بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وسلّم تَسْلِيمًا.
قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين بن هِشَام ﵀: سَأَلَني بعض الإخوان وَأَنا على جنَاح السّفر (١) عَن تَوْجِيه النصب فِي نَحْو قَول الْقَائِل: (فلانٌ لَا يملكُ درهما فضلا عَن دِينَار)، وَقَوله: (الإعرابُ لُغَة: البيانُ، وَاصْطِلَاحا (٢): تغيُّرُ الآخرِ لعاملٍ، والدليلُ لُغَة: المرشد (٣)، والإجماعُ لُغَة: العزمُ، والسنّةُ لُغَة: الطريقةُ)، وَقَوله: (يجوزُ كَذَا خِلافًا لفُلانٍ)، وَقَوله: (وَقَالَ أَيْضا)، وَقَوله: (هَلُمَّ جَرّا) . وكلُّ هَذِه التراكيب مُشْكِلَةٌ، ولَسْتُ (٤) على ثِقَة من أنَّها عَرَبِيَّة وإنْ كَانَت مَشْهُورَة فِي عرْفِ النَّاس، وَبَعضهَا لم أقِفْ لأحد على تَفْسِير لَهُ، ووقفتُ لبعضها على تَفْسِير لَا يشفي عليلًا وَلَا يبردُ غليلًا. وَهَا أَنا موردٌ فِي هَذِه الأوراقِ مَا تيسَّرَ لي، مُعْتذِرًا بضيقِ الوقتِ، وسقم الخاطر، وَمَا توفيقي إلاّ بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب. القَوْل فِي: فلانٌ لَا يملكُ درهما فَضْلًا عَن دِينَار. أمّا قَوْله: (فلانٌ لَا يملكُ درهما فضْلًا عَن دينارٍ) فَمَعْنَاه أنَّه لَا يملكُ درهما وَلَا دِينَارا، وأنَّ عَدَمَ مُلْكِهِ الدينارَ أولى من عَدَمِ مُلْكِهِ الدرهَم، وكأنَّه قَالَ: لَا يملك درهما فَكيف يملك دِينَارا، وَهَذَا التركيبُ زَعَمَ بَعضهم أنّه مسموع، وَأنْشد عَلَيْهِ: قلَّما يبْقى على هَذَا القَلَقْ صخرةٌ صمّاءُ فَضْلًا عَن رَمَقْ (٥)
_________
(١) ب: سفر.
(٢) ب: وَالْإِعْرَاب اصْطِلَاحا.
(٣) ب: الرشد.
(٤) ب: وَلَيْسَت.
(٥) لم أَقف عَلَيْهِ.
1 / 11
الرمق: بَقِيَّة الْحَيَاة. وَلَا تسْتَعْمل (فضلا) هَذِه إلاّ فِي النَّفْي، وَهُوَ مستفادٌ فِي (٦) الْبَيْت من (قلَّما) . قَالَ بَعضهم: حَدَثَ لقَلّ حِين كُفَّتْ ب (مَا) إِفَادَة النَّفْي، كَمَا حَدَثَ ل (إنّ) الْمَكْسُورَة الْمُشَدّدَة حِين كُفَّتْ إِفَادَة الِاخْتِصَاص (٧) . قلتُ: وَهَذَا خطأ فإنّ (قَلّ) (٨) تسْتَعْمل للنَّفْي (٩) قبل الكفّ، يُقال: قلّ أحَدٌ يعرفُ هَذَا إلاّ زيدٌ، وَلِهَذَا اسْتعْمل أحد (١)، وَصَحَّ إِبْدَال الْمُسْتَثْنى وَهُوَ بدل إمّا من (أحد) أَو من ضَمِيره. و(على) فِي الْبَيْت للمعية، مثلهَا (٢) فِي قَوْله تَعَالَى: (وإنّ ربَّكَ لذُو مغفرةٍ للناسِ على ظُلْمِهِم) (٣)، وَقَوله: (الحمدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق) (٤) . وانتصاب (فضلا) على وَجْهَيْن محكيين عَن الْفَارِسِي (٥) . أَحدهمَا
_________
(٦): أنْ يكون مصدرا لفعلٍ محذوفٍ، وَذَلِكَ الْفِعْل نعتٌ للنكرة (٧) . وَالثَّانِي: أنْ يكون حَالا من مَعْمُول الْفِعْل الْمَذْكُور. هَذَا خُلَاصَة مَا نُقل عَنهُ ويحتاجُ إِلَى بَسْطٍ (٨) يوضِّحُهُ. اعلمْ أنَّهُ يُقال: فَضُلَ عَنهُ وَعَلِيهِ بِمَعْنى: زَاد، فإنْ قدَّرته مصدرا فتقديره (٩): لَا يملكُ درهما يفضُلُ فَضْلًا عَن دينارٍ، وَذَلِكَ (١٠) الْفِعْل (٦) ح: من.
(٧) أ: الْعلَّة عدم إِفَادَة. ب: عدم الِاخْتِصَاص، وَالصَّوَاب مَا فِي ح.
(٨) أ، ب: قَلما.
(٩) ب: فِي النَّفْي.
(١) أ: يسْتَعْمل. ح: تسْتَعْمل مَعَ أحد.
(٢) ب: مقله.
(٣) الرَّعْد ٦.
(٤) إِبْرَاهِيم ٣٩.
(٥) هُوَ أَبُو عَليّ الْحسن بن أَحْمد النَّحْوِيّ، لَهُ مؤلفات كَثِيرَة فِي النَّحْو والقراءات، ت ٣٧٧ هـ. (تَارِيخ بَغْدَاد ٧ / ٢٧٥، نزهة الألباء ٣١٥، إنباه الروَاة ١ / ٢٧٣) .
(٦) ح: الأول.
(٧) ب: لنكرة.
(٨) أ: إِلَى سَبَب مَا يُوضحهُ.
(٩) ب: بِتَقْدِير. ح: فالتقدير.
(١٠) ح: فَذَلِك.
1 / 12
الْمَحْذُوف صفة ل (درهما)، كَذَا حُكِيَ عَن الْفَارِسِي. وَلَا يتعيَّنُ كَون الْفِعْل صفة بل يجوز أنْ يكون حَالا كَمَا جَازَ فِي (فَضْلًا) (١) أنْ يكون حَالا على مَا سَيَأْتِي تَقْرِيره. نَعَمْ وَجه الصّفة أقوى لأنّ نعت النكرَة كيفَ كَانَ (٢) أقْيَسُ من مَجِيء الْحَال مِنْهَا، وإنْ قدَّرته حَالا فصاحبها يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أنْ يكون ضمير الْمصدر محذوفًا، أَي: لَا يملكهُ، أَي: لَا يملك الْملك، على حدِّ قَوْله: هَذَا سُراقةُ للقرآنِ يدرُسُهُ (٣) . أَي: يدرس (٤) الدَّرْس، إذْ لَيْسَ الضَّمِير لِلْقُرْآنِ، لأنّ اللَّام مُتَعَلقَة بيدرس وَلَا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى ضمير فعل وَإِلَى ظَاهره جَمِيعًا، وَلِهَذَا وَجب فِي: (زيدا ضَربته) تَقْدِير عَامل على الْأَصَح، وعَلى هَذَا خرَّج سِيبَوَيْهٍ (٥) والمحققون نَحْو قَوْله: (سَارُوا سَرِيعا) أَي: ساروه، أَي: سَارُوا السّير سَرِيعا، وَلَيْسَ (سَرِيعا) عِنْدهم نعتًا لمصدر مَحْذُوف لالتزام الْعَرَب تنكيره، ولأنّ الْمَوْصُوف لَا يُحذف إلاّ إِن كَانَت الصّفة مُخْتَصَّة بِجِنْسِهِ، كَمَا فِي: (رأيتُ كَاتبا أَو حاسبًا أَو مهندسًا) فإنَّها مُخْتَصَّة بِجِنْس الْإِنْسَان، وَلَا يجوز: (رَأَيْت طَويلا) و(رَأَيْت (٦) أحمرَ)، وَفِي هَذَا الْموضع بحث لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه (٧) . وَالثَّانِي أنْ يكون (٨) قَوْله (درهما) حَالا.
_________
(١) ب: فضل.
(٢) أ، ب: كَانَت.
(٣) صدر بَيت لم يعرف قَائِله، وعجزه: (والمرء عِنْد الرشا أَن يلقها ذيب) . وَهُوَ فِي الْكتاب لسيبوه ١ / ٤٣٧، وَينظر فِيهِ، فهرس شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ ٦٥، مُعْجم شَوَاهِد الْعَرَبيَّة ٤٧.
