131

مشاهد ممالک

مشاهد الممالك

ژانرونه

ركبت القطار من تلمسان إلى عاصمة الجزائر والمسافة بينهما 16 ساعة، وكان القطار يخترق سهولا فسيحة، فيها كروم العنب، بعضه للشمبانيا والبعض للبوردو من أشكال الخمر. وفيها القمح والشعير والعدس والحمص، ومن الشجر التين والزيتون والعناب. ويخرج الماء في بعض المواضع من ينابيع قامت على مجاريها أشجار الحور والصفصاف، وتكثر الأضرحة للأولياء في الطريق وكلها مطلية بالجير الأبيض. ويجري أولاد المغاربة وراء القطار في مسيره جري الغزلان، وهم حفاة تحت نار الشمس الكاوية وعلى رءوسهم الطرابيش المغربية. وهنالك مزارع لأناس من الفرنسويين أو للأهالي، وكل هذه الأراضي تشبه برية الشام التي تزرع قمحا وشعيرا وتروى بماء المطر، وتشبه أرض الصعيد في مصر أيضا؛ لأنها سهل منبسط يكتنفه جبلان من هنا ومن هنا، والجبال قاحلة جرداء، ووقف القطار في محطات كثيرة العدد حتى إذا كان الظهر دعي الركاب للغداء في القطار، فقدموا لنا طير الحجل مقليا ومشويا، وهو كثير في هذه البلاد، ومن الفواكه البطيخ والقاوون وكلاهما طعمه لذيذ. وأكبر المدن التي وقف فيها القطار أورليان فيل ومليانة، وقد حدث في أثناء المسير وقطارنا يجتاز تلك السهول والحزون أن أحد المسافرين صاح بالآخرين أن انظروا نهر الرون، وهو اسم نهر مشهور في فرنسا فحدقنا، وإذا بنا نرى نهرا ماؤه يجري مع أنه ليس في تلك الجهات أنهر، فعلمنا أنه السراب، وتأملته بالعين والمنظار معجبا لهذا المشهد البديع الذي يعسر الفرق بينه وبين الصحيح. ووقف القطار أول المساء في مدينة البليدا، وهي على مسيرة ساعة واحدة من عاصمة الجزائر، ثم في محطات أخرى حتى بلغ تلك العاصمة، وقد جن الليل وخيم الظلام.

الجير أو عاصمة الجزاير

فيها الآن من السكان حوالي 110 آلاف، منهم 44 ألفا من الفرنسويين، و36 ألفا من المسلمين، و92 ألفا من اليهود، و10 آلاف من أجناس أخرى يغلب بينها العنصر الطلياني، بني قسم منها على شاطئ البحر، وقسم على هضبة تعلو 400 متر تقريبا عن سطح الماء. وأبنيتها قائمة من ضفة الماء إلى قمة تلك الهضبة صفوفا متوالية في الارتفاع، فهم يبلغون الأحياء العليا منها على درج أو بطرق ملتفة طويلة، والقادم إلى المدينة من البحر يراها بأكملها أمامه بكنائسها وجوامعها وحدائقها وطرقها ومنازلها واحدا واحدا، فمنظرها جميل في النهار وفي الليل حين تسطع الأنوار من هذه المباني المتدرجة على أبهى الأشكال. وأول الشوارع المهمة شارع الجمهورية، يبدأ عند ضفة البحر وتجري فيه العربات والترامواي من جميع الأنواع. والقادم إلى هذه المدينة ينزل في الجمرك الكائن على الشاطئ، ويسير في شارع فسيح فوق الضفة حوالي 10 دقائق، ثم يدور في الطرق الملتفة حتى يبلغ مركز العاصمة هذا إذا كان راكبا. وأما المشاة فإنهم يرتقون سلما درجاته نحو مائة، فإذا هم في قلب المدينة على أهون سبيل.

