الحمامات المعدنية
معلوم أن بلاد النمسا اشتهرت بحماماتها المعدنية التي تقوي الأجسام وتشفي من بعض الأمراض، حتى إنها صارت ملاذ الأكابر ومصيف الأمراء يأتونها مستشفين أو متفرجين، وأشهر هذه الحمامات في مدينة كارلسباد سرنا إليها بقطار سكة الحديد من فيينا فوصلناها بعد 12 ساعة، وهي مدينة مشهورة لا يقل عدد الوافدين عليها كل سنة عن أربعين ألفا، يأتونها من كل حدب وصوب، وقد كثر ذهاب الناس من مصر إليها في الأعوام الأخيرة، واشتهر أمرها بين الكثيرين. وفي كارلسباد 14 نبعا للماء المعدني على أشكاله تختلف حرارته ما بين 26 و72 درجة بمقياس سنتغراد، قيل إن اكتشاف هذه الينابيع المعدنية كان بطريقة غريبة، هي أن الملك كارل الرابع خرج للصيد في أحد الأيام، وبينا هو يتأثر الأيل في هذه البقعة رأى كلابه تتوجع من حرارة الماء، فأمر بإرسال كمية منه إلى الكيماويين ليحللوه ويعلموا أمره؛ فعرفوا أنه يخالطه قلويات وأملاح تفيد الأبدان، واشتهر أمر هذه الحمامات بعد ذلك حتى كبرت المدينة ونمت من كثرة القادمين إليها، وفرضت المدينة ضريبة مقدارها عشرة فرنكات تتقاضاها من كل قادم للبلد، وتنفق مجموع هذه الضرائب على تحسين المدينة وتسهيل الإقامة وتوفير الراحة للقادمين، وقد بلغ دخل هذه المدينة في العام أربعمائة ألف فرنك مع أنها صغيرة لا يزيد سكانها عن خمسة عشر ألفا، ولكن فيها نحو 50 طبيبا مدة فصل الاستحمام يدلون المريض إلى النبع الذي يجب الاعتماد على مائه، وما يلزم له من الأكل والشرب وغير هذا من النصائح اللازمة. والناس يخرجون كل صباح إلى أماكن الاستقاء من الماء المعدني وفي أيديهم أقداح يتناولون الماء بها كل في دوره، وقد أوقفت البلدية رجالا من البوليس لخدمة الناس والمحافظة على النظام بينهم، وبنت أروقة وأبنية بديعة إلى جانبها يلجأ إليها الناس ويستريحون أو يقضون ساعات الفراغ وهم يسمعون الأنغام الشجية، وليس ينحصر دخل هذه الينابيع في الضريبة التي تتقاضاها الحكومة من القادمين، ولا في أجرة الحمامات ولكنهم يصدرون من مائها مقادير عظيمة في زجاجات معروفة إلى كل ناحية، فقد بلغ عدد الزجاجات التي تصدر من كارلسباد كل عام ثلاثة ملايين زجاجة، وتسعين ألف رطل من الملح يخرج من ماء الينابيع، وبعض تلك الينابيع يندفع الماء منه بقوة كبرى مثل نبع سبرودل يرتفع ماؤه 13 قدما عند خروجه ويصب في بركة نحو 33 مترا مكعبا كل دقيقة، ودرجة حرارته 72 سنتغراد، فيتناول الشاربون الماء مصا كمن يشرب القهوة أو الشاي، وأكثر الينابيع تجد فيها البنات يخدمن القادمين خدمة تنشرح لها الصدور، وهؤلاء الخادمات كثيرات أيضا في المطاعم والمتنزهات المحدقة بالمياه المعدنية في كل جانب، ولكل خادمة منهن نمرة تعرف بها، والمرء إذا فرغ من الاستقاء عند الصباح ذهب إلى المطاعم المذكورة، وبعدها دار في تلك المتنزهات الكثيرة، وأهمها جبال تحيط بالبلدة وكلها غياض غضة من شجر الصنوبر الباسق تفوح روائحه العطرة في كل جانب، وقد نظمت طرقات بديعة متعرجة للصعود إلى رأس تلك الجبال ووضعت المقاعد في الطريق يستريح عليها الناس، وعلقت في بعض الأشجار أيقونات لمن يريد الصلاة في الطريق، وأهم هذه الجبال جبل فرانس جوزف ارتفاعه 1637 قدما، وجبل أبير ارتفاعه 2000 قدم وغيرهما.