(٤) ب: هَذَا يدرس.
(٥) أَبُو بشر عَمْرو بن عُثْمَان، لزم الْخَلِيل وَنقل آراءه بأمانة فِي (الْكتاب) الْمَشْهُور، ت ١٨٠ هـ (طَبَقَات النَّحْوِيين واللغويين ٦٦، نور القبس ٩٥، البغية ٢ / ٢٢٩) .
(٦) سَاقِطَة من أ. وَفِي ب: وَلَا رَأَيْت.
(٧) ب: مَحَله.
(٨) سَاقِطَة من ب.
1 / 13
فإنْ قلتَ: كيفَ جَازَ مَجِيء الْحَال من النكرَة؟ قلتُ: أمّا على قَول سِيبَوَيْهٍ فَلَا إِشْكَال، لأنّه يجوز عِنْده مَجِيء الْحَال من النكرَة، وإنْ لم يكن الِابْتِدَاء بهَا، وَمن أمثلته: (فِيهَا رجلٌ قَائِما) (١)، وَمن كَلَامهم: (عَلَيْهِ مائةٌ بيضًا) (٢) . وَفِي الحَدِيث: (صلّى وَرَاءه قومٌ قيَاما) (٣) . وأمّا على الْمَشْهُور من أنّ الْحَال لَا تَأتي من النكرَة إلاّ بمسوّغ فلهَا هُنَا مسوّغان: أَحدهمَا (٤): كَونهَا فِي سِيَاق النَّفْي وَالنَّفْي يخرج النكرَة من حيِّز الْإِبْهَام إِلَى حيِّز الْعُمُوم فَيجوز حِينَئِذٍ الْإِخْبَار عَنْهَا ومجيء الْحَال مِنْهَا. وَالثَّانِي: ضعف التوصف، وَمَتى امْتنع الْوَصْف بِالْحَال أَو ضعف سَاغَ مجيئها من النكرَة، فالأوَّلُ كَقَوْلِه تَعَالَى: (أَو كَالَّذي مرَّ على قريةٍ وَهِي خاويةٌ) (٥)، وَقَول الشَّاعِر (٦): مَضَى زَمَنٌ والناسُ يستشفعونَ بِي فَهَل لي إِلَى ليلى الغداةَ شَفيعُ (٥١ ب) فإنّ المقرونة بِالْوَاو لَا تكون صفة خلافًا للزمخشري (٧)، وكقولك: (هَذَا خاتمٌ حديدًا) عِنْد مَنْ أعربه حَالا، لأنّ الجامدَ المحضَ لَا يوصَف بِهِ. وَالثَّانِي كَقَوْلِهِم: (مررتُ بماءٍ قِعْدَةَ رجلٍ)، فإنّ الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ خَارج عَن الْقيَاس. فإنْ قلتَ: هلا أجَاز الْفَارِسِي فِي (فضلا) كَونه صفة ل (درهما) .
_________
(١) ب: قَائِم. وَنَقله سِيبَوَيْهٍ على أَنه قَول الْخَلِيل.
(٢) الْكتاب ١ / ٢٧٢ وَبعده فِيهِ: وَالرَّفْع الْوَجْه.
(٣) ب: رجال. وَينظر: صَحِيح مُسلم ٣٠٨ - ٣٠٩ وَسنَن ابْن ماجة ٣٩٢ - ٣٩٣.
(٤) ح: الأول.
(٥) الْبَقَرَة ٢٥٩.
(٦) قيس بن ذريح، شعره: ١١٤ فِيهِ لبنى بدل ليلى. وَالْبَيْت أَيْضا فِي ديوَان الْمَجْنُون ١٩١. وَنسب إِلَى غَيرهمَا، ينظر اللآلي ١٣٢ - ١٣٣.
(٧) مَحْمُود بن عمر، لَهُ مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا الْكَشَّاف والمفصل والمستقصى. ت ٥٣٨ هـ (نزهة الأباء ٣٩١، الإنباه: ٣ / ٢٦٥، الْبلْغَة فِي تَارِيخ أَئِمَّة اللُّغَة ٢٥٦) .
1 / 14
قلتُ: زعم أَبُو حيّان (١) أنّ ذَلِك لَا يجوز (٢) لأنّه لَا يُوصف بِالْمَصْدَرِ إلاّ إِذا (٣) أريدت الْمُبَالغَة لِكَثْرَة وُقُوع (٤) ذَلِك الْحَدث من صَاحبه، وَلَيْسَ ذَلِك بمرادٍ هُنَا، قَالَ: وأمّا القَوْل بأنّه يُوصف بِالْمَصْدَرِ على تَأْوِيله بالمشتق أَو على تَقْدِير الْمُضَاف فَلَيْسَ قَول الْمُحَقِّقين. قلتُ: هَذَا كَلَام عَجِيب، فإنّ الْقَائِل بالتأويل الْكُوفِيُّونَ (٥)، ويأوِّلون عدلا بعادل ورضى بمرضي، وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي نظائرها. وَالْقَائِل بالتقدير البصريون، يَقُولُونَ: التَّقْدِير: ذُو عدل وَذُو رضى، وإنْ كَانَ (٦) كَذَلِك فَمَن الْمُحَقِّقُونَ (٧)؟ ثمَّ (٨) اخْتلف النَّقْل عَن الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَشْهُور أنّ الْخلاف مُطلق. قَالَ ابْن عُصْفُور (٩)، (وَهُوَ الظَّاهِر: إِنَّمَا الْخلاف حَيْثُ لَا يقْصد الْمُبَالغَة وإنْ قصدت فالاتفاق على أنّه لَا تَأْوِيل وَلَا تعدِي. وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن عُصْفُور) (١٠) هُوَ الَّذِي فِي ذهن أبي حيَّان، وَلكنه نسي فَتوهم أنّ ابْن عُصْفُور قَالَ: لَا تَأْوِيل مُطلقًا (١١)، فَمن هُنَا - واللهُ أعلمُ - دخل عَلَيْهِ الْوَهم. وَالَّذِي ظهر لي أَن الْفَارِسِي إنّما لم يجز فِي (فضلا) الصّفة لأنّه رَآهُ مَنْصُوبًا أبدا سَوَاء كَانَ مَا قبله مَنْصُوبًا كَمَا فِي الْمِثَال أم مَرْفُوعا كَمَا فِي الْبَيْت أم مخفوضًا كَمَا فِي قَوْلك: (فلَان لَا يَهْتَدِي إِلَى ظواهر النَّحْو فضلا عَن دقائق الْبَيَان) . فَهَذَا مُنْتَهى القَوْل فِي تَوْجِيه إِعْرَاب الْفَارِسِي، وأمّا تَنْزِيله على الْمَعْنى
_________
(١) هُوَ أثير الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف الأندلسي النَّحْوِيّ الْمُفَسّر، ت ٧٥٤ هـ. أشهر كتبه: الْبَحْر الْمُحِيط، ارتشاف الضَّرْب. (الدُّرَر الكامنة ٥ / ٧٠، حسن المحاضرة ١ / ٥٣٤، الْبَدْر الطالع ٢ / ٢٨٨) .
(٢) (لَا يجوز) سَاقِط من ح.
(٣) ح: إِن.
(٤) سَاقِطَة من ح.
(٥) شرح الكافية ٢ / ١٩٢.
(٦) ح: وَإِذ. (وَإِن كَانَ) سَاقِط من ب.
(٧) ب: الْمُحَقِّقين.
(٨) أ: بل.
(٩) هُوَ عَليّ بن مُؤمن الإشبيلي، من عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، ت ٦٦٩ هـ. أشهر كتبه: المقرب، الممتع فِي التصريف، شرح الْجمل. (الذيل والتكملة ٥ / ٤١٣)، فَوَات الوفيات ٣ / ١٠٩، البغية ٢ / ٢١٠) .
(١٠) مَا بَين القوسين سَاقِط من ح بِسَبَب انْتِقَال النّظر، وَهَذَا يحدث فِي الْجمل المتشابهة النهايات.
(١١) ح: إِنَّه لَا تَأْوِيل مُطلقًا.
