125

مشاهد ممالک

مشاهد الممالك

ژانرونه

وحدث في خلال هذه الحوادث أنه ظهر زعيم في جهة بسكرة على حدود الصحراء، اسمه محيي الدين من قبيلة هاشم، جعل يحض الناس على الجهاد في محاربة الأجانب؛ فأثر صوته في القبائل، وعرضت عليه أن يقودها للحرب فآثر الرجل أن يبقى في زاويته، وجعل ابنه عبد القادر أميرا وقائدا لتلك القبائل، بدعوى أنه رأى في المنام أن ابنه المذكور سيكون أميرا للعرب، فنودي بإمارة عبد القادر يوم 2 ديسمبر سنة 1832 في محفل حفيل، وكان هذا الشاب قد تربى في مدرسة القليعة وتضلع في العلم والفقه والشعر يجالس العلماء ويباحثهم، وله بينهم منزلة سامية على حداثة سنه، وكان طلق اللسان قوي الجنان مشهورا بين الفرسان، تبعه 12000 مقاتل من العرب إلى مدينة وهران؛ ليطردوا الفرنسويين منها، فلما بلغوها قاتلوا قتال الأبطال، ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على المدينة مع قلة حاميتها؛ لأن مدافع الفرنسويين كانت تصب نارا حامية، ولا أمكن الحامية أن تخرج لمقاتلة العرب بسبب كثرتهم، فانقضى القتال على غير جدوى، ولما وصلت هذه الأخبار إلى باريس صدر أمر حكومتها بعزل قوادها في الجزائر، فعين الجنرال فوارول قائدا عاما، والجنرال البارون ده ميشيل قائدا لحامية وهران، ووصل القائدان الجديدان إلى مواضعهما في سنة 1834، فتجدد القتال في أطراف وهران، ولكن الفرنسويين رأوا أن الأمير عبد القادر غاب عن معسكره في أثناء الحرب لعلة لم يفهموها، فاتضح يومئذ أنه عرف بوفاة والده في بسكرة فذهب إليها لإقامة الفروض المعتادة، وعاد في شهر أوغسطس من تلك السنة وعادت الحرب أيضا، ولكنها لم تعد بفائدة لأحد الطرفين، فرأى الجنرال ده ميشيل أن يخابر الأمير عبد القادر في المصالحة، وندب الأمير كاتب يده المدعو ميلود لمفاوضة الجنرال في ذلك، وكان هذا القائد - أي البارون دي ميشيل - من سراة فرنسا ووزير الحرب يومئذ صديقه لا يخالف له رأيا، فهو وافق على المعاهدة التي أبرمها هذا القائد مع الأمير عبد القادر بدون مراجعة القائد العام في عاصمة الجزائر حسب الأصول. وخلاصة المعاهدة المذكورة: (1) أن الحرب تبطل من يوم التوقيع على المعاهدة. (2) يتبادل الطرفان ما عندهما من الأسرى. (3) يكون للأمير عبد القادر مندوب في وهران ولفرنسا مندوب في بسكرة. (4) لا يجوز للفرنسويين أن يسافروا في داخلية البلاد إلا بتذكرة يعلم عليها الأمير أو من يقوم مقامه، ولا يجوز للعرب دخول المدن البحرية التي احتلتها فرنسا إلا بتذكرة يعلم عليها الحكام الفرنسويون. (5) تعطى الحرية المطلقة للأديان والمتاجر، وفي جملتها المتاجرة بالسلاح.

