ومن أجمل ما يذكر عن برشلونة إحدى ضواحيها نريد بها جبل مونسرات المشهور في الأرض لا يخلو معرض للصور في أوروبا من رسم له، وهو عبارة عن عدة آكام تشبه قوالب السكر في شكلها تجمعت هنالك على نسق غريب، وقد بنى الرهبان ديرا فوق ذلك الجبل له شهرة ذائعة وذكر في الحروب كثير، وفيه صورة للسيدة العذراء يزعمون أنها من صنع لوقا الإنجيلي ويحتفظون بها احتفاظا كثيرا، فلطالما أخفوها في لحف الجبل وفي المنازل مدة الحروب، ولم يبالوا بغيرها من تحف الدير، ثم أعادوها إليه بعد الحرب باحتفال كبير، وأكثر ما تم ذلك مدة الحروب الأهلية الأخيرة وحرب فرنسا وإسبانيا على عهد نابوليون؛ فقد كان الفلاحون والرهبان يظهرون بسالة وحماسة غريبتين في الدفاع عن هذه الصورة وحفظها، ولا عجب فإن اعتبارها عند القوم قديم حتى إن أكبر رجالهم كانوا يجلون قدرها ويحترمون الدير احتراما كبيرا، ومن الذين زاروا هذا الدير البابا بنوا والملك كارلوس الرابع مع زوجته والملك فردناند السابع سنة 1827 وهو الذي وهبه 130 ألف فرنك، والدير غني بأوقافه ونذوره واسع الجوانب، يمكن أن يضم ألفي شخص، وزواره لا يقلون عن سبعين ألفا في السنة. وقد زرته فرأيت منظر المدينة والبحر والجبل والسهول المحيطة من قيمة مونسرات، فإذا هي من أهم مناظر الأرض وأكثرها جمالا.
وعلى هذا، فإني سحت في إسبانيا سياحة طويلة بدأت من بلاد البورتوغال عند شطوط الأقيانوس الأتلانتيكي، وسرت من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الجنوب متبعا ضفاف هذه البلاد حتى انتهيت من أهم مناظرها ومدائنها المعروفة، وكانت جملة ساعات السفر في أرتال إسبانيا والأندلس 124 ساعة، ثم عولت على الرحيل وقد رأيت من جمال هذه البلاد وخصبها وبديع مواقعها شيئا كثيرا. ولما كانت برشلونة - وهي آخر ما ذكرت من مدن إسبانيا - قريبة من حدود فرنسا - كما مر بك - فإني قمت منها قاصدا مدينة مرسيليا، والمسافة بين المدينتين 15 ساعة أكثرها مناظر فائقة الجمال، سواء في أرض إسبانيا أو في أرض فرنسا، ورأيت في مرسيليا عدة من المعارف عائدين إلى هذا القطر السعيد، وكان من حسن حظنا أن سيد المحامد والفضائل سمو البرنس محمد علي باشا شقيق الحضرة الخديوية الفخيمة كان معنا عائدا إلى مصر، فكان هذا الأمير الكريم يلاطف كل مسافر ويعمل بكرم خلقه وطيب أصله وفرعه حتى وصلنا ثغر الإسكندرية وألقينا عصا الترحال فيها بعد تلك السياحات المطولة، والحمد لله على كل حال.