1 / 15
المُرَاد فعسير (١)، وَقد خرج على أنّه من بَاب قَوْله: على لاحبٍ لَا يُهْتَدَى بمنارِهِ (٢) . وَلم يذكر أَبُو حَيَّان سوى ذَلِك، وَقَالَ: قد يسلطون النَّفْي على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِانْتِفَاء صفته فَيَقُولُونَ: (مَا قامَ رجلٌ عاقلٌ) أَي: لَا رجلَ عاقلٌ فَيقوم، ثمَّ أنْشد بَيت امْرِئ الْقَيْس الْمَذْكُور، فَقَالَ: أَلا ترى أنّه لَا يُرِيد إِثْبَات منارٍ للطريق وينفي الاهتداء عَنهُ، إنَّما يُرِيد نفي الْمنَار فتنتفي الْهِدَايَة بِهِ أَي: لَا منار لهَذَا الطَّرِيق فيهتدي بِهِ. وَقَالَ الأفوه الأودي (٣): بمَهْمَهٍ مَا لأنيسٍ (٤) بِهِ حِسٌ فَمَا فِيهِ لَهُ من رسيسْ لَا يُرِيد (٥) أنّ بِهَذَا القفر أنيسًا لَا حِسّ لَهُ، إِنَّمَا يُرِيد (٦): لَا أنيس بِهِ فَيكون لَهُ حسٌ. وعَلى هَذَا خرَّج: (فَمَا تنفعهم شفاعةُ الشافعين) (٧) أَي: لَا شَافِع لَهُم فتنفعهم شَفَاعَته، و(لَا يسألونَ الناسَ إلحافًا) (٨) أَي: لَا سُؤال فَيكون إلحافا، قَالَ: وعَلى هَذَا يتَخَرَّج الْمِثَال الْمَذْكُور، أَي: لَا يملك درهما فيفضل عَن دِينَار لَهُ، وَإِذا انْتَفَى ملكه لدرهم كَانَ انْتِفَاء ملكه للدينار أولى. قلت: وَهَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره لَا تَحْرِيف فِيهِ، فإنّ الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة من بَابَيْنِ مُخْتَلفين وقاعدتين متباينتين أميِّز كلا مِنْهُمَا عَن الْأُخْرَى، ثمَّ أذكر أنّ التَّخْرِيج الْمَذْكُور (٩) لَا يَتَأَتَّى (١٠) على شَيْء مِنْهُمَا:
_________
(١) ح: فعسر.
(٢) أ: على ناحت. و(لَا) سَاقِطَة من ب. وَالْقَوْل هُوَ صدر بَيت لامرئ الْقَيْس فِي ديوانه ٦٦ وعجزه إِذا سافه الْعود النباطي جرجرا.
(٣) ديوانه ١ ﴿الطرائف الأدبية) . والأفوه هُوَ صلاءة بن عَمْرو، لقب الأفوه لِأَنَّهُ كَانَ غليظ الشفتين ظَاهر الْأَسْنَان، وَهُوَ شَاعِر جاهلي. (الشّعْر وَالشعرَاء ٢٢٣، الأغاني ١٢ / ١٦٩، معاهد التَّنْصِيص ٤ / ١٠٧) .
(٤) ب، ح: مَا لَا أنيس.
(٥) و(٦) أ: يُرِيدُونَ.
(٧) المدثر ٤٨.
(٨) الْبَقَرَة ٢٧٣.
(٩) سَاقِطَة من ب.
(١٠) أ: لَا يَأْتِي.
1 / 16
الْقَاعِدَة الأولى: إنّ الْقَضِيَّة السالبة لَا تَسْتَلْزِم وجود (١) الْمَوْضُوع بل كَمَا تصدق مَعَ وجوده تصدق مَعَ عَدمه. فَإِذا قيل: (مَا جَاءَنِي قَاضِي مكَّةَ وَلَا ابْن الْخَلِيفَة) صدقت الْقَضِيَّة وإنْ لم يكن بِمَكَّة قاضٍ وَلَا للخليفة ابْن. وَهَذِه الْقَاعِدَة هِيَ الَّتِي يخرج عَلَيْهَا: (فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين) وَبَيت امْرِئ الْقَيْس، فإنّ شَفَاعَة الشافعين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافرين غير مَوْجُودَة يَوْم الْقِيَامَة لأنّ الله تَعَالَى لَا يَأْذَن لأحد فِي (٢) أنْ يشفع لَهُم لأنّه لَا يَأْذَن فِي مَا لَا ينفع لتعاليه عَن الْعَبَث، وَلَا يشفع أحد عِنْد الله إِذا لم يَأْذَن الله لَهُ (٣): (مَنْ ذَا الَّذِي يشفعُ عِنْده إلاّ بِإِذْنِهِ) (٤) . وَكَذَلِكَ الْمنَار غير مَوْجُود فِي اللاحب الْمَذْكُور، لأنّ المُرَاد التمدح بأنّه (٥) يقطع الأَرْض المجهولة من غَيرهَا ويهتدى بِهِ، فغرضه إنّما تعلَّق بِنَفْي وجود مَا يهتدى بِهِ فِي تِلْكَ الطَّرِيق الَّتِي سلكها لَا بِنَفْي وجود الْهِدَايَة عَن شَيْء نُصب (٦) فِيهَا للاهتداء بِهِ. وأمّا قَول أبي حيّان وَغَيره: المُرَاد لَا شَافِع لَهُم فتنفعهم شَفَاعَته وَلَا منار فيهتدى بِهِ (٧) فَلَيْسَ بِشَيْء، لأنّ النَّفْي إنّما يتسلط على الْمسند لَا على الْمسند إِلَيْهِ، وَلَكنهُمْ لمّا رَأَوْا الشَّفَاعَة والمنار غير موجودين توهموا أنّ ذَلِك من اللَّفْظ فزعموا مَا زَعَمُوا، وفَرْقٌ بَين قَوْلنَا: الكلامُ صادقٌ مَعَ عدم الْمسند إِلَيْهِ، وَقَوْلنَا: إنّ الْكَلَام اقْتضى عَدمه. الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: أنّ الْقَضِيَّة السالبة الْمُشْتَملَة على مُقَيّد نَحْو: " مَا جَاءَنِي رجلٌ شاعرٌ " يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول (٨): أنْ يكون نفي الْمسند بِاعْتِبَار المقيّد فَيَقْتَضِي الْمَفْهُوم فِي الْمِثَال الْمَذْكُور وجود مَجِيء رجلٍ مَا غير شَاعِر، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِمَال الرَّاجِح المتبادل،
_________
(١) أ: وُقُوع.
(٢) (فِي) سَاقِطَة من ب.
(٣) (لَهُ) سَاقِطَة من أ، ب.
(٤) البقة ٢٥٥.
(٥) من ح، وَفِي أ، ب: لِأَنَّهُ.
(٦) سَاقِطَة من ح.
(٧) (بِهِ) سَاقِطَة من ح. وَقَول أبي حَيَّان فِي الْبَحْر الْمُحِيط ٨ / ٣٨٠.
(٨) ح: أَحدهمَا.
1 / 17
أَلا ترى لَو كَانَ المُرَاد نَفْيه عَن الرجل مُطلقًا لَكَانَ ذكر الْوَصْف ضائعًا ولكان زِيَادَة فِي اللَّفْظ ونقصًا فِي الْمَعْنى المُرَاد. الثَّانِي: أنْ يكون نَفْيه بِاعْتِبَار المقيّد وَهُوَ الرجل، وَهَذَا احْتِمَال مَرْجُوح لَا يُصار إِلَيْهِ إلاّ بِدَلِيل (١)، فَلَا مَفْهُوم حِينَئِذٍ للتَّقْيِيد، لأنّه لم يُذكر للتَّقْيِيد بل ذُكِرَ لغَرَض آخر، كأنْ يكون المُرَاد مناقضة مَنْ أثبتَ ذلكَ الْوَصْف فَقال: (جَاءَنِي (٢) رجل شَاعِر) فَأَرَدْت التَّنْصِيص على نفي مَا أثْبته، أَو كَأَن يُراد التَّعْرِيض (٣)، إِذا (٤) أردْت فِي الْمِثَال الْمَذْكُور أنْ تعرِّض بمَنْ جاءَهُ رجلٌ شاعرٌ. وَهَذِه هِيَ (٥) الْقَاعِدَة الَّتِي يخرج عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى (٦): (لَا يسألونَ الناسَ إلحافًا) (٧) فإنّ الإلحافَ قَيْدٌ فِي السُّؤَال الْمَنْفِيّ، وَالْمرَاد من الْآيَة - وَالله أعلم - نفي السُّؤَال الْبَتَّةَ بِدَلِيل: (يَحْسبهُم الْجَاهِل أغنياءَ من التعفُّفِ) (٨)، وَالتَّعَفُّف لَا يُجَامع الْمَسْأَلَة، وَلَكِن أُرِيد بِذكر الإلحاف - وَالله أعلم - التَّعْرِيض بِقوم ملحفين توبيخًا لَهُم على صنيعهم أَو التَّعْرِيض بجنسهم الملحفين وذمهم على الإلحاف، لأنّ نقيض الْوَصْف (٩) الممدوح مَذْمُوم، والمثال المبحوث فِيهِ متخرج على هَذِه الْقَاعِدَة فِيمَا زَعَمُوا، فإنّ فضلا مقيِّدٌ للدرهم، فَلَو قدّر النَّفْي مسلطًا على الْقَيْد اقْتضى مَفْهُومه خلاف المُرَاد، وَهُوَ أنّه يملك الدِّرْهَم وَلكنه لَا يملك الدِّينَار، ولمّا امْتنع هَذَا تعيّن الْحمل على الْوَجْه الْمَرْجُوح، وَهُوَ تسليط النَّفْي على المقيّد، وَهُوَ الدِّرْهَم، فَيَنْتَفِي الدِّينَار، لأنّ الَّذِي لَا يملك الأقلَّ لَا يملك الأكثرَ فإنّ المُرَاد بالدرهم لَيْسَ الدِّرْهَم الْعرفِيّ، لأنّه يجوز أنْ يملك الدِّينَار من لَا يملكهُ، بل المُرَاد مَا يُسَاوِي من النُّقُود درهما، فَهَذَا تَوْجِيه التَّخْرِيج.
