ـ[مرزبان نامه]ـ
المؤلف: اسبهبد مرزبان بن شروين بن رستم بن شهريار (المتوفى: ق ٤ هـ)
ترجمه للعربية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عرب شاه (المتوفى: ٨٥٤ هـ)
الطبعة: الأولى، ١٩٩٧ م
الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، بيروت - لبنان، عن طبعة حجرية في مطبعة أحمد أفندي الازمرلي في القاهرة ١٢٨٧ هـ، ١٨٥٨ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مقدمة الناشر تمهيد مرزبان نامة، يعني بالعربية كتاب مرزبان وهو حسب سياق الكتاب واحد من أربعة أنجال لأحد ملوك طبرستان من سلالة آل باوند وكان يدعى اسبهبد مرزبان بن رستم بن شهريار قرر أخوته الثلاثة العصيان والتمرد على والدهم فأثر هو أن يبتعد عن المجتمع وينصرف إلى التأليف بناء لطلب المقربين إليه. وجاء في مرجع فرهنك فارسي: معين جزء ٦ ص ١٩٥١ عن هذا الكتاب ما يلي: مرزبان نامة هو كتاب يشتمل على حكايات وتمثيليات خرافية ذات غاية تعليمية كتب على نمط كتاب كليلة ودمنة وبأسلوبه على ألسنة الحيوانات والطيور والجان! كتبه مؤلفه في أواخر القرن الرابع الهجري باللغة "الطبرية" وفي أواخر القرن السابع الهجري ترجمه سعد الدين وراويني أحد فضلاء العراق من رجال الخواجة أبي القاسم رجيب الدين هارون بن علي بن ظفر دندان وزير الأتابك الاوزبكي، وهو أحد أتابكة أذربيجان، من اللغة "الطبرية" إلى اللغة الفارسية المتداولة في عصره وأضاف إليه أشعارًا وأمثالًا فارسية وعربية! وكانت قد صدرت ترجمة أخرى لهذا الكتاب قام بها محمد بن غازي ملطيوي (نسبة إلى ملطية) بطلب من أحد سلاجقة الروم وأضاف إليها كثيرًا من الأشعار والشواهد العربية وسمي الكتاب "روضة العقول" وكان ذلك حوالي سنة ٥٩٨ هجرية في عصر سلطنة أبي الفتح ركن الدين سليمان شاه بن قلج أرسلان السلجوقي. أما هذا الكتاب فهو نسخة طبق الأصل عن طبعة حجرية في مطبعة أحمد أفندي الازمرلي في القاهرة سنة ١٢٨٧ هجرية الموافق ١٨٥٨ ميلادية كان قد نقلها المترجم شهاب الدين أحمد بن محمد بن عرب شاه عن النسخة التركية المترجمة بدورها عن الأصل الفارسي، ويبدو أن المترجم العربي لهذه النسخة قد تصرف بالنص على طريقة الذين سبقوه فأضاف إليه أشعارًا عربية واستند فيه إلى مبادئ وأحاديث إسلامية.
مقدمة المترجم المقدمة الحمد لله الذي شهدت الكائنات بوجوده، وشمل جميع الموجودات بعميم كرمه وجوده، ونطقت الجمادات بقدرته، وأعربت العجم بحكمته، وتخاطبت الحيوانات بلطائف صنعته، وتناغت الأطيار بتوحيده، وتلاغت وحوش القفار بتغريده، كل باذل جهده، وأن من شيء إلا يسبح بحمده، دل العالم ظاهره وخافيه والمكان ومن فيه، والزمان وما يحويه من شاكر وحامد، ومشهود وشاهد، على أنه إله واحد، منزه عن الشريك والمضاد مقدس عن الزوج والولد والوالد، مبرأ عن المضاد والمعاند، منزه عن الزوجة والولد، هو الله أحد، أحمده حمدًا تنطق به الشعور والجوارح، وأشكره شكرًا تضاويه نعمه صيد الظبي النفور بالجوارح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله أودع أسرار ربوبيته في بريته، وأظهر أنوار صمديته في حيوان بحره وبريته، فبعض معرب بلسان قاله، وبعض معرب ببيان حاله تسبحه السموات برطيطها وتقدمه الأرض بعطيطها، وتوحده الأسد بهريرها، والبحار بخريرها، والخيل بصهيلها، والكلاب بنبيحها، والطير بتغريدها، والجبال بهديدها، والأقلام بصريرها، والنيران بحسيسها، كل قد علم صلاته وتسبيحه، ولازم الإله غبوقه وصبوحه، وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أفضل من بعث بالرسالة، وسلمت عليه الغزالة،
وكلمة الحجر، وآمن به المدر، وانشق له القمر، ولبت دعوته الشجر، واستجار به الجمل، وشكى له شدة العمل، وسبح في كفه الحصا، ونبع من بين أصابعه زلال الماء وصدقه ضب البرية، وخاطبته الشاة المصلية، ﷺ صلاة تنطق بالإخلاص، يوم يخلص الشاة القرنا القصاص، وعلى آله وأصحابه أسود المعارك، وشموس المسالك، أصحاب الأنفاس الطاهرة والمفاخر الباطنة والظاهرة، وسلم تسليمًا كثيرًا آمنين. أما بعد فإن الله تعالى أودع في كل ذرة من مخلوقاته من الحكم والعبر ما لا يدركه عقول البلغا ولا يحيط به فهم الأذكيا لكن بعض الحكم والعبر ظاهرة يدركها كل أحد قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) . وقال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التيتجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) وفي ذلك قيل: فيا عجبًا يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد ... وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ولكن لما كثرت الآيات والحكم وترادفت هذه العجائب والعبر اعتادت النفوس بها وألفتها فلم تتدبر في حكمها ومعانيها ولا فيما دلت عليه من عجائب ما فيها ولم تنظر إلى حسن مواقعها وعظم منافعها. وكثر في التنبيه على ذلك أقوال الحكما وتكررت مقالات العلما فلم تصغ الأسماع إليها فقصدت طائفة من الأذكيا وجماعة من العقلا أبرار شيء من ذلك على ألسنة الوحوش والبهايم وسائر الطيور والسباع لتميل النفوس إليها لأن البهائم والوحوش غير معتادة بشيء من الحكم بل ولا النطق والقول فإذا أسند إليها شيء من ذلك مالت إليه النفس لغرابته ورغبت في سماعه وتلقته بالإصغاء والقبول فربما تنبهت لذلك لإصلاح أمور معاشها ومعادها
وتفكرت في أحوال دينها ودنياها لا سيما الملوك والأمرا وأرباب الدول والرفاهية والتنعم فإنهم إذا سمعوا قول القائل سكر الدب وصدق الأسد وأنشد الذئب ورقصت الغزالة وطرب القنفذ وتصادق القط والفأر وحن الذئب على الخروف وعانق الأسد الجمل وحمل الباز على رقبته الحمامة ارتاحت أنفاسهم وانشرحت صدورهم، وزادت لذة عيشهم. ولكن أهل السعادة منهم والمنتبهون ومن هو مقصود لفصل الخصومات، وخلاص المظلومين من الظالمين إذا كانوا في الحكم والعبر ولطائف الغزل والسير الحسنة المسندة إلى ما لا يعقل وهم ممن يعقل يزدادون بذلك بصيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم، فربما تفكروا في أنفسهم أن مثل هذه الحيوانات مع أنها غير مكلفة إذا فعلت هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك. وقد ورد في الكتاب العزيز مما فيه الاعتبار لأصحاب العقول على ألسنة غير العاقل آيات كثيرة كقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) . وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أيتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين) . وقوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس القمر) الآية، وقوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) وقد وضع في ذلك كتاب يسمى بمرزبان نامة مترجم باللسان التركي عن الفارسي فأشار إلى المخدوم الذي لا يمكنني مخالفته أن أترجمه باللسان العربي فامتثلت أمره وترجمته وقد جعله واضعه ثمانية أبواب: الباب الأول في تسميته وسبب وضعه، الباب الثاني في ذكر العالم والعفريت، الباب الثالث في ذكر أحوال الثعلبين، الباب الرابع في ذكر الكلب المسمى بالذكي والعتر الباب الخامس في ذكر السبع وسلطان الأفيال، الباب السادس في ذكر وقائع الجمل والأسد، الباب السابع في ذكر العقاب والحجلتين، الباب الثامن في معاملة الأحباب.
مقدمة الناشر تمهيد مرزبان نامة، يعني بالعربية كتاب مرزبان وهو حسب سياق الكتاب واحد من أربعة أنجال لأحد ملوك طبرستان من سلالة آل باوند وكان يدعى اسبهبد مرزبان بن رستم بن شهريار قرر أخوته الثلاثة العصيان والتمرد على والدهم فأثر هو أن يبتعد عن المجتمع وينصرف إلى التأليف بناء لطلب المقربين إليه. وجاء في مرجع فرهنك فارسي: معين جزء ٦ ص ١٩٥١ عن هذا الكتاب ما يلي: مرزبان نامة هو كتاب يشتمل على حكايات وتمثيليات خرافية ذات غاية تعليمية كتب على نمط كتاب كليلة ودمنة وبأسلوبه على ألسنة الحيوانات والطيور والجان! كتبه مؤلفه في أواخر القرن الرابع الهجري باللغة "الطبرية" وفي أواخر القرن السابع الهجري ترجمه سعد الدين وراويني أحد فضلاء العراق من رجال الخواجة أبي القاسم رجيب الدين هارون بن علي بن ظفر دندان وزير الأتابك الاوزبكي، وهو أحد أتابكة أذربيجان، من اللغة "الطبرية" إلى اللغة الفارسية المتداولة في عصره وأضاف إليه أشعارًا وأمثالًا فارسية وعربية! وكانت قد صدرت ترجمة أخرى لهذا الكتاب قام بها محمد بن غازي ملطيوي (نسبة إلى ملطية) بطلب من أحد سلاجقة الروم وأضاف إليها كثيرًا من الأشعار والشواهد العربية وسمي الكتاب "روضة العقول" وكان ذلك حوالي سنة ٥٩٨ هجرية في عصر سلطنة أبي الفتح ركن الدين سليمان شاه بن قلج أرسلان السلجوقي. أما هذا الكتاب فهو نسخة طبق الأصل عن طبعة حجرية في مطبعة أحمد أفندي الازمرلي في القاهرة سنة ١٢٨٧ هجرية الموافق ١٨٥٨ ميلادية كان قد نقلها المترجم شهاب الدين أحمد بن محمد بن عرب شاه عن النسخة التركية المترجمة بدورها عن الأصل الفارسي، ويبدو أن المترجم العربي لهذه النسخة قد تصرف بالنص على طريقة الذين سبقوه فأضاف إليه أشعارًا عربية واستند فيه إلى مبادئ وأحاديث إسلامية.
