قال أبو الريَّان: لقد سَمّيتَ مشاهير، وأبقيت الكثير قلت: بلى، ولكن ما عندك فيمن ذكرت؟ قال: أما الضِلّيل مؤسّسُ الأساس، وبنيانه عليه الناس؛ كانوا يقولون) أسيلة الخد (، حتى قال) أسيلةَ مجرى الدمع (، وكانوا يقولون) تامة القامة (و) طويلة القامة (و" جَيْدآء " و" تامّة العنق " وأشباه هذا حتى قال: " بعيدة مهوى القرْط ". وكانوا يقولون في الفرس السابق: " يلحق الغزال والظليم " وشبهه، حتى قال: " قَيْد الأوابد ". ومثل هذا له كثير. ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره. فامتثلوه بعده. وكانت الأشعار قبل سواذج، فبقيت هذه جددًا وتلك نواهج؛ وكل شعر بعد، ما خلاها فغير رائق النسج، وإن كان النهج.
وأما طرفة فلو طال عمره، لطال شعره، وعلا ذكره. ولقد خُصّ بأوفر نصيب من الشعر، على أيسر نصيب من العمر؛ فملأ أرجاء ذلك النصيب بصنوفٍ من الحكمة، وأوصاف من علو الهمة والطبع، معلم حاذق، وجواد سابق.
وأما الشيخ أبو عقيل فشعره ينطق بلسان الجزالة، عن جنان الأصالة، فلا تسمع له إلا كلامًا فصيحًا، ومعنى مبينًا صريحًا؛ وإن كان شيخ الوقار، والشرف والفخار؛ لبادئات في شعره وهي دلائله، قبل أن يعلم قائله.
وأما العبسي فمُجيدٌ في أشعاره، ولا كمعلقته فقد انفرد بها انفرادَ سهيل، وغبر في وجوه الخيل؛ وجمع فيها بين الحلاوة والجزالة، ورقة الغزل وغلظة البسالة؛ وأطال وأستطال، وأمن السآمة والكلام.
وأما زهير فأي زهير، بين لهوات زهير؛ حكم فارس، ومقامات الفوارس؛ ومواعظ الزهاد، ومعتبرات العباد؛ ومدح يكسب الفخار، ويبقى بقاء الأعصار؛ ومعاتبات مرة تحسن، ومرة تخش؛ وتارة تكون هجوًا، وطورًا تكاد تعود شكرًا.
وأما ابن حِلّزة فسهل الحزون، قام خطيبًا بالموزون؛ والعادة أن يسهل شرح الشعر بالنثر، وهذا أسهل بالوعر؛ وذلك مثل قوله:
أبْرَموا أمرَهم عِشاءً فلمّا ... أصبحوا أصبحتْ لهم ضَوْضاء
مِن مُنادٍ ومن مُجيبٍ ومن تَصْ ... هالِ خَيْلٍ خلالَ ذاك رُغاء
فلو أجتمع كلُّ خطيب ناثر، من أول وآخر؛ يصفون سفرًا نهضوا بالأسحار، وعسكرًا تنادى بالنهوض إلى طلب الثار: ما زادوا على هذا إن لم ينقصوا منه، ولم يقصروا عنه. وسائر قصيدته في هذا السلك شكاية وطلاب نصفة، وعتاب في عزة وأنفة؛ وهو من شعراء وائل، وأحد أسنة هاتيك القبائل.
وأما ابن كلثوم فصاحب واحدةٍ بلا زيادة؛ أنطقه بها عزُّ الظفر، وهزه فيها جن الأشر؛ فقعقعت رعوده في أرجائها، وجَعجعت رحاهُ في أثنائها؛ وجعلتها تغلبُ قبلتها التي تُصلّي إليها، وملتها التي تعتمد عليها؛ فلم يتركوا إعادتها، ولا خلعوا عبادتها؛ إلا بعد قول القائل:
ألهي بنى تَغْلبٍ عن كُلِّ مَكْرمُةٍ ... قصيدةٌ قالها عمرُو بنُ كلثوم
على أنها من القصائد المحققات، وإحدى المعلقات.
أما النابغة زياد، فأشعاره الجياد، لم تخرج عن نار جوانحه حتى تناهى نضجها، ولا قطعت من منوال خواطره حتى تكاثف نسجها، لم تهلهلها ميعة الشباب، ولا وهاء الأسباب، ولا لؤم الاكتساب فشعره وسائط سلوك، وتيجان ملوك.
وأما النابغة الجعدي، فنقي الكلام، شاعر الجاهلية والإسلام؛ واستحسن شعره أفصح الناطقين، ودعا له أصدق الصادقين؛ وكان شاعرًا في الافتخار والثناء، قصير الباع لشرفه عن تناول الهجاء؛ وكان مغلوبًا فيه في الجاهلية، وطريد ليلى الأخيلية.
وأما العُشى بأجمعهم فكلهم شاعر، ولا كميمون بن قيس شاعر المدح والهجاء، واليأس والرخاء؛ والتصرف في الفنون، والسعي في السهول والحزون؛ نفق مدحه بنات المحلق وكان في فقر ابن المذلق وأبكى هجوه علقمة، كما تبكي الأمة.
وأما الأسود بن يَعفُر فأشعرُ الناس إذا ندب دولةً زالت، أو بكى حالة حالت؛ أو وصف ربعًا خلا بعد عمران، أو دارًا درست بعد سكان؛ فإذا سلك هذا السبيل، فهو من حشو هذا القبيل؛ كعمرو وزيد، وسعد وسعيد.
وأما حسان، فقد أجتث بواكر غسان؛ ثم جاء الإسلام. وانكشف الإظلام؛ فحاجج عن الدين، وناضل عن خاتم النبيين؛ فشعر وزاد، وحسن وأجاد؛ إلا أن الفضل في ذلك لرب العالمين، وتسديد الروح الأمين.
وأما دريد بن الصمة، فصمة صمم، وشاعر جشم، وغزل عرم؛ وأول من تغزل في رثاء، وهزل في حزن وبكاء؛ فقال في معبد أخيه، قصيدته المشهورة يرثيه: أرث جديد الخل من أمّ مَعْبد
1 / 2