_________
(١) ح: لدَلِيل.
(٢) ح: جَاءَك.
(٣) ب: ذما.
(٤) أ، ح: كَمَا.
(٥) ح: من.
(٦) (قَوْله تَعَالَى): سَاقِط من ح. (٧، ٨) الْبَقَرَة ٢٧٣.
(٩) ح: النقيض للوصف.
1 / 18
وأمّا الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَمن جِهَة أنّ الْقَيْد لَيْسَ نفس الدِّينَار حَتَّى يصير الْمَعْنى: لَا يملكُ درهما فيكفَ يملك (١) دِينَارا. وإنّما الْقَيْد قَوْله: (فضلا عَن دِينَار) . وَالْكَلَام لم يسق لنفي ملك الزَّائِد على (٢) الدِّينَار بل لنفي ملك الدِّينَار نَفسه ثمَّ يلْزم عَن ذَلِك انْتِفَاء ملك مَا زَاد عَلَيْهِ. وَالَّذِي ظهر لي فِي تَوْجِيه هَذَا الْكَلَام أنْ يُقال: إنَّه فِي الأَصْل جملتان مستقلتان وَلَكِن الْجُمْلَة الثَّانِيَة دَخلهَا حذف كثير وتغيير حصل الْإِشْكَال بِسَبَبِهِ، وتوجيه ذَلِك أنْ يكون هَذَا الْكَلَام فِي اللَّفْظ أَو فِي التَّقْدِير جَوَابا لمستخبر قَالَ: " أيملك فلَان دِينَارا "، أَو ردًّا على مخبر قَالَ: (فلَان يملك دِينَارا) . فَقيل فِي الْجَواب: (فلَان لَا يملك درهما) ثمَّ استؤنف كَلَام آخر (٣) . وَلَك فِي تَقْدِيره وَجْهَان: الأول: أنْ يُقال (٤): أَخْبَرتك بِهَذَا زِيَادَة على (٥) الْأَخْبَار عَن دِينَار استفهمت عَنهُ. أَو أَخْبَرتك بِملك (٦) لَهُ، ثمَّ حذفت جملَة (أَخْبَرتك بِهَذَا) وَبَقِي معمولها وَهُوَ (فضلا)، كَمَا قَالُوا: (حِينَئِذٍ الآنَ) بِتَقْدِير: كَانَ ذَلِك حِينَئِذٍ واسمع الآنَ، فحذفوا الجملتين وأبقوا من كلٍّ مِنْهُمَا معمولهما، ثمَّ حُذف مجرور عَن وجارّ دِينَار، وأدخلت (عَن) الأولى على الدِّينَار كَمَا قَالُوا: (مَا رأيتُ رجلا أحسنَ فِي عينِهِ (٧) الكحلُ مِن زيدٍ) . وَالْأَصْل: مِنْهُ فِي عين زيد، ثمَّ حذف مجرور (من) وَهُوَ الضَّمِير، وجارّ الْعين وَهُوَ (فِي)، وَدخلت (من) على الْعين. الثَّانِي: أنْ يُقدر (٨): فضلا (٩) انْتِفَاء الدِّرْهَم عَن فلَان عَن انْتِفَاء الدِّينَار.
_________
(١) سَاقِطَة من أ، ح.
(٢) ح: عَن.
(٣) ح: اسْتَأْنف كلَاما.
(٤) ب: أَحدهمَا أَن تقدر.
(٥) ح: عَن.
(٦) ب: يملكهُ.
(٧) ب: عَيْنَيْهِ. وَينظر فِي مَسْأَلَة الْكحل: الْكتاب ١ / ٢٣٢، المقتضب ٣ / ٢٤٨ - ٢٥٠، شرح الْمُقدمَة المحسبة ٤٠٠، شرح عُمْدَة الْحَافِظ ٧٧٣ - ٧٧٤، شرح الكافية ٢ / ٢٢٠ - ٢٢٢، شرح التَّصْرِيح ٢ / ١٠٦ - ١٠٧، همع الهوامع ٢ / ١٠٢.
(٨) ب: تقدر.
(٩) ح: فضل.
1 / 19
عَنهُ. وَمعنى ذَلِك أَن تكون حَال (١) هَذَا الْمَذْكُور فِي النَّفْي مَعْرُوفَة عِنْد النَّاس. وَالْفَقِير إنّما يَنْفِي عَنهُ فِي الْعَادة ملك الْأَشْيَاء الحقيرة لَا ملك الْأَمْوَال الْكَثِيرَة، فوقوع نفي ملك الدِّرْهَم عَنهُ فِي الْوُجُود فَاضل عَن وُقُوع نفي الدِّينَار عَنهُ، أيْ أَكثر مِنْهُ. وفضلًا على التَّقْدِير الأول حَال، وعَلى الثَّانِي مصدر، وهما الْوَجْهَانِ اللَّذَان ذكرهمَا الْفَارِسِي لكنّ تَوْجِيه الإعرابين مُخَالف لما ذكر (٢) وتوجيه الْمَعْنى مُخَالف لما ذكرُوا، لأنّه إنّما يَتَّضِح تطابق اللَّفْظ وَالْمعْنَى على مَا وجهت لَا على مَا وجهوا، ولعلّ من لم يقو أنسه (٣) بتجوزات الْعَرَب فِي كَلَامهَا يقْدَح فِيمَا ذكرت بِكَثْرَة الْحَذف، وَهُوَ كَمَا قيل: إِذا لم يكن إلاّ الأسنة مركبٌ فَلَا رَأْي للمحتاج إلاّ ركُوبهَا (٤) وَقد بيَّنْت فِي التَّوْجِيه الأول (٥) أنّ مثلَ هَذَا الْحَذف والتجوّز واقعٌ فِي كَلَامهم. قَالَ أَبُو الْفَتْح (٦): قَالَ أَبُو عَليّ (٧): مَنْ عُرِفَ أُلِفَ وَمن جُهِلَ استُوحِشَ.
_________
(١) ب: يكون حَالَة.
(٢) ب: ذكرُوا.
(٣) (يقو أنسه) سَاقِط من ب.
(٤) الْبَيْت للكميت بن زيد فِي شعره: ١ / ١٩٩ وَفِيه: وَإِن لم ... فَلَا رَأْي للمحمول.
(٥) سَاقِطَة من ب.
(٦) هُوَ عُثْمَان بن جني اللّغَوِيّ الْمَشْهُور وتلميذ أبي عَليّ الْفَارِسِي، لَهُ مؤلفات كَثِيرَة فِي اللُّغَة والقراءات أشهرها: الخصائص وَالْمنصف والمحتسب، ت ٣٩٢ هـ (نزهة الألباء ٣٥٢، إنباه الروَاة ٢ / ٣٣٥، بغية الوعاة ٢ / ١٣٢) .
(٧) ب: قَالَ الْأُسْتَاذ. ح قَالَ لي.