طريق إنكلترا
وفيه وصف بعض مشاهد فرنسا
يذكر القارئون أن الأمة الإنكليزية احتفلت في شهر يونيو من سنة 1897 بمرور 60 عاما على حكم جلالة الملكة فكتوريا، وأطلق على ذلك العيد العظيم اسم اليوبيل، وهو من حوادث الدهر المشهورة، لم يسبق له نظير في تاريخ الأرض، وقد لا يمر على الناس حادث مثله؛ ولهذا فإني قصدت إنكلترا في ذلك العام للسياحة فيها ولحضور هذا الاحتفال الغريب، وقد نشأ عن ذلك أني جعلت كلامي عن هذه البلاد العظيمة أقساما لا بد منها: أولها وصف الذي مررت به من مدائن فرنسا وغيرها قبل وصولي إنكلترا، والثاني تاريخ موجز لدولة الإنكليز لا غنى للقارئ عنه، وهو على شاكلة ما تقدم من الخلاصات التاريخية، والثالث وصف لمدينة لندن عاصمة هذه البلاد، والرابع وصف الاحتفال العظيم الذي تقدم ذكره ويتقدمه كلام عن جلالة الملكة فكتوريا صاحبة هذا العيد، وهذا الفصل من ألذ فصول الكتاب، والقسم الخامس وصف لبعض مدائن المملكة الإنكليزية المشهورة على مثل ما تم لنا في الممالك الأخرى، وعلى هذا فنحن نبدأ بالكلام على مدائن ليست من إنكلترا، ولكنها كانت في طريقنا، وإليك البيان: برحت الإسكندرية يوم الجمعة الموافق 4 يونيو من سنة 1897 في إحدى بواخر الشركة الفرنسوية المعروفة باسم مساجري ماريتيم، في يوم راقت سماؤه ورق هواؤه، وكانت وجهتنا الأولى مدينة مرسيليا، فكنا في الطريق نسرح الطرف في أطراف البحر الواسعة ونتأمل عظمة الفضاء حتى ظهرت جبال إيطاليا في اليوم الثالث، وقربت الباخرة من مدينة مسينا حتى إننا كنا نرى شوارعها ونحن سائرون في البحر. وفي اليوم التالي سرنا ما بين جبال كورسكا إلى اليمين وجبال سردينيا إلى الشمال حتى إذا كان اليوم الخامس ظهرت مدينة «مرسيليا»، وأوضح ما فيها عن بعد كنيسة «نوتردام ده لاجارد»؛ أي السيدة الحارسة. وقد بنيت هذه الكنيسة على مرتفع من الأرض كثير الجمال، وسنعود إلى ذكرها.
مرسيليا:
هي مدينة قديمة يغلب على الظن أن الفينيقيين أول من بناها وأوصل الأبضعة الصورية إليها، وهي الآن من أمهات المدن الفرنسية وأعظم الثغور التجارية في جنوبي أوروبا، كان لها فعال كبيرة في تاريخ فرنسا القديم والحديث ولا سيما في أيام الثورة المشهورة، وقد كان جل تقدمها من بعد أيام هذه الثورة؛ فإن أهلها عكفوا على المتاجر وجمعوا المال الكثير، ولما صار نابوليون الثالث إمبراطورا وجه إليها عناية خاصة ورقى شئونها، ثم فتحت ترعة السويس فصارت هي الصلة الكبرى بين الشرق والغرب في نقل المتاجر؛ لتوسط مركزها بين القارتين؛ ولذلك بنيت بها المرافئ الوسيعة والحياض الفسيحة والشوارع الكبرى والساحات والحدائق على أشكالها، وكثرت الدور والمنازل وأصبح سكانها لا يقلون عن سبعمائة ألف نفس ترى بينهم خليطا من كل جنس وملة يقصدونها للمتاجرة. وفي أكثر شوارعها حركة وضجيج دائمان يشهدان بكثرة الأعمال وأهمية المركز التجاري؛ فهي لا يزيد عنها في هذه الحركة غير مدن قليلة في أوروبا وأميركا.
وأهم الشوارع التي تستحق الذكر في مرسيليا شارع الكنابيير يضرب المثل بجماله ورونقه حتى إنهم جرى على لسانهم قول معناه: أنه لو كان في باريس مثل شارع الكنابيير لما وجد لها نظير. وهو في وسط المدينة يشطرها شطرين متساويين تقريبا، ويمتد من المرفأ وفيه من الأبنية العمومية والخصوصية ما يعسر عده، من ذلك بناء البورصة، وهو فخيم المنظر، قام على عمد متينة، وفي صدره نقوش تشير إلى الملاحة والصناعة والتجارة، وفي داخله يعقد مجلس التجارة جلساته، وتجاهه في هذا الشارع الحانات والمطاعم على أشكالها يقعد الناس فيها، وأكثرهم يشربون الإبسنت الذي أصبح مسكرا عاما لجماعة الفرنسيس يتعاطونه في كل حين، ويقول بعض المدققين إنه مسكر كثير الضرر بالأجسام والعقول تقرب نتيجة استعماله من نتائج الأفيون والمخدرات السامة، ولكن للفرنسيس ولعا به مشهورا.
