وفي 28 فبراير سنة 1853 وصل البرنس «منشيكوف» إلى الآستانة بين رجاله وضباطه، وفي أبهة أراد بها التأثير على أفكار رجال الباب العالي، وصار في كل أفعاله يعمل على خلق سبب لإعلان الروسيا الحرب على الدولة العلية، فطلب أولا عزل «فؤاد باشا» ناظر الخارجية العثمانية الذي كان عدوا للروسيا؛ لتسهل له المخابرات، ثم عرض على الباب العالي مشروع عقد تحالف دائم بين الروسيا والدولة العلية تعترف فيه الدولة بحماية القيصر على الكنيسة اليونانية. فاندهش رجال الدولة من هذا المشروع الغريب، وأدركوا أن الروسيا تريد إعلان الحرب؛ لأنها تعلم جيدا أنه يستحيل على الدولة قبول هذا المشروع، فإن لرؤساء الكنيسة اليونانية سلطة دنيوية على نحو الخمسة عشر مليونا من المسيحيين، وما حماية الروسيا على الكنيسة اليونانية إلا حماية حقيقية على هؤلاء المسيحيين.
وقد أبلغت الدولة العلية سرا وكلاء الدول الأوروبية طلب روسيا هذا، ووصل عندئذ للآستانة سفيرا فرنسا وإنكلترا بها، وكلفا من قبل حكومتيهما بالعمل بالاتفاق. وبما أن البرنس «منشيكوف» كان لا يزال يجاهر بأن مأموريته تنحصر في حل مسألتي الجبل الأسود والأماكن المقدسة، اتفق السفيران على تعجيل حل هاتين المسألتين حتى يضطر «منشيكوف» إلى مبارحة الآستانة وإعلان انتهاء مأموريته أو التصريح بنوايا القيصر الحقيقية، وسبق أننا ذكرنا أن مسألة الجبل الأسود انتهت بتوسط النمسا لدى الباب العالي. أما مسألة الأماكن المقدسة، فقد رضيت فرنسا بتسويتها بما فيه ترضية للقيصر، وتمت هذه التسوية في 4 مايو سنة 1853، ولم يبق هنالك سبب ظاهري لبقاء «منشيكوف» بالآستانة، إلا أن القيصر بقي على نيته الأولى، وكان لا يزال يظن أن إنكلترا لا تساعد الدولة ضده، فقدم «منشيكوف» في 5 مايو سنة 1853 للباب العالي إنذارا شديد العبارة طلب فيه أن يجيبه في ظرف خمسة أيام على طلبه بشأن عقد اتفاقية بين الدولتين، يضمن فيها الباب العالي للكنيسة اليونانية حريتها الدينية وامتيازاتها الدنيوية، ويجعل للروسيا عليها حماية حقيقية، وأعلن «منشيكوف» الباب العالي في إنذاره بأنه إن لم يقبل مطالب الروسيا قامت الحرب بين الدولتين. فأجاب الباب العالي بأن الكنيسة اليونانية متمتعة بتمام حريتها، وبأنه مستعد مع ذلك لأن يؤكد أمام العالم كله لسائر رعاياه المسيحيين ضمانته لحريتهم الدينية، وبأنه يرفض رفضا باتا جعل الكنيسة اليونانية تحت حماية الروسيا، مبينا للبرنس «منشيكوف» أنه لا يستطيع قبول هذا الطلب بدون تعريض استقلال الدولة للخطر، ووضع إدارتها الداخلية تحت مراقبة أجنبية - أي تحت مراقبة الروسيا.
وفي ذلك الحين عين «رشيد باشا» صدرا أعظم ووزيرا لخارجية الدولة، وكان معروفا بكراهته الشديدة للروسيا، فتظاهر «منشيكوف» ببعض اعتدال في خطته، وسأل الباب العالي أن يرسل رسالة للحكومة الروسية يصرح لها فيها بقبول مطالبها، وبذلك لا تطلب منه الروسيا عقد اتفاقية بهذه المطالب. فأجاب «رشيد باشا» على هذا السؤال الجديد بالرفض، وكان ذلك في 20 مايو سنة 1853، فانقطعت المخابرات، وعاد «منشيكوف» إلى سان بطرسبورغ. وفي 31 مايو من السنة نفسها أرسل «نسلرود» وزير الروسيا الأول إنذارا جديدا للباب العالي بمعنى إنذار «منشيكوف»، وأعلن فيه بأن الروسيا تحتل مقاطعتي الأفلاق والبغدان إذا رفض الباب العالي قبول مطالبها، وقد كان ورفض الباب العالي رفضا جديدا قبول هذه المطالب، فأرسل «نسلرود» في 11 يونيو سنة 1853 إلى وكلاء الروسيا لدى الدول الأجنبية منشورا بين لهم فيه الأسباب التي حملت الروسيا على الشروع في احتلال الأفلاق والبغدان؛ أي على إعلانها الحرب على الدولة العلية. •••
ما انتشر خبر تهديد الروسيا للدولة باحتلال مقاطعتي الأفلاق والبغدان حتى هاج الرأي العام في إنكلترا وفرنسا، واندهش ساسة الحكومتين من جراءة الروسيا الغريبة، وإقدامها على هذا العمل الخطير النتائج، فاتفقتا على مساعدة الدولة العلية ضدها، وأرسلتا أسطوليهما إلى فرضة «بزيكا» أي إلى مدخل الدردانيل؛ ليسهل لهما أن تساعدا الحكومة العثمانية مساعدة فعلية عن مساس الحاجة.
وإظهارا لما جبلت عليه العائلة السلطانية المعظمة من محبة رعاياها على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، وحسن رعايتها لهم على السواء؛ أصدر الباب العالي خطا شريفا بتاريخ 6 يونيو سنة 1853 منح فيه سائر المسيحيين في الدولة العلية الحرية الدينية التامة؛ أي أكد لهم استمرار الحكومة العثمانية على احترام هذه الحرية التي تمتعوا بها دائما هم وأسلافهم من قبل. وعرضت فرنسا من جهة أخرى على الدول الأوروبية مشروع عقد مؤتمر لإزالة الخلاف بين الروسيا والدولة العلية؛ فبرهنت بذلك الدولة العلية ونصيرتها الأولى فرنسا على اعتدالهما وميلهما للسلم، وتركتا مسئولية الحرب وسفك الدماء على الحكومة الروسية التي بقيت على عنادها، ولم ترجع عن قصدها.
وعندما علم القيصر «نيقولا الأول» بإرسال الأساطيل الفرنساوية والإنكليزية إلى الدردانيل غضب غاية الغضب، وزاد غضبه رفض الباب العالي للإنذار الذي أرسله إليه المسيو «دي نسلرود» وزير الروسيا الأول، فأصدر إلى الشعب الروسي بتاريخ 25 يونيو من السنة نفسها منشورا بين له فيه أنه أشهر على تركيا حربا يجب عليه اعتبارها حربا صليبية، وجهادا في سبيل الأرثوذكسية. وبعث كذلك «دي نسلرود» بمذكرة إلى الدولة الأوروبية أظهر لها فيها أن الدولة العلية وإنكلترا وفرنسا جبرت الروسيا على الحرب بأعمالها العدائية ضدها، كأن وزير القيصر أراد أن يغالط أوروبا بهذه المذكرة، أو كأنه نسي أن دولته هددت تركيا باحتلال مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وأن فرنسا وإنكلترا ما أرسلتا بأسطوليهما إلى مياه الدردانيل إلا عند توقع اشتعال نيران الحرب.
وقد هاجمت الجيوش الروسية في 4 يوليو سنة 1853 مقاطعتي الأفلاق والبغدان، واحتلتهما بعد أيام قليلة، فاستولى بذلك القلق على أفكار سواس الدول الأوروبية، وعلى الخصوص دولة النمسا التي كان موقفها حرجا للغاية، فإنها كانت لا ترضى معارضة الروسيا؛ لما لهذه الدولة عليها من الأيادي البيضاء في قمع الثورة المجرية عام 1849، ولأنها الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدتها ضد الثورات، فضلا عن أن الروسيا كان في قدرتها أن تهيج العنصر السلافي في بلاد النمسا ضد الحكومة النمساوية. وكان من جهة أخرى اعتداء الروسيا على الدولة العلية مخالفا لمصلحة النمسا كل المخالفة، وكان سواسها يعلمون علم اليقين أنها لو ساعدت الروسيا استطاعت فرنسا وإنكلترا أن تهيج ضدها إيطاليا والمجر وبولونيا؛ فلذلك بقيت النمسا حائرة في أمرها مضطربة في سياستها، وغاية ما أقر عليه سواسها أنهم سألوا الباب العالي ألا يجعل جوابه على احتلال الروسيا لمقاطعتي الأفلاق والبغدان إعلان الحرب عليها، بل مجرد احتجاج على هذا الاحتلال، حتى يسهل للنمسا مخابرة الدول في حل المسألة حلا سلميا؛ فقبل الباب العالي سؤال النمسا، وبرهن بذلك للعالم كله على عظيم اعتداله وسلامة أمياله؛ مما شجع النمسا على دعوة الدول لعقد مؤتمر بفيينا، وقد أجابت الدول دعوة النمسا، واجتمع مندوبوها بفيينا في 24 يوليو سنة 1853، ولم تقبل الروسيا الاشتراك في هذا المؤتمر، بل اكتفت بأن وعدت الدول بقبول ما تقرره فيه إن وافق مصلحتها.
وقد أقر هذا المؤتمر على قرار مبهم العبارة والمعنى كان يسهل لسواس الروسيا أن يفسروه حسب أهوائهم وأغراضهم، فرفضته الدولة العلية منعا للمشاكل. فلما رأت فرنسا وإنكلترا أن الاتفاق مستحيل وأن الروسيا عاملة على منعه وإيقاد نيران الحرب أمرتا أسطوليهما بعبور الدردانيل، والوقوف أمام الآستانة، وكان ذلك بناء على طلب الباب العالي ورغبته، وفي آخر سبتمبر سنة 1853.
وفي هذه الأثناء تقابل القيصر «نيقولا الأول» في مدينة «أولموتز» مع الإمبراطور «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا، وطلب منه الاتحاد معه ضد تركيا وفرنسا وإنكلترا ، فاعتذر إمبراطور النمسا عن قبول هذا الطلب مظهرا للقيصر أسفه من عدم إمكانه مساعدته، فلما لم يجد من إمبراطور النمسا إقبالا على مساعدته طلب من ملك بروسيا مقابلته، وقابله وعرض عليه كذلك الاتحاد معه، ولكن نتيجة مسعاه عند ملك بروسيا كانت كنتيجة مسعاه عند إمبراطور النمسا.
أما الدولة العلية، فقد اهتمت بإتمام تجهيزاتها الحربية ولم تغفل شيئا من لوازم الحرب، وكان الرأي العام العثماني متهيجا جدا ضد الروسيا، والمسلمون في حالة قلق وهياج عظيمين، خصوصا وأن منشور القيصر لشعبه أبان لهم أن الحرب دينية صليبية، فاجتمعوا مئات وألوفا أمام سراي السلطان، وطلبوا بأعلى أصواتهم إعلان الحرب، فلبت الدولة طلبهم، وبعد جلسة عقدت من وزراء الدولة وكبرائها تحت رئاسة المرحوم السلطان الغازي «عبد المجيد خان»، وأعلنت الدولة الحرب على الروسيا بتاريخ 4 أكتوبر سنة 1853، وفي 8 منه أنذر «عمر باشا» قائد الجيوش العثمانية البرنس «غورتشاكوف» قائد الجيوش الروسية بانجلاء العساكر الروسية من مقاطعة الأفلاق والبغدان، وحدد له خمسة عشر يوما أجلا للجلاء تبتدئ الحرب بعدها إذا لم ينفذ البرنس «غورتشاكوف» طلب «عمر باشا».
ناپیژندل شوی مخ