ولما اشتهر أمر هذه المعاهدة وعلا ذكر عبد القادر كثر حساده ومبغضوه من العرب، وتألبت بعض القبائل لمحاربته، وأهمها قبيلة بني عامر، وهي أكثر القبائل عددا في بلاد الجزائر، فلما التقت جنود القبائل بجنود الأمير عبد القادر هزمت جنود الأمير واضطر عبد القادر إلى الفرار، فلما علم القائد الفرنسوي بذلك، وكان يدري أن أعداء عبد القادر نقموا عليه؛ لأنه عاهد الفرنسيس وهادنهم ولم يعتدوا بمعاهدته، مده بالرجال والسلاح حتى إن الأمير رجع إلى محاربة هؤلاء الأعداء المتحدين عليه وكسرهم شر كسرة، وعاد إلى مقامه الرفيع وعلا شأنه بين الجميع، ولكن زمان الراحة لم يطل؛ لأن القائد العام في الجزائر غضب من عقد معاهدة وهران بلا اطلاعه ولا أمره؛ فأرسل إلى وزير الحرب يعترض على هذا الصنيع ويقول إن المعاهدة المذكورة جعلت عبد القادر أميرا حاكما في الجزائر وهو عدو فرنسا، وكان الواجب على البارون ده ميشل قائد حامية وهران أن يساعد أعداء عبد القادر على سحقه، وأقام ينتظر الرد من حكومته على هذا الاعتراض، وهو في خلال ذلك دائم التنافس والتحالف مع الموسيو بيشون الحاكم الملكي حتى صدر أمر الوزارة بإقالة الاثنين، وتعيين الجنرال ديرلون قائدا عاما في بلاد الجزائر، فلما وصل هذا القائد الجديد أقال الجنرال ده ميشل من القيادة في وهران، وزاد حاميات المدن البحرية، وشكل فرقة من الفرسان الوطنيين سماهم جنود الزواف، وهم يعرفون بهذا الاسم إلى اليوم، ودفع مبالغ طائلة إلى بعض رؤساء القبائل؛ لكي يحملهم على موالاة فرنسا؛ وللبقاء تحت طاعتها. فلما علم الأمير عبد القادر بهذا أرسل إلى رؤساء القبائل يحذرهم من الانتماء للأجانب والرضى لسيادتهم، وأرسل إلى القائد العام يقول لهم إن المسلمين لا يمكنهم الخضوع لدولته، فاستعد الفريقان لمعاودة الحرب، وأصدر القائد العام أمره إلى الجنرال تريزل قائد وهران الجديد بالقيام لمحاربة عبد القادر، وكان الأمير قد قام لمقابلة الأعداء وفتك بسرية تنقل إليهم العلف، ثم تقدم بثمانية آلاف مقاتل، وكان مع القائد الفرنسوي 2500 رجل فقط، فانتشب قتال شديد بين الطرفين، دارت الدائرة فيه على العرب، واضطر عبد القادر إلى الفرار، ولكنه أعاد الكرة في أحد الأيام بينا كانت الجنود الفرنسوية تتغدى، فهزمها شر هزيمة، وأسر منها 20 رجلا، وقتل عددا كبيرا، وحملها على الفرار إلى ثغر أزرو؛ لتكون تحت حماية البواخر الحربية، وكان هذا الانكسار علة عزل الجنرال تريزل بأمر القائد العام، وتعيين الجنرال دارلانج مكانه، ولكن هذا العزل لم يرق لوزير الحرب؛ لأن قائد وهران بذل غاية ما في الإمكان، فعزل القائد العام وعين الجنرال كلوزيل قائدا وحاكما عاما في بلاد الجزائر.

ولما وصل هذا الحاكم العام الجديد رأى أن الأحوال سيئة، وأن نفوذ فرنسا قل بين الأهالي، وأن الأمير عبد القادر أصبح الحاكم المطلق في داخلية البلاد إلى حدود مراكش ، فجعل همه إصلاح الأحوال، وانتقى بعض الأمناء من كبار الأهالي فعينهم حكاما وعمالا في المدن الواقعة تحت حكم فرنسا، وأرسل اثنين منهم إلى مواضعهما، فعاد الاثنان منها بداعي كثرة المعادين لحكومة فرنسا في الجبال، وقام القائد العام بنفسه ليفرق شمل هؤلاء الأعداء ومعه 5000 جندي، ولكنه حين بلغ أرضهم رأى أن جيشه لا يكفي لمحاربتهم فصبر ريثما جاءته النجدات من فرنسا، وتقدم لفتح بسكرة وهي مسقط رأس الأمير عبد القادر، فذهب عن طريق وهران بحرا، وسير جيشه منها 4 فرق، كان في إحداها الدوك دورليان ابن ملك فرنسا ومجموع قواتها 11000، ورأى الأمير عبد القادر أن القوة كبيرة عليه هذه المرة فأرسل يخابر القائد الفرنسوي بالصلح، ولم يقبل القائد، بل هاجم جيش الأمير وجعل يفوز عليه ويدحره، والأمير يتقهقر من أمامه حتى وصلت جنود فرنسا إلى قرية بسكرة فتقدم رؤساء القبائل وعرضوا الطاعة على القائد الفرنسوي فقبل، وطلب منهم رأس عبد القادر واعدا بثلاثين ألف فرنك للذي يأتي به، وكان الدوك دورليان من أكثر الجنود بسالة في هذه المواقع، ولكنه عاد إلى فرنسا على عجل؛ لأنه أصيب بالحمى فودعه القواد والجنود بالهتاف والإكرام العظيم. وفي سنة 1836 قام القائد العام في أثر عبد القادر فأدركه عند مدينة تلمسان في أطراف الجزائر وحاربه، فكسره كسرة هائلة وعاد إلى مدينة الجزائر بمائتي أسير، ومنها أرسل منشورا إلى القبائل يعلمها بانكسار عبد القادر، فأسرع بعضها إلى إعلان الطاعة وبقي البعض الآخر مصرا على ولاء الأمير، وبهذا انقسم الجزائريون بعضهم على بعض، وكان فريق منهم يحارب الفريق الآخر مع الفرنسويين، وقد حدث هذا في معركة الميدية سنة 1837، حين سير القائد العام بعض جنوده والقبائل المتحابة لمحاربة علي مبارك عامل الأمير عبد القادر فكسرته وبددت شمل رجاله، وكذلك حدث وراء وهران في تلك السنة حين قام قائد المدينة مع بعض القبائل لإعادة الكرة على الأمير عبد القادر، وفازوا عليه وفرقوا مواكبه بعد قتال شديد.

وقد سر أهل فرنسا سرورا عظيما من هذه الأخبار، ورأت الوزارة أنه لم تبق حاجة إلى الجيش العديد في الجزائر؛ فأرجعت بعضه رغما عن احتجاج القائد العام، وكان في هذا دافع جديد للأمير عبد القادر إلى معاودة القتال؛ لأنه طمع ببقية الجيش الفرنسوي، فتقدم بسبعة آلاف مقاتل على وهران، وقابله قائدها بثلاثة آلاف فدارت الدائرة على الحامية الفرنسوية، وجرح قائدها ورجع الجيش إلى وهران بعد أن قتل منه خلق كثير، فكان لهذا الانكسار تأثير شديد في فرنسا، وعادت حكومتها إلى تقوية جيشها في الجزائر، فسيرت النجدات تحت قيادة الجنرال بوجو، وهو من أشهر قواد فرنسا، وصل وهران في سنة 1827 بستة آلاف مقاتل، واستعد لمحاربة الأمير عبد القادر، وأما الحاكم العام فإنه ذهب إلى باريس في خلال هذه الحوادث، وعرض الحالة على الوزارة بوجه عام وخيرها بين امتلاك الجزائر كلها أو الاكتفاء بالثغور منها، أو الخروج من كل البلاد، فتقرر الاستيلاء على البلاد كلها، وعاد الحاكم العام إلى الجزائر يستعد لحرب عمومية شديدة، وأراد التقدم إلى قسنطينة للاستيلاء عليها (وسنذكرها في فصل السياحة)، وكان حاكمها أحمد بك، وقد استبد الرجل بحكم قسنطينة وابتز مال أهلها وشدد العقوبات لأقل هفوة، وبنى له قصرا جميلا في المدينة وجامعا على مقربة من القصر، وكانت جنود فرنسا تتقدم من ثغر عنابة لفتح قسنطينة ومعها الدوك دورليان السابق ذكره، وعددها 7000 من الفرنسويين و1500 من العرب والأتراك الموالين تحت قيادة يوسف بك التونسي، فسار الكل في أيام الأمطار الغزيرة والأوحال وطغيان الأنهر، وكان السير من أعسر الأمور، زاده خيانة بعض المكارين الوطنيين ووقوع الجيش في المتاعب، حتى إن القائد قال في تقريره للوزارة يومئذ إن حملة موسكو المشهورة لم تكن أكثر عذابا من سير جيشه من عنابة إلى قسنطينة، على أنهم بلغوا المدينة بعد أن فقدوا ضابطا و10 صف ضباط و116 جنديا، وأقام القائد حولها يعاين مواقعها وأبوابها وأسوارها وكان يؤمل دخول المدينة من أحد أبوابها القديمة، ولكنه لم ير حركة دفاع أو مقاومة من حاميتها في أول الأمر، فحسب أنه يستولي عليها بلا قتال. وبينا هو ينتظر قدوم المندوب ليخابره بالتسليم رأى راية الحرب، وسمع نداء القوم بالجهاد وتقدم قائد اسمه ابن عيسى لمقاتلة الفرنسويين في أكمة احتلها القوم واسمها تل علي. وأما أحمد بك حاكم المدينة فبقي فيها مع فريق من الجنود التركية. وبعد أن قاتل ابن عيسى قتالا شديدا هزم وارتد إلى المدينة وأوصد الأبواب، وعاد ابن عيسى فخرج مرة أخرى إلى ساحة القتال وهزم أيضا، فرجع إلى المدينة وصدر أمر القائد العام الفرنسوي إلى الجنرال تريزل بإطلاق القنابل على أحد الأبواب، واسمه باب القنطرة، كان يؤمل الدخول منه، وبينا هو يتفرج على فعل مدافعه أطلق العرب رصاص بنادقهم دفعة واحدة على الهاجمين؛ فأصابت الجنرال تريزل رصاصة قتلته، ولكن هذا لم يثن عزم القائد العام فوجه مدافعه إلى باب آخر، وقتل أمام ذلك الباب ضابطان و15 جنديا وجرح 79 من الفرنسويين، ودام إطلاق المدافع أربعة أيام على أسوار قسنطينة حتى نفد ما كان منها مع الجيش الفرنسوي، ورأى قائدها أن الاستمرار على الحرب لا يفيده، فأمر جنوده بالتقهقر والرجوع، وتبعها أحمد بك وابن عيسى يضربان في ظهورها ويزيدان متاعب السير في تلك الأوحال، وكان جملة من قتل في هذه الحملة المشئومة 11 ضابطا و443 جنديا وجرح 16 ضابطا و304 جنود، هذا غير ما أصاب القوم من الأمراض وأهوال الطريق في الذهاب والإياب، فلم يقل عدد الموتى عن 2000 محارب، وكانت نتيجة هذا الانكسار أن الحاكم العام استعفى؛ لأن حكومة فرنسا لم تمده بكل ما أراد من القوات، وسافر إلى باريس مع الجنرال بوجو، فلما وصلاها عينت الحكومة الجنرال دامرمون حاكما عاما، وأعادت بوجو إلى قيادة موقع وهران.

ووصل الحاكم العام دامرمون عاصمة الجزائر في أوائل سنة 1837، وكان الجنرال بوجو قد ذهب من طريق آخر إلى وهران، وهو يقول لبعضهم إنه مفوض من وزير الحرب في باريس بمخابرة الأمير عبد القادر رأسا، وعقد صلح يحفظ شرف فرنسا، فلما بلغ وهران أرسل إلى مشايخ القبائل يتهددهم بإحراق الزرع والمحصولات إذا جردوا سلاحا على فرنسا، وأوعز إلى يهودي اسمه دوران بالذهاب إلى محل الأمير عبد القادر واستطلاع رأيه في أمر الصلح، فكانت نتيجة هذا أنهم عقدوا معاهدة في 3 مايو من تلك السنة، هذه زبدة شروطها: (1)

يعترف الأمير عبد القادر بسلطة فرنسا في الجزائر. (2)

يحدد إقليم وهران ما بين البحر وجبل الأطلس في داخلية البلاد. (3)

لا يجوز للأمير أن يعتدي على الحدود الفرنسوية. (4)

لا يجوز لأحد الطرفين أن يتداخل في شئون الخاضعين للطرف الآخر في دائرة نفوذه. (5)

لا يعارض المسلمون في منطقة فرنسا في بناء الجوامع أو حرية دينهم. (6)

ناپیژندل شوی مخ