وفي طرف الكنابيير هذا شارع نوايل، بني عن يمينه فندق نوايل من أحسن فنادق المدينة، وعن شماله فندق لابيه، وفي نهايته ميدان ملهان غرست به الأشجار الجميلة صفوفا صفوفا، ومهدت طرقه تمهيدا لطيفا، وفيه نصب للجنود الذين قتلوا في حرب 1870، فهو مثابة المرسيليين ومجتمع أفرادهم يؤمونه في كل عصر لسماع الأنغام والتفرج بعضهم على بعض على عادة الناس في مثل هذه المواضع. ويقرب من هذا الميدان أو هو يحده قصر الماء المشهور «شاتودو»، وهو أشهر ما في مرسيليا من المناظر التي يذكرها الغريب، إذا قصدته رأيت قبل كل شيء ماء يتدفق سيلا مدرارا ويتساقط من رابية كأنما هو شلال عظيم فينصب على صخور أقيمت في طريقه ويتحول منها إلى سلم من الحجر فيجري الماء على الدرج واحدة بعد واحدة، وله خرير ومنظر جميل، فوقفت أتأمل ذلك المنظر زمانا ثم ارتقيت الدور الأول من القصر له، سلمان مستديران واحد إلى يمين الشلال والثاني إلى شماله. وفي غرف القصر متحف تاريخي، أذكر من بين آثاره تمثال جندي مصارع من المرمر يستعد للقتال وقد أتقن صنعه، وظهرت جميع عضلاته، وتمثال كليوباترا يلسعها الثعبان، وغير هذا من المشاهد التاريخية. وفي الدور الأعلى متحف للصور، أكثرها من صنع المصورين المرسيليين وقليل بينها مشترى من الخارج، وقد صارت الأرض التي تلي هذا القصر حديقة عمومية لها شهرة بتنسيق أغراسها وأشجارها وما حوت من الزهر الغريب، بعضه منقول من أقاصي الأرض، هذا غير أن فيها مجموع طيور من أطراف المعمورة، وقد لا يوجد مثل بعض الطيور المجموعة هنا في حدائق لندن وباريس المشهورة، ولبعضها جمال غريب، منها ما يشبه ريشه الفضة، ومنها ما يقرب من الذهب، ومنها ما له الألوان الزاهية الكثيرة العدد، فهي من الأشياء التي يجب على الغريب في مرسيليا زيارتها مرة على الأقل.
وذهبت من هنالك إلى متنزه برادو المشهور غرست أشجار الدلب البهية إلى جانبيه صفوفا كثيرة على مسافة طويلة وقد نمت نموا عظيما، وأحاطت بها حدائق كثيرة لأهل اليسار من داخلها فخيم المنازل وبديع القصور. ويتصل بهذا المتنزه حديقة بوريلي وهي مشهورة باتساعها حتى إنهم ليقيمون سباق الخيل فيها كل سنة، ومنها يبتدئ متنزه الكورنيش العظيم، وهو محاذ لشاطئ البحر طوله خمسة كيلومترات ومنظره فائق الجمال؛ لأنه يحده البحر المتوسط عن شماله وإلى يمينه منظر المدينة بحدائقها ومنازلها وبقية ما ذكرنا من مشاهدها. ويتصل آخر هذه المتنزه بالمينا القديم الذي بدأنا بوصف المدينة منه، ويحده من أحد أطرافه شارع فيريول ترى أن ازدحام الناس في جوانبه شديد متواصل؛ لأنه أهم أماكن البيع والشراء في هذا البلد التجاري. وإذا استمر المرء سائرا إلى اليمين من هذا الشارع وصل ميدان بيير بوجه، وفي طرف الميدان تل مرتفع يمكن ارتقاء قمته بطرق متعرجة والنظر منها إلى هذه المدينة إجمالا، والمنظر هنالك غير جميل؛ لأن الرائي لا يلقى غير رءوس المداخن وسطوح المنازل بنيت بالآجر، سوده الدخان المتصاعد من المعامل والمنازل الكثيرة، وهذا منظر لا يروق لشرقي تعود النظر إلى سطوح نظيفة منبسطة يمكن أن تكون مثابة لأصحاب البيت في أواخر النهار.
ناپیژندل شوی مخ