128

مشاهد ممالک

مشاهد الممالك

ژانرونه

وسافر الأمير في أواخر سنة 1852 إلى الآستانة في باخرة حربية فرنسوية، فلما بلغها ذهب للصلاة في أحد الجوامع، ثم قصد سفارة فرنسا وسأل السفير أن يبلغ شكره لدولته على ما أتت معه من الجميل، ثم تشرف بمقابلة السلطان عبد المجيد، وتوجه إلى بورصة مع جماعة كثيرة من المغاربة تبعوه إليها، حتى إن مرتبه أصبح قليلا لا يكفيه، ولم يهنأ هذا الأمير بعيشة بورصة؛ لأن أهلها يجهلون العربية، ولم يحفلوا به حتى قيل إن واليها لما سئل أن يرسل إليه عربة، قال: ما بال هذا العربي لا يركب جملا! فطلب أن ينتقل إلى دمشق الشام، وأذن له بذلك بعد مخابرات بين فرنسا والباب العالي.

وتاريخ عبد القادر في الشام معروف، فإنه طابت له الإقامة فيها، وأحب أهلها وعاشر أكابرها، وأتى حسنة في سنة 1860 يخلدها التاريخ له إلى آخر الدهر؛ لأنه حمى ألوفا من الذبح حين ثار الأهالي على المسيحيين، وعرفت الدول بمروءته فأغدقت عليه نياشينها، وما زال يتقلب في نعم الشام وفضله يتدفق على ألوف من اللاجئين إلى ساحته حتى توفاه الله فيها في سنة 1888، وكان له يوم وفاته عشرة بنين وست بنات وخمس زوجات، فأما البنون فهم الأمير محمد باشا، ومحيي الدين باشا وكلاهما في الآستانة الآن، والأمير هاشم توفي في الجزائر، والأمير أحمد وهو في دمشق مع أخيه الأمير عبد الله، والأمير إبراهيم توفي في دمشق، وعلي باشا وهو الآن عضو مجلس الإدارة في ولاية سورية وصهر دولة عزت باشا العابد، والأمير عمر وهو أيضا في دمشق، والأمير عبد الملك في الآستانة، والأمير عبد الرازق في دمشق.

من مرسيليا إلى جزاير الغرب

إن السفر إلى الجزائر ممكن من مرسيليا إلى عاصمة ذلك القطر على أقرب الطرق، ولكنني اخترت الذهاب منها إلى وهران أولا لما أن وهران هذه واقعة على مقربة من مدينة تلمسان عند حدود مراكش؛ لكي أدخل مراكش منها، وعليه ركبت باخرة من سفن شركة ترانس أتلانتيك الفرنسوية، وكان في جملة ركابها عدد يذكر من الإسبانيين ذاهبين إلى وهران؛ ليسافروا منها إلى قرطاجنة، وهي مدينة إسبانية على شطوط إسبانيا الجنوبية تبعد عن وهران نحو 4 ساعات ، ومنها يتقدم المسافرون إلى داخلية إسبانيا، وكان سير الباخرة إلى الغرب، وقد قام على يمين وجهتها قلعة ديف، وإلى اليسار صخور رملية كأنها الرابيات، وبعد أن غابت مرسيليا عن الأنظار وسارت الباخرة في عرض البحر بقينا يوما على هذه الحالة حتى ظهرت لنا في الغد جزائر باليار، فجعلت الباخرة تسير أمامها، وهي من أملاك إسبانيا، مساحتها 5014 ميلا مربعا، وقاعدتها ماجوركا، وعدد أهلها 312655 نفسا. وحدث أن بعض آلات الباخرة تعطل عند هذه الجزر، فتعطل سيرها نحو ساعة ريثما أصلحت، واضطرب الركاب ولا سيما النساء منهم، فما هدأ الروع إلا بعد أن علموا حقيقة الحال، ولكن القوم عادوا إلى الاضطراب في الليل بسبب هياج البحر وتعالي أمواجه.

ولما كان صباح اليوم الثالث أطلت الباخرة على شطوط وهران، فرأينا جبل موجاجو وعلى قمته قلعة سانتا كروز بناها ماركيز إسباني بهذا الاسم سنة 1708، ولما بطلت أهميتها بنى الفرنسويون قلعة جديدة على الجبل المذكور. وقد أخبرني أحد ضباط الباخرة أنه يمكن للمرء أن يرى بعض ثغور إسبانيا، مثل قرطاجنة والميرية من هذا الجبل حين يكون الجو صافيا. ولما ألقت الباخرة مرساها في مرسى وهران كان قد مر علينا 40 ساعة في السفر من مرسيليا، وتأملنا المدينة عند ذلك، فإذا نصفها مبني على الجبل المذكور، وهو أجرد أقرع لا خضرة فيه ولا نبت، والنصف الآخر في لحف ذلك الجبل، فلا بد من السير صعدا، والدوران المألوف للذي يريد الذهاب من المينا إلى البلد؛ ولهذا ركبنا عربة من الفندق تجرها أربعة أفراس وجعلت تسير بنا الهوينا، وهي تتقدم صعدا بسير رويدة مرة تنثني إلى الشمال، ومرة إلى اليمين، ولحظت أن عربات العفش تجرها 6 أفراس، ولو قلت أحمالها بالنظر إلى صعوبة السير في هذه الطرق. ولما بلغت الفندق أرسلت نظري إلى البحر فإذا الباخرة التي جئت بها راسية في منخفض كأنه واد عميق.

