وأما علي بن الجهم، فرشيق الفهم، راشق السهم: استوصل بشعره الشرفاء، ونادم الخلفا؛ وله في الغزل الرصافية، وفي العتاب الدالية؛ ولو لم يكن له سواهما، لكان أشعر الناس بهما.
وأما الطائبي حبيب، فمتكلف إلا أنه يصيب، ومتعب، لكن له من الراحة نصيب، وشغله المطابقة والتجنيس، وحبذا ذلك أو بيس؛ جزل المعاني، مرصوص المغاني؛ ومدحه ورثاؤه، لا غزله وهجاؤه؛ طرفا نقيض، وخطب سماءٍ وحضيض؛ وفي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب؛ وطارت له أمثال، وحفظت له أقوال؛ وديوانه مقروء، وشعره متلو.
قال ابن بسام: أما صفته هذه لأبي تمام فنصفة لم يثن عطفها حمية، ولا تعلقت بذيلها عصبية، حتى لو سمعها حبيب لاتخذها قبلة واعتمدها ملة؛ فما لام من أدب وإن أوجع، ولا سب من صدق وإن أقذع.
وأما البحتري فلفظه ماءٌ ثجاج، ودر رجراج، ومعناه سراج وهاج، على أهدى منهاج؛ يسبقه شعره، إلى ما يجيش به صدره؛ يسر مراد، ولين قياد؛ إن شربته أرواك، وإن قدحته أوراك؛ طبع لا تكلف يعييه، ولا العناد يثنيه؛ لا يمل كثيره ولا يستكلف غزيره، ولم يهف أيام الحلم، ولم يصف زمن الهرم.
وأما ابن المعتز فملك النظام، كما ملك الأنام؛ له التشبيهات المثلية، والاستعارات الشكلية؛ والإشارات السحرية، والعبارات المجرية؛ والتصاريف الصوفية، والطرائق الفنونية؛ والافتخارات الملوكية، والهمات العلوية، والغزل الرائق، والعتاب الشائق؛ والوصف الحسن الفائق:
وخيرُ الشّعر أكرمُه رجالًا ... وشرُّ الشعر ما قال العَبيدُ
وأما ابن الرومي فشجرةُ الإختراع، وثمرة الإبتداع؛ وله في الهجاء، ما ليس له في الإطراء؛ فتح فيه أبوابًا، ووصل منه أسبابًا، وخلع منه أثوابًا، وطوق فيه رقابًا، يبقين أعمارًا وأحقابًا؛ يطول عليها حسابه، ويمحق بها ثوابه؛ ولقد كان واسع العطن، لطيف الفطن، إلا أن الغالب عليه ضعف المريرة، وقوة المرة.
وأما كشاجم فحكيمٌ شاعر، وكاتبٌ ماهر؛ له في التشبيهات غرائب، وفي التأليفات عجائب، يجيد الوصف ويحققه، ويسبك المعنى فيرققه ويروقه.
وأما الصنوبري ففصيح الكلام غريبه، مليح التشبيه عجيبه؛ مستعمل لشواذ القوافي، يغسل كدرتها بمياه فهمه الصوافي؛ فتجلو وتدق، وتعذب وترق؛ وهو وحيد جنسه في صفة الأزهار، وأنواع الأنوار. وكان في بعض أشعاره يتخالع، وفي بعضها يتشاجع؛ وقد مدح وهجا، ونثر وشجا؛ وأعجب شعره وأطرب، وشرق وغرب؛ ومدح من أهل إفريقية أمير الزاب، جعفر بن علي منفق سوق الآداب؛ فوصله بألف دينار، بعثها إليه مع ثقات التجار.
وأما الخبزرزي فخليع الشعر ماجنه، رائق اللفظ بائنه؛ كثيرةٌ محاسنه، صحيحة أصوله ومعادنه؛ رائقة البزة، مائلة إلى العزة؛ تسليه عن الحب الخيانة، ويروقه الوفاء والصيانة؛ وله على خشونة خلقه، وصعوبة خلقه؛ اختراعاتٌ لطيفة، وابتداعات ظريفة؛ في ألفاظ كثيفة. وفصول قليلة الفضول نظيفة؛ حتى إن بعض كبراء الشعراء اهتدم أشياء من مبانيه، واهتضم طرفا من معانيه؛ وهو من معاصريه، فقل من فطن لمراميه.
وأما أبو فراس بن حمدان، ففارس هذا الميدان؛ إن شئت ضربًا وطعنًا، أو لفظًا ومعنى؛ ملك زمانًا، وملك أوانًا. وكان أشعر الناس في المملكة، وأشعرهم في ذل الملكة. وله الفخريات التي لا تعارض، والأسريات التي تناقض.
وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره العيون الأعين؛ وكثر الناسخ لشعره، والآخذ لذكره، والغائص في بحره؛ والمفتش في قعره، عن جمانه ودره؛ وقد طال في الخلف، وكثر عنه الكشف. وله شيعة تغلو في مدحة، وعليه خوارج تتعايا في جرحه. والذي أقول: إن له حسنات وسيئات، وحسناته أكثر عددًا، وأقوى مددًا؛ وغرائبه طائرة، وأمثاله سائرة؛ وعلمه فسيح، وميزه صحيح؛ يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر.
قال أبو الريان: هذا ما عندي من شعراء المشرق، وقد سميت لي من متأخري شعراء المغرب من لعمري لا يبعد عن معاصرهم، ولا يقصر عن سابقهم.
فأما ابن عبد ربه القرطبي، وإن بعدت عنك دياره، فقد صاقبتنا أشعاره. وقفنا على أشعار صبوته الأنيقة، وتكفيرات توبته الصدوقة؛ ومدائحه المروانية، ومطاعنه في العباسية. وهو في كل ذلك فارس ممارس، وطاعن مداعس؛ واطلعنا في شعره على علم واسع، ومادة فهم مضيء ناصع؛ ومن تلك الجواهر نظم عقده، وتركه لمن يتجمل به بعده.
1 / 4