مسائل وفتاوى
للشيخ: عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن -متع الله المسلمين بحياته، وبارك لهم في ساعاته- عن قول الخطيب:
"الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمد يته وكنه ذاته".
فهذه الألفاظ ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم، فإنهم الذين تاهوا وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته وما يعرف به، ويوجب الإيمان به، ومعرفته، وإثبات ربوبيته، وصفات كماله. فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية.
فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته، وتصرفه في مخلوقاته، وهو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه منه إلهيته فقال: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ١، فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد.
وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا﴾ ٢، فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل، وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن: يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه ليعرفوه بذلك الذي أبدعه وأوجده وأنعم به كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ٣ الآية. وأمثال هذا في القرآن كثير وتدبره والعلم به
_________
وأمثال هذا في القرآن كثير، وتدبره والعلم به
١ سورة الأنعام آية: ١.
٢ سورة الكهف آية: ١.
٣ سورة فاطر آية: ١.
1 / 366
يحصل كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها وصفاته؛ فكل ما وصف به نفسه فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان، الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم.
وأما أهل الجدل من أهل الكلام فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[الفرق بين الرخصة والعزيمة وحكم الشرع فيهما] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم صالح الشتري. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغك السلام، وما أشرت إليه في تحرير قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبتت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وضدها العزيمة. فأقول: اعلم أن العزيمة شرعا حكم ثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح. فقوله: بدليل شرعي، احتراز عما ثبت بدليل عقلي. وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل، فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم والعمل، فقد قال -تعالى-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ ١، فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته من عظيم مخلوقاته. لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقوف، وأثبتت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي. وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة لأنه _________ ١ سورة الأنعام آية: ١.
[الفرق بين الرخصة والعزيمة وحكم الشرع فيهما] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم صالح الشتري. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغك السلام، وما أشرت إليه في تحرير قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبتت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وضدها العزيمة. فأقول: اعلم أن العزيمة شرعا حكم ثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح. فقوله: بدليل شرعي، احتراز عما ثبت بدليل عقلي. وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل، فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم والعمل، فقد قال -تعالى-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ ١، فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته من عظيم مخلوقاته. لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقوف، وأثبتت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي. وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة لأنه _________ ١ سورة الأنعام آية: ١.
1 / 367
حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض، فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التعليم، وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل وحصلت الرخصة.
وأما الرخصة فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. فقوله: ما ثبت على خلاف دليل شرعي، احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة، بل عزيمة، كالصوم في الحضر. وقوله: لمعارض راجح، احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساويا فيلزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصرا عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها.
وعلى التعريف المذكور يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام، وخالفها لمعارض راجح عليها كأكل الميتة عند المخمصة. انتهى.
[مسألة الجد والإخوة]
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ محمد بن عجلان -سلمه الله -تعالى-.
وبعد ما ذكرت من مسألة الجد والإخوة، فذكر في الاختيارات: أن الجد يحجب الأخوة وهو قول أبي بكر، وقال به غيره من الصحابة، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله تعالى- وهو الذي يختاره أشياخنا. والله أعلم.
[قلب الدَّيْن على من له عقار وعوامل ونواصح ونحوها]
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وآله وصحبه والتابعين والعلماء العاملين.
من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، وفقني الله وإياهم لسلوك منهج العلم والإيمان. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد سألني بعض الإخوان عن قلب الدَّين إن كان له عقار وعوامل ونواصح ونحوها.
1 / 368
فأجبت إلى أنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحال الأولى أن يضيق المال عن الدَّين، فهذا مفلس عند العلماء ﵏. إذا سأل غرماؤه الحاكم -ولو بعضهم- لزمه الحجر عليه في ماله. وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجورا عليه بدون حكم الحاكم، وهذا لا يجوز قلب الدَّين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدَّين.