مقدمة المترجم المقدمة الحمد لله الذي شهدت الكائنات بوجوده، وشمل جميع الموجودات بعميم كرمه وجوده، ونطقت الجمادات بقدرته، وأعربت العجم بحكمته، وتخاطبت الحيوانات بلطائف صنعته، وتناغت الأطيار بتوحيده، وتلاغت وحوش القفار بتغريده، كل باذل جهده، وأن من شيء إلا يسبح بحمده، دل العالم ظاهره وخافيه والمكان ومن فيه، والزمان وما يحويه من شاكر وحامد، ومشهود وشاهد، على أنه إله واحد، منزه عن الشريك والمضاد مقدس عن الزوج والولد والوالد، مبرأ عن المضاد والمعاند، منزه عن الزوجة والولد، هو الله أحد، أحمده حمدًا تنطق به الشعور والجوارح، وأشكره شكرًا تضاويه نعمه صيد الظبي النفور بالجوارح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله أودع أسرار ربوبيته في بريته، وأظهر أنوار صمديته في حيوان بحره وبريته، فبعض معرب بلسان قاله، وبعض معرب ببيان حاله تسبحه السموات برطيطها وتقدمه الأرض بعطيطها، وتوحده الأسد بهريرها، والبحار بخريرها، والخيل بصهيلها، والكلاب بنبيحها، والطير بتغريدها، والجبال بهديدها، والأقلام بصريرها، والنيران بحسيسها، كل قد علم صلاته وتسبيحه، ولازم الإله غبوقه وصبوحه، وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أفضل من بعث بالرسالة، وسلمت عليه الغزالة،
وكلمة الحجر، وآمن به المدر، وانشق له القمر، ولبت دعوته الشجر، واستجار به الجمل، وشكى له شدة العمل، وسبح في كفه الحصا، ونبع من بين أصابعه زلال الماء وصدقه ضب البرية، وخاطبته الشاة المصلية، ﷺ صلاة تنطق بالإخلاص، يوم يخلص الشاة القرنا القصاص، وعلى آله وأصحابه أسود المعارك، وشموس المسالك، أصحاب الأنفاس الطاهرة والمفاخر الباطنة والظاهرة، وسلم تسليمًا كثيرًا آمنين. أما بعد فإن الله تعالى أودع في كل ذرة من مخلوقاته من الحكم والعبر ما لا يدركه عقول البلغا ولا يحيط به فهم الأذكيا لكن بعض الحكم والعبر ظاهرة يدركها كل أحد قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) . وقال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التيتجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) وفي ذلك قيل: فيا عجبًا يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد ... وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ولكن لما كثرت الآيات والحكم وترادفت هذه العجائب والعبر اعتادت النفوس بها وألفتها فلم تتدبر في حكمها ومعانيها ولا فيما دلت عليه من عجائب ما فيها ولم تنظر إلى حسن مواقعها وعظم منافعها. وكثر في التنبيه على ذلك أقوال الحكما وتكررت مقالات العلما فلم تصغ الأسماع إليها فقصدت طائفة من الأذكيا وجماعة من العقلا أبرار شيء من ذلك على ألسنة الوحوش والبهايم وسائر الطيور والسباع لتميل النفوس إليها لأن البهائم والوحوش غير معتادة بشيء من الحكم بل ولا النطق والقول فإذا أسند إليها شيء من ذلك مالت إليه النفس لغرابته ورغبت في سماعه وتلقته بالإصغاء والقبول فربما تنبهت لذلك لإصلاح أمور معاشها ومعادها
وتفكرت في أحوال دينها ودنياها لا سيما الملوك والأمرا وأرباب الدول والرفاهية والتنعم فإنهم إذا سمعوا قول القائل سكر الدب وصدق الأسد وأنشد الذئب ورقصت الغزالة وطرب القنفذ وتصادق القط والفأر وحن الذئب على الخروف وعانق الأسد الجمل وحمل الباز على رقبته الحمامة ارتاحت أنفاسهم وانشرحت صدورهم، وزادت لذة عيشهم. ولكن أهل السعادة منهم والمنتبهون ومن هو مقصود لفصل الخصومات، وخلاص المظلومين من الظالمين إذا كانوا في الحكم والعبر ولطائف الغزل والسير الحسنة المسندة إلى ما لا يعقل وهم ممن يعقل يزدادون بذلك بصيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم، فربما تفكروا في أنفسهم أن مثل هذه الحيوانات مع أنها غير مكلفة إذا فعلت هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك. وقد ورد في الكتاب العزيز مما فيه الاعتبار لأصحاب العقول على ألسنة غير العاقل آيات كثيرة كقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) . وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أيتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين) . وقوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس القمر) الآية، وقوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) وقد وضع في ذلك كتاب يسمى بمرزبان نامة مترجم باللسان التركي عن الفارسي فأشار إلى المخدوم الذي لا يمكنني مخالفته أن أترجمه باللسان العربي فامتثلت أمره وترجمته وقد جعله واضعه ثمانية أبواب: الباب الأول في تسميته وسبب وضعه، الباب الثاني في ذكر العالم والعفريت، الباب الثالث في ذكر أحوال الثعلبين، الباب الرابع في ذكر الكلب المسمى بالذكي والعتر الباب الخامس في ذكر السبع وسلطان الأفيال، الباب السادس في ذكر وقائع الجمل والأسد، الباب السابع في ذكر العقاب والحجلتين، الباب الثامن في معاملة الأحباب.
ناپیژندل شوی مخ
الباب الأول
في سبب
تسمية الكتاب
روي أن واضع هذا الكتاب ملك من ملوك الفرس اسمه مرزبان بن شروين، وهو في أولاد كيكاوس وهو أخو أنوشروان الملك العادل وكان متوليًا طبرستان ولما توفي انتقل الملك إلى أولاده إلى أن استقر فيه شروين فلما توفي خلف من الذكور خمسة أنفار كل منهم صالح للسلطنة فاستولى على الملك بعده أكبر أولاده.
1 / 13
وكان مرزبان واضع هذا الكتاب هو أصغرهم فاستمر الأخوة الأربعة في خدمة أخيهم الأكبر مدة، ثم إنه حصل في خواطر الأخوة مما يخاطر ببال الناس من المخالفة فخاف مرزبان من ذلك على نفسه وأنه لا يستطيع أن يكون في جهة أحد منهم إذ كل منهم أخوه. وكان في الفضل والتدبير وحسن السياسة والتأمل في العواقب متميزًا على قرانه وإخوانه ففكر في عواقب ما عزم عليه أخوته من العصيان فأراه اجتهاده إلى أن يتوجه إلى جهة من جهات المملكة وينحاز عن دائرة ما يقع بين أخوته من المخالفة والمناكدة بينهم وبين أخيهم الملك حتى لا ينسب إليه شيء من ذلك ويسلم من تلك الكدورات، فتشاور فيما عزم عليه مع طائفة من الأذكيا وجماعة من الفصحا فاستصوبوا رأيه إلا أنهم التمسوا منه أن يضع لهم كتابًا يشتمل على أنواع الحكمة واللطائف التي تتهذب بها النفس وتتوفر بها مكارم الأخلاق ويكون عونًا على اكتساب مصالح المعاش والمعاد ويدل على فضائله وغزارة حكمته وعلمه
1 / 14
فاستصوب ما أشاروا به عليه ثم رأى عرض ما وقع من هذه الأمور على أخيه الأكبر فوقف في مقام الخدمة وذكر له ذلك بعبارة لائقة وانتظر ما يرسم به ليمتثله فتوقف في جوابه وتأمل في خطابه وصرفه.