أما وصف هذه المدينة فسأتبع فيه الطريقة التي جريت عليها في وصف مدينة باريس؛ أي إني أبدأ بالطرق المهمة واحدا واحدا، فأصف كلا منها إلى آخره بدل أن أتنقل تنقل الدليل الفرنسوي لهذه العاصمة وغيرها من موضع إلى موضع، ومن حي إلى حي حتى يحار القارئ في معرفة موضعه وكيفية الانتقال. وقد بدأت هنا بشارع الجمهورية، وهو الشارع الأول الممتد من البحر إلى آخر المدينة، كان اسمه شارع الإمبراطورة؛ لأن الإمبراطورة أوجيني وضعت أساسه على نسق شارع ريفولي في باريس سنة 1860، في رأسه ميدان يدعى ميدان الحكومة، وهو مستدير الشكل قامت فيه أحسن الفنادق والحوانيت، وفي وسطه تمثال الدوك دورليان نقش على قاعدته أنه تذكار من الجزائر والجيش سنة 1842. والشارع يمتد على طول المدينة فوق البحر، وقد تركوا جانب البحر منه بلا بناء حتى لا يحجب منظره وجعلوا الجانب الآخر صفا من الأبنية القائمة على قناطر تحتها أحسن الحوانيت والمطاعم والحانات، وفوقها منازل الأكابر والقناصل والشركات وبنك الجزائر. ويمر في وسط هذا الشارع خط للترامواي إلى أطراف المدينة، وهو متنزه العامة في ساعات العصر والغروب يتمشون فيه فوق ضفة الماء إلى موضع يقال له السكوير - وهو لفظ إنكليزي معناه الميدان - غرست فيه أشجار الزيتون والنخل، وعلى مقربة منه التياترو الكبير.

ويلي هذا الشارع لجهة الجبل شارع باب الويد، وهو ينتهي إلى شارع باب عزون، وكلاهما يخترقان قلب البلد، بني من القناطر إلى الجانبين، وقد رصت أرصفة الشارعين تحت القناطر بالسمنت الناعم، مثل أرصفة الإسكندرية. ودارت في الحوانيت حركة تجارية مهمة، حيث تباع الأبضعة الباريزية من جميع الأشكال. ويلي ذلك الشارع الثالث، يمتد إلى جهة الجبل واسمه لالير، فيه تجار البضائع الوطنية، وقد بنيت القناطر إلى جانبيه للوقاية من الحر والمطر، وهو يبتدئ من ميدان ملاكوف حيث قام قصر الحاكم العام الشتوي، وأصله دار حسن باشا، والأسقفية، وأصلها دار بنت الباشا، والمكتبة العمومية وأصلها دار مصطفى باشا. وقد بنوا في هذا الميدان كنيسة سنة 1890، جعلوها على الطراز المغربي، لها قبتان للأجراس كأنهما المآذن، والجدران لها خط أحمر وخط أبيض. ويليه شارع أسلي دعي بهذا الاسم تخليدا لذكر انتصار الجنرال بوجو على المغاربة في جهة نهر أسلي على مقربة من مدينة وجدة، وسمي القائد بعد ذلك الدرك أسلي. ويلي هذا الشارع لجهة الجبل أيضا حي اسمه مصطفى العالي، بني على سطح الجبل، وفيه منازل الأغنياء تشرف على المدينة والبحر، وهو أحسن أحياء هذه المدينة، وقد جعلوا شوارعه ملتفة متعوجة، مثل كل المواضع المرتفعة، وفيها قسم للترامواي وقسم للمشاة وقسم للعربات.

وقد ركبت عربة من ميدان الحكومة الذي سبق ذكره وجئت هذا الحي العالي حتى بلغت قصر الباردو، وهو القصر الصيفي السابق لولاة الجزائر، ويقيم الآن فيه الحاكم العام الفرنسوي رأيت عند بابه تماثيل الحكام الفرنسويين، ودخلت مع خادم عادته أن يدور القصر مع المتفرجين الغرباء ليرشدهم، وسرت في حديقة واسعة أكثر شجرها مما ينمو في البلاد الحارة، كالنخل وقصب الغاب والنارنج والبهار البري، ورأيت أن الدور الأول كله على النسق الشرقي، فيه الأروقة القائمة على عمد مستدقة، وأرضه مبلطة بالرخام الأبيض، والغرف تحت هذه القناطر متلاصقة صفوفا صفوفا، لا مدخل من إحداها إلى الأخرى، مثل بناء قصر شبرا، وتحت الأروقة أرائك من الحجر كانوا يضعون عليها المراتب والمخدات ليجلس الباي عليها أمام برك الماء.