[في الرد على الجهمية والرافضة] بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه ووده. من عبد الرحمن بن حسن إلى أخيه راشد بن مطر -سلمه الله -تعالى-، وزاده علما وإيمانا وتوفيقا وتحقيقا وإذعانا-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال من معرفة الإسلام ومحبته وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها ولا أنفع ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ١، فرحمته: الإسلام والإيمان، وقيل: القرآن، وهما متلازمان، ورحمته أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي ﵁ الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية والرافضة والمعتزلة عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث قد ابتلي بهم أهل السنة والجماعة قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا، وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه ناله منهم عناء ومشقة. فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة ليمتحن حزبه بحربه كما جرى _________ ١ سورة يونس آية: ٥٨.
[في الرد على الجهمية والرافضة] بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه ووده. من عبد الرحمن بن حسن إلى أخيه راشد بن مطر -سلمه الله -تعالى-، وزاده علما وإيمانا وتوفيقا وتحقيقا وإذعانا-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال من معرفة الإسلام ومحبته وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها ولا أنفع ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ١، فرحمته: الإسلام والإيمان، وقيل: القرآن، وهما متلازمان، ورحمته أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي ﵁ الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية والرافضة والمعتزلة عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث قد ابتلي بهم أهل السنة والجماعة قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا، وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه ناله منهم عناء ومشقة. فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة ليمتحن حزبه بحربه كما جرى _________ ١ سورة يونس آية: ٥٨.
1 / 369
للرسل من أعدائهم في الدين، قال –تعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ ١، ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك، ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ ٢.
وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال –تعالى-: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ٣، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ ٤ الآية. فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل وجبت عداوته، والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن.
وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله –تعالى- على عرشه، فهو قول الجهمية سواء بسواء. وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقول الله –تعالى-: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ٥، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ٦ في سبعة مواضع، وكقوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ ٧ والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق، وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ ٨، ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ ٩، ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ١٠ الآيتين. وكل هذه الآيات نصوص في علو الله –تعالى- على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف.
وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالٍ. قد وصفوه بما يوصف به المعدوم، وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت.
وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية:" ربنا الله الذي في السماء، تقدَّس اسمك" ١١ الحديث.
وجوهرة السنوسي ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية. ومذهبهم أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه الذي تكلم به، وخالفوا الكتاب والسنة. قال –تعالى-: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ ١٢، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ ١٣،
_________
١ سورة الفرقان آية: ٣١.
٢ سورة العنكبوت آية: ٣.
٣ سورة الصافات آية: ١٧٣.
٤ سورة محمد آية: ٧.
٥ سورة طه آية: ٥.
٦ سورة الأعراف آية: ٥٤.
٧ سورة المعارج آية: ٤.
٨ سورة النحل آية: ٥٠.
٩ سورة آل عمران آية: ٥٥.
١٠ سورة الملك آية: ١٦.
١١ أبو داود: الطب ٣٨٩٢.
١٢ سورة الفتح آية: ١٥.
١٣ سورة التوبة آية: ٦.
1 / 370
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ١، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ ٢. والأدلة على هذا كثيرة جدا.
والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء تبرَّأ منه في كتابيه الإبانة، والمقالات وغيرهما، وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات؛ لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات.
[جحود توحيد الألهية ودعاء غير الله كفر]
وأما من جحد توحيد الإلهية، ودعا غير الله فلا شك في كفره، وقد كفَّره القرآن.
والسنوسي وأمثاله من المتأخرين، ليس من السلف ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم. والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسَّك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة.
وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل.
وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام؛ لعدم وروده على هذا الوجه.
وأما أهل البدع فيجب هجرهم والإنكار عليهم إذا ابتليتم بهم. وتأمَّلوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه –رحمه الله تعالى- تجدوا فيه البيان والفرقان.
وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسَّكت بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه.
