174

مشاهیر اعلام المسلمین

مشاهير أعلام المسلمين

الشيخ محمد الغزالي- الداعية الأديب الشاعر

أ.د. جابر قميحة

في سبتمبر سنة 1917م، كان مولده، وفي مارس سنة 1996م، كان رحيله.. رحيله من دنيا الناس الفانية، إلى عالم البقاء في رحاب الله(1)، كان آخر ما سمعناه منه في مصر خطبة عيد الفطر سنة 1416ه، بمسجد مصطفى محمود بالجيزة. فكان- كعهدنا به- متوهج العقل والمشاعر، معبرا في صراحة وتفتح، وشباب وإيمان عن هموم المسلمين والعرب، وما حيك، ويحاك لهم من مؤامرات الظلم والعدوان.

وكان- يرحمه الله- يعالج القضايا الإسلامية والعربية والاجتماعية بالنظرة الشاملة الفاحصة الواعية، موزعا نظره على كل الزوايا والمنحنيات والنتوءات، فلا يترك من "مساحة" الموضوع قيد أنملة إلا استوعبه، وعالجه.

وكان- يرحمه الله- يتمتع بقدرة خاصة على استدعاء الشواهد القرآنية والنبوية، والتاريخية، والعلمية، والإحصائية لتأييد آرائه وتدعيمها، ولكن بدون تعنت أو تعسف، أو افتئات، متحليا في جدله بأدب الإسلام في أناة، ووقار ولين ورحمة، ولكن دون أن يتخلى عن حماسة المتمكن، واستعلاء الإيمان.

حتى الذين هاجموا- في شدة وقسوة وتشنج- بعض مؤلفاته الأخيرة، وخصوصا كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وطور بعضهم هجومه من "تجريح" ما كتب، إلى "تجريح من كتب"، حتى مع هؤلاء ظل عف القلم، عف اللسان، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى(2).

بعض من أعطياته

ومما يشهد له في هذا المقام موقفه من كتاب خالد محمد خالد "من هنا نبدأ"، لقد أحدث الكتاب ضجة كبرى لأنه كان غاصا بالغلط والمغالطات والهجوم الضاري على ثوابت الإسلام، منتصرا للتوجهات والمذاهب الغربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن هذا الهراء كان صادرا من "عالم أزهري"، تصدى له الإمام محمد الغزالي سنة 1950م، بكتابه "من هنا نعلم"، وبعلمه الموسوعي الغزير، وقوة عارضته، استطاع أن ينقض كتاب خالد عروة عروة، وخيطا خيطا دون أن يخدش الرجل في خلقه وعقيدته، وبذلك استطاع الغزالي- بهذا الكتاب، وبما تلاه من كتب - أن يرسي أدب الإسلام في الجدل والمناظرة، والحوار، والتحدي، والتصدي(3).

وتشهد لأستاذنا الغزالي- كذلك- قدرته الفائقة على الربط بين القديم والحديث، وكان يؤمن بأن "الحديث" يجب ألا يرفض لحداثته "بدعوى أنه بدعة"، أو يرفض "لعلمانية" صاحبه، وإلا كنا ممن لا يعدلون لشنآن قوم، والتوجيه الإلهي الحق هو {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: من الآية 8).

وقبل البعثة حضر محمد- صلى الله عليه وسلم- في دار عبد الله بن جدعان حلفا لنصرة المظلومين والمستضعفين هو "حلف الفضول"، وبعد أن بعث نبينا أثنى على الحلف، وأعلن أنه لو دعي إليه في الإسلام لأجاب(4).

ومما يزيد على نصف قرن، وضع الغزالي أمامنا "الميزان الصحيح"، إذ كتب "... نحن نقول: إننا نحارب التدين الباطل بالتدين الصحيح، ونحارب الكهانة المنافقة بالإسلام الحق، ونختبر كل ما يجد في الدنيا من أسماء وحقائق بما لدينا من كتاب وسنة، فما وافق مواريثنا المقدسة من كتاب الله وسنة رسوله قبلناه، وما جافاه نبذناه، ولا كرامة"(5).

ومن إبداع الغزالي- رحمه الله- تلك الخاطرة التي كان يكتبها أسبوعيا في صحيفة "الشعب" بعنوان "هذا ديننا"، يعالج في كل منها قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية، أو مشهدا من مشاهد "انكسار المسلمين" أمام "الأكلة" من الصهاينة والصليبية العالمية، ومن على دربهم سار، وقد تمثل خاطرته حملة على بدعة ضارة أو عادة اجتماعية خبيثة، أو ما دار في هذا الفلك، وكانت الخاطرة لا تزيد على ثلاثمائة كلمة، ولكنها كانت- بما تتمتع به من "تكثيف" و"تقطير"، في التقييم، وجمال عرض... شهادة حقيقية بأن الغزالي من أبرع من يكتب "الخاطرة" في عصرنا هذا، وبذلك اجتمع لقلمه القدرة على كتابة "السفر الضخم"، وكتابة الأسطر المقطرة الوافية، وما أصعبها إلا على أمثال الغزالي العظيم.

واحد من تلاميذه أنا..

وأشهد وأعتز بأني كنت واحدا من تلاميذ شيخنا محمد الغزالي، وما زلت، ولكنني- وأعترف- كنت تلميذا "لفكر" أكثر مني تلميذا "لمفكر"، كنت تلميذا أتلقى، أكثر مني تلميذا يلتقى، فقد عشت الغزالي: فكرا، وأدبا، وحصائل نفس وعقل وروح أكثر من معايشة مجالس ولقاءات، وقد يكون من أسباب ذلك سنوات غربة موزعة على قرابة ربع قرن قضيتها متقطعات بين الكويت وباكستان والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية.. غربة إرادية تهدف إلى تعليم الشباب في جامعات هذه البلاد أدبا ونقدا وفكرا ودراسات نقدية وإسلامية.

ولكن واقعي النفسي يقول- بلا غلو أو إفراط وإسراف-: إننى إن فاتني "الرسم" فما فاتني "الوسم"، وإن كانت "سيما" المؤمنين في وجوههم من أثر السجود، فإني رأيتها في شخصية الغزالي التي جمعت في أقطار النفس بين التواضع واستشعار العزة واستعلاء الإيمان، وجمعت في أقطار القلب بين روحانية دفاقة، وواقعية لا تجور، وجمعت في أقطار العقل بين سعة الأفق، والحسم، والقدرة على النقد والنقض والإقناع. إنه الحضور الدائم للشيخ العظيم:

وما كل مفقود يراع لفقده ولا كل حي فائق ومحبب

ولا كل من يحيا الحياة بحاضر ولا كل من في القبر ماض مغيب

فإن خلود المرء بالعمل الذي يقود مسار الخير لا يتهيب

عزيزا مع الحق القويم.. منارة تشد إليها كل قلب وتجذب

فالغزالي ما غاب وما زال- وسيظل- حاضرا فائقا، وإن غاب برسمه وجسمه، وهذه سمة العظماء الأجلاء من البشر، أيا كانت مواقعهم في دنيا الناس.. قيادة ورياسة وجندية، وفكرا وأدبا وشعرا.

ولكني أعود فأقول- بصدقية المحب المتابع: إنني عشت الغزالي وسما ورسما.. وجسما، وحسا وشعورا وصوتا، ومجالسة، ومصاحبة، ومعاناة وفكرا؛ فقد اكتشفت أن بين "المادي الغزالي"، و"المعنوي الغزالي" ترادفا؛ لأنه كله يمثل منظومة اسمها محمد الغزالي، ذات أنساق متسقات، وإن اختلفت في الأشكال، كباقة الزهر تجمع بين الورد والنرجس والفل والريحان، ولكنها جميعا تلتقى في سمات ثلاث: التلاحم والجمال والتقطير.. وهكذا كان شيخنا الغزالي، اتساقا في الفكر، ودقة في العرض، وإيمانا بالمقول، وتوافقا في الأعطيات، وقوة في الإقناع والاستمالة، ولا نزاع.

قطوف من الشجرة الشامخة

وأشهد أنني- وأنا طالب في بداية المرحلة الثانوية أواخر الأربعينيات- فتحت عيني وعقلي وقلبي معايشا متتلمذا على بواكير أعطياته الفكرية: الإسلام والأوضاع الاقتصادية (1947م) والإسلام والمناهج الاشتراكية، والإسلامي المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، ثم الإسلام والاستبداد السياسي، وتأملات في الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم، ثم كتاب: من هنا نعلم (1950م) الذي قصم ونقض فيه كل ما كتبه: خالد محمد خالد: من هنا نبدأ، وعشرات من الكتب بعدها.

وزيادة على ما أثريته من هذه الكتب في مجالات العقيدة والفكر ومناهج التناول والمعالجة والبحث والخلق الإسلامي العتيد... خرجت بأدب رفيع آسر جميل "وإن من البيان لسحرا"، فالرجل- رحمه الله- كان يعرض الحقائق الإيمانية، والمضامين الفكرية، وقواعد الدين والخلق في أسلوب طلي أخاذ، يشد القارئ إلى المعروض- كتابا أو مقالا، أو خطبة، أو محاضرة- ويحقق له المتعة الوجدانية، زيادة طبعا على الحصائل الفكرية... إنه يقدم الدواء في "عصائر" طيبة المذاق، فواحة الأريج، منزها عن التجرد والجفاف، فجاء نقيا نديا، يؤتي أكله- بإذن ربه- كل حين، وإن كل شريحة من شرائحه النصية في أي كتاب من كتبه لتصلح شاهدا على هذه السمة: حلاوة الأسلوب وطلاوته، وتدفقه وقوة أسره، ونقدم في السطور الآتية بعض القطوف التي تدل على هذه السمة:

1 - إذا دهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله، فما عساك تصنع؟ تدع الروع ينهب فؤادك، والعواصف الجائحة ترمي بك في مكان سحيق، أم تقف مطمئنا، وتحاول أن تتلمس بين هذه الضوائق مأمنا يهديك إليه الفكر الصائب؟(6).

2 - ... والحق أن الرجولات الضخمة لا تعرف إلا في ميدان الجرأة، وأن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاما لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة، وكما أن التردد خدش في الرجولة، فهو تهمة للإيمان، وقد كره النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرجع بعدما ارتأت كثرة الصحابة المصير إليه(7).

3 - الرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدا أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن تغرس في حاضر الإنسان جذرها ليمتد على مر الأيام والليالي فروعا متشابكة تظلل المستقبل. وتتغلغل فيه(8).

4 - إن محمدا وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة ، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات، بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم، والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب، وليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة(9).

التمثل والاستشهاد

ومن اللوازم الأسلوبية للغزالي الإكثار من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والحكم السلفية، والمأثور من الشعر القديم، وكذلك بعض الشعر الحديث، وهو يملك موهبة بصيرة قادرة على التقاط الشواهد، ووضعها في أنسب مكان لها، فيتحقق الانسياب والاندماج والتوافق، وكأن شواهده- غير القرآن والأحاديث النبوية- ما صيغت إلا للنص المعروض، ومن دقة اختياره المأثورة الآتية في سياق النعي على أدعياء الدين والتدين، الذين يفرطون في دينهم من أجل الحياة الناعمة، وزهرة الحياة الدنيا:

"عن مالك بن أنس قال لي أستاذي ربيعة:(10) يا مالك، من السفلة؟ قلت: من أكل بدينه. فقال: من سفلة السفلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه"، فصدقني (أي قال لي: صدقت)، وقال الفضيل بن عباس: "لأن آكل الدنيا بالطبل والمزمار أحب إلى من أن آكلها بدين"(11).

ولا يكاد فصل من كتاب للغزالي- وأكاد أقول صفحة- يخلو من شاهد من شواهد الشعر القديم يلتحم بنثره كأنهما يخرجان من مشكاة واحدة، يقول الغزالي: "وإنني بعدما بلدت الناس أجدني مضطرا لأن أقول: محض عملك لله، وانشد ثوابه وحده، ولا تنتظر أن يشكرك أحد من الناس، بل توقع أن يضيق الناس بك!! وأن يحقدوا عليك، وأن يبتغوا لك الريبة، وينسوا الفضل!! وأن يكونوا كما قال الشاعر:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا عني وما سمعوا من صالح دفنوا

جهلا علينا، وجبنا عن عدوهم لبئست الخلتان: الجهل والجبن(12)

وللشعر الحديث مكان في كتاباته وخطبه، ومن كلماته: "فالنهج الأقوم أن يكون مصدر طاقتنا المادية والمعنوية هو الحق وحده، وماذا على المريض المصاب بقرحة الأمعاء، لو أنه حسب الموت نقلة من بلد إلى بلد؟ وماذا لو تحمل نبأ العلة التي أصابته بطمأنينة وتسليم لأنه يؤمن بالله، ولا يحزن من لقائه، وإن اقترب موعده؟! ومن أبيات للشاعر محمد مصطفى حمام:

علمتني الحياة أن حياتي إنما كانت امتحانا طويلا

قد أرى بعده نعيما مقيما أو أرى بعده عذابا وبيلا

عل خوفي من الحساب كفيل لي بالصفح يوم أرجو الكفيلا

عل خوفي يردني عن أمور خبثت غاية وساءت سبيلا

وعد الله من ينيب ويخشى بطشه رحمة وصفحا جميلا

وبحسبي وعد من الله حق إنه كان وعده مفعولا"(13)

الوجوه المتقابلة

وفي أداء الشيخ يكثر توظيف التضاد، أو ما يمكن أن نسميه "الوجوه المتقابلة"، وما يسمى فنيا "المفارقة"، وهو أسلوب "يعتمد بصفة أساسية على عرض المتناقضات، أو المتقابلات، فهو يقتضي وجود "طرفين" تربط بينهما علاقة الضدية، وقد تكون المفارقة بين لفظين كالأبيض والأسود، كما تكون بين صورتين أو لوحتين متقابلتين لهدف فني أو فكري"(14)، يسميها بعضهم "بلاغة الأضداد"(15). والتناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل، أو بتعبير مقابل: تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف(16).

وواضح أن الهدف الأساسي من المفارقة هو خلق التمييز القوي الواعي لإدراك الفرق الشاسع بين الوجهين المتقابلين، فبضدها تتميز الأشياء، وذلك يكون قوة نفسية دافعة للمتلقي أن يختار الوجه الأحسن الأفضل.

ونقدم في السطور التالية نموذجين لهذه المفارقة، أو "الوجوه المتقابلة" من كتابات الشيخ:

1- النفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.

إن القاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة. وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تيارات وأفكار، ورغبات ومصالح، ومن هنا كان الإصلاح النفسي الدعامة الأولى لتغلب الخير في هذه الحياة، فإذا لم تصلح النفس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم(17).

2 - تمثيلية الصلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة، هل له من صلاته شيء؟ إننا لن نعده مبارزا بالعصيان، وتاركا للفريضة، لكن هل هذه التمثيلية تزكي نفسا ، وترفع رأسا؟ هذا المصلي الذاهل صنو المؤمن المقلد، وكلاهما لا تنهض به حياة، ولا يرشد به مجتمع؛ لأن كليهما معطوب من داخله، وأجهزته النفسية والفكرية في حالة ركود، على أن خطورة هذا النوع من التدين تبدو في ميادين الأعمال العادية، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة، وتتفاعل معه؛ لأنه يستحيل أن يتحرك بمعزل عنها، فإن كان صاحب عقل يقظان، ويقين وثاب فرض نفسه عليها، وطوع كل شيء حوله لما يريده.

والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمة، والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط، وأخلاقهم سائبة، والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخرون ما يملكون لدعمه، ويوجهون مواهبهم العلمية، وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون، والمؤمنون المقلدون، والمصلون الذاهلون ينفعلون، ولا يفعلون، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يقال لهم، لا ما توحيه ضمائرهم(18).

من ملامح الأداء التعبيري

ومع سهولة الأسلوب وتدفقه وحلاوته نرى السجع قليلا في عباراته، وأكثر منه الازدواج، فالأسلوب في مجموعه أسلوب مرسل لا تكلف فيه ولا تصيد، كما أنه في أدائه يكثر من التكرار المعنوي أو ما يسمى بالترادف، أى أداء المعنى الواحد بأساليب متعددة بهدف تأكيد المعنى وترسيخه، كما أنه يزيد من امتداد جاذبية الأسلوب، ومن ثم تقوية ارتباط القارئ بالمقروء تحقيقا للغرض المرجو المنشود.

ومع ذلك نجد في "التكرار المعنوي" بعض الفروق الكمية بزيادة محدودة في المعنى، أو ملمحا- ولو ناصلا- بفتح الطريق لزيادة في التفكير والتوليد، ومن التكرار المعنوي قوله: "ونظرت للقراء الذين يطالعون الصحف، والجمهور الذي يسمع الإذاعة فما وجدت جبينا مقطبا، ولا عينا دامعة، ولا تعليقا محزونا!! إنهم يقرءون أخبارا لسكان كوكب آخر!! إن الغزو الثقافي نجح أتم نجاح في إماتة الأخوة الإسلامية، وإهالة التراب عليها"(19).

ومن سماته الأسلوبية إيثار نوعين من الجمل: الجمل المساوية التي تأتي على قدر الفكرة المعبرة عنها، وأكثر منها الجمل الطويلة التي تتسع للفكرة المنبسطة الممتدة، كما رأينا في نص سابق: "والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمة... والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم...".

وتجسيم المعنويات- أي إبراز المعنوي في صورة حسية- وكذلك تشخيص الجامد ببث الروح والنبض فيه- فكأنه حي من الأحياء- هي ظاهرة مطردة في التصوير عند الغزالي، كما نرى في الأمثلة الآتية:

- ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار أمر جاف، أو فرض تكليف أجوف، كلا، فالأمر يحتاج إلى تلطف مع النفس، واستدراج لمشاعرها النافرة، وإلا فلا قيمة لأن تقول: أنا راض، ونفسك طافحة بالضيق والتقزز!! وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك(20).

لقد جسم الغزالي الرضا، والأمر، والتكليف، والضيق والتقزز.. فبدت في صورة حسية مجسدة، كما شخص: النفس والمشاعر؛ فإذا بها في صورة حية نابضة، وهذه الظاهرة التصويرية- زيادة على ما فيها من طرافة- تبرز المعروض أمامنا كأننا نراه رأي العين، فيزيد إحساسنا به، ومعايشتنا له.

تأثر بالأداء القرآني

وكل ما ذكرناه آنفا من الملامح الموضوعية والفنية في نثر الغزالي إنما جاءت أثرا من آثار معايشته للأسلوب والمضامين القرآنية، وعن السمة الأخيرة يقول شهيد الإسلام سيد قطب: "التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية.."(21).

والمفارقة أو "الوجوه المتقابلة" من أبرز سمات الأسلوب القرآني، وخصوصا في عرض مشاهد القيامة كما نرى في الآيات الآتية:

{هل أتاك حديث الغاشية (1) وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين آنية (5) ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغني من جوع (7) وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية (10) لا تسمع فيها لاغية (11) فيها عين جارية (12) فيها سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16)}(22).

فالغزالي عاش القرآن معنى ومبنى، وتربى على مائدة الإسلام بعقيدة قوية، وعقلية ناضجة، وحافظة واعية، فلا عجب أن يتأثر بالأسلوب القرآني، وطوابعه الفنية، ومضامينه وتوجيهاته الإنسانية.. هذا عن الغزالي كاتبا وخطيبا.. أي الغزالي ناثرا، فماذا عن الغزالي الشاعر؟!

الشاعرية والشاعر

وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان طالبا في السنة الرابعة من المعهد الديني الثانوي صدر لمحمد الغزالي ديوان شعر باسم "الحياة الأولى"(23)، وفي طبعته الأخيرة(24) قرأنا لأستاذنا الكبير الدكتور مصطفى الشكعة تقديما- بل دراسة ضافية للديوان وشعر الفقهاء: مناحيه وموضوعاته وتطوره، وهي دراسة من ثمانين صفحة، أي بعدد صفحات الديوان نفسه.

و"الحياة الأولى" عنوان كالمنشور الزجاجي الذي يعطي ألوان الطيف السبعة، مع أن مصدرها شعاع واحد، وكذلك هذا العنوان قد يبادر ابتداء فيعطينا دلالة دينية تعني (الحياة الدنيوية)، استلهاما لقوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}، وقد يعطي دلالة زمانية.. تعني أنه "شعر الحياة الأولى"، أي الشبيبة الباكرة.

وقد يكون المقصود "الأولوية" بمفهومها القيمي، لا "الأولية"، بمفهومها الزمني، كأن الديوان يرسم الحياة الأولى- بفتح الهمزة وتسكين الواو- أي الحياة "الأجدر" بأن تعاش دينا وخلقا وسلوكا.. فهي صاحبة المرتبة الأولى- بضم الهمزة- متقدمة على كل المراحل.

ونقرأ القصيدة التي استهل بها ديوانه، فإذا عنوانها "الحياة الأولى أو نحو المجد"، مما يشي بأنه يريد الدلالات الأخيرة، وإن أشار إلى الدلالة الزمانية في مطلع القصيدة:

ثماني عشرة مرت سهادا أردت على المنام ولن أرادا(25)

ويقول الدكتور الشكعة: ".. هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هي منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقي، ومضمار نظيف، سعيا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر، وهو ابن ثمانية عشر ربيعا"(26).

والديوان خلا تماما من الغزل حتى البريء منه، وخلا من الهجاء والنفاق، والمدح الكاذب، وكل ما يشين ذوي المروءة، ولكنه عالج الحكمة والإخوانيات، والتعبير عن ذاته وسلوكه، ومكارم الأخلاق والإنسانيات والروحانيات في طوابع ووجهات صوفية، وتحدث عن بعض مظاهر الطبيعة كالفجر والشروق والشمس وبعض الموضوعات الوطنية(27).

فشعره إذن دار حول محاور ثلاثة رئيسة لا يكاد يتعداها، وهي:

1 - قصائد الطرح أو الدفق الروحي والأخلاقيات.

2 - قصائد الطبيعة.

3 - قصائد الوطنية أحداثا وشخصيات.

حقائق ثلاث

وبين يدي الديوان تطالعنا- بعد معايشة قصائده- بضع حقائق تتلخص فيما يأتي:

1- المعروف أن الشعراء الإسلاميين، وذوي التوجهات الدينية، وأكاد أقول شعراء العربية بعامة، وخصوصا في شعر الشباب والبدايات، يميلون- بل يكثرون من النظم في المناسبات الإسلامية كذكرى مولد الرسول- صلى الله عليه وسلم- والهجرة، والإسراء والمعراج، وبدر، والفتح.. وغيرها، وعلى ذلك كان شوقي وحافظ، وأحمد محرم، ومحمد الأسمر، ومحمود غنيم، وعزيز أباظة وغيرهم.

ولكننا لم نجد شاعرنا الغزالي يخوض هذا المخاض، وينظم في هذه المناسبات التي تهم كل مسلم، وهو من هو تدينا وفقها، واعتزازا بالإسلام، وقد يفسر ذلك بأن الشاعر قد استغرقه شعر الدفق الروحي التصوفي، فوجد فيه ما يكفيه مئونة هذه الموضوعات من شعر المناسبات، وربما جاء هذا التوجه كنوع من "الاعتزاز الذاتي" دفعه إلى إغفال نهج الآخرين، وتوجههم الموضوعي والفني.

2- في عناوين كثير من قصائد الغزالي عرامة وقوة إيحاء بعيدا عن المباشرية والتصريح مثل: الزمن السحور- سرى وثرى- نور الحقيقة- صمت الريف الهامد- الموت الضال في مرض الطفولة- سقطت ولما تنضج- النور الغريق- الشروق في القبور- ابن الظلمات.

مخ ۱۷۴