ثم إن الملك استشار في ذلك أحد وزرائه وكان بينه وبين مرزبان بعض شرور وعداوة فاغتنم الفرصة وقال: أما ما طلبه مرزبان من العزلة فإنه رأى فاسد وقد قيل في المثل: الأعدا كلما قلوا ذلوا وقد قيل:
وليس كثير اللف خل وصاحب ... وأن عدوًا واحدًا لكثير
فكيف لو كانت الأعدا كثيرة وإذا نقص أعداء الملك واحدًا فنعمة طائلة ويتوصل منهم إلى تشتيت أمرهم ومخالفة أقوالهم ورأيهم وقد قيل في ذلك.
وتشتت الأعداء في آرائهم ... سبب لجمع خواطر الأحباب
وأما ما قصده من وضع كتاب يشتمل على فوائد وحكم فمكر وخديعة فإنه إنما يريد به إظهار فضله على مولانا الملك ويستميل بذلك الرعية ويصرف وجوههم إليه، ولكن مولانا الملك لا يمنعه من ذلك ويرسم لي أن أكون حاضرًا وناظرًا لما بيديه من المسائل والنصايح لينظر الملك كيف أظهر دسائسه وأبين طرائق مكره وخداعه لينظر الملك كيف أظهر دسائسه وأبين طرائق مكره وخداعه وأكشف زيفه في نقده ويطلع الملك على ما تصل خديعته وما تنتهي إليه درايته. ثم إن الملك جمع أركان دولته والفضلا والعلما من أطراف مملكته وجلس في محل عظيم وجمع كثير ودعا أخاه مرزبان وبالغ في إكرامه وقال: يا أخي كان تقدم منك طلب الإذن في تأليف شيء ينتفع به العام والخاص من الحكم والأمثال والنصيحة ويتخلد به الذكر ويبقى مستمرًا على ممر الدهور وذلك لوفور فضلك ورجاحة عقلك ومزيد شفقتك على الرعية
1 / 15
فأحببت أن يكون ذلك بحضرة العلما ومجمع من الأكابر والفضلا وأرباب الدولة والمناصب ليأخذ كل واحد منهم نصيبه وتتوفر العائدة وتعم الفائدة، وقد أذنا لك في الكلام فقل ما بدا لك. والسلام.
فقال مرزبان: يا مولانا الملك حيث أنعمت في الكلام فأتمم ذلك بحسن الإصغا فإن حسن الإصغا هو الدرجة الثانية وذلك أن حسن الأداء هو المرتبة الأولى وحسن الإصغا هو الدرجة الثانية والاستفادة هي الغاية القصوى والدرجة الثالثة، ثم أعلم أيها الملك أن النصيحة خير والنفس مائلة إلى الشر فبينهما تنافر من أصل الخلقة فالسعيد من تفكر في معاني الحكم وتأمل في عواقب الأمور وتلقى الأشياء من طرق الاعتبار وقد قيل:
إذا لم يعن قول النصيح قبول ... فإن معاريض الكلام فضول
ثم أعلم يا ملك الزمان أن أفضل شيء تركب في وجو الإنسان وحسن جوهر وزان عقد تركيبه العقل وأشرف خصلة تتوج بها العقل الخلق الحسن ولأجل هذا قال الله تعالى: لأشرف مخلوقاته ﷺ: وإنك لعلى خلق عظيم وبالخلق الحسن ينال الذكر الجميل في الدنيا والآخرة. وأشرف الموجودات من الخلائق الإنسان وأفضل جنس الإنسان بعد الأنبياء ﵈ الملوك، وإذا كان الملك حسن الخلق كان في الدرجة العليا من الكمال، ومن جملة حسن الخلق العدل والشفقة على الرعية وإذا صلح السلطان وحسن خلقه صلحت الرعية طوعًا أو كرهًا لأن الناس على دين ملوكهم. ثم أعلم أن أقبح عادة للملك الخفة والطيش وعدم الثبات لأن الرجل الخفيف لا يقدر على تدبير الأمور الجليلة ولا الدخول في القضايا الشاقة ولا يستطيع أن يصل إلى
1 / 16
الرياسة ولا يمكنه أن يتحمل فصل الخصومات، فإن هذه الأشياء تحتاج إلى رجل يكون كالجبل في السكون والوقار أو كالبحر الهائج في الحركات، ثم أعلم أيها الملك أن مما ينبغي أن يتجنبه الملك الإسراف والتبذير فإن الملك حافظ لدماء المسلمين وأموالهم والمال الذي في يده هو لهم وإنما هو مرصد تحت يده كما لا ينبغي أن يتصرف بالتبذير في مال نفسه كذلك يجب عليه أن يذب به عنهم وأن لا يسرف في أموالهم ومصداق ذلك قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . وينبغي بل يجب على الملك أن لا يأمر بشيء إلا بعد التأمل والتروي لأن أمر السلطان بمنزلة القضاء النازل من السماء لا يرد وإن أمر الملك من غير تأمل وتدبير يشبه السهم الخارج من كبد القوس بل يشبه سهام القضاء والقدر لا يمنع منه ترس حذر ولا يمنعه جعفة حيلة، كذلك سهم الموت لا يرده شيء ولكن ربما أدى في أواخره إذا لم يتدبر في أوائله إلى الندامة، وأعلم أيضًا أيها الملك أن يجب على الملك يصغي إلى نصيحة
1 / 17
الذي قد جرب منه الصدق والمودة وعلم منه محض النصيحة ولا ينفر من خشونة النصيحة ومرارتها فإن الناصح المشفق مثل الحكيم الحاذق إذا اشتكى إليه المريض مرارة فمه فإنه يصف له دواءً مرًا فإنه ما وصف له الدواء المر إلا ليعيد بشربه حلاوة فمه ولا يستحقر النصيحة ولا الناصح، فإن سليمان ﵇ من أجل سادة الأنبياء المرسلين ﵈ وهو أحد من ملك الدنيا وحكم على الجن والإنس والطير والوحش والريح، استشار نملة حقيرة فنجح في أمره ولما خالف وزيره آصف بن برخيا في قضيته ابتلاه الله تعالى بعد وسلب ملكه حتى صار أجير السماك على ما قيل ثم قال: يا مولانا الملك وأنا لما رأيت أمور الملك قد وقع فيها اختلال بواسطة إهمال المباشرين لمصالح الرعية واستطالتهم على الفقير ومد أيديهم إلى أموال الناس بالباطل وخروجهم عن دائرة العدل وعدم الالتفات إلى المستحقين وتولت المناصب غير أهلها بحيث وقع الاختلال في أمور المملكة وتطاول الغير إلى إلقاء والفساد ورأيت هذا لا يليق