[الرد على الجهمية والرافضة]
وأما الأفغانيون الذين جاؤوا فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدَّد النبي ﷺ في الغلو، وأخبر عن الخوارج أنهم:"يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" ٣ وأمر بقتلهم.
_________
١ سورة النساء آية: ١٦٤.
٢ سورة لقمان آية: ٢٧.
٣ البخاري: المناقب ٣٦١١، ومسلم: الزكاة ١٠٦٦، والنسائي: تحريم الدم ٤١٠٢، وأبو داود: السنة ٤٧٦٧، وأحمد ١/٨١،١/٨٨،١/٩١،١/١٣١،١/١٤٧،١/١٥١،١/١٥٦،١/١٦٠.
1 / 371
وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فأدَّاهم جهلهم وقصورهم في الفهم إلى أن كفَّروا أصحاب رسول الله ﷺ من السابقين الأولين. فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله ﷺ ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم، وهؤلاء الناس الذين هاجروا إلينا وبايعونا ما ندري عن حقيقة أمرهم.
وعلى كل حال إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم أهل البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته، فإنه -رحمه الله تعالى- بيَّن وحقق، وأنتم سالمين ١. والسلام.
_________
١ هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.
[مسائل شتى سئل عنها الشيخ عبد الله أبو بطين] [الإيمان بالصفات] مسألة: قول الشيخ عثمان -رحمه الله تعالى-: والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به، وتارة من حيث قيامها بغيره، وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ١ لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ٢. فاحفظ هذه القاعدة فإنها مهمة جدا، بل هي التي أغنت السلف الصالح عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهي العاصمة لهم من أن يفهموا من الكتاب والسنة مستحيلا على الله -تعالى- من تجسيم أو غيره. ثم بعد إثباتي لهذه القاعدة رأيتها منصوصة في كلام السيد المعين، ثم رأيته قد سبقه إليها العلامة ابن القيم. انتهى. بيّن لنا هذه الاعتبارات الثلاث التي ذكر، وما يتعلق بها من ذكر الدليل، ومن هو السيد الذي ذكر؟ _________ ١ سورة الشورى آية: ١١. ٢ سورة الشورى آية: ١١.
[مسائل شتى سئل عنها الشيخ عبد الله أبو بطين] [الإيمان بالصفات] مسألة: قول الشيخ عثمان -رحمه الله تعالى-: والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به، وتارة من حيث قيامها بغيره، وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ١ لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ٢. فاحفظ هذه القاعدة فإنها مهمة جدا، بل هي التي أغنت السلف الصالح عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهي العاصمة لهم من أن يفهموا من الكتاب والسنة مستحيلا على الله -تعالى- من تجسيم أو غيره. ثم بعد إثباتي لهذه القاعدة رأيتها منصوصة في كلام السيد المعين، ثم رأيته قد سبقه إليها العلامة ابن القيم. انتهى. بيّن لنا هذه الاعتبارات الثلاث التي ذكر، وما يتعلق بها من ذكر الدليل، ومن هو السيد الذي ذكر؟ _________ ١ سورة الشورى آية: ١١. ٢ سورة الشورى آية: ١١.
1 / 372
مسألة أيضا: قوله ﷿: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ ١، قال سفيان ﵀:"فرَّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر".
بيّن لنا قول سفيان -قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه-، وما صفة الجمع وضده في قوله: فمن جمع. إلخ؟
[السنة في الشرب]
مسألة أيضا: ما يروى عن ابن عمر:"نهى رسول الله ﷺ أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا نشرب بالليل في إناء حتى نحركه إلا أن يكون مخمرا، ومن شرب بيد وهو يقدر على إناء يريد التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم ﵇" ٢ في إسناده بقية بن الوليد.
جواب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين ٣، آتاه الله أجره مرتين.
قول الشيخ عثمان: الصفة تعتبر من حيث هي هي إلخ. يعني لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر من حيث هي هي، أي تعتبر منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو هو: ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق فيقال: هو نور في شحمة تسمى إنسان العين تحت سبع طبقات في حدقة ينطبق عليها جفنان. وأما بالنسبة إلى الرب -سبحانه- فنقول: هو سبحانه سميع بسمع، بصير ببصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات.