1 / 20
القَوْل فِي: الْإِعْرَاب لُغَة البيانُ وأمّا الإعرابُ لُغَة: البيانُ وَنَحْوه فيتبادر إِلَى الذِّهْن فِيهِ أوجه: الأول (١): وَهُوَ (٢) أقربها تبادرًا أنْ يكون على نزع الْخَافِض، وَالْأَصْل: الْإِعْرَاب فِي اللغةِ البيانُ، وَيشْهد لهَذَا أنّهم قد يصرِّحون بذلك، أَعنِي بأنْ يَقُولُوا: الإعرابُ فِي اللغةِ البيانُ. وَفِي هَذَا الْوَجْه نظرٌ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا (٣) أنّ إِسْقَاط الْخَافِض من هَذَا وَنَحْوه لَيْسَ بِقِيَاس، وَاسْتِعْمَال مثل هَذَا التَّرْكِيب مُسْتَمر فِي كَلَام الْعَرَب (٤) . الثَّانِي: أنَّهم قد التزموا فِي هَذِه الْأَلْفَاظ التنكير، وَلَو كَانَت على إِسْقَاط الْخَافِض لبقيت على تَعْرِيفهَا الَّذِي كَانَ عِنْد وجود الْخَافِض كَمَا بَقِي التَّعْرِيف فِي قَوْله: تَمُرُّونَ الديارَ وَلم تَعُوجُوا (٥) وَأَصله: تمرون (٦) على الديار أَو بالديار. وَقد يُزاد على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَجْهَان آخرَانِ: الأول (٧): أنّه لَيْسَ فِي الكلامِ مَا يتَعَلَّق بِهِ هَذَا الْخَافِض. الثَّانِي: أنّ سُقُوط الْخَافِض لَا يَقْتَضِي النصب من حَيْثُ هُوَ سُقُوط خافض بل من حَيْثُ أنّ الْعَامِل الَّذِي كَانَ الْجَار مُتَعَلقا بِهِ لمّا زَالَ من اللَّفْظ ظُهُور (٨) . أَثَره لزوَال مَا كَانَ الْخَافِض يُعَارضهُ نُصبَ (٩) . فَإِذا لم يكن فِي الْكَلَام مَا
_________
(١) ح: أَحدهمَا.
(٢) (هُوَ) سَاقِطَة من ب.
(٣) ح: الأول.
(٤) ب: الْعلمَاء.
(٥) صدر بَيت لجرير فِي ديوانه ٢٧٨ وعجزه: كلامكم عَليّ إِذن حرَام وَرِوَايَة الدِّيوَان: أتمضون الرسوم وَلَا تحيي. وَالْبَيْت من شَوَاهِد النَّحْو الْمَشْهُور وَهُوَ فِي الْكَامِل ٣٣ وَمَا يجوز للشاعر فِي الضَّرُورَة ١٠٣ وضرائر الشّعْر ١٤٦ وَشرح ابْن عقيل ١ / ٥٣٨ والمقاصد ٢ / ٥٦٠ والخزانة ٣ / ٦٧١ وَشرح أَبْيَات مُغنِي اللبيب ٢ / ٢٨٩.
(٦) سَاقِطَة من ب.
(٧) سَاقِطَة من ح.
(٨) ح: ظهر.
(٩) سَاقِطَة من ح.
1 / 21
يَقْتَضِي النصب من فعل أَو شبهه لم يجز النصب. وَمن هُنَا كَانَ خطأ قَول الْكُوفِيّين فِي: (مَا زيدٌ قَائِما) إنّ (مَا) لم ترفع الِاسْم وَلم تنصب الْخَبَر بل ارْتِفَاع (زيد) على أنّه مُبْتَدأ، وَنصب (قَائِما) على إِسْقَاط الْبَاء (١) . وَهَذَانِ (٢) الْوَجْهَانِ لَو صَحا لاقتضيا أنْ لَا يجوز: الإعرابُ فِي اللغةِ البيانُ، ولكنْ يُجِيزهُ على التَّعْلِيق بأعني مضمرة مُعْتَرضَة بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، والفصل بِالْجُمْلَةِ الاعتراضية جَائِز اتِّفَاقًا. فإنْ قلتَ: فَهَلا (٣) قدرت الْجَار الْمَحْذُوف أَو الْمَذْكُور متعلِّقًا بالْخبر (٤) الْمُؤخر عَنهُ فإنّ فِيهِ معنى الْفِعْل. قلتُ: لفساده معنى وصناعةً، أمّا معنى فلأنَّه (٥) يصير الْمَعْنى: الْإِعْرَاب (٦) الْبَيَان الْحَاصِل فِي اللُّغَة [لَا الْبَيَان الْحَاصِل فِي غير اللُّغَة وَلَيْسَ المُرَاد هَذَا] (٧) . وأمّا صناعَة (٨) فلأنّ (٩) الْبَيَان وَنَحْوه مصَادر، وَلَا يتَقَدَّم على الْمصدر معموله، وَلَو كَانَ ظرفا، وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَول الحماسي (١٠) . بعضُ الحِلْمِ عِندَ الجَهْلِ للذِّلَّةِ إذْعانُ إنَّ اللَّام مُتَعَلقَة بإذعان مَحْذُوف أُبدِل مِنْهُ الإذعان الْمَذْكُور، وَلَيْسَت مُتَعَلقَة بالإذعان الْمَذْكُور. فَإِذا امْتَنعُوا من ذَلِك حَيْثُ لم يظْهر تَأْثِير الْمصدر للنصب، وَلم يتجوزوا (١١) فِي الْجَار بالحذف (١٢)، مُهِمّ عَن (١٣) تَجْوِيز التَّقْدِيم
_________
(١) ينظر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: أسرار الْعَرَبيَّة ١٤٣، الْإِنْصَاف ١٦٥، شرح الكافية ١ / ٢٦٨.
(٢) ح: وَهَذَا.
(٣) ح: هلا.
(٤) ج: الْجُزْء.
(٥) أ، ح: لِأَنَّهُ.
(٦) أ: إِعْرَاب.
(٧) مَا بَين القوسين المربعين من ح.
(٨) ح: الصِّنَاعَة. (وَأما الصِّنَاعَة) سَاقِط من أ.
(٩) أ، ح: لِأَن.
(١٠) هُوَ الفِنْد الزماني من قصيدة تعداد أبياتها عشرُون بَيْتا فِي مُنْتَهى الطّلب ٥ / ق ١٥٨ وَقد نشرت بتحقيقنا فِي مجلة المورد الغراء م ٨ ع ٣ - ١٩٧٩. وَينظر فِي الْبَيْت: شرح ديوَان الحماسة (م) ٣٨ و(ت) ١ / ٢٦، مُعْجم شَوَاهِد الْعَرَبيَّة ٣٩٤.
(١١) ح: يجوزوا.
(١٢) ب: الْمَحْذُوف.
(١٣) أ: عِنْد.
1 / 22
عِنْد وجود هذَيْن (١) أبْعَدُ. فإنْ قلتَ: هَبْ أنَّ هَذَا امْتنع حيثُ الْعَامِل (٢) مصدر لكنّه لَا يمْتَنع (٣) حَيْثُ هُوَ وصف كَقَوْلِه: الدليلُ لُغَة المرشدُ. قلتُ: بل يمْتَنع لأنّ اسْم الْفَاعِل صلَة الْألف وَاللَّام أيْ: الدليلُ الَّذِي يرشد، وَلَا يتَقَدَّم مَعْمُول الصِّلَة على الْمَوْصُول، وَلَو كَانَ ظرفا، وَلِهَذَا يؤول قَول الله (٤) ﷾: (وَكُونُوا فِيهِ من الزاهدين) (٥)، (إنِّي لَكمَا لمن الناصِحينَ) (٦)، (إنِّي لعملِكُم من القالِينَ) (٧) . وَلَو قدَّرنا (أل) فِي (٨) ذَلِك لمحض التَّعْرِيف، كَمَا يَقُول الْأَخْفَش (٩)، لم نخلص من الْإِشْكَال الثَّانِي، وَهُوَ فَسَاد الْمَعْنى، إِذْ الْمَعْنى حِينَئِذٍ: الدَّلِيل الَّذِي يرشد فِي اللُّغَة لَا الَّذِي يرشد فِي غير اللُّغَة. وَأَيْضًا فَإِذا امْتنع التَّعْلِيق بالْخبر حَيْثُ يكون الْخَبَر مصدرا امْتنع فِي الْبَاقِي، لأنّ هَذِه الْأَمْثِلَة بابٌ واحدٌ. فإنْ قلتَ: قُدِّر التَّعْلِيق بمضاف مَحْذُوف أَي: تَفْسِير الْإِعْرَاب فِي اللُّغَة الْبَيَان، كَمَا قَالُوا: (أَنْت مني فرسخان) على تَقْدِير: بعْدك مني فرسخان (١٠) وقُدِّر فِي مثلهَا فِي قَوْلهم: الِاسْم مَا دلَّ على معنى فِي نَفسه. أَي: مَا دلَّ على معنى بِاعْتِبَار نَفسه لَا بِاعْتِبَار أَمر خَارج عَنهُ، فإنّه إِذا لم يُحمل على هَذَا اقْتضى أنْ يكون معنى الِاسْم، وَهُوَ الْمُسَمّى (١١)، مَوْجُودا فِي لفظ الِاسْم، وَهُوَ
_________
(١) أ: هَاتين.