1 / 18
بشرف مولانا السلطان ولا بأصله الزكي ومقامه الرفيع ولا بهمته العلية فإنه لا يميل إلا إلى التخلق بما كان عليه السلف الصالح والملوك الكرام كما قيل:
وإن الظلم أقبح كل قبح ... وأقبح ما يكون من البنية
وقد قيل أيضًا:
ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام
فما وسعني إلا الانحياز إلى العزلة والتعلق بذيل الانفراد والوحدة وما أمكن أن أفعل شيئًا برأيي ولا أعترض على آراء مولانا السلطان ولا أفاتحه في شيء من ذلك فإنه قد قيل في بعض النصايح لا تخاطب الملوك فيما لا يسألونك ولا تقدم على ما لا يأمورنك، إذا تركوك، فلما أذن لي في الكلام علت قطرة من بحر وقمت ببعض ما يجب على سائر الناصحين من طريق واحد ووجب علي من طرق متعددة أقواها حق الأخوة التي هي أقوى الوسائل وأعظم الصلات فإنه قد قيل السبب الذي لا يقطعه سيف حبل القرابة والبنيان الذي لا يهدمه ممر الزمان أساس الأخوة قال الله تعالى سنشد عضدك بأخيك وقال القائل:
أخاك أخاك إن من لا أخًا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وناهيك بحكاية الوها الضحاك فقال له السلطان: كيف تلك الحكاية أخبرنا بها فقال مرزبان: ذكر المؤرخون أن الضحاك كان من أحسن الناس سيرة وعدلًا فتزيا له إبليس في زي طباخ وصار كل يوم يهيئ له من لذيذ الأطعمة ما يعجز عنه ولا يأخذ على ذلك أجرة، واستمر على ذلك مدة إلى أن قال له الضحاك في بعض الأيام أيها الطباخ إن لك علي حقوقًا أريد أن أكافئك ببعض فتمنن علي قال: تمنيت عليك أن تكشف لي عن ظهرك فأقبل لوح
1 / 19
كتفك فأجابه إلى ذلك وكشف عن ظهره فقبله وغاب عن عينيه فأخذته حكة ولدغ ثم خرج من موضع تقبيله حبتان فطلب الأطباء لذلك فعجزوا عن علاجه ثم لم يروا لسكون لدغته إلا دماغ الإنسان فأكر بإلقاء القرعة كل يوم بين الناس وصار كل من وقعت عليه القرعة قبضوا عليه وقتلوه وأخذوا دماغه وعالجوا به الألم فيسكن، ففي بعض الأيام وقعت القرعة على ثلاثة أنفار فوضعهم بالسجن ليجري عليه ما جرى على أمثالهم، فجاءت الضحاك امرأة هي زوجة أحدهم وأم الآخر وأخت الثالث وتظلمت فخيرها بين أحد الثلاثة فتقدمت إلى الحبس فرأت زوجها فذكرت ما جرى بينهما من لذيذ العيش وطيب الأوقات وتحريك الشهوة النفسانية فهمت بطلبه فوقع نظرها على ابنها فرأت صباحة وجهه وتذكرت تربيتها إياه وحمله في بطنها وإرضاعها له فتعطفت عليه فقصدت أخذه فوقع بصرها على أخيها فرأته ودموعه تتساقط لأنه يعلم أنها لا تعدل عن زوجها فتفكرت طويلًا ثم قالت: أختار أخي فبلغ الضحاك ذلك فدعاها وسألها عن سبب ترجيح اختيارها أخاها
1 / 20
دون غيره فقالت: تذكرت زوجي وطيب عشرته فهممت باختياره ثم رأيت ابني فحنت عليه جوارحي وتذكرت ما مضى من الحمل والولادة والتربية فهممت باختياره، ثم رأيت أخي فأخذتني الفكرة وقلت أنا شابة أتزوج غير زوجي ويولد لي غير ولدي ففيهما بدل وعوض وأما الأخ فليس عنه بدل ولا عوض وذلك أن أبوينا ماتا ولا يمكن تعويضه فاخترته فاستحسن الضحاك منها ذلك ووهبها الثلاثة.
ثم قال مرزبان: وما أوردت هذه الحكاية إلا ليعلم مولانا الملك أن لي عن كل شيء بدلًا وعوضًا ولكن ما لي عن مولانا الملك من بدل ولا عوض إلا بقاء ذاته التعيسة ودوام حياته العزيزة وأخاف والعياذ بالله تعالى من الفتن التي أقبلت أن تستأصل أسلافنا الكرام وتقرض عقب أجدادنا والسلام، فاخترت العزلة لذلك وآثرت الوحدة هنالك فقال الملك: قلت الصواب ونصحت فأبلغت في الخطاب وأنا أتحقق حسن نيتك وخلوص طويتك وصدق وفائك وحسن التجائك، ولكن أريد أن يقع بيني وبين هذا الوزير المشفق محاورة، ويقع فيما أنت بصدده بحث ومشاورة فإن كلًا منكما ناصح مشفق وحكيم مدقق وعالم محقق وفاضل مونق وفي مثل هذه الأشياء كلها طال التفتيش ودق البحث وظهر الحق واتضح الصدق لا سيما إذا كان الكلام بين عالمين والسؤال والجواب من فاضلين كاملين.
فقال مرزبان: يا مولانا الملك إذا قام الإنسان في صدر المعارضة وترقى في البحث إلى المعاكسة والمناقضة لا سيما إن كان من أهل الفصاحة واللسان ومساعدة الإدراك الحسن لا يعجز عن أن يقابل الإيجاب بالسلب والاستقامة بالقلب والعكس الطرد والقبول بالرد، ويكفي في جواب المتكلم إذا أورد مسألة لا نسلم ولكن قد
1 / 21
قيل في الأمثال لا تشفع الشفاعة باللجاج ولا النصيحة بالالتجاج، وأما أنا فقد بذلت جهدي في أداء النصيحة وكشفت عن أركان التحقيق حجب الأستار فإن وقع نصحي في محل القبول فقد تبين الرشد من الغي وإن رددت كلامي وأعرضت عن العمل به فلا إكراه في الدين.