وأما المطاعم والفنادق في كارلسباد فكثيرة جدا، تكفي لكل الزائرين والنازلين وكلها تحت مراقبة الحكومة متبعة النظام الصحي، فلا أطعمة غليظة فيها ولا أفاوية حارة ولا فاكهة مضرة، وكل الأماكن العمومية في كارلسباد تقفل عند الساعة التاسعة من الليل، حتى إن المراسح تقوم بالتمثيل في النهار اتباعا لرأي الأطباء وعملا بما يفيد المستشفين، وهم الفريق الأكبر من زوار المدينة يأتونها من كل جنس وملة، وإني أذكر أني اجتمعت على مائدة واحدة للطعام برومي وفرنسوي وإنكليزي وبلغاري، ورأيت جماعة كثيرة من الوجهاء المعروفين في مصر.
ومن المواضع المشهورة بحماماتها المعدنية قرية جيسهبلر، يصدر من مائها المعدني مقادير وافرة إلى كل جهة، فيشربه الناس صرفا أو ممزوجا بالخمر، وهي تبعد نحو ساعتين عن كارلسباد، سرنا إليها من المدينة المذكورة في طريق كله غياض كثيفة لا يرى شعاع الشمس فيها من كثرة الشجر إلا في مواضع قليلة. وقد كانت أرض جيسهبلر هذه ملكا لواحد من أمراء النمسا، فلم يستفد منها شيئا وباعها لرجل ذي همة وذكاء اسمه الخواجة ماتوني، ما عتم أن ملك تلك الأرض حتى عني باستخراج مائها الشافي وجعل يصدر منه المقادير العظيمة، ويعلن في الجرائد عن فائدته ويسعى في تعميم استعماله حتى نال شهرة عظيمة، وأثرى الرجل وصار عنده مال طائل، فنقل بيته إلى هذه الجهة وقطع أشجارا كثيرة بنى محلها قصرا جميلا له ولعائلته، ومساكن للعمال الكثيرين الذين يشتغلون في تعبئة الزجاجات ماء وإصدارها إلى بقية الجهات، وهم مئات يعملون في الليل والنهار بعضهم يتلقى الماء من النبع، وبعضهم يملأ الزجاجات ماء وبعضهم يسد الزجاجة، وبعضهم يلصق عليها أوراقا باسم المحل وصاحبه، وبعضهم يضعها في الصناديق المعدة لنقلها حتى إذا ملئت الصناديق نقلت إلى الجهات الكثيرة، ومعظمها يرسل إلى البلاد الحارة، وهي تجارة رابحة دائمة لا وقوف لحركتها مدة العام بطوله، وقد بنى الخواجة ماتوني أيضا حدائق وفنادق للزائرين، وجعل هذه البقعة ذات أهمية كبرى، وسمي هذا الموضع بالميزاب؛ لأنه يدر الذهب على صاحبه كما يدر الميزاب ماء العين. والمكان بوجه الإجمال من أنسب الأماكن للاستشفاء؛ لأن هواءه نقي، والمناظر المحيطة به في الدرجة الأولى من البهاء والرواء.
ومن هذا القبيل أيضا مدينة ماريمباد تقرب من كارلسباد في شهرة ينابيعها المعدنية، وهي تفيد في تقليل السمن، وعلى مقربة منها بلدة اسمها فرانسس باد تزيد المستحمين بمائها سمنا، وأكثر الذين ينتابون هذه الحمامات المعدنية سيدات من اللواتي يعتنين بأجسامهن، فترى في ماريمباد جماعات منهن سمينات يشربن ماءها ويغتسلن ليذهب قليل من سمنهن، وقد جعل جلالة ملك إنكلترا يقصد هذه الحمامات كل سنة في العهد الأخير؛ فزاد إقبال الناس عليها زيادة كبرى، وأما السيدات اللواتي يجتمعن في فرانسس باد فيردن من ذلك اكتساب السمن، وقد كانت ماريمباد مجموع غابات وحراج من شجر الصنوبر وغيره فليس يخلو منه موضع إلا حيث قطع وأقيم في محله بناء. وأكثر أبنية المدينة جديدة وهي وافرة التنظيم والجمال، ولها شوارع فسيحة نظيفة وفسحات عدة يحيط بها كلها شجر الصنوبر تتضوع منه الرائحة المعروفة فتزيد المكان فائدة وجمالا، ويبلغ عدد الوافدين على ماريمباد 15 ألفا كل عام، ويصدر منها مليون زجاجة من الماء المعدني كل سنة إلى الخارج، ولهذه المياه شهرة واسعة، ولما استقر بنا النوى في هذه المدينة درنا نتفرج على مشاهدها الطبيعية وآيات جمالها، فجلست في قهوة اسمها قهوة جرلانديا بنيت فوق جبل يشرف على بحيرة طبيعية في سهل واسع الجوانب، وله منظر مفرط الجمال، وفيه الفتيات البوهيميات المشهورات بالرشاقة واللباقة يخدمن القاعدين في القهوة وهن لابسات الزي البوهيمي، وهو قبعة صغيرة على رأس الفتاة وصدر مكشوف وسواعد ظاهرة وجلباب قصير إلى ما تحت الركبتين بقليل، وقد علقت في أعناقهن سلاسل من الفضة، وهن يخدمن بنشاط وهمة تزيد في رونق ذلك الموضع وتتمم آيات حسنه وجماله، وقد زرت الينابيع المعدنية، وسرت تحت رواق عظيم الطول قائم على عمد كثيرة، وهو محل الاجتماع العمومي تصدح به الموسيقى، وعلى مقربة منه أناس من أهل البلاد يبيعون قطعا خشبية عليها نقوش وكتابات يجعلونها تذكارا لزيارة هذا المكان، أو أواني الخزف البوهيمي المعروف، وهي كثيرة في كل بلاد.
