وفي الوقت نفسه بزغ في الأفق - بشكل أقل غموضا مما في سفر التكوين - فكرة أخرى اتحدت اتحادا وثيقا بفكرة النفثة أو الروح الإلهية، فأصبحت بعدئذ هي فكرة الأقنوم الإلهي الثالث؛ أي الروح، ففي سفر الأمثال سميت الحكمة مرتين شجرة الحياة.
وهكذا، بالرغم من الطابع الأسمى لله عند الساميين، أو على الأخرى بسبب هذا الطابع الأسمى، تبدو فكرة التثليث بذرة في أقدم أسفار التوراة، وهذه النزعة التثليثية القديمة نسبيا برغم غرابتها عن العبقرية السامية المفرقة، نرى لها تفسيرا في الاتصالات المتوالية بين شعوب بني إسرائيل المشركة أصالة والتي كانت مجمعة كثيرا أو قليلا في أوائل تواريخها، حتى جاء تأثير المذاهب الفارسية ذات النزعة التمثيلية الواضحة، فعمل على نمو تلك البذور التي كانت موجودة من قبل.
ثم جاء اتصال جديد بين الدين اليهودي والتفكير الآري في أنقى أشكاله؛ أي في شكل الفلسفة الإغريقية، فاندمج التياران التثليثيان فأفاد ذلك كليهما؛ إذ آتى التيار اليهودي الفلسفة الإغريقية حمية وقوة دينية، كما قدمت هذه الفلسفة للدين اليهودي مقابل ذلك ما كان ينقصه من وضوح.
على أن هذا التزاوج لم يؤد إلى إدخال عناصر جديدة شعرت بها العقيدة اليهودية أو الفلسفة الإغريقية، فالتفكير الإغريقي ما كان له إلا أن يتذكر أفلاطون وأرسطو ليعود فيجد فوق الروح العامة والعقل الإلهي المثل والإله الذي لا يدرك. أما العقيدة اليهودية فلم يكن إلا أن تعود بذكراها إلى بعض آيات كتبها المقدسة لتجد تحت إلهها الذي لا يدرك، العقل والروح الإلهية، وبأخذ كل منهما من الأخرى لم يحسا بأن على كليهما دينا يجب أداؤه، اللهم إلا في بعض التفاصيل.
وبديهي أن تقابل هذين التيارين واندماجهما بعضهما في بعض، وقد جاء أحدهما من الغرب والآخر من الشرق، كان يجب أن يحدث في الإسكندرية، عاصمة العالم القديم، وملتقى القارات الثلاثة، هنالك في عهد البطالسة، وفي الحين الذي كان يبشر المسيح فيه، ظهر فيلون اليهودي الذي حاول التوفيق بين عقائد دينه والنظر الفلسفي الهيليني، فكان أول من توصل إلى وضع مذهب للتثليث الديني فيه تماسك وكمال، ومن ذلك نجد في مؤلفاته العناصر الهامة لمذهب التثليث الإسكندري المستقبل.
28
لقد كان أول من شرح - في إيضاح - نظرية الفيض أو الانبثاق الإلهي التي تعطي وحدها معنى عميقا لمذهب التثليث، والتي تقدم أخيرا حل المسألة الكبرى التي ظلت الفلسفة الإغريقية زمنا طويلا واقفة حيرى أمامها، ألا وهي «كيف يستطيع الله أن يخلق العالم ولا يخرج من كماله ووحدته وعدم تغيره؟» إنه أخذ نصا واردا في سفر الحكمة، وهو «الحكمة تستطيع كل شيء برغم أنها واحدة، وهي تجدد كل شيء برغم أنها تبقى هي هي هي.»
29
ثم شرحه بقوله: «إن النار تظل كما هي لا ينقص منها شيء بعد إضاءة آلاف من المشاعل.» وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحكمة وبالعلم، «فعلم الأستاذ لم ينقص بأي حال مهما كان عدد التلاميذ الذين اغترفوا منه.» إن من عيوب الأشياء المادية أنها تنقسم وتنفد بالانتقال، أما ما ليس ماديا كالحكمة فإنه على العكس يتزايد دون أن ينقسم. وهذه الطريقة من طرق الإنتاج تسمى الفيض.
وبعد مضي نحو قرنين أخذ فلاسفة الإسكندرية الذين عرفوا بالأفلاطونيين المحدثين - وهم أمونيوس ساكاس وأفلوطين وتلاميذه - مذهب التثليث عن قيلون، وبخاصة المبدأ الرئيسي الآتي: إن الله يصل طبيعته إلى الغير دون أن يفقد شيئا منها، فهو يعطي ما له مع استمراره «أي الأول وهو الله» واحدا كاملا غير متغير، وكذلك نشأ الأقنوم الثالث عن الثاني، وهذا الأقنوم الثالث؛ أي الروح الإلهية، هو في الوقت ذاته روح العالم وأقل كمالا من العقل، كما أن العقل أقل كمالا من الله، ومن أجل ذلك يكون الأقنوم الثالث قابلا للتغير بحكم ضرب من الكثرة، فضلا عن أنه ينتج جميع الأرواح الخاصة بالعالم عن طريق الفيض دائما، وأخيرا تكون الأرواح هي التي تنتج أجسامها.
ناپیژندل شوی مخ