فتصدى الوزير للكلام وكشف عن ثغر بيانه اللثام وبرز في ميدان الملاينة والمخادعة وسلك طريق الملاطفة في المصانعة وقال الحمد لله الذي من على مولانا الملك بهذا الأخ الحكيم الفاضل العليم الناظر في العواقب صاحب الرأي المصيب والفكر الثاقب لقد بالغ في النصيحة بعباراته المليحة وإشاراته الصحيحة، الدالة منه على سلامة القريحة فكل شيء نهاه هو الذي يقتضيه الفعل القويم والمنهج المستقيم ويترتب عليه الذكر الجميل وآثار الثواب الجليل، ولكن الذي نعرفه نحن في حفظ الرياسة وإقامة قانون السياسة هو الذي عليه الناس في هذا اليوم وجرت عليه عوائد الأكابر والأصاغر فإن الزمان قد فسد والخير والفضل فيه قد كسد، وهذا مقتضى الحال بين أبناء الزمان والناس تدور مع زمانهم بقدر إمكانهم وقد قيل: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم وبعض السياسات تقتضي العقوبة بالتغريم وأخذ المال ولو عفا الإنسان عن مجرم طمع المجرمون فيه وكان كمن عاقب من لا ذنب له فإن وضع الأشياء في محلها هو أحد قوانين الشرع والسياسة وقد قيل:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
لا يسلم الشرف من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وقد قيل رب إراقة دم تمنع من إراقة دم وقد قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل
1 / 22
ومصداق هذا الكلام قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) . وقال قابوس بن وشكير لما قبض أركان دولته عليه وأرسلوا إليه وهو في السجن من يقتله فقال: ما سبب قيام أهل مملكتي علي مع إحساني إليهم وتربيتي إياهم قالوا: كثرة إراقتك الدماء هو الذي أوجب تغيير خواطرهم عليك، فقال: لا والله وإنما سبب ذلك قلة إراقتي الدماء يعني لو أراق دماء القائمين عليه لما قبض عليه ولكن لما أهملهم قبضوا عليه وجرى لهم ما جرى، ثم أعلم أيها الحكيم الفاضل أن مزاج الزمان قد فسد وقد أعرضوا عن طاعة السلطان إلى مخادعة الشيطان وكل منهم قد باض الفساد في دماغه وفرخ وتصور بخيالاته الفاسدة ومجالاته الكاسدة أنه بصير إلى ما يطلب ويبلغ ما يريد وهيهات كما قيل:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وسامها كل مفلس
وهذا لأنهم كما قال الله تعالى: (في حقهم يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) ولم يشعروا أن السلاطين هم ممن اختارهم الله ﷾ للقيام بأمور عباده فهم في الحقيقة ملحوظون بعنايته وكما أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الله تعالى من خلقه من غير كد منهم ولا سعي في تحصيل الرسالة صدر عنهم وإنما محض منحة من الله تعالى كذلك الملوك والسلاطين هم صفوة الله تعالى من خلقه اختارهم لأن يكونوا خلفاء في أرضه وقد غفل أهل هذا الإقليم والممالك عن إدراك هذه الحقائق وعدوا المكر والخداع من جملة العقل والكياسة والتحيل على أقوال الناس ومظالم الناس من الفطنة والذكاء وتملقهم للسلاطين. فمن أسباب الوصول إلى الأغراض من تحسين الظاهر وتزيين ما يراه الناس وقلوبهم كقلوب الذئاب فلأجل هذا سلطنا الله عليهم نعامله بما تقتضيه السياسة السلطانية.
1 / 23
فقال مرزبان: أعلم أيها الوزير الناصح والشفوق الصالح أن الملك بمنزلة الشمس المشرقة والرعية بمنزلة السراج وإذا تلألأت أشعة الشمس المشرقة على صفحات الأكوان فأي نور يبقى للسراج وأن قلوب الرعايا من فيضات أشعة قلوب الملوك فإذا صفت مرآة قلب الملك أشرقت قلوب الرعية بل والزمان والمكان كما قيل إذا تغير السلطان تغير الزمان وقد ذكر المؤرخون في قضايا لملك بهرام جور أنه في بعض الأوقات عزم على الصيد وخرج في عسكره فبينما هم في البرية وكل من الجند وجه إلى صيده إذ غيمت الدنيا وانطبقت الآفاق بالغيوم واستترت الشمس في النقاب وأرسلت عيون السحاب ومعها المدرار وجنات تجري من تحتها الأنهار وأقبلت السيول تجري في مضمارها كالخيول. فشتتت الخيول والعساكر عن بهرام فقصد قرية من القرى ونزل طالبًا القرى منفردًا من عسكره مخفيًا سر خبره فاتفق نزوله في بيت رئيس القرية ولم يشعر به الرئيس فلم يقم بواجبه فتنكد لذلك خاطره وتغيرت نيته ولكن لم يظهر أثر ذلك فلما أمسوا أقبل الراعي بالمواشي وذكر للرئيس أن حليب المواشي نقص عن عادته مع أن رعيها كان أحسن من كل يوم فتعجب من ذلك وكان للرئيس بنت تسجد الأقمار لخدودها وتنقصف الأغصان إذا ماست في الرياض عند ورودها، فلما سمعت كلام الراعي قالت: والله ما يكون سبب ذلك إلا خاطر سلطاننا تغير علينا فظهر لذلك النقص في حلب مواشينا وقد قيل إذا هم الحاكم بالجور على الرعايا أدخل الله تعالى النقص في أموالهم حتى الزرع فقال الرئيس إذا كان كذلك فلا مقام لنا في هذه القرية والأولى أن نرتحل منها إلى نستريح في ظل حاكمه فقالت البنت: إن كان ولابد من الارتحال فالأولى أن نتكلف لهذا الضيف بما عندنا فإنا لا نقدر على نقل جميع ما