(٢) ح: الْخَبَر.
(٣) أ: يمْنَع.
(٤) ب: تأولوا قَوْله تَعَالَى.
(٥) يُوسُف ٢٠.
(٦) الْأَعْرَاف ٢١.
(٧) الشُّعَرَاء ١٦٨.
(٨) (ال فِي) سَاقِط من ب.
(٩) (كَمَا يَقُول الْأَخْفَش) سَاقِط من أ. والأخفش هُوَ سعيد بن مسْعدَة، أشهر كتبه مَعَاني الْقُرْآن، والقوافي، ت ٢١٥ هـ، (مَرَاتِب النَّحْوِيين ٦٨، أَخْبَار النَّحْوِيين الْبَصرِيين ٣٩، نور القبس ٩٧) .
(١٠) (على تَقْدِير. . فرسخان) سَاقِط من أبسبب انْتِقَال النّظر.
(١١) سَاقِطَة من أ.
1 / 23
محَال. وَكَذَا (١) يكون الْمَعْنى فِي تَقْدِير (٢) الْإِعْرَاب لُغَة (٣) بِاعْتِبَار اللُّغَة الْبَيَان. قلتُ: هَذَا تَقْدِير صَحِيح، ولكنْ يبْقى الإشكالان وهما: أنّ إِسْقَاط الْجَار لَيْسَ بمقياس، وأنّ الْتِزَام التنكير حِينَئِذٍ لَا وَجه لَهُ. الْوَجْه الثَّانِي: أنْ يكون تمييزًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْكَال فِي الْتِزَام تنكيره ولكنّه مُمْتَنع من جِهَة أنّ التَّمْيِيز هُوَ (٤) تَفْسِير للمفرد كرطل زيتًا، أَو تَفْسِير للنسبة كطابَ زيدٌ نفسا، وَهنا لم تتقدم نِسْبَة الْبَتَّةَ وَلَا اسْم (٥) مُبْهَم (٦) وضعا. فإنْ قلتَ: أليسَ الْإِعْرَاب فِي الحدِّ الْمَذْكُور يحْتَمل اللّغَوِيّ والاصطلاحي فَهُوَ مبهمٌ. قُلْنَا: الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة لَا يَجِيء التَّمْيِيز (٧) باعتبارها، لَا تقولُ: (رأيتُ عينا ذَهَبا) (٨) على التَّمْيِيز. وسرُّ ذَلِك أنّ الْمُشْتَرك مَوْضُوع للدلالة على ذَات الْمُسَمّى بِاعْتِبَار حَقِيقَته، وإنّما يَجِيء الإلباس لعدم الْقَرِينَة أَو للْجَهْل (٩) بهَا، وَأَسْمَاء الْعدَد وَنَحْوهَا مِمَّا يُميز لم تُوضَع للذات بِاعْتِبَار حَقِيقَتهَا الَّتِي تحصل بالتمييز، فإنّه لَا يُفهم من عشْرين إلاّ عشرتان (١٠) من أيّ مَعْدُود كَانَ، فَهُوَ مَوْضُوع على الْإِبْهَام فافتقر إِلَى التَّمْيِيز (١١)، والمشترك إنّما وضع لمُعين (١٢) والاشتراك إِنَّمَا حصل (١٣) عِنْد السَّامع. فإنْ قلتَ يُمكن أنْ يكون من تَمْيِيز النِّسْبَة بِأَن يُقَدَّر قبله مُضَاف أيْ:
_________
(١) ح: وَلِهَذَا.
(٢) أ، ح: شرح.
(٣) سَاقِطَة من أ، ح.
(٤) ح: أما.
(٥) ح: وَالِاسْم.
(٦) ب: مُبْهما.
(٧) أ: إِعْرَاب التَّمْيِيز.
(٨) أ: درهما.
(٩) أ: وللجهل.
(١٠) ب: عشرتين.
(١١) ب: التَّعْيِين.
(١٢) أ: لِمَعْنى. ب: المعينين.
(١٣) أ: وضع.
1 / 24
شرح الْإِعْرَاب، فَيكون من بَاب: (أعجبني طيبُهُ أَبَا)، فإنّ كَون (أَبَا) تمييزًا إنّما هُوَ بِاعْتِبَار قَوْلك (طيبُهُ) لَا (١) بِاعْتِبَار الْجُمْلَة كلهَا. قلتُ: تَمْيِيز النِّسْبَة الْوَاقِع بعد المتضايفين لَا يكون إلاّ فَاعِلا فِي الْمَعْنى، ثمَّ قد يكون مَعَ ذَلِك فَاعِلا فِي الصِّنَاعَة بِاعْتِبَار الأَصْل فَيكون محولًا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ نَحْو: (أعجبني طيبُ زيدٍ أَبَا) إِذا كَانَ المُرَاد الثَّنَاء على أبِ زيد، فإنّ أَصله: أعجبني طيبُ أبِ زيدٍ. وَقد لَا يكون كَذَلِك فَيكون صَالحا لدُخُول (من) نَحْو: (للهِ دره فَارِسًا) و(ويحه رجلا) و(ويله إنْسَانا) . فَإِن الدّرّ بِمَعْنى الْخَيْر، والويح وَالْوَيْل (٢) بِمَعْنى الْهَلَاك، ونسبتهما إِلَى الرجل نِسْبَة الْفِعْل إِلَى فَاعله. وَمِنْه: (أعجبني طيبُ زيدٍ أَبَا) إِذا كَانَ الْأَب نفس زيد. وتعلُّقُ الشَّرْح بالإعراب وَنَحْوه إنّما هُوَ تعلُّقُ الْفِعْل بالمفعول لَا بالفاعل، ثمَّ إنّا لَا نعلم تمييزًا جَاءَ بِاعْتِبَار متضايفين (٣) حُذِفَ المضافُ مِنْهُمَا. الْوَجْه الثَّالِث: أنّ يكون مَفْعُولا مُطلقًا. وأصل (٤) الْإِعْرَاب: تَغْيِير الآخر لعامل. اصْطَلحُوا على ذَلِك اصْطِلَاحا، ثمَّ حُذِف الْعَامِل وَاعْترض بِالْمَصْدَرِ بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. وَهَذَا الْوَجْه مَرْدُود أَيْضا لأنَّه مُمْتَنع فِي قَوْلك: الْإِعْرَاب لُغَة الْبَيَان، فإنّ اللُّغَة لَيست مصدرا، لأنّها لَيست اسْما للْحَدَث (٥)، وَلِهَذَا تُوصَف بِمَا تُوصَف بِهِ الْأَلْفَاظ المسموعة، فيُقال: لُغَة فصيحة كَمَا يُقَال: كلمة فصيحة، اسْم (٦) للفظ المسموع.
_________
(١) ح: وَلَا.
(٢) سَاقِطَة من ب.
(٣) ب: مضامين.
(٤) أ، ب: وَالْأَصْل.
(٥) ح: لحَدث.
(٦) ب: اسْما.
1 / 25
وَزعم أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب (١) فِي أَمَالِيهِ: أنّ ذَلِك على الْمَفْعُول الْمُطلق، وأنّه فِي الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره. قَالَ: وَذَلِكَ (٢) لأنّ معنى قَوْلنَا: (الإجماعُ لُغَة العزمُ): مَدْلُول الْإِجْمَاع لُغَة العزمُ. وَالدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى دلَالَة شرع وَإِلَى دلَالَة لُغَة وَإِلَى دلَالَة عرف، فلمّا كَانَت مُحْتَملَة، وَذَلِكَ (٣) أحد المحتملات، كَانَ مصدرا من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره. وَفِيمَا قَالَه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا ذكرنَا من أنّ اللُّغَة لَيست مصدرا لأنّها لَيست اسْما للْحَدَث. الثَّانِي: إنّ ذَلِك لَو كَانَ مصدرا مؤكدًا لغيره لَكَانَ (٤) إنّما يَأْتِي بعد الْجُمْلَة فإنّه لَا يجوز أنْ يتوسط وَلَا أنْ يتَقَدَّم، لأنّه لَا يُقَال: (زَيدٌ (٥) حقًّا ابْني) وَلَا (حقًّا زيدٌ ابْني) وإنْ كَانَ الزجّاج (٦) يُجيز ذَلِك، ولكنّ الْجُمْهُور على خِلَافه. الْوَجْه الرَّابِع: أنْ يكون مَفْعُولا لأَجله، وَالتَّقْدِير: تَفْسِير الْإِعْرَاب لأجل الِاصْطِلَاح، أَي: لأجل بَيَان الِاصْطِلَاح. وَهَذَا الْوَجْه أَيْضا لَا يَسْتَقِيم، لأنّ المنتصب (٧) على الْمَفْعُول لأَجله (٨) لَا يكون إِلَّا مصدرا ك (قمتُ إجلالًا لَهُ)، وَلَا يجوز: (جئْتُك الماءَ والعشبَ) بِتَقْدِير مُضَاف، أَي: ابتغاءَ المَاء والعشب.
_________
(١) هُوَ عُثْمَان بن عمر الْكرْدِي النَّحْوِيّ الْمَالِكِي الْفَقِيه، ت ٦٤٦ هـ. أشهر كتبه: الكافية، الشافية، الأمالي، الْإِيضَاح فِي شرح الْمفصل. (وفيات الْأَعْيَان ٣ / ٢٤٨، الطالع السعيد ٢٢٨، الديباج الْمَذْهَب ٢ / ٨٦) .
(٢) ح: قَالَ ذَلِك.
(٣) ح: وَذكر.
(٤) سَاقِطَة من ب.
(٥) ب: زيدا، و(حَقًا ابْني وَلَا) سَاقِط من أ.
(٦) أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن السّري، من عُلَمَاء اللُّغَة والنحو، أشهر كتبه: مَعَاني الْقُرْآن وَإِعْرَابه، مَا ينصر وَمَا لَا ينْصَرف. ت ٣١١ هـ (تَارِيخ بَغْدَاد ٦ / ٨٩، مُعْجم الأدباء ١ / ١٣٠، طَبَقَات الْمُفَسّرين ١ / ١٧) .
(٧) ب: الْمَنْصُوب.
(٨) أ: لَهُ.
1 / 26
الْوَجْه الْخَامِس: وَهُوَ الظَّاهِر (١) أنْ يكون حَالا على تَقْدِير مُضَاف إِلَيْهِ من الْمَجْرُور ومضافين من الْمَنْصُوب، وَالْأَصْل: تَفْسِير الْإِعْرَاب مَوْضُوع أهل اللُّغَة أَو مَوْضُوع أهل الِاصْطِلَاح. ثمَّ حُذف المتضايفان (٢) على حدِّ حذفهما فِي قَوْله تَعَالَى: (فقبضتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرسولِ) (٣) أيْ: من أَثَرِ حافرِ فرسِ الرسولِ. ولمّا أُنيب الثَّالِث عمّا هُوَ الْحَال بِالْحَقِيقَةِ الْتزم تنكيره لنيابته عَن لَازم التنكير كَمَا فِي قَوْلهم: (قَضِيَّةٌ وَلَا أَبَا حَسَنٍ لَهَا) (٤)، وَالْأَصْل: وَلَا مثل أبي الْحسن لَهَا، فلمّا أُنيب أَبُو الْحسن (٥) عَن (مثل) جرد عَن أَدَاة التَّعْرِيف. وَلَك أنْ تَقول: الأَصْل مَوْضُوع اللُّغَة أَو مَوْضُوع الِاصْطِلَاح على نِسْبَة الْوَضع إِلَى اللُّغَة أَو إِلَى (٦) الِاصْطِلَاح مجَازًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يكون فِيهِ إلاّ حذف مُضَاف وَاحِد، وَيصير نَظِير قَول الْعَرَب: (كنتُ أظنُّ العقربَ أشدَّ لسعةً من الزنبورِ فَإِذا هُوَ إيّاها) (٧)، على تَأْوِيل ابْن الْحَاجِب فإنّه أعرب (إيّاها) حَالا على أنّ الأَصْل: فَإِذا هُوَ مَوْجُود مثلهَا، فحُذِف الْخَبَر كَمَا حُذِف فِي: (خرجت فَإِذا الأسدُ) ثمَّ حُذِف الْمُضَاف، وَهُوَ (مثل) وَقَامَ (٩) الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه فتحوَّل (٨) الضَّمِير الْمَجْرُور ضميرًا مَنْصُوبًا بل تَخْرِيج مَا نَحن فِيهِ على ذَلِك أسهلُ لأنّ لفظ الضَّمِير معرفَة (١٠) فانتصابُهُ على الْحَال بعيدٌ. وَالظَّاهِر فِي الْمِثَال الْمَذْكُور أنّه مفعول لفعل مَحْذُوف هُوَ الْخَبَر، وَالتَّقْدِير: فَإِذا هُوَ يشبهها، ولمّا حُذِف الْفِعْل انْفَصل الضَّمِير، أَو أنّه الضَّمِير (١١)، أَو أنّه هُوَ الْخَبَر كَمَا فِي قَول الْأَكْثَرين: فَإِذا هُوَ هِيَ، ولكنْ أُنيب ضمير النصب عَن ضمير الرّفْع.
_________
(١) ح: النّظر.
(٢) ب: المضافان.
(٣) طه ٩٦. وَينظر فِي الْآيَة: مُغنِي اللبيب ٦٩١.
(٤) أ: أبي الْحسن.
(٦) (إِلَى) سَاقِطَة من أ.
(٧) هَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الزنبورية بَين الْكسَائي وسيبويه، وَينظر فِيهَا، مجَالِس الْعلمَاء ٨ طَبَقَات النَّحْوِيين واللغويين ٦٨، الْإِنْصَاف ٧٠٢، وفيات الْأَعْيَان ٣ / ١٣٤، طَبَقَات النُّحَاة واللغويين ق ٢٠٩ - ٢١٠.
(٨) ب: وَأقَام.
(٩) ب: فحول.
(١٠) أ: اللَّفْظ معرفَة.
(١١) (أَو أَنه الضَّمِير) سَاقِط من ب.
1 / 27
القَوْل فِي: يجوز كَذَا خلافًا لفُلَان وأمّا قَوْله: (يجوز كَذَا خلافًا لفلانٍ) فقد يُقال: إنّه يجوز فِيهِ وَجْهَان: الأول: أنْ يكون مصدرا كَمَا أنّ قَوْلك: (يجوز كَذَا اتِّفَاقًا وإجماعًا) بِتَقْدِير: اتَّفقُوا على ذَلِك اتِّفَاقًا، وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا. وَيشكل على هَذَا أنّ فعله المقدّر إمّا اخْتلفُوا أَو خالفوا أَو خَالَفت. فَإِن كَانَ (اخْتلفُوا) أشكل عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا (١): أنّ مصدر اخْتلف إنّما هُوَ الِاخْتِلَاف لَا الْخلاف. الثَّانِي: أنّ ذَلِك يَأْبَى أَن يَقُول بعده: لفُلَان. وإنْ كَانَ (خالفوا) أَو (خَالَفت) أشكل عَلَيْهِ أنّ (خَالف) لَا يتَعَدَّى باللامِ بل بِنَفسِهِ. وَقد يخْتَار هَذَا الْقسم ويُجاب عَن هَذَا الِاعْتِرَاض بأنْ يُقال: تُقدر (٢) اللَّام مثلهَا فِي: (سقيا لَهُ) (٣) أَي مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: أَعنِي لَهُ أَو إرادتي لَهُ، أَلا ترى أنَّها لَا تتَعَلَّق ب (سقيا) لأنّ سقى يتَعَدَّى بِنَفسِهِ. الْوَجْه الثَّانِي: أنْ يكونَ حَالا، وَالتَّقْدِير: أَقُول خلافًا لفُلَان، أيْ: مُخَالفا لَهُ. وحذفُ القَوْل كثير جدًّا حَتَّى قَالَ أَبُو عَليّ (٤): (هُوَ من حَدِيث الْبَحْر قل وَلَا حرج) . ودلّ على هَذَا الْعَامِل أنّ كل (٥) حكم ذكره المصنفون فهم قَائِلُونَ بِهِ. وكأنّ القَوْل مُقَدّر قبل كلّ مَسْأَلَة. وَهَذِه الْعلَّة قريبَة من الْعلَّة الَّتِي ذكروها (٦) لاختصاصهم الظروف بالتوسع فِيهَا، وَذَلِكَ أنّهم (٧) قَالُوا: إنّ الظروف منزلَة من الْأَشْيَاء منزلَة أَنْفسهَا لوقوعها فِيهَا وأنّها لَا تنفكّ عَنْهَا، وَالله تَعَالَى أعلمُ.
_________
(١) ب: الأول.
(٢) سَاقِطَة من ح، وفيهَا: هَذِه اللَّام.
(٣) ينظر: شرح الْمفصل ١ / ١١٤، حَاشِيَة الصبان ٢ / ١١٧.
(٤) أَي الْفَارِسِي.
(٥) سَاقِطَة من ب.
(٦) ب: ذَكرنَاهَا.
(٧) أ: أَن.
1 / 28
القَوْل فِي: قَالَ أَيْضا وأمّا قَوْله: (قَالَ أَيْضا) فَاعْلَم أنّ (أَيْضا) مصدر آض (١) . وآض فعل مُسْتَعْمل (٢)، وَله مَعْنيانِ: أَحدهمَا: رَجَعَ، فَيكون تَاما، قَالَ صَاحب الْمُحكم (٣): (وآض إِلَى أهل: رَجَعَ إِلَيْهِم) انْتهى. وَكَذَا قَالَ ابْن السِّكيِّت (٤) وَغَيرهمَا (٥) (وَهَكَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمل مصدره هُنَا. الثَّانِي: صَار، فَيكون نَاقِصا عَاملا عمل كَانَ. ذكره ابْن مَالك (٦) وَغَيره، وأنشدوا قَول الراجز (٧) . رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذا تَمَعْدَدَا وآضَ نَهْدًا كالحِصانِ أجْرَدا كانَ جزائي بالعصا أنْ أُجْلَدا وَرَوَاهُ الْجَوْهَرِي (٨): وَصَارَ نهدًا. يُقَال: تمعدد الْغُلَام إِذا شبّ وَغلظ. والنهد: الْعَظِيم (٩) الْجِسْم من الْخَيل، وإنّما يُوصف بِهِ الْإِنْسَان على وَجه التَّشْبِيه. والأجرد: الَّذِي لَا شعر عَلَيْهِ.
_________
(١) ينظر: جمهرة اللُّغَة ١ / ١٨، اللِّسَان والتاج (أيض) .
(٢) ح: يسْتَعْمل.
(٣) هُوَ ابْن سَيّده عَليّ بن إِسْمَاعِيل الضَّرِير، من عُلَمَاء اللُّغَة، ت ٤٥٨ هـ، (إنباه الروَاة ٢ / ٢٢٥، مُعْجم الأدباء ١٢ / ٢٣١ نكت الْهِمْيَان ٢٠٤) .
(٤) إصْلَاح الْمنطق ٣٤٢ وَفِيه: (وَتقول: افْعَل ذَاك أَيْضا، وَهُوَ مصدر آض أَيْضا إِذا رَجَعَ) وَيَعْقُوب بن السّكيت من عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، ت ٢٤٤ هـ، (الفهرست ١١٤، تَارِيخ بَغْدَاد ١٤ / ٢٧٣، انباه الروَاة ٤ / ٥٠) .
(٥) وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي الزَّاهِر ١ / ٢٦٧: معنى أَيْضا فِي كَلَام الْعَرَب: عودا، فَإِذا قَالُوا: قَالَ الشَّاعِر أَيْضا، فَمَعْنَاه: عَاد إِلَى القَوْل. يُقَال: قد آضت الْمِيَاه تئيض أَيْضا إِذا عَادَتْ، من ذَلِك: آض الرجل أَيْضا، وَأنْشد الْفراء لذِي الرمة: إِذا مَا الْمِيَاه الدَّم آضت كَأَنَّهَا من الأجن حناء مَعًا وصبيب (٦) هُوَ جمال الدّين صَاحب الألفية، ت ٦٧٢ هـ (الْعبْرَة ٥ / ٣٠٠، الوافي ٣ / ٣٥٩، البغية ١ / ١٣٠) .
(٧) العجاج، ديوانه ٢ / ٢٨١.
(٨) هُوَ إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد صَاحب (الصِّحَاح)، ت ٣٩٣ هـ، (نزهة الألباء، مرْآة الْجنان ٢ / ٤٤٦ شذرات الذَّهَب ٣ / ١٣٤) . وَقد نقل الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح (أيض) نَص كَلَام ابْن السّكيت.
(٩) أ، ح: عَظِيم.
1 / 29
وانتصاب (أَيْضا) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور لَيْسَ على الْحَال من ضمير (قَالَ) كَمَا توهمه جمَاعَة من النَّاس فزعموا أنّ التَّقْدِير: وَقَالَ أَيْضا أَي: رَاجعا إِلَى القَوْل. وَهَذَا لَا يحسن تَقْدِيره إلاّ إِذا كَانَ هَذَا القَوْل إنّما صدر من الْقَائِل بعد صُدُور القَوْل السَّابِق حَتَّى يَصح أنْ يُقَال: إنّه قَالَ رَاجعا إِلَى القَوْل بَعْدَمَا فرغ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِك بِشَرْط فِي اسْتِعْمَال (أَيْضا)، أَلا ترى أنّك تَقول: قلتُ اليومَ كَذَا، وَقلت أمسِ أَيْضا. وَكَذَلِكَ تَقول: كتبت اليومَ، وكتبت أمسِ أَيْضا. وَالَّذِي يظْهر لي أنّه مفعول مُطلق حُذِف عَامله أَو حَال حُذِف عاملها وصاحبها، وَذَلِكَ أنّك قلت: وَقَالَ فلَان، ثمَّ استأنفت جملَة فَقلت: ارْجع إِلَى الْأَخْبَار (١) رُجُوعا وَلَا اقْتصر على مَا قدَّمت، فَيكون مَفْعُولا مُطلقًا. أَو التَّقْدِير: أخبر أَيْضا أَو أحكي أَيْضا، فَيكون حَالا من ضمير الْمُتَكَلّم، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يسْتَمر فِي جَمِيع الْمَوَاضِع. وَمِمَّا يؤنسك بِمَا (٢) ذكرته من أنّ الْعَامِل مَحْذُوف أنّك تَقول: (عِنْده مالٌ وَأَيْضًا علمٌ) فَلَا يكون قبلهَا مَا يصلح للْعَمَل فِيهَا، فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ من التَّقْدِير. وعَلى ذَلِك قَالَ الشاطبي (٣) ﵁ وَقد ذكر أنّه لَا يدغِم الْحَرْف إِذا كَانَ (٤) تَاء مُتَكَلم أَو مُخَاطب أَو منوَّنًا أَو مشدَّدًا: ككنتُ تُرَابا أنْتَ تُكْرِهُ واسعٌ عليمٌ وَأَيْضًا تَمَّ مِيقاتُ مُثِّلا (٥) قَالَ أَبُو شامة (٦) ﵀ قَوْله: (أَيْضا) أيْ أمثل النَّوْع الرَّابِع وَلَا
_________
(١) أ: أَخْبَار.
(٢) ب: يشْهد لما.
(٣) مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُقْرِئ النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ، ت ٦١٤ هـ (معرفَة الْقُرَّاء، غَايَة النِّهَايَة ٢ / ٦٧، شذرات الذَّهَب ٥ / ٦١) .
(٤) سَاقِطَة من ب.
(٥) حرز الْأَمَانِي وَوجه التهاني (سراج الْقَارئ) ص ٣٤.
(٦) ب: ابْن، وَأَبُو شامة هُوَ شهَاب الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل الْمَقْدِسِي، أشهر كتبه: إبراز الْمعَانِي والمرشد الْوَجِيز وَكتاب الروضتين فِي أَخْبَار الدولتين، ت ٦٦٥ هـ. (تذكرة الْحفاظ ١٤٦، طَبَقَات الشَّافِعِيَّة ٨ / ١٦٥، فَوَات الوفيات ٢ / ٢٦٩) .
1 / 30