وبرحت هذه المدينة الجميلة قاصدا بلاد ألمانيا فعرجت على درسدن عاصمة مملكة سكسونيا، يقيم فيها ملك البلاد ووزراء دولته، وسكسونيا مملكة من ممالك ألمانيا المهمة عرفت بالتقدم في العلم والصناعة إلى الدرجة القصوى، ولعاصمتها المذكورة شهرة فائقة في معاملها ومدارسها العالية ومعارض الفنون الجميلة فيها، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نفس، وهي مبنية على ضفة نهر الألب الذي يشطرها شطرين متساويين ويزيد منظرها رونقا وحسنا، لا سيما وقد بنوا فوقه الجسور البديعة، أشهرها جسر أوغسطس طوله 400 متر وعرضه 13. وفي هذه المدينة 4 محطات لسكة الحديد تنقل منها المصنوعات السكسونية - ومن أهمها الخزف - إلى بعيد الأقطار، ويظهر منها ومن كل جهة أخرى في هذا البلد العظيم أثر الجد والنشاط على وجوه الأهالي، ويكثر مرور السفن والبواخر في نهر الألب مارة بين أحياء المدينة، وهي قاصدة أنحاء سكسونيا التي يرويها هذا النهر. ولقد شهدت فيها من القصور والمتاحف شيئا كثيرا لم أر حاجة إلى ذكره، فأتقدم إلى وصف بقية مدائن السلطنة الألمانية بعد شيء من خلاصة تاريخها.
ألمانيا
خلاصة تاريخية
إن دولة ألمانيا الحالية حديثة العهد، لم تبدأ على شكلها الحالي إلا في عام 1871، ولكن الممالك التي تتكون منها هذه السلطنة قديمة لكل منها تاريخ خاص بها، وقد كان أكثرها يعد في جملة الممالك الألمانية القديمة التي رأستها بلاد النمسا إلى أواسط القرن الأخير.
وأشهر ما يذكر عن ألمانيا أن أقوامها عرفوا بالبطش والبسالة في أيام الرومانيين، ولم يأتوا أمرا يذكر حتى قام شارلمان ونظم مملكته وخلفه ابنه لويس دبوناير، وهو الذي قسم مملكته الواسعة على أولاده في حياته، فأصاب أحدهم واسمه لويس الجرماني، أكثر الولايات الألمانية، ومن ذلك الحين - أي من سنة 843 - صارت ألمانيا دولة مستقلة، ينتخب ملوكها الأمراء والأعيان وأساقفة الكنيسة، وأكثر الذين وقع عليهم الانتخاب من العائلات المالكة، مثل عائلة شارلمان، وقام منهم ملوك اشتهر ذكرهم في التاريخ، منهم أوتو الكبير ملك من سنة 936 إلى 973، وهو رجل أكثر من الغزوات وحارب البابوات مرارا؛ فانتصر عليهم وجعل يعين من شاء منهم، ولكن الأمر انقلب بعد موته إلى ضد ذلك، فعلا شأن البابوات وصاروا يأمرون ملوك ألمانيا وينهونهم ويعزلون بعضهم ويولونهم، ويفرضون عليهم الغرامات وأنواع العقاب. وكان في جملة الذين اشتهروا من هؤلاء الملوك فريدريك بارباروسا ملك من سنة 1152 إلى 1190، واشترك في الحروب الصليبية، وكان له فيها المواقع المشهورة، أهمها واقعة قونية التي فتحها عنوة بعد قتال شديد.
ناپیژندل شوی مخ