بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين-:
- في الموجودات إن كانت من العدم؛ فكيف يكون وجود من عدم؟
- وعن أي شيء صدرت الموجودات بعد أن لم تكن؟
- وهل صدورها عن محض المشيئة الأزلية؟
- وما الدليل القاطع العقلي على حدوث العالم؟
أفيدونا مأجورين -غفر الله لكم أجمعين-.
مخ ۳۹
[نص الجواب]
أجاب الإمام شيخ العلماء وعالم المشايخ الربانيين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية؛ فقال:
الحمد لله رب العالمين.
[«الموجودات وجدت من عدم» كلام مجمل]
قول القائل: «إن الموجودات، أو إن المخلوقات وجدت أو كانت من عدم»، كلام مجمل.
ولا يوجد مثل هذا القول في كلام الله، ولا كلام رسوله، ولا كلام أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ وإنما يوجد هذا في كلام طوائف من أهل الكلام.
وسأبين إن شاء الله مقصودهم وتنازعهم في هذا الموضع، مع أن غالب عباراتهم فيها يقولون فيها: (وجدت عن عدم)، و(هي موجودة عن عدم)، و(وجود عن عدم).
وحرف (عن) أبعد عن الالتباس من لفظ (من)؛ فإن (عن) للمجاورة بخلاف (من) فإنها تكون لابتداء الغاية.
مخ ۴۱
والذي في القرآن: إخباره بأنه خلق الإنسان ولم يكن شيئا، وإنكاره أن يكون مخلوقا من غير شيء، قال تعالى لزكريا لما قال: {رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا} قال: {كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} (¬1).
دله بأنه قد خلقه من قبل ولم يكن شيئا على أنه أيضا قادر على أن يخلق ولده وإن كان شيخا كبيرا.
ولذلك قال في السورة: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا • أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} (¬2).
فلما [تنكر] (¬3) الإنسان الكافر للمعاد وتعجب وقال: {أإذا ما مت لسوف أخرج حيا} قال تعالى: / (¬4) {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} فإذا كان سبحانه قد خلقه ولم يك شيئا، وابتدأه على غير مثال؛ فكيف لا يقدر على إعادته؟!
مخ ۴۲
ومن المستقر في بدائة العقول: أن الإعادة أهون من الابتداء، ولهذا قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} (¬5)، وإن كان للناس في قوله: {وهو أهون عليه} كلام ليس هذا موضعه. فإن قوله: {وله المثل الأعلى} كقوله: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} (¬6)، وهو بيان لأنه سبحانه لا يدخل هو والمخلوقات في قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا في قياس شمول يستوي أفراده، وإن كان من الناس من يزعم: أن اسم القياس لقياس الشمول حقيقة، وللتمثيل مجاز؛ كما يزعم ابن حزم (¬7) وغيره من أهل المنطق. ومنهم من يقول: بل اسم القياس للتمثيل حقيقة، ولقياس الشمول مجاز؛ كما يقوله الغزالي (¬1) وأبو محمد المقدسي (¬2) وغيرهما من أهل الفقه والأصول.
وأكثر الناس يجعلون القياس لهذا وهذا؛ كما يدل على ذلك كلام السلف، وعليه استعمال أكثر أهل العلم.
ومنهم من يسمي التمثيل: القياس الشرعي، والشمول: القياس العقلي، وهو غلط؛ كونه شرعيا وعقليا إنما هو نسبة إلى الجهة التي يعلم بها صحته، والقياس سواء علم صحته بالشرع أو بالعقل؛ فهو ينقسم إلى قياس شمول وقياس تمثيل.
والمقصود هنا: أنه سبحانه لا يدخل هو وغيره من المخلوقات تحت هذا القياس، ولا هذا القياس؛ فإنه {ليس كمثله شيء} (¬3)، ولهذا قال سبحانه: {فلا تضربوا لله الأمثال} (¬4)، {وله المثل الأعلى} كما أخبر في كتابه.
[نستعمل في حق الله تعالى قياس الأولى والأحرى]
مخ ۴۳
ونستعمل في أموره قياس الأولى والأحرى؛ وهو: أنه كل ما ثبت للمخلوق من صفة كمال؛ فهي للخالق بطريق الأولى والأحرى، وكل ما ينزه عنه المخلوق من صفة نقص؛ فتنزيه الخالق عنه / (¬1) أولى وأحرى؛ فله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
فلما جعل المشركون لله البنات ولهم ما يشتهون؛ قال تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} (¬2)، وقال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم • يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون • للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} (¬3). ولما أنكروا المعاد قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} (¬4)؛ فمثله أعلى من كل مثل.
وما من معلوم إلا وله في القلب مثل يطابقه مطابقة العلم للمعلوم، ومطابقة اللفظ للعلم، ومطابقة الخط للفظ.
وهو في نفسه الأعلى، ومثله الأعلى عند أهل السماوات وأهل الأرض.
والمخلوق الذي له مثل في القلب إذا كانت الإعادة عليه أهون من الابتداء؛ فالخالق الذي له المثل الأعلى أولى بذلك. فهذا إثبات القدرة له على ذلك بطريق الأولى. وإذا كان المخلوق يكره أن يكون له أنثى لما فيها من النقص؛ فالخالق سبحانه وله المثل الأعلى أحق بأن ينزهه العبد عن إضافة ذلك إليه. فهذا تنزيه بطريق الأولى.
مخ ۴۴
[مخالفة الفلاسفة ومشركي العرب لأصول الإيمان]
ولا ريب أن أصول الإيمان هي: الإيمان بالله وباليوم الآخر؛ بالخلق وبالبعث؛ بالمبدأ والمعاد.
والمخالفين للرسول ضلوا في هذين الأصلين؛ فكذبوا بالمعاد وجعلوا للرب ولدا، كما يزعم الصابئة المتفلسفة: أن العقول والنفوس يولدون عنه. ويقولون هي الملائكة؛ {وخرقوا له بنين} هي العقول، {وبنات} هي النفوس.
وكما زعم مشركوا العرب: أنه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة.
وأمثال هذه المقالات التي ترجع إلى ذلك.
فالمشركون والصابئون من العرب والروم والفرس والهند وغيرهم يرجع قول حذاقهم إلى هذين الأصلين.
وقد جمع بينهما / (¬1) في الكتاب والسنة: مثل ما في الصحيح (¬2) من حديث أبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: شتمني ابن آدم؛ وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم؛ وما ينبغي له ذلك. فأما شتمه إياي؛ فقوله: إني اتخذت ولدا. وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد. وأما تكذيبه إياي؛ فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
[مشابهة النصارى للفلاسفة والمشركين في أصولهم]
مخ ۴۵
والنصارى شابهوا الصابئين في هذين الأصلين من بعض الوجوه؛ فإنهم جعلوا المسيح ابن الله، وصوروا التماثيل في الحيطان؛ يستشفعون بها، ويتخذونها وسائط.
كما أن المشركين من الصابئين وغيرهم جعلوها أجساما تجسده ذات ظل.
مخ ۴۶
وكذلك في المعاد؛ فإن النصارى لم تؤمن بجميع ما أخبرت به الرسل من الأكل والشرب والنكاح واللباس في الجنة؛ ولهذا وصفهم سبحانه بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر؛ كما وصفهم بأنهم لا يؤمنون بالله في قوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (¬1)، ووصفهم بمضاهاة المشركين في قوله: {وقالت اليهود (¬2) عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون • اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (¬3)، وذكر الله في سورة مريم ما فيه خطاب للنصارى، وما فيه خطاب للمشركين من الصابئين وغيرهم؛ فإنه لما قص قصة المسيح قال: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون • ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. . .} إلى قوله: {أسمع بهم وأبصر يوم ياتوننا / (¬4) لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} (¬1) أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا! لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.
والنصارى ظالمون لما فيهم من الشرك، والشرك ظلم عظيم، وهم في ضلال عظيم؛ إذ هم من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، ففيهم من الجهل والظلم ما لا يخفى على ذي بصيرة؛ إذ يقولون ما لا يخفى على الصبيان فساده؛ فهم اليوم في ضلال مبين.
ويوم القيامة ما أسمعهم وما أبصرهم!! ثم قال: {وأنذرهم يوم الحسرة. . .} إلى آخر الآية (¬2)؛ فذكر المعاد في هذا الكلام، ثم إنه سبحانه في آخر السورة (¬3) قال: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا • أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}، وأقسم على المعاد لأنه ثبت بخبره الصادق؛ فوكده بقسمه البار، إلى قوله: {واتخذوا من دون الله (¬4) آلهة ليكونوا لهم عزا}، إلى قوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا • لقد جئتم شيئا إدا • تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا • أن دعوا للرحمن ولدا • وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا • إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا • لقد أحصاهم وعدهم عدا • وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}، فجمع في هذا الكلام بين أن عبودية الملائكة والأنبياء له، وأنه ليس نسبتهم إليه إلا نسبة العبادة لا التولد، وأخبر أنهم كلهم يأتونه عبادا فرادى، تحقيقا للمعاد.
مخ ۴۷
فصل
[طريقة القرآن في إثبات الصانع وصفاته]
فالمقصود هنا: أنه سبحانه ضرب المثل الأعلى، وذكر القياس قياس الأولى في إثبات قدرته على الإعادة بقوله: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} (¬1) فلم يقل: إنه خلق من عدم؛ بل قال: خلق ولم يكن شيئا. وهذا في غاية البيان والسلامة من الاشتباه؛ حيث أخبر: أنه خلقه بعد عدم بقوله تعالى: {ولم يك شيئا}، وأنكر أن يكون مخلوقا من غير شيء بقوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (¬2) وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي / (¬3) المستفهم عنه، والإنكار على من أثبته لظهوره وبيانه.
فتبين بذلك: أنهم لم يخلقوا من غير شيء؛ أي: من غير رب خالق خلقهم.
كما تبين: أنهم لم يخلقوا أنفسهم.
فعلم بنفس هاتين القضيتين: أنهم خلقوا من خالق خلقهم.
مخ ۴۸
كما قال: {وما بكم من نعمة فمن الله} (¬4)، وقال: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} (¬1)، وقال: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} (¬2)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند ذبح أضحيته: «اللهم منك ولك» (¬3).
وفي الصحيحين (¬4) عن جبير بن مطعم: أنه لما قدم في فداء الأسرى؛ سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. قال: فلما سمعت قوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (¬5) أحسست بفؤادي قد انصدع.
لأن هذا تقسيم حاصر ظاهر يتبين به ثبوت الخالق الصانع بأيسر تأمل؛ فإن العبد يعلم أنه لم يكن شيئا، وأنه كان بعد أن لم يكن.
ويعلم أنه لم يصنع نفسه ولم يبدعها؛ فإن العلم بامتناع هذا من أبين العلوم البديهية.
وكذلك يعلم أنه لم يكن من غير مكون، ولا حدث من غير محدث، ولا خلق من غير خالق خلقه.
والعلم بهذا أيضا من أبين العلوم البديهية؛ فتعين أن له خالقا خلقه.
مخ ۴۹
وهذه الطريق يعلم بها العبد ثبوت الصانع، وثبوت صفاته من غير أن يحتاج أن يعلم حينئذ حدوث الأفلاك؛ بل إذا ثبتت عنده الطريق المعلومة بالعقل الصريح التي أرشد إليها السمع الصحيح ثبوت الصانع؛ وترتب على ذلك ثبوت الرسالة؛ أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالطريق السمعية.
[طريقة أهل الكلام في إثبات الصانع]
ولهذا كان حذاق أهل النظر والكلام معترفين: بأن حدوث السماوات لا يفتقر فيه إلى العقل، وعابوا بذلك طريق كثير من المعتزلة ومن اتبعهم كأبي المعالي (¬1) وذويه؛ حيث جعلوا العلم بالصانع متوقفا على العلم بحدوث العالم (¬2)، والعلم بحدوث العالم متوقفا على العلم بحدوث الأجسام، وجعلوا الطريق إلى ذلك الاستدلال بحدوث / (¬3) الأعراض، وبنو ذلك على أربع مقدمات:
ثبوت الأعراض، ثم حدوثها، ثم لزومها للأجسام، وإذا لم تنفك الأجسام منها ثبت حدوث الأجسام؛ فإن ما لا يسبق الحوادث فهو محدث.
ثم منهم من اقتصر على ذلك، ومنهم من تنبه على أنه لا بد من بيان استحالة (حوادث لا أول لها)؛ وهي أهم مقدمات هذه الحجة؛ فاحتج على ذلك بحجة الموازاة والمسامتة (¬4) وأمثالها من الأمثلة المضروبة في امتناع ذلك.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري (¬5) في (رسالته إلى أهل الثغر) أن هذه الحجة مبتدعة في الدين لم يسلكها أحد من الأنبياء والمرسلين ولا الصحابة والتابعين. وهو كما قال.
مخ ۵۰
فإن هذه الحجة هي من أعظم أصول الكلام الذي ذمه السلف والأئمة؛ لأن فيها من المقدمات الباطلة التي أوقعت أصحابها في مخالفة الشرع والعقل ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره، وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
[بعض لوازم طريقة أهل الكلام المبتدعة]
وهذه الحجة هي التي أوقعت الجهم بن صفوان (¬1) في زعمه: إن نعيم الجنة منقطع، مع قوله بنفي الصفات.
وهي التي أوقعت أبا الهذيل (¬2) في قوله: بفناء حركات أهل الجنة والنار، مع قوله أيضا بنفي الصفات.
وهي التي أوقعت سائر المعتزلة وغيرهم في القول: بأن القرآن مخلوق، وفي إنكار رؤية الله في الآخرة، ونفي الصفات وغير ذلك.
وهي التي أوقعت أبا المعالي في مسألة الاسترسال (¬3) إلى أمور أخرى يطول وصفها. وتسلط بسببها من تسلط من المتفلسفة على أهل الملة لما رأى هذه الحجة التي جعلوها أصل أصول دينهم، ورأى ما فيها من الاضطراب.
مخ ۵۱
ثم إنهم أوجبوا على العبد بعد بلوغه مؤمنا بالله ورسوله: إما الشك، وإما القصد، وإما النظر المنافي للعلم.
والثلاثة تنافي الإيمان بالله ورسوله الذي أوجبه الله عليه؛ فأوجبوا ما يضاد الإيمان الواجب عليه؛ فكان هذا الضلال في الشرع مضاهيا لضلالهم في العقل.
ولهذا آل الأمر بهم إلى سفسطة في العقليات، وقرمطة في السمعيات (¬1).
[اضطراب أئمة المتكلمين وحيرتهم، وقولهم بتكافئ الأدلة]
مخ ۵۲
ولهذا كان حال أئمتهم إلى الحيرة، والقول بتكافئ الأدلة، كما تجده من أحوال كثير من أئمتهم / (¬2) ومن أواخرهم: أبو عبد الله الرازي؛ كما ذكر في أعظم كتبه وهو «المطالب العالية» وفي غيره، فإنه يظهر لمن يفهم كلامهم من الحيرة والاضطراب والتناقض في الأقوال ما ينافي العلم والعقل الذي يزعمون أنهم يحققونه.
ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه (¬1):
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا.
ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} (¬2)، {إليه يصعد الكلم الطيب} (¬3)، واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء} (¬4)، {ولا يحيطون به علما} (¬5).
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. هذا لفظه.
مخ ۵۳
[فساد طريقة المتكلمين في إثبات الصانع]
ثم إنهم مع أنهم جعلوا أول ما يجب على من بلغ مسلما ما ينافي الإيمان الواجب عليه؛ حصروا إثبات الصانع في العلم بحدوث العالم، وحصروا إثبات حدوث العالم في إثبات حدوث الأجسام.
وإثبات الصانع له طرق تكاد تخرج عن الحصر؛ كلها أبين وأظهر من إثبات حدوث العالم.
وإثبات حدوث العالم له طرق أبين من إثبات حدوث الأجسام -لو كان طريقا صحيحا- لما فيه من التنازع والدقة؛ فكيف وهو أيضا طريق فاسد عند الأنبياء وأتباعهم، وعند أهل الفطر والعقول السليمة، وعند من خالفهم من الفلاسفة الإلهيين والطبعيين؛ كالمشائين أتباع أرسطو (¬1) وأمثالهم.
وبالجملة فطرق العلم بإثبات الصانع كثيرة؛ كلها أبين وأوضح من هذه الطريق، وهي براهين قاطعة لا تحتمل النقض؛ فلا حاجة في الإقرار بالصانع إلى العلم بحدوث العالم المبني على حدوث الأجسام، بل ولا إلى العلم بحدوث العالم ابتداء.
مخ ۵۴
ولهذا لم يثبت القرآن العلم بالصانع بهذه الطريق؛ بل بالطرق المعروفة فيه، وما ذكرناه من قوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (¬2) من أوجز الطرق وأظهرها، وهي استدلال الإنسان بنفسه التي لا شيء إليه أقرب إليه منها، وكذلك استدلاله بما يذكره من خلق سائر المخلوقات / (¬3) كما قد بسطناه في غير موضع، وبينا استغناء الطرائق القرآنية عن ما يسلكه الفلاسفة والمتكلمون من تعليل الافتقار إلى الصانع: هل هو الحدوث؟ أو الإمكان؟ وبينا الحكمة في تسميتها آيات، وأنها بنفسها مستلزمة لثبوت الصانع.
وفي بعض طريقة القرآن غنية عن الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة؛ لاشتماله على باطل: إما في الحكم، وإما في الدليل الذي أثبتوا العلم بالصانع بإثبات حدوث العالم، وأثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام، وأثبتوا حدوث الأجسام بدليل الأعراض، وبحدوثها، وامتناع (حوادث لا أول لها).
وكل هذه المقدمات: إما باطلة، وإما غير مدلول عليها.
وأحسن أحوالها: أن تكون دقيقة؛ ويا ليتها مع الدقة تكون صحيحة مدلولا عليها.
مخ ۵۵
[إبطال ما يورده المتفلسفة على المتكلمين في قولهم: (خلق عن عدم)]
والمقصود هنا: أن القرآن ينفي أن يكون الإنسان خلق من غير شيء، وأخبر: أنه خلقه ولم يكن شيء؛ فلا نحتاج أن نقول: إنه خلق من عدم؛ فإن العدم ليس بشيء.
فإذا قلنا: خلق من عدم. يظن الظان: أنه خلق من غير شيء خلقه؛ بل خلق من خالق خلقه، وهو حي قيوم عليم سميع بصير قدير؛ فلم يكن موجود إلا من موجود، ولم يكن وجود من عدم محض.
وبطل بهذا ما يورده المتفلسفة على المتكلمين في هذا المقام؛ فإن أهل الكلام لما قالوا: إنه وجد من عدم، أو عن عدم؛ فإنما أرادوا بذلك: أنه وجد بعد العدم، لم يريدوا بذلك: أن نفس العدم خرج منه شيء؛ فإن العدم لا شيء. ليس للعدم فيما يمكن أن يقدر خروج وجود منه، ولا دخول وجود فيه، وإنما الذهن القاصر يقدر العدم كأنه موضع مظلم، أو خلاء وراء العالم، أو نحو ذلك من الخيالات؛ فيتوهم دخول شيء فيه أو خروج شيء منه.
مخ ۵۶
ولهذا أعرف أن بحثا جرى مع طائفة من الفضلاء الذين كنا نجالسهم في قوله {لا إله إلا الله} (¬1)، وما ذكره النحاة من أن (خبر لا) منفي لكونه معلوما، كما حذف عامل الظرف في خبر المبتدأ ونواسخه، مثل (باب إن)، و(باب كان)، و(باب ظننت)، وأن التقدير عند النحاة: لا إله في الوجود، أو لا إله كائن / (¬1)؛ فأورد بعضهم على ذلك: أنا إذا قدرنا (لا إله في الوجود)؛ ينفي مفهوم الكلام أن في العدم إلها.
فقلت لهم: العدم ليس شيء حتى يقال: فيه إله، أو ليس فيه.
وهذا ظاهر على قول أهل السنة: أن المعدوم ليس بشيء.
ومن قال: إن المعدوم شيء؛ فقد نورد هذا السؤال على أصله.
وقد يجيب عنه: بأن النزاع إنما هو المعدوم الممكن، وأما الممتنع فليس بشيء بالاتفاق، والشريك من المعدوم الممتنع، ليس من الممكن؛ فيمتنع أن يكون في العدم.
لكن يقال له: فيبقى المفهوم: أنه في المعدوم ممكن.
ولا ريب أن قول من قال: إن المعدوم شيء في الخارج قول باطل، وإنما أصله اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، واشتباه الوجود العيني بالعلمي؛ وذلك أنه رأى المعدوم يتميز منه المقدور من غير المقدور، والمراد من غير المراد، والامتياز لا يعقل في النفي المحض.
فقال: لا بد أن يكون المعدوم ثابتا ليحصل فيه الامتياز، ثم علم بعقله أنه ليس بموجود؛ ففرق بين الوجود والثبوت؛ فقال: هو ثابت وليس بموجود.
مخ ۵۷
وكثير ممن رد على هؤلاء: أطلق القول بأن المعدوم ليس بشيء، وربما كان في كلامه ما يقتضي: أنه ليس بشيء لا في العلم، ولا العين، لا في الذهن، ولا في الخارج عن الذهن. وهذا غلط؛ بل الصواب: أنه ثابت موجود في العلم؛ بمعنى: أنه يعلم، والتمييز يتبع العلم؛ فإذا كان معلوما بالعلم: ميز بالعلم بين الممتنع والواجب والجائز، والمراد وغير المراد، وذلك لا يوجب كونه ثابتا في الخارج؛ فإنا نعلم بالاضطرار: أن نتصور في أنفسنا ما لا حقيقة له في الخارج.
يبين ذلك: أنا نتصور الوجود المطلق في أنفسنا، والوجود المطلق لا يكون ثابتا في العدم، ولا في الخارج. وكذلك سائر الكليات المطلقة؛ فإنا نتصورها مطلقة، وهي لا تكون في الخارج كليات مطلقة. وإنا نتصور الممتنع كما نتصور الممكن، والممتنع ليس بثابت في الخارج بالاتفاق.
وقد نفى الله عن الإنسان: أن يكون شيئا قبل خلقه بقوله: / (¬1) {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} (¬2)، وبقوله: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} (¬3).
وأما قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (¬4)، وقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (¬5)، وقوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا • إلا أن يشاء الله} (¬6)، ففيه جوابان:
أحدهما: أنه (شيء) في العلم والقول؛ وإن لم يكن بعد صار في الخارج له ثبوت، ولا وجود.
الثاني: أنه عند وجوده يصير شيئا، وهذا في الزلزلة أظهر منه في الآيتين.
وقوله: {إذا أراد شيئا} بمنزلة قوله: أراد موجودا، ولا يستلزم ذلك أن يكون موجودا في الخارج قبل وجوده.
مخ ۵۸
يبين ذلك: أنه علق الإرادة بنفس الشيء، لا بإثبات صفة الوجود له؛ فعلم أنه يريد الشيء، وأنه يكون الشيء، لا أنه يجعل الشيء الثابت الغني عنه صفة لم تكن.
[مقصود المتفلسفة في اعتراضهم على المتكلمين]
وإذا تبين: أن مقصود أهل الكلام من المسلمين في قولهم: إن المحدثات (وجدت من عدم): أي وجدت بعد عدمها، وأنها وجدت من غير وجود مخلوق؛ لا يعنون بذلك: أنها وجدت من غير موجد خالق؛ علم أنه ليس عليهم في المعنى الذي قصدوه درك، وإن كان في العبارة لبس، وعبارة القرآن أحسن وأبين.
لكن اعترض عليهم المتفلسفة فقالوا: لا يعقل موجودا عن عدم؛ لأنا ما رأينا شيئا يحدث إلا من مادة؛ كحدوث الحيوان والنبات والمعادن من المواد المشهودة؛ كما تحدث الثمار من الأشجار، وكما يحدث الإنسان من المني النازل من أبويه، وأمثال ذلك؛ فإبداع شيء لا من شيء لم نعهده.
ومقصودهم بذلك: أن يبطلوا القول بحدوث الحوادث من غير مادة متقدمة؛ فيلزم من ذلك قدم المادة.
كما قصدوا أيضا: إبطال حدوث الحوادث من رب قديم؛ فقالوا: إن كانت العلة الأزلية لوجود العالم تامة؛ وجب قدم معلولها؛ فيلزم قدم العالم، وإن كانت غير تامة؛ فلا بد لتمامها من سبب. والقول فيه كالقول في حدوث العالم؛ فيبطل الحدوث؛ فيتعين الأول: وهو أن تكون العلة القديمة تامة؛ فيجب قدم العالم / (¬1).
مخ ۵۹