وقد ارتقيت سلم الرخام إلى الدور الأعلى، فإذا بالجدران ملبسة بالقيشاني الأزرق، وعليها آيات دينية مكتوبة بالقيشاني الأبيض، فتأملت تلك الصناعة الدقيقة زمانا. وفي آخر السلم قاعة رحبة سقفها من عروق الأبنوس ممتدة وبارزة، وقد رصعت بالصدف والعاج على نسق قاعة ديوان الأوقاف في مصر، كما تقدم القول. ولهذه القاعة شبابيك كثيرة، إذا فتحت كلها غطت جميع الجدران، وكان لها مقعد عريض في دائرها يجلس فوقه البايات مربعين، فأبدل الآن بالكراسي والمقاعد الحديثة. وتلي هذه القاعة غرف أخرى تقيم فيها عائلة الحاكم العام في الصيف.

وخرجت إلى الحديقة فرأيت في طرفها من ناحية البحر كشكا قام على عشرة عمد من الرخام الأبيض، وهو مطل على البحر، وكل أجزاء المدينة، وقد كان هذا الكشك مثابة الباي في الزمان السابق، وعلى مقربة من القصر متحف جمعوا فيه آثارا قرطاجية ورومانية ورومية وإسبانية وعربية، أهمها الأسلحة ومعدات القتال القديمة وقطع رخامية من مدافن الرومان والعرب القديمة، منها مشهد كتب عليه باسم الله الرحمن الرحيم، وبأعلاه صورة عمامة، ومشهد آخر عليه عمامة مجدولة ولكنه طمست الكتابة التي كانت عليه.

وحي مصطفى العالي هذا مجموع دور فخيمة ومنازل للأغنياء ، تحيط بها الحدائق الغناء وكلها تشرف على البحر والمدينة، وفيه فنادق عظيمة ينتابها كثير من السياح لقضاء فصل الشتاء، وأكثرهم من الإنكليز يفضلها بعضهم على مصر؛ لما أنها قريبة من أوروبا، فبعدها عن مرسيليا 26 ساعة فقط، وهواؤها يشبه هواء القطر المصري. وقد حدث أني حانت مني التفاتة بينا كنت في هذا الحي، فرأيت ملكة مدغسكر في عربة مع تابعاتها من النساء، وهي حبشية اللون - يعلم القراء أن فرنسا استولت على جزيرتها بعد حرب شديدة ونفتها إلى هذه العاصمة من الأملاك الفرنسوية، وقد أجروا عليها رزقا وعينوا لها قصرا تقيم فيه إلى آخر الأيام - ورجعت عن طريق غاب فيه أشجار الصنوبر، وقد أطلقوا عليه اسم غاب بولون كالذي في ضواحي باريس.

وذهبت يوم الأحد بعد الظهر إلى حديقة عمومية في أطراف المدينة أصل اسمها الحما، ولكن الفرنسويين يسمونها حديقة ديسيه (أي التجربة والاختبار في غرس الأشجار)، وهي تبعد نصف ساعة بالعربة، وشكلها غريب؛ فإني سرت في أول الأمر مع السائرين في طريق مستطيل زرع إلى جانبيه قصب الغاب الفارسي، وطريق آخر مستطيل فيه شجر النخل المعروف في مصر باسم الدوم، يتفرع من ساق النخلة نحو خمس نخلات، وآخر فيه شجر النارنج والبرتقال، ثم طريق الجوز واللوز والدفل والمانيلا تتضوع منها رائحة تملأ الحديقة ، وقد نمت شجيرات الورد الأبيض، حتى إن بعضها بلغ قمة أشجار الحور متعرشا عليها، ورأيت دالية تعرشت أيضا حتى بلغت أعلى شجرة حور وتدلت عناقيد العنب منها، وفيها أيضا شجرة من التين الهندي كالتي في حديقة الأزبكية بمصر، وهي تتدلى أغصانها، فإذا اتصلت بالأرض تمت أشجارا جديدة متصلة بالشجرة الأصلية، ولو تركوها على حالها لغطت كل أرض الحديقة.

ناپیژندل شوی مخ