارها وتباين آثارها تستمد منه؛ وترجع إلى الرب سبحانه.
خلق الخلق بسر هذه الحروف، وعالم الأمر كن فيكون، وكلامه سبحانه في حضرة قدسه إنما سمع بهذه الحروف، وهي قائمة بذات الحق سبحانه، وأسماؤه المخزونة المكنونة مندرجة تحت سجل هذه الحروف، والألف منها أول المخترعات، ومنها سائر مراتب العالم، وجميع الحروف محتاجة إليه وهو غني عنها لأن سائر الأعداد لا تستغني عنه، وهو لا يحتاج إليها. ومن عرف ظاهر الألف وباطنه، وصل إلى درجة الصديقين، ومرتبة المقربين، لأن له ظاهرا وبطونا، فظاهره (3): العرش، واللوح، والقلم. وهو مركب من (3)
مخ ۳۰
نقط: الواحدة والواحدة والواحدة، وبحثها يأتي فيما بعد. وباطنه الأول (3) وهي: العقل، والروح، والنفس. وباطنه الثاني (11) وهو عدد بسائط الاسم الأعظم فإذا أخذ منه (12) وهي موضوع الأسماء والأعداد بقي (99) وهي عدد الأسماء الحسنى، وباطنه الثاني (71) وهو عدد اللام الفائض عنه، وهذا العدد مادة الاسم الأعظم وحرف من ظاهر الاسم الأعظم، وباطنه الثالث (42) وهو فيض اللام، وهو الميم، وعدده (45) وعددان في الألف واللام، وهذا العدد ظاهر الاسم الأعظم وباطنه، الرابع إن ضرب مفرداته في نفسها (9) والفتق الفائض عنه في فتق الحروف أيضا (9) وهي ألف ل ف ألف م م ى م، والعرش، واللوح، والقلم، مفرداتها أيضا (9) وهي ع ر ش ل وح ق ل م، والعقل، والنفس، والروح، أيضا كذلك ع ق ل ن ف س روح، فألف هي الكلمة التي تجلى فيها الجبار بخفي الأسرار .
فمن عرف ظاهره وباطنه، أدرك خفي الأسرار، ومكنون الأنوار، لأنه حرف يستمد من قيومية الحق والكل يستمد منه.
فصل
وأما الألف المبسوط وهو الباء فهي أول وحي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأول صحيفة آدم ونوح وإبراهيم وسرها، من انبساط الألف فيها سر القيامة بقيام طرفه، وهو سر الاختراع والأنوار، والأسرار الحقيقية مرتبطة بنقطة الباء، وإليها الإشارة بقول أمير المؤمنين (علي):
«أنا النقطة التي تحت الباء المبسوطة» (1)، يشير إلى الألف القائم المنبسط في ذاتها، المحتجب فيها، ولذلك قال محي الدين الطائي: الباء حجاب الربوبية، ولو ارتفعت الباء لشهد الناس ربهم تعالى (2).
مخ ۳۱
فصل
وحرف القاف باطن القلم وسر الأمر. والمراد بسر الأمر، القدر. والقلم ببسائطه (3) أحرف وهو الكائن لأسرار القدر، وهو سر الاسم الأعظم، والقلم حرفه الأول القاف المحيط بالعالم ظاهرا، وبالعلم باطنا وعدده (181). فإذا أخذ منه عدد الاسم الأعظم، وهو (111) بقي (70) وهي مادة الاسم الأعظم، وحرف من حروفه، كما أن السين حرف من حروف ظاهر الاسم الأعظم، ومن علم باطن السين علم الاسم الأعظم، وحرفه الثاني: ل، والثالث:
م، ومن هذه الحروف تتركب العوالم بأسرها، وسائر الموجودات بأجمعها داخلة تحت (299) اسما، والأسماء داخلة تحت الاسم الأعظم، والاسم الأعظم هو المائة والقاف بحسابه العددي مائة.
فصل
وحرف: ط طيار في جميع العالم، وسره في المبادئ الأوليات، وتعححت (1) نشأة الاختراعيات وسرها في العلويات والسفليات، ولها أسرار في ظهورها، فظهرت في آخر اسم لوط، فكان من سرها تدمير قومه، كما ظهرت الهاء في أول اسم هود، فكان من سرها خسف الأرض بقومه وتدميرها، وظهرتا معا في اسم محمد (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: طه وهو محمد بلغة طي.
فصل
وحرف الجيم (ج) حرف ملكوتي يتلقى عن الباء، يشترك فيه جميع العوالم الملكوتية وهو حرف أظهره الله في أول أسماء الجلال، والعرش قائم بجلال الجيم، والقلم يستمد منه الكرسي أيضا في صفة الجمال قائم به، وهو المثلث الذي انبسط فيه سر الألف والباء، وظهر
مخ ۳۲