ومراده بالسيد معين الدين: هو أبو المعالي محمد بن صفي الدين الحنبلي.
الخلق والأمر
وأما قول سفيان في قوله -سبحانه-: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ ٤، فمراده بذلك الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق. يقول: إن الله ﷾ عطف الأمر على
_________
١ سورة الأعراف آية: ٥٤.
٢ ابن ماجه: الأشربة ٣٤٣١.
٣ هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.
٤ سورة الأعراف آية: ٥٤.
1 / 373
الخلق، وأمره هو كلامه، فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد جعل أمره مخلوقا، فجمع بين الخلق والأمر، والله -سبحانه- قد فرق بينهما بعطفه الأمر على الخلق، فالمعطوف غير المعطوف عليه. والمراد بسفيان هو سفيان بن عيينة الإمام المعروف -رحمه الله تعالى-.
السنة في الشرب
وما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلا.
وأما الشرب على البطن يراد به الكرع في الماء، فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع. ففي البخاري:"أن النبي ﷺ دخل على رجل من الأنصار فقال له: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا" ١، والكرع هو: الشرب من النهر ونحوه بالفم من غير إناء ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجه بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح على ما إذا انبطح الشارب على بطنه، وحديث البخاري إذا لم ينبطح، أو يحمل النهي على التنْزيه، وحديث البخاري على الجواز. والله ﷾ أعلم.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن عن معنى قول الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمة الله عليه-: ولا ينفع المشرك قوله: أنا لا أشرك بالله شيئا لأن فعله أكذب قوله، فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلون، قلت: قد صرَّح الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فإن الله -تعالى- قد فرض على عباده إفراده بالعبادة، أن لا يعبدوا إلا إياه. ذكره في تطهير الاعتقاد.
_________
١ البخاري: الأشربة ٥٦١٣، وأبو داود: الأشربة ٣٧٢٤، وابن ماجه: الأشربة ٣٤٣٢، وأحمد ٣/٣٢٨،٣/٣٤٣،٣/٣٤٤،٣/٣٥٥، والدارمي: الأشربة ٢١٢٣.
1 / 374
فأجاب -رحمه الله تعالى-: قول محمد بن إسماعيل الأمير: إنه لا ينفع قول من فعل الشرك: أنا لا أشرك بالله، يعني أنه إذا فعل الشرك فهو مشرك، وإن سمَّاه بغير اسمه ونفاه عن نفسه.
وقوله: قد صرَّح الفقهاء في كتبهم بأن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها، فمرادهم بذلك من تكلم بكلام كفر مازحا وهازلا، وهو عبارة كثير منهم في قولهم: من أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين وإن كان مازحا، لقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ١. وأما من تكلم بكلمة كفر لا يعلم أنها كفر، يُعرَّف بذلك، فإن رجع فإنه لا يحكم بكفره كالذين قالوا:"اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" ٢.
وقوله: فصاروا كفارا كفرا أصليا. يعني: أنهم نشؤوا على ذلك، فليس حكمهم كالمرتدين الذين كانوا مسلمين، ثم صدرت منهم هذه الأمور الشركية.
والله ﷾ أعلم، وصلى الله على محمد وآل محمد وأصحاب محمد، وسلم تسليما كثيرا.
_________
١ سورة التوبة آية: ٦٥، ٦٦.
٢ الترمذي: الفتن ٢١٨٠، وأحمد ٥/٢١٨.
[معنى قوله في الاستفتاح ولا إله غيرك] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -غمره الله بأنعمه، وزاده من فواضل جوده وكرمه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل، وبه الأنس والسرور حصل، حيث أنبأ عن حال الأخ -جعلها الله حالا مرضية، وبالتوفيق مرعية-. وحيث سألت عني فأحمد الله إليك، وأنا بخير وعافية -جعلنا الله وإياكم من الشاكرين-. والأحوال من فضل الله جميلة، نسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، وأن يمن على الجميع
[معنى قوله في الاستفتاح ولا إله غيرك] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -غمره الله بأنعمه، وزاده من فواضل جوده وكرمه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل، وبه الأنس والسرور حصل، حيث أنبأ عن حال الأخ -جعلها الله حالا مرضية، وبالتوفيق مرعية-. وحيث سألت عني فأحمد الله إليك، وأنا بخير وعافية -جعلنا الله وإياكم من الشاكرين-. والأحوال من فضل الله جميلة، نسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، وأن يمن على الجميع
1 / 375
بالهدى والسداد، والفوز بالرضوان يوم المعاد، إنه هو الكريم الجواد، اللطيف بالعباد.
ويا أخي: مر علينا في شرح الزاد في معنى قوله في الاستفتاح:"ولا إله غيرك". أي: لا يستحق أن يعبد غيرك، وهو يؤيد ما قد قلته لك من أن المقدر في كلمة الإخلاص إذا قال الموحد:"لا إله إلا الله"أي: لا إله حق إلا الله، والعامل في هذا المقدر"لا"على أنه خبرها في قول الأخفش. وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه"لا"، وإنما عمل فيه المبتدأ وهو"لا"مع اسمها، فإن"لا"مع اسمها في محل رفع على الابتداء، والمقصود أن المقدر"حق"ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان.
وأبلغ محمد بن مانع ومن بحضرتك من الطلبة والإخوان والجماعة السلام،
ومن لدينا العيال وخواص إخوانكم بخير، وينهون السلام وأنت سالم. والسلام.
مسألة في بعض ما يتعلق بعلة الوقف ... [مسألة في بعض ما يتعلق بغلة الوقفٍ] بسم الله الرحمن الر حيم وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق والإصابة، والإعانة مع السداد والإثابة، إنه هو الكريم الجدير بالإجابة. وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة التي وصل إليكم جوابها عندكم ظاهر، أما عدم جوازها بالتراضي فمشكل. فأقول: نص العلماء -رحمهم الله تعالى- على المنع من قسمة مثل هذا إذا كان الوقف شيئا مقدرا من الغلة، ودليل المنع ظاهر في كلامهم سأشير إليه بعد -إن شاء الله-. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الموقف متعذر، لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة وباقيه طلق،
مسألة في بعض ما يتعلق بعلة الوقف ... [مسألة في بعض ما يتعلق بغلة الوقفٍ] بسم الله الرحمن الر حيم وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق والإصابة، والإعانة مع السداد والإثابة، إنه هو الكريم الجدير بالإجابة. وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة التي وصل إليكم جوابها عندكم ظاهر، أما عدم جوازها بالتراضي فمشكل. فأقول: نص العلماء -رحمهم الله تعالى- على المنع من قسمة مثل هذا إذا كان الوقف شيئا مقدرا من الغلة، ودليل المنع ظاهر في كلامهم سأشير إليه بعد -إن شاء الله-. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الموقف متعذر، لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة وباقيه طلق،
1 / 376
فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فيستغرق الأصل.
وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية إلى آخره.
فأقول: لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت من العلماء أحدا سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضا قياس مع الفارق، فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين بخلاف الخراجية، فإنه يجب فيها العشر والخراج ففارقها بذلك.
والخراج الذي وضعه عمررضي الله عنهلا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال؛ فلذلك قال العلماء –رحمهم الله تعالى-: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص إلا إذا تغير السبب. ففارقت مسألتنا هذه من هاتين الجهتين أيضا.
فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره.
وقولكم: كما منعوا بيع أرض العَنْوَة لوقفها.
أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا.
وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرَّحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة على ما ظهر صاحب الفروع من كلام الأصحاب.
أقول: ما نقلته عن صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع فقال: وقال في القواعد: هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر.
والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعا على الأصح، وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما إذا كان وقفا على جهتين، لا على جهة واحدة. صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى.
1 / 377
إذا عرفت أن القول بالجواز الذي هو خلاف الأصح بهذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضا من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس، لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة الوقف لهم.
وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ.
أقول: نعم، ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان على جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فَلَأَن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل لتطرق النقصان على الغلة غالبا من باب أولى.
وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه فلا يكونون شركاء متشاكسين، أقول: تقليل أيدي الملاك مما يزيد التشاكس في الوقف ويفرقه، مع ما يفضي إليه استيلاء هذه الأيدي من إتلاف هذا الوقف، وإتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه، فقد ظهر من هذا الجواب بعض مآخذ المانعين. فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم.
وأما ما ذكرته عن"الإقناع"في قسمة المهايآت؛ فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة لشيخ الإسلام ﵀، وقال في"الإنصاف": إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزا على الصحيح من المذهب، قدمه في"المغني والشرح والنظم والرعايتين والحاوي الصغير والفروع وغيرهم"، ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى.
وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق، والسلام وافرا على من نظر إليه من الإخوان.
1 / 378
[نصيحة لولي الأمر بالحرص على إقامة الدين]
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين والخلفاء الراشدين- فيصل بن تركي - جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: اعلم أن الله -تعالى- أنعم علينا وعليكم وعلى كافة أهل نجد بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده دينا، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفي عليهم ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين، وقبوله ومحبته والعمل به، واستفراغ الوسع إلى ذلك علما وعملا ودعوة إليه ورغبة فيه، وأن يكون أكبر هم الإنسان ومبلغ علمه ليحصل له النعيم الأبدي، والسرور السرمدي.
وقد وقع أكثر من أنعم الله عليه بهذه النعمة في التفريط في شكرها، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها، والتحدث بها، والعمل بموجبها. وقد وقع بالغفلة عن شكر هذه النعمة من التفريط فيها، والاشتغال بما يشغل عنها، من الرغبة في الدنيا، والإقبال عليها ما لا يخفى على ذوي البصائر.
وقد ذم الله -تعالى- في كتابه أهل الغفلة والإعراض -أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبلهم- فقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ ١. فعلينا وعليكم أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد، والاجتهاد بالنصيحة لجميع المسلمين، بتذكيرهم ما أنعم الله عليهم به من الدين،
_________
١ سورة الأعراف آية: ١٧٩.
1 / 379
وتعليمهم ما يجب عليهم تعلمه مما فيه صلاحهم، وفلاحهم ونجاحهم وسعادتهم، ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة.
وقد قال -تعالى-: ﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ ١. فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة والقرآن ينْزل، فمَن بعدهم أحرى أن يكونوا كذلك، فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا، ودعوة إليه وتعلما وتعليما، ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة فيما أحبوه وقالوه وعملوا به.
وقد حذر الله -تعالى- عباده من عقوبات الدنيا والآخرة على الإعراض عما خلقوا له كما قال -تعالى-: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ٢، وقال -تعالى-: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ ٣، وقال في حق نبيه: ﷺ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ٤. وعلينا أن نحذر ونحذّر عما حذرنا الله -تعالى- منه، من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله، والقيام بدينه كما ينبغي.
[الغفلة توقع فيما لا يحبه الله]
وبسبب الغفلة عن هذه الأمور الواجبة وقع في كثير من الناس أشياء مما لا يحبه الله ويرضاه، كما لا يخفى على من ينظر بنور الله، وقد قال -تعالى-: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ٥، والفساد: المعاصي وآثارها في الأرض، ولكن كما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
ومن موجبات الغفلة: الإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه. واليوم ما في البلدان من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا على ضعف. وفي تركه الوعيد الشديد، وفعله علامة الإيمان. وهو من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم.
_________
١ سورة التوبة آية: ١٢٦.
٢ سورة الذاريات آية: ٥٠.
٣ سورة غافر آية: ١٨.
٤ سورة النور آية: ٦٣.
٥ سورة الروم آية: ٤١.
1 / 380
[فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين]
قال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه، وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة.
فأوصيكم معشر الإخوان من الخاصة والعامة: أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأن تهتموا به كاهتمامكم بدنياكم، لتسعدوا وتسلموا وتغنموا. الشأن كل الشأن بالاهتمام فيما يرضي الله عنكم، ويدفع الله به عنكم عقوبات الدنيا والآخرة. وعلى الإمام –وفقه الله- أن يبعث للدين عمالا كما يبعث للزكاة عمالا ليعلموهم دينهم، ويأمروهم وينهوهم، وهذا مما يجب على الإمام. أعانه الله على ذلك، ووفقه للقيام بوظائف الدين؛ نصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين.
وأوصيكم بالتوبة إلى الله عما فرطتم فيه من العمل بدينه، وتعلمه وتعليمه وتكميله، فإن الله -تعالى- أكمله لكم، وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم.
فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة! وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه قبل القدوم عليه، والرجوع إليه. ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنيّة. فاشكروا الله -تعالى- على ما أعطاكم، ومنَّ به عليكم من دين الإسلام، وما حصل به من النعم التي لا تحصى.
وقد خطب نبيكم ﷺ أصحابه وأنذرهم وحذرهم فقال:"إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" ١ فاحذروا وحذِّروا؛ فإن الأمر عظيم، قال الله -تعالى-: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ ٢.
قال بعض العلماء في قوله: ﴿أَنْ تَقُومُوا﴾ فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به، وقوله: ﴿لله﴾ فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته؛ فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه، والقيام بذلك جدا واجتهادا.
ويشبه هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ ٣ إلى قوله: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ
_________
١ البخاري: تفسير القرآن ٤٧٧٠، ومسلم: الإيمان ٢٠٨، وأحمد ١/٢٨١،١/٣٠٧.
٢ سورة سبأ آية: ٤٦.
٣ سورة إبراهيم آية: ٤٢.
1 / 381
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ ١. فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ فيه التوحيد لأنه الذي دعا إليه رسله، وفي قوله: ﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ العمل بكتابه واتباع رسوله ﷺ؛ لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم. فمن عمل بهاتين الكلمتين فيما كان طاعة لله ولرسوله فقد فاز ونجا، وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامة.
فالله الله في الاهتمام بهذا الشأن والقيام به حسب الإمكان ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ٢.
[الصدقة على الفقراء تدفع العقوبة]
ومما يدفع الله به العقوبات، ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين، كما قال -تعالى-: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ٣، وقال -تعالى -: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ٤.
وقد ورد:"باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"وفي الحديث:"اتقوا النار ولو بشق تمرة" ٥ والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة، وهي من الباقيات الصالحات، وقد قال -تعالى-: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ ٦.
نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والعون على مرضاته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، بالتوبة النصوح، والإيمان، والعمل الصالح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
_________
١ سورة إبراهيم آية: ٤٤.
٢ سورة هود آية: ٨٨.
٣ سورة الحديد آية: ٧.
٤ سورة المزمل آية: ٢٠.
٥ البخاري: الزكاة ١٤١٧، ومسلم: الزكاة ١٠١٦، والنسائي: الزكاة ٢٥٥٢،٢٥٥٣، وأحمد ٤/٢٥٦.
٦ سورة الكهف آية: ٤٦.
1 / 382
[جواب فيصل للشيخ عبد الرحمن عن نصيحته المتقدمة]
بسم الله الرحمن الر حيم
من فيصل بن تركي إلى من وصلت إليه هذه النصيحة وسمعها أن يعمل بما ذكر فيها، ولا لأحد عذر إلا من منع أو ردع، فلا يعذر حتى يبلغنا، فإذا بلغنا من منعه فهو معذور.
والموجب أن حوائج الناس ما تقف عنا، القوي يوصل حاجة الضعيف، ويعين عليه بذكر حاله، ولا بأس في هذا، ويثاب عليه، فليكن إلى الله أعظم وألزم، فتوكلوا على الله، وافعلوا ما أمركم به، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ويكون ذلك على علم وحلم، فإن جبنتم فالله حسيب عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الرد على من قال بقول الفلاسفة في دعاء الموتى والتعلق بأرواحهم]
بسم الله الرحمن الر حيم
وبه نستعين.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن:
اعلم أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله، فأقول- مستعينا بالله،
1 / 383
طالبا في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه، والحمد لله رب العالمين-:
الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه:
أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات إنما أراد بها التعلق بالأموات، والالتجاء والرغبة إليهم، لكنه قصد أن يزخرف العبارة إضلالا للعوام والجهال، فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله، ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
وقد قال -تعالى-: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ١، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٢ الآية، وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ ٣.
وقال -تعالى-: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ ٤ الآية.
[حقيقة إخلاص الدين لله]
وإقامة الوجه هو إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه.
وهذا الذي ذكره هؤلاء المخرفون عن التوحيد لا ريب أن الله -تعالى- لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي كما سنذكره إن شاء الله -تعالى-.
فقد أكمل الله لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، وبين رسوله ﷺ ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا﴾ ٥.
وقد بين تعالى أصل دين الإسلام، وأساسه الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال -تعالى-: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ٦.
وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ٧.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال:"وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" ٨.
وقد بين ﷺ ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه ﷺ أنه قال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة" ٩. وقد
_________
١ سورة غافر آية: ١٤.
٢ سورة البينة آية: ٥.
٣ سورة الزمر آية: ٢، ٣.
٤ سورة الروم آية: ٣٠.
٥ سورة المائدة آية: ٣.
٦ سورة البقرة آية: ١١٢.
٧ البخاري: الصلح ٢٦٩٧، ومسلم: الأقضية ١٧١٨، وأبو داود: السنة ٤٦٠٦، وابن ماجه: المقدمة ١٤، وأحمد ٦/٧٣،٦/١٤٦،٦/١٨٠،٦/٢٤٠،٦/٢٥٦،٦/٢٧٠.
٨ أبو داود: السنة ٤٦٠٧، والدارمي: المقدمة ٩٥.
٩ ابن ماجه: ما جاء في الجنائز ١٥٧١، وأحمد ١/٤٥٢.
1 / 384
شرع الله -تعالى- ورسوله الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها لأنه محتاج لدعاء الحي لانقطاع عمله.
[الاستظهار بأرواح الصالحين من أعظم الشرك]
وأما الاستظهار بروحه فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه من الرغبة إلى الميت، والتعلق به، والالتجاء إليه، وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها كالمحبة والدعاء والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبدا، وهؤلاء كما قال الله -تعالى-: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَوَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ ١ الآية.
والله -تعالى- هو المتفرد بالخلق والتدبير والنفع والضر والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع كما قال -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ ٢ الآية، وقال -تعالى-: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ ٣ الآية.
وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها كما قال -تعالى-: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ٤، وقال: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ ٥، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص.
والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ٦ كما قال -تعالى-: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ ٧، فهي ملكه، يشفع من شاء فيمن شاء، بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال -تعالى-: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ ٨، وقال -تعالى-: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ٩، وقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا
_________
١ سورة يونس آية:١٠٦، ١٠٧.
٢ سورة الأحقاف آية: ٥.
٣ سورة فاطر آية: ١٣، ١٤.
٤ سورة الشرح آية: ٧، ٨.
٥ سورة الزمر آية: ٦٦.
٦ سورة الأنبياء آية: ٢٨.
٧ سورة الزمر آية: ٤٤.
٨ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٩ سورة الأنبياء آية: ٢٨.
1 / 385