1 / 24
عندنا فيحصل فيه فائدتان القيام بحق الضيف ويطيب خاطره والثانية يخف الحمل فقال الرئيس: نعم الكلام وأظهر البشاشة وصنع الأطعمة المفتخرة وقدمها للضيف فأكل ثم شرع في تجهيز الشراب والنشاط وأخذ في أسباب المعاطاة والمنادمة فلما أخذ الشراب ما أخذ من بهرام ارتفعت أسباب الحشمة وتاقت نفسه إلى ما كانت معتادة من مغازلة الغزلان وسماع القينات، فقال للرئيس: هل عندك من يطربنا بصوته أو يعجبنا بصورته من وصيفة أو صورة لطيفة ولا نطلب زيادة على النظر وحسن المنادمة إلى السحر لتزول عنا وحشة الاغتراب ودهشة الاضطراب وقد قيل الشرب بغير نغم غم وبدون طرب هم، ثم نهض الرئيس إلى حريمه وقال لابنته ما جرى بينه وبين ضيفه وقال: يا بنيه أظن ضيفنا من الأكابر والأعيان وقد التمس منا شيئًا يلهيه بمنادمته وليس عندنا من يليق لذلك سواك وأنا أعرف عفتك ونزاهتك وحسن محاضرتك ومحاورتك فإن رأيت أن تمتعيه بالنظر إلى حسن صورتك وجمالك ثم تعودي إلى مكانك مفتخرة بين أهلك وناسك فلا عار عليك والأمر مفوض إليك، فأجابت أباها وأقبلت إلى الضيف وهي من قدها
1 / 25
ولحظها تلعب معه كالرمح السيف إلى أن صادته بلحظها المكسور وأمسى قلبه وهو في يدها مأسور فأنشأ يقول:
أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
فأضمر بهرام في نفسه أنه إذا رجع إلى محل ولايته يطلب هذا الرئيس ويصاهره على هذه الكريمة ويعطيه هذه القرية مع أمثالها فما استتم الخاطر حتى جاء الراعي وقال للرئيس: إن الغنم قد فاضت ضروعها حتى صارت تشخب على الأرض وقد ملأنا اللبن جميع ما كان عندنا من الأوعية ولم نجد لذلك موضعًا فقالت البنت لا شك أن نية الملك انصلحت في حقنا حتى أعاد الله تعالى الخير علينا فتعجب بهرام من ذلك إذ بلغه فلما أصبح توجه إلى محل ولايته وأرسل إلى ذلك الرئيس وأمضى ما كان نواه وعقد على بنته وأقطعه النواحي والقرى وأعطاه ما تمنى ثم قال مرزبان: إنما أوردت هذه الحكاية لتعلموا أن الزمان تابع لنية الملك وقد قيل عدل السلطان خير من خصب الزمان وإذا لم يكن الملك على الرعية بارًا ولا عليهم شفوقًا ولا متجاوزًا عن مسيئهم ومقبلًا على محسنهم فالأولى لهم أن يهاجروا من بلادهم ويخرجوا من مملكته قال الله تعالى لنبيه ﵊: ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك وينبغي أن لا يؤاخذ أحد بجريمة أحد قال الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولو طولب بذلك أحد لفسدت المملكة واضطربت الرعية واختل نظام الملك ولو فعل ذلك من تقدم من الملوك لما بقي للمتأخرين شيء وخربت الدنيا من أول الأمر وينبغي لمن باشر أمر الرعية أن يكون شديد الفكر والرأي صدوق القول متفكرًا في العواقب عادلًا بين الخاص والعام شفوقًا على اليتيم ثابتًا في النوازل مشغولًا بتهذيب نفسه واضعًا الأشياء في محلها مقيمًا كل أحد في محله ومنصبه ومقامه لا يتعداه حتى
1 / 26
تستقيم بذلك الأمور والمملكة وقضايا السلطنة ويطمئن بذلك خاطر الملك الذي هو في خدمته ويتمشى أمره عنده، وينبغي للملك أن يكون كريم الأعراق لطيف الأخلاق في جميع أحواله وينبغي أن يراعي أساس ما بناه آباؤه وأجداده إن كانوا ملوكًا فإن كل من لا يراعي عادات أسلافه وأخلاق أجداده وصنائع آبائه يصيبه ما أصاب الذئب الذي أحب أن يتعشى على غناء الجدي المغني، فقال الملك: كيف كانت تلك الواقعة؟ بينها لنا.
فقال الحكيم مرزبان: بلغني من رواة الأخبار أن ذئبًا كان له إقامة في بعض الغياض خرج يومًا في طلب صيد يسد به رمقه فقصد المواضع التي كان يتوقع فيها الصيد فلم يتفق له شيء فرجع وقد أثر فيه الجوع والتعب فوجد بعض الرعيان يسوف غنمًا حوالي فتعلقت أطماعه بها فأراد الهجوم عليها لكن رأى الراعي مستيقظًا فجعل يراقب الفرصة ويحوم من بعيد إلى أن أمسى وساق الراعي الماشية إلى مرابضها ما عدا جديًا تخلف منها فأدركه الذئب واستبشر بالفتح والظفر فلما عاين الجدي الذئب علم أنه لاشك واقع في مخالب الهلاك، ففكر في مجاة نفسه وقال: لا ينجيني من هذه البلية إلا حسن الحيلة فتقدم بجأش قوي وقلب ثابت وقبل الأرض بين يدي الذئب وقال له إن الراعي أرسلني إليك وهو يسلم عليك ويقول لك إن غنمه قد حصل لها الشبع والري ببركة جوارك وتركك عادة آبائك وأجدادك في التعرض له ولغنمه فأراد مكافئتك فأرسلني إليك وأوصاني أن أغني لك قبل أن تأكلني فإني
1 / 27
