تورين
غادرت باريس ووجهتي المدائن الإيطالية، أولها مدينة تورين، فمر بنا قطار سكة الحديد في عدة مدن فرنسوية مثل شمبيري ومودان، وهذه الأخيرة واقعة على حدود فرنسا وإيطاليا، فيها جمرك مشترك للدولتين، نزلنا من القطار فيها؛ ليفتش العمال ما معنا من أمتعة وعفش، ثم عدنا إلى قطار آخر إيطالي، ودخلنا في نفق جبل سيني المشهور، وهو من آثار المدنية العظيمة ومن المناظر المشهورة في الأرض، يعد ندا لنفق سان غوثار الذي تقدم الكلام عليه في باب سويسرا، وقد بدءوا بنقبه في الجبل سنة 1861 فما انتهى عمله إلا عام 1870، واشترك في هذا العمل أمتا الطليان والفرنسيس فبلغت جملة المال الذي أنفق عليه 75 مليون فرنك، وطول هذا النفق ثمانية أميال من جانب في الجبل إلى جانب، وعرضه 26 قدما وعلو سقفه عن سطح أرضه 19 قدما، وفيه خطان لأرتال البخار، أحدهما للقطر الذاهبة والآخر للقادمة، وهم ينيرونه بمصابيح غاز بين الواحد منها والآخر مسافة 500 متر، فإذا دخل القطار هذا النفق أقفلت نوافذه والكوى، ولم يسمح لأحد المسافرين بفتح شيء منها ولا بمد يده أو إخراج رأسه مدة وجود القطار داخل النفق، لئلا يدخل قتام الآلة البخارية عربات المسافرين أو يحدث مكروه بسبب ضيق المجال، فكأنما المسافر في هذا النفق محبوس تحت قلب الأرض إلى حين، ثم يأتيه الفرج؛ إذ يخرج إلى وجه الأرض فيرى المرء نفسه طائرا في هذا القطار محلقا في تعاريج الجبل البهي يلتف من حول جبال الألب الموصوفة، وتتنوع من دونه آيات الجمال الطبيعي الرائع، فيكون الفرق بين ظلام النفق وقتامه وبهاء هذه المشاهد البديعة مما يزيد تأثيرها في النفس رسوخا، ويبقي لجبل سيني ونفقه ذكرا غريبا في الأذهان.
ووصلت تورين بعد سفر 30 ساعة في القطار المستعجل، ولهذه المدينة أهمية كبرى؛ فإنها كانت قاعدة إمارة بيامونته في القرون الوسطى، ثم علا شأنها حين دخلت في حوزة أمراء سافوا سنة 1418، ولما عاد أمراء هذه الدولة إلى امتلاك إيطاليا برمتها على عهد فكتور عمانوئيل جد الملك الحالي، جعلت هذه المدينة أيضا قاعدة المملكة الإيطالية الجديدة من سنة 1659 إلى 1865، ومن بعد ذلك نقل الملك كرسيه إلى فلورانس فاحتج أهل تورين واعترضوا على هذا الإبدال؛ لأنهم كان لهم اليد الطولى في توحيد المملكة الإيطالية، فما سكتوا عن الاحتجاج إلا لما صارت رومة عاصمة المملكة وهي أكبر مدائن إيطاليا وسيدتها من قدم كما تعلم، وفي هذه المدينة مع ضواحيها نحو أربعمائة ألف نفس، وهي مبنية في منبسط من الأرض واسعة الميادين مبلطة الشوارع تبليطا حسنا، وأكثر شوارعها طويلة لا يقل الواحد منها عن ألف متر في طوله، وكلها تحف بها الأشجار من الجانبين، وفيها الأبنية الجميلة المنسقة، فهي ممتازة بهذا الوضع وبنظافتها عن بقية المدن الإيطالية، وقل أن يخلو شارع أو رحبة في هذه المدينة من تمثال لأحد المشاهير الذين نبغوا في تورين أو سواها من مدن إيطاليا، فترى فيها تماثيل الجنرال لامرمورا قائد عساكر سردينيا في حرب القرم وغاريبالدي وكافور، وغير هؤلاء من الذين خدموا بلادهم خدمة خلدت لهم الذكر، والحق يقال إن مدن إيطاليا ملأى بهذه الآثار الجميلة.
ومن أهم مواضع هذه المدينة ميدان كاستيلو واقع في قلب البلد وهو يتفرع منه عدة شوارع مهمة كشارع غاريبالدي وشارع بو وشارع رومة، وفيه قصر قديم يعرف باسم «قصر المداما» أو السيدة سمي بذلك؛ لأنه كان لوالدة الملك فكتور أماديوس الثاني، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان قصر آخر للملك يقيم فيه حين يزور المدينة، ولا تخلو مدينة مهمة في إيطاليا كلها من قصر للملك أو قصرين كانت للأمراء والملوك الأول وهي كاملة الرياش والمعدات، ولكن أعضاء العائلة المالكة لا يقيمون في هذه القصور الآن إلا قليلا، وقد دخلت هذا القصر المنوه به، وهو قديم العهد بني سنة 1660 فألفيت رياشه جيدا بسيطا وقاعاته رحبة، وأهمها قاعة السلاح وفيه تمثال نابوليون الأول والسيف الذي انتضاه في معركة مارنجو، ونسران فرنسويان وأسلحة قدمتها مدن إيطاليا للملك فكتور عمانوئيل، وسيف قدمته لجلالته مدينة رومة سنة 1859، وإكليل من مدينة تورينو قدمته سنة 1860 وغير هذا كثير. وهناك ملابس آل سافوا الحربية الأولى تشبه التي وصفناها في غير هذا الفصل من ملابس فرسان القرون الوسطى وأسلحتهم، وسروج خيلهم أكثرها من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب، وتجاه هذا القصر - أي في الجهة الجنوبية من ميدان كاستيلو - قصر كارينانو القديم، ولد فيه الملك فكتور عمانوئيل، ويليه متحف فيه من الآثار المصرية ما لا يوجد في المتاحف الأخرى، ولا سيما البردي أو ورق البابيروس؛ فإن فيه ما لا يوجد نظير له في متحف الجيزة، وفيه من تماثيل الفراعنة الضخمة المصنوعة من الصوان الأحمر ما يستحق الذكر والإعجاب، وقد وصل معظم هذا إلى متحف تورين من قنصل لدولة إيطاليا أقام زمانا في مصر وأصله من هذه المدينة، فأرسل إلى متحفها كل هذه الآثار النفيسة.
وفي تورين ميدان آخر يعرف باسم كارلو عمانوئيل نصبوا فيه سنة 1873 تمثالا لكافور الوزير المشهور، وهو من أبناء هذه المدينة أيضا، وقد وضعوا على رأس التمثال إكليل الظفر وفي يده لوح عليه شعار كافور وهو «كنيسة حرة في بلاد حرة»، وما زال كتاب الغرب يتناقلون هذه العبارة عن كافور في كتاباتهم السياسية، وقد نقشوا على قاعدة هذا التمثال تاريخ استقلال إيطاليا، وتاريخ رجوع الجنود الإيطالية من حرب القرم، وتاريخ مؤتمر باريس وغير هذا مما كان لكافور به دخل كبير. ويتفرع من هذا الميدان شارع باسم كافور ما زال فيه البيت الذي ولد فيه هذا الوزير سنة 1810 وتوفي سنة 1861 والناس يقصدونه ويذكرون صاحبه العظيم كما يفعلون في كل موضع مثل هذا لذكر الرجال الكبار.
على أن أجمل ميادين تورين بلا مراء هو المعروف باسم فكتور عمانوئيل مؤسس المملكة الإيطالية الحالية، والشارع الفخيم الذي يتفرع منه بهذا الاسم أيضا، فإن هذين الموضعين هما نقطة الأهمية في المدينة ترى فيهما طبقات الأعيان وأهل البزة والترف، وفي كل الجوانب قصور فخيمة ومخازن عظيمة وشجر بهي وغرس شهي وماء يتدفق من البرك البهية، ومئات من سراة المدينة تخطو متنزهة، أو تروح وتغدو لشراء البضاعة النفيسة أو لقضاء الحاجات، وأنغام شجية تسمع في جوانب الميدان، فهنا ملتقى العز ومركز الحظ وهناء البال في هذه المدينة الحسناء. ويمكنك الوصول من هذا الشارع العظيم إلى الحدائق العمومية أو إلى الجسر المبني فوق نهر بو، وهو الذي مررت من فوقه وذهبت صعدا إلى جبال الكبوشيين البهية، سميت بهذا الاسم؛ لأن بعض رهبان الكبوشيين بنوا فوقها ديرا على ارتفاع ألف قدم عن سطح الأرض. والصاعد على قمة هذا الجبل في الترامواي البخاري يسير في طرق تزينها الصخور الضخمة، وتتخللها الأعشاب الندية وأشجار الصنوبر العطرية، فإذا ظللت صاعدا إلى جبل هنالك اسمه السوبرجا وارتفاعه 2000 قدم عن سطح الأرض وجدت في أعلاه كنيسة ومدفنا لآل سافوا بناها الدوك فكتور أماديو من أمراء الدولة الحاكمة في إيطاليا الآن، وفي الكنيسة قبة علوها 140 قدما إذا ارتقيت أعلاها رأيت من دونك منظرا يسحر الألباب لفرط جماله؛ فإنك يحيط بك المدينة والسهل والنهر وسلسلة جبال الألب العظيمة، منها جبل روزا ارتفاعه 15115 قدما، وجبل براديزو علوه 13780 قدما، وغير هذا مما تحلو الفرجة عليه وتنشرح لرؤيته الصدور، وهو كثير في تورين وفي أكثر المدن الإيطالية التي زرنا عدة منها، وكانت وجهتي من بعد تورين مدينة ميلان المشهورة، وإليك بعض ما يستحق الذكر عنها.
ميلان
هي عاصمة إقليم لومبارديا المعروف بالإقليم العالي في إيطاليا، وقد كانت من أهم مدن المملكة الرومانية في أكثر العصور؛ لأنها في القرن الحادي عشر كان تعدادها ثلاثمائة ألف نفس، واشتهرت في القرن الخامس عشر بصناعة التصوير حين قام فيها برامانته وليوناردو فنشي وتلامذتها الكثار، ولها الآن شهرة بالمصنوعات كالمنسوجات الحريرية؛ لما يزرع من شجر التوت في إقليم لومبارديا وغيرها من لوازم الأثاث والرياش، وهي بوجه الجملة من أكبر مدن إيطاليا تجارة وأكثرها ثروة، يبلغ عدد سكانها الآن نصف مليون ويشطرها شارع فكتور عمانوئيل المتصل بشارع فنسيا، وهما يوصلان إلى الحديقة العمومية، وفيها من أشجار المانيلا شيء كثير يتضوع منها روائح عطرية قوية، وحول البركة زهر ومقاعد وغير هذا مما لا أطيل وصفه؛ لأنه مثل الموجود في الحدائق العمومية الأخرى، وقد وصفت كثيرا منها، ولكن مدينة ميلان هذه تمتاز بأشياء لا نظير لها في الأرض، من ذلك الدوم أو الكنيسة تعد من عجائب الدنيا ولا يزيد عنها في الاتساع إلا كنيسة بطرس في رومية وكنيسة جيرالدا في إشبيلية بالأندلس - وقد مر ذكرها - وتعد كنيسة ميلان بين كنائس الطبقة الأولى في جمال بنائها وزخارفها، وما فيها من تماثيل القديسين المنقوشة على الحجر والرخام في سقفها وجدرانها داخلا وخارجا، وما أنفق على تذهيبها ودقائق صناعتها العجيبة، حتى إن مجموعها يعد مثال الجمال المؤثر في الأذهان، ولمنظرها مهابة من الخارج والداخل يشهد بها كل من أسعده الحظ برؤيتها، وصورها منتشرة في كل جهات الأرض، ومساحة هذه الكنيسة العظيمة 14000 متر مربع، يمكن نحو أربعة آلاف نفس أن يجتمعوا فيها، ويبلغ طولها من الداخل 162 مترا وعرضها 92 مترا وعلوها 220 قدما. والكنيسة كلها مبنية من الرخام، وهي قائمة على 52 عمودا محيط كل منها 12 قدما وسقفها من الرخام المختلف الألوان، ولها عدة شبابيك ونوافذ صنعت ألواحها الكبيرة من قطع الزجاج المختلف الألوان على شكل الفسيفساء، وهي تمثل حوادث الإنجيل والتوراة ولا يقل عدد هذه القطع في كل نافذة عن 350 قطعة، وهي من أثمن ما نزل على الزجاج من الصور المتقنة، يقف المرء أمام بعضها ساعات ولا يمل الفرجة، وقد يخيل للناظر إليها أنه يرى رجالا ومناظر صحيحة طبيعية لولا أن الصور تنقصها حركة الأشياء الحية، وعلى جدران الكنيسة من الخارج 2000 تمثال نقلا عن التوراة والإنجيل في القد الطبيعي، ولا حاجة إلى القول إنه كتب مجلد في تاريخ بنائها وعمل المهندسين الذين اشتغلوا بها، والنقود التي جمعت وصرفت عليها حتى تمت وتكرست في سنة 1577، وهي من ذلك العهد لا تبطل التحسينات فيها سنة بعد سنة حتى إنه أضيف إليها تمثال نابوليون الأول في سقف الكنيسة سنة 1805، ولكن العين المجردة لا ترى بدائع النقش والزخرفة في أعلى السقف بالنظر إلى ارتفاعه، ولهذا ترى كثيرين من السياح في يدهم النظارات ينظرون إلى ما فوقهم قبل البدء في الصلاة أو بعد ختامها، ولهذه الكنيسة برج يصعد إلى أعلاه على 300 درجة ترى من أعلاها جبال الألب، مثل الجبل الأبيض وجبل برنار وجبل السوبرجا في تورين السابق الكلام عنه، وغير هذا من المناظر البديعة.
كنيسة ميلان.
وفي شارع فكتور عمانوئيل رواق دعي باسمه مبني على شكل صليب صرف عليه ثمانية ملايين فرنك، طوله 320 مترا وعرضه 16، وارتفاعه 94 مترا وعلو قبته 180، ينتابه خلق كثير بعضهم يجلسون في القهاوي وبعضهم يأكلون في المطاعم والبعض يشترون لوازمهم من مخازنه كل ذلك داخل الرواق، وهو يمكن الوصول منه إلى تياترو سكالا المعدود من أكبر مراسح إيطاليا يضم 3600 شخص، والقارئ يعلم أن الطليانيين أهل طرب وفن، فالفقير منهم لا يتخلف عن الذهاب إلى ملهى لسماع الروايات أو الأغاني، وهم لا ينكرون الغناء أثناء مرورهم في الشوارع، تراهم في ليالي الصيف يجتمعون ومعهم آلات الموسيقى فتدوي الشوارع بأغانيهم وهم يعزفون ويطربون. وفي ساحة التياترو تمثال ليوناردو دي فنشي، ومن هذه الساحة يبتدئ شارع مانسوني، وهو من أبناء ميلان كان من أكبر الساعين في توحيد مملكة إيطاليا بقلمه كما سعى غاريبالدي بسيفه. وليس بعيدا من هنا متحف بريرا، رأينا في ساحته الخارجية تمثال نابوليون الأول، ثم دخلنا قاعاته فرأينا صورا كثيرة من صنع رفائيل وليوناردو وهي تعد في الطبقة الأولى، وأكثرها دينية بينها صورة مار مرقص يبشر في الإسكندرية، وصورة موسى وقد وجد طفلا على ضفة النيل، وخروج بني إسرائيل من مصر وخمسون ألف قطعة من النقود القديمة والجديدة من الذهب والفضة. ومما يذكر بين مشاهد ميلان، مدفنها المشهور، مساحة أرضه مائتا ألف متر، وهو يحيط به سور له أعمدة وأبواب بنيت بأدق صناعة، فإذا دخلت المدفن رأيت تماثيل الرخام الأبيض قائمة على تلك القبور، وهي أشكال كثيرة العدد والإتقان، فيها رموز وإشارات إلى المتوفين ، فإذا كان المتوفى طفلا صور ووالدته تنوح عليه أو شابا، فهناك عمود من الرخام قصف قصفا، وغير هذا من أدلة الاعتناء. وقد خططت شوارع منظمة فيها الأشجار والزهور والرياحين وبرك الماء، فما هذا المكان إلا من المتنزهات الموصوفة، وليس هو مجموع قبور يأنف من رؤيتها أو سمع حديثها السامعون.
ناپیژندل شوی مخ