وهران

في هذه المدينة حوالي 72738 نفسا من السكان، منهم نحو 36 ألفا من المسلمين، و24 ألفا من الفرنسويين، و8 آلاف من اليهود، والبقية خليط من الأجانب الشرقيين والغربيين، وهي قاعدة إقليم وهران، فيها الدوائر الإدارية والعسكرية، وتعرف عند الفرنسويين باسم أوران، ولعل اسمها محرف عن «خوران»؛ لأنها كانت في الأصل مبنية بين خورين تجري المياه فيهما مدة الشتاء.

ولا بد من القول هنا أن وصف مدائن الجزائر لا يتضمن ذكر العمائر الفخيمة والمشاهد العظيمة والمتنزهات البديعة كالتي ورد ذكرها في مدن أوروبا وأميركا، ولكن المزية هنا في اختلاف العناصر وأجناس البشر، مما يقل نظيره، وفي قيام المدن الداخلية على قمم الجبال يختلف علوها ما بين 600 متر و700، ومن حولها الأودية المتسعة كثيرة الزرع والغرس. ولكل من هذه المدن أسوار عالية يراد منها الدفاع ساعة اللزوم، مثل وهران هذه، لها سور يحيط بها وارتفاعه 5 أمتار، وقد جعلوا له 4 أبواب في جهات الأرض الأربع، فلا بد من المرور في أحد هذه الأبواب لداخل البلدة، والناس هنا تعرف أجناسهم من اختلاف ملابسهم، فالمسلم يلبس الطربوش المغربي الكبير وله زر (شرابة) طويل يبلغ الأكتاف تقريبا، فإذا لم يكن لطربوشه زر لف عليه عمامة بسيطة أو مجدولة كالحبل من شعر الجمال، وله صديري صدري بأزرار وحزام أحمر عريض، وسراويل فوق سراويل قصيرة إلى عند الركبة، ومن تحتها جوارب بيضاء صنع اليد، وحذاء أصفر مكشوف. ونساء المسلمين يبالغن في التحجب والتستر تلتف الواحدة منهن بحرام من الصوف فلا يظهر منها غير إحدى العينين، ولم ألتق مدة وجودي إلا بامرأة واحدة؛ لأن المرأة المسلمة لا تخرج من منزلها، وإذا ما دخلت بيت زوجها بقيت فيه إلى يوم الممات، ولم تتعرف بجاراتها من النساء، وفي ذلك مبالغة في الحجاب قليل مثلها في بقية الأقطار. وأما اليهود من أهل هذه المدينة فلبسهم يعرف بالعمامة البيضاء أو السوداء، والسراويل فوقها القفطان، وبعضهم يلبس الطربوش المغربي فوق الملابس الإفرنجية، ونساء اليهود يلبسن الفساطين البسيطة، ومن فوقها شال، وعلى الرأس منديل. ولليهود قوة سائدة هنا حتى إن يوم السبت يعد بمثابة العيد في المدينة، يقفل فيه قسم كبير من المخازن والحوانيت، وتجلس نساء اليهود أمام البيوت بالملابس المقصبة والحريرية وبأنواع الحلي.

ويكثر العنصر الإسباني في وهران وإقليمها؛ لأن إسبانيا استولت عليها نحو 250 سنة، وأما الآن فإن المنظر الأهم فيها لجنود فرنسا؛ لأنها الدولة المالكة ولجيشها شهرة في نظامه وهندامه، والفيلق الفرنسوي المعسكر في الجزائر يعد طليعة الجيش في كل حرب تقع لدولته في الشرق، مثل مدغسكر أو الصين؛ ذلك لأن هذه الجنود لها قدرة على احتمال الحر ومتاعب السفر، ولها شهرة بالبسالة تضرب بها الأمثال.

وتقسم وهران أحياء عديدة، يربط بعضها ببعض خطوط ترامواي متصلة إلى جميع الأطراف، ومركزها العمومي موضع يعرف باسم ميدان السلاح هو أحسن نقطة في المدينة، وقد جعلوه في وسطها مستديرا متوسط الاتساع، وفيه أشجار من العناب والنخل والخروب تنمو مع المعالجة الدائمة؛ لأن الأرض صخرية والماء قليل. وفي طرف هذا الميدان بناء الحكومة فيه المصالح الأميرية وقلم الجوازات وقلم المواليد والوفيات، وقد وضعوا عند مدخل هذا البناء أسدين كبيرين من الرخام الأبيض. ارتقيت الدور الأعلى من هذا البناء على سلم من الرخام الأبيض والأصفر كالموجود في جامع قلعة مصر، وأصله من مديرية بني سويف، كما أن أصل هذا السلم في بناء وهران من مقلع إلى جانبها. وفي الطرف الآخر من هذا الميدان ناد للضباط لا يدخله سواهم، وقد بني داخل حديقة صغيرة تصدح الموسيقى العسكرية فيها كل يوم بعد الظهر، وقد تقام فيه حفلات يدعى إليها الأعيان والوجوه. وفي وسط الميدان تمثال سيدي إبراهيم يمثل حادثة تاريخية، هي أنه لما كانت الحرب سجالا بين الفرنسويين والأمير عبد القادر صاحب الجزائر في سنة 1845، أحاطت جنود الأمير على كثرتها بشرذمة من رجال الفرنسيس، فصاح القائد الفرنسوي برجاله ألا يسلموا وأن يدافعوا حتى الممات، فقتلوا عن آخرهم أبطالا مجاهدين، ونصب هذا التمثال في سنة 1898؛ لإحياء ذكرهم، كما ذكرت في فصل التاريخ. والأثر عمود من الرخام، في أعلاه تمثال غادة حسناء تمثل فرنسا، وفي يدها قلم كتب على العمود بحروف الذهب هذه العبارة: «دافعوا حتى الممات.»

ناپیژندل شوی مخ