فاجتمع عندئذ المؤتمر الدولي بباريس في 25 فبراير عام 1856 وعقدت جلساته تحت رئاسة الكونت «والوسكي» وزير خارجية فرنسا، واشتركت الدولة العلية والروسيا فيه كما اشتركت حكومة البيمونتي التي أرسلت نائبا عنها الكونت «كافور» الشهير، وكان «عالي باشا» مندوبا عن الدولة العلية في هذا المؤتمر.
وقد اتفق مندوبو الدول في هذا المؤتمر بغير صعوبة على الشروط التي عرضتها من قبل فرنسا وإنكلترا والنمسا، والتي أتينا عليها، ولم يختلفوا إلا في قبول طلب «نابليون الثالث» بشأن ضم الأفلاق والبغدان إلى إمارة واحدة، فقرروا النظر في هذا الأمر بعد انتهاء المؤتمر.
ولم يمض على مؤتمر باريس عامان حتى قررت الدول في باريس نفسها بتاريخ 19 أغسطس سنة 1858 جعل هاتين المقاطعتين إمارة واحدة تحت ضمانة الدول.
وقد أمضت الدول الأوروبية على عهدة باريس في 30 مارس سنة 1856، وأعلن قفل المؤتمر في 16 أبريل من السنة نفسها، بعد أن تناقش أعضاؤه في جملة مسائل؛ أهمها: المسألة الإيطالية التي عرضها على المؤتمر الكونت «كافور» ووجه أنظار الدول إليها، ولكن المؤتمر لم يقرر شيئا في هذه المسائل، واكتفى بالاتفاق على بعض شروط خارجية عن عهدة باريس مختصة بالملاحة والتجارة.
انتهت هذه الحرب بنتائج مختلفة نأتي عليها واحدة بعد أخرى.
تبين للقارئ أن هذه الحرب أصلها مسألة الأماكن المقدسة، والخلاف بين الكاثوليكيين والأرثوذكس، وطالما كانت تؤمل كل دولة من الدول الاستيلاء على الشام، والقبض على زمام الكنائس ببيت المقدس، فجاء الخلاف بين فرنسا والروسيا بشأنها دليلا على أن هذه الأماكن المقدسة يجب أن تبقى إلى الأبد في أيدي الدولة الإسلامية العظمى؛ لأنها الدولة الوحيدة التي تقدر أن تحفظ الموازنة بين كل الديانات في بيت المقدس، وتعطي كل ذي حق حقه، وأنه لو تركت الأماكن المقدسة لدول أوروبا؛ لوقع بينها وبين بعض شقاق عظيم، وقامت حرب دموية؛ لنزوع كل واحدة منها إلى امتلاكها، ورغبة كل دولة في سبق غيرها إلى الاستيلاء عليها.
فدفعا لهذا الخطر الجسيم يجب أن تبقى هذه الأماكن في أيدي الدولة العلية العادلة الأمينة، وقد أدرك سواس أوروبا ذلك، وعلموا أن مسألة الأماكن المقدسة هي من أهم الأسباب التي تحتم ضرورة بقاء الدولة العلية.
وإذا كانت الدولة العلية قد اكتسبت من حرب القرم هذه النتيجة المهمة، فإنها لم تكسب غيرها شيئا ما، فقد فقدت المال والرجال وأضاعت نفيس وقتها، ولم تأخذ من بلاد الروسيا بلدا واحدة، بل انسلخت عنها في الحقيقة «الأفلاق والبغدان»، وقد خدعتها الدول بمنحها امتيازين، أثبتت الحوادث بعد أنهما لا يفيدانها شيئا مذكورا؛ فقد تعهدت الدول كلها بضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، وأرتنا الحوادث أن دول أوروبا نفسها سلخت من الدولة العلية جملة بلاد باسم هذا المبدأ نفسه مبدأ ضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، واتفقت الدول كذلك على اعتبار الدولة العلية دولة أوروبية وقبولها في المجتمع الأوروبي، ولم تر الدولة لهذا الامتياز فائدة ما؛ بل كانت نتيجته جر البلايا عليها بازدياد تداخل أوروبا في شئونها الداخلية.
وقد خرجت الروسيا من هذه الحرب سليمة لم تخسر فيها غير المال والرجال شيئا، ومعاكسة الدول لها في البحر الأسود لم تكن إلا معاكسة وقتية كما أظهرته جليا الحوادث بعد مؤتمر باريس.
أما الدولة التي استفادت كثيرا من هذه الحرب، فهي دولة البروسيا؛ فإنها استمالت إليها الروسيا بخطتها نحوها، وأوجدت عندها كراهة شديدة للنمسا التي لم تساعدها ضد تركيا كما ساعدتها هي في قمع الثورة المجرية عام 1849، وأحدثت البروسيا بين النمسا وبين حكومات الاتحاد الجرماني شقاقا كبيرا؛ فحمل البروسيا كل ذلك على محاربة النمسا عام 1866 هذه الحرب التي ساعدت الروسيا فيها البروسيا مساعدة معنوية، وانتهت باستيلاء البروسيا على مقاطعتين من أملاك النمسا، وقد تمت نتائج هذه الحرب بهزيمة فرنسا أمام البروسيا عام 1870، وتكوين الوحدة الألمانية.
ناپیژندل شوی مخ