وقد اتفق في آخر القرن السابع أن بعض الكهنة أتى بدعة سيئة في شعائر الدين المصري القديم، منها إباحة أكل لحم القربان نيئا - وهي عادة بني الأسود - فتوجه الملك الحاكم إلى معبد آمون بنبتة وحكم بطرد من ابتدع شيئا في الديانة، وحرق ما وجده من آثار تلك البدع السيئة؛ فعلى هذا أخرج أصحاب هذا المذهب الجديد من بلادهم إلى جهات بعيدة واتخذوا لهم فيها مساكن وتمكنوا من هذا تمكنا قويا.» إلى أن قال: «لذلك استمروا ناهجين هذا النهج حتى ظهر سيدنا عيسى - عليه السلام - وبقيت هذه العادة إلى الآن متأصلة في بعض الحبشان، فهم يأكلون اللحم النيئ، ويسمونه «رنيدة».»
وبعد انفصال الإثيوبيين عن مصر ظهرت فيهم الثروة والغنى، وأصبح ملوك مصر يبعثون إليهم الجواسيس من بلاد الكنوز ممن يحسنون لغة إثيوبيا، فصار هؤلاء يرودون البلاد ويستكشفون أحوالها حاملين الهدايا لملوك إثيوبيا، وكانت مصنوعات من التبر، والحلل الحمراء الأرجوانية، والروائح العطرية، وأنبذة التمر التي كان يعجب بها ملك إثيوبيا. وأراد مكافأة ملك مصر على ما أسداه إليه من عظيم الهبات؛ فبعث إليه بقوس أوترها أمام سفرائه، وقال لهم ما معناه: إن ملك إثيوبيا ينصح ملك العجم أن لا يحضر إلا بنفسه لحربنا على كثرة جندنا ولا يكون حضوره إلا إذا قدر هو أو أحد رعيته أن يوتر قوسا عظيمة مثل هذه القوس وحده كما أوترها وحدي في الحال، فإن لم يمكنه فليحمد الإله المعبود حيث لم يرزق إثيوبيا الطمع في المسير إلى بلادهم العجم.
فلما أبلغ ذلك إلى الملك قمبيز استشاط غضبا وسار في جند عظيم يريد الحبشة طائشا متهورا مسلوب الحواس، فلم يعتن بتنظيم جيوشه ولا إعداد ذخائره، فظل في الصحراء بعساكره - أي في عتمور أبي أحمد - وما كاد يقطع ربع الطريق حتى بلغ الجهد منه مبلغا عظيما، حيث انتهى إلى سهول رملية قاحلة لا ماء بها ولا كلأ، فأخذوا يأكلون دواب الحملة، ولما انتهت صار يأكل بعضهم بعضا بالاقتراع؛ أي: كل عشرة رجال يقترعون واحدا منهم، ومتى وقعت القرعة على رجل منهم أجهزوا عليه وأكلوه في الحال، ولما اشتد بهم الضنك خاف الملك قمبيز على نفسه، فقفل راجعا بمن بقي من عسكره حتى وصل إلى طيبة، وأراد تعويض ما خسره فاستعمل أقصى حدود القسوة مع أهل مصر، وسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها من ذهب وفضة، ولما وصل إلى منف التي كانت أعظم مدن العالم، وكان هناك موسم مشهور لإقامة عجل جديد يسمى «أبيس» على التخت المعد لإقامته، وكان يوم احتفال كبير ومهرجان فخم به جمع عظيم من الناس فرحين مستبشرين بذلك الموسم، فظن قمبيز أنهم مسرورون بهزيمته، فقتل الكهان والأمراء وأرباب المعابد، وبعثرت الآثار، فذاع ذلك وشاع وملأ الأسماع، فوقعت الرهبة في قلوب الإثيوبيين، وتقهقر تانوت آمون بما بقي من جيوشه إلى مروي. وكان ذلك آخر عهد الإثيوبيين بمصر، وقد أخذت مدينة طيبة في الاضمحلال حتى صارت تلالا خربة تحوي أعظم آثار العالم صلابة ومتانة. وإلى هنا يعلم القارئ اللبيب أن دولة إثيوبيا عظم شأنها وتضخم سلطانها حتى ضمت إليها مملكة الفراعنة، وحاولت بسط نفوذها على دول آسيا، وكان ذلك الفشل الأخير مثبطا لهمم الإثيوبيين، فلم يفكروا بعده في إعادة نفوذهم بمصر، بل كانوا يعانون عبأ ثقيلا وهو رق الكهنة وغطرستهم التي تدل بوضوح تام على سخافة العقول وفساد العقائد الدينية. ولقد كان كهنة آمون يأمرون ملك إثيوبيا بالاستقالة فينزل عن عرشه بلا مسوغ، وفي بعض الأحيان يأمرونه بالانتحار فلا يسعه إلا أن يقتل نفسه بنفسه رجاء المغفرة من وثنه؛ فلله در ابن مطروح حيث قال:
يا له من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
وبفضل تلك العقائد وببركة أولئك الكهنة وهنت قوى الإثيوبيين وتضاءل نفوذهم وسقطت هيبتهم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
فإن تلك الدولة الموطدة الدعائم التي كانت تهيمن على أقطار واسعة وأراض خصبة وديار رحبة؛ صارت هدفا لغارات المغيرين وعبث الطامعين، حتى اضطرت إلى إخلاء نبتة والتوغل في مجاهل أفريقيا إلى هضابها إلى الآن. (3) حول تسمية إثيوبيا بالحبشة
يقول المؤرخ الإيطالي «لامبرتي سورينتينو» بأن اللفظ الإفرنجي الذي بالإنجليزية
Abyssinia
ناپیژندل شوی مخ