حسن الصوت والغناء وصوتي يشتهى فإن اقتضى رأيك غنيت لك غناء يطربك وأسمعتك شيئًا لم تسمعه آباؤك وأسلافك ويزيد في لذة أكلك، فقال الذئب لا بأس أن تغني لي حتى أسمع صوتك فأغتنم الجدي الفرصة ورفع صوته حتى ملأ الوادي عياطًا فطرب الذئب وقال: هات صوتًا آخر حجازًا فصرخ الجدي صرخة أسمع بها الحجاز والعراق فسمعه الراعي فأسرع نحوه بالمطرق فلم يشعر الذئب إلا والراعي قد لحقه فرأى الأولى رواحة بالسلامة ونجاة نفسه وترك الجدي وانقلب وصعد على رأس تل وجعل يلوم نفسه ويقول: يا قليل العقل متى كانت آباؤك وأجدادك يأكلون وعلى سماطهم المغني ولولا أنك عدلت عن طريق آبائك وأسلافك ما فاتك صيدك ولا جلست جائعًا كما قيل:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وإنما أوردت هذا المثل والحكاية ليعلم أن العدول عن طريق الآباء ليس بمحمود وقد قيل من يشبه أباه فما ظلم خصوصًا الملوك
1 / 28
والسلاطين لئلا يدخل الخلل في قواعد المملكة والسلطنة فكل هذا من عدم التدبير في العواقب وكل من لم يتدبر في عواقب أمره يصيبه ما أصاب ابن آوى مع الحمار فقال الملك: صفه لنا فقال: إنه كان في جوار بعض البساتين لابن آوى وكر فكان يدخل كل يوم من مجرى الماء ويعبث في البساتين كيف ما اختار ويأكل من الأعشاب وطيب الفواكه ما أراد إلى أن عجز عنه البستاني فكان يرقب منه الفرصة. ففي بعض الأيام أحس به البستاني وهو في البستان يأكل الفواكه فبادر إلى مجرى الماء فسده عليه قم أقبل عليه بعصا وأثخنه ضربًا إلى أن كاد يهلك فطرح نفسه فحسبه قد مات فشحطه بذنبه ورماه خارج الحائط وفيه أدنى رمق فاستمر ملقى حتى تراجعت إليه نفسه فلما أفاق فكر في نفسه وكره المقام في ذلك الموضع وقال: إذا كان هذا الجار القديم لم يرع حق الجوار فلا فائدة لي بعد اليوم في جواره والرأي أن أرتحل ما دام لي القدرة على الرحيل فإنه لو عرف أن فيّ حياة ما أمهلني. ثم فكر إلى أين يرتحل وكان في بعض الغياض ذئب هو لأبيه صاحب قديم فقصده فلما رآه سلم عليه وتعرف بصحبة أبيه إليه فتلقاه بالترحيب وسأله عن أحواله فبكى بالأشواق وتذكر أنكاد الزمان وذكر له أحواله من أولها إلى آخرها فسكن الذئب ما به وأنشد:
أحيا بكم الإله وأحياكم ... ولا عدا الوابل مغناكم
فما رأينا بعدكم منظرًا ... مستحسنًا إلا ذكرناكم
ثم إن الذئب أراد أن يضيفه شيئًا وليس عنده ما يقدمه إليه فاستعد للصيد وعزم على التوجه وقال يتبع الفتى لؤم إذا أجاع ضيفه فسأله ابن آوى عن سبب حركته فأخبره بذلك فقال ابن آوى إن لي قريبًا في هذا المكان حمارًا بيني وبينه صداقة ولو تحيلت عليه
1 / 29
وجئت به لكان لنا ذخيرة عدة أيام فإذا اقتضى رأيك ذهبت إليه فقال الذئب نعم هذا عين المصلحة فأفعل ما بدا لك وتوجه ابن آوى إلى بعض الجهات فوصل إلى طاحون وإذا بحمار أوسقوه حملًا قد قصم ظهره فطرحوا الحمل عنه وأرسلوه يرعى فتقدم إليه ابن آوى وسلم عليه معرفة وأظهر له التودد وسأله عن خاله وتوجع له مما يقاسيه ويعانيه من جفاء بني آدم والأحمال الثقيلة وأخذ يلومه على الصبر على ذلك وقال إلى متى تبقى على هذا الذل وتقاسي الجوع والعطش وتذوب تحت الحمل الثقيل كما قيل شعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد
فقال: يا أخي لو لقيت لي ملجأ أو مهربًا أو مكانًا اختفي فيه كنت أويت إليه وتخلصت من هذا العناء العظيم والشقاء الجسيم فقال له ابن آوى: أنا عرف في هذا القرب أجمة تفرح رياضها وتزهر غياضها وأنا ساكن فيها وهي آمنة من الوحوش والسباع حصينة من الأذى والشور فإذا اقتضى رأيك ذهبت بك إليها فإن أعجبتك سكنتك فيها وكفيت منى من أحسن الجوار ما تحمد عاقبته وتعيش باقي العمر في عيش وحياة هنيئة ويستأنس كل منا بالآخر ومن أين نجد رفيقًا مثلك وصاحبًا هنيئًا نظيرك؟ فلما سمع الحمار هذا اللام أثر فيه ورغب في الخلاص من الشقاء الذي قد آلمه فسلم زمامه إلى ابن آوى وعجلا في المسير لئلا يشعر بهما أحد فصار الحمار يعدو وابن آوى يلاحقه فتعب ابن آوى فعكس المسألة وقال للحمار اصبر يا أخي حتى أحملك وأسير بك لئلا يلحقنا أحد فقال الحمار: أنت ما يمكنك أن تحملني ولكن أنا
1 / 30
أحملك وأسرع بك فأجاب إلى ذلك فرجع الحمار إلى ابن آوى فنط ابن آوى عليه فركبه وجعل الحمار يعدو به بنشاط وابن آوى يدله على الطريق فلما قربا من الأجمة رفع الحمار بصره فرأى الذئب قاعدًا على مكان ينتظره فعرف الحمار أن ذلك مكيدة وحيلة فقال: تأتي الخطوب وأنت عنها غافل فاستحضر عقله وعرف أنه غفل عن نفسه فكأنه كان الساعي للهلاك بنفسه والباحث عن حتفه بظلفه وإن أهمل أمره فقد سبق للجناية على تلف روحه وهلاك نفسه. ثم وقف يريد أن يتفكر فقال له ابن آوى: ما لك وقفت؟ أسرع لئلا يدركنا أحد فقال الحمار: يا أخي قطعت علائقي وجئت وما ورائي تبعة ولا علقت وقد عزمت على الرجوع والأخذ في قطع علائقي وحمل ما لي من الأثاث فإني إذا رأيت هذه الروضة وسكنتها لا أقدر على مفارقتها أبدًا فتضيع إذ ذاك مصلحتي فقال له ابن آوى: يا أخي لا توخر أو أوقات السرور إلى غد لأن للتأخير آفات، فقال الحمار: لابد من ذلك ولكن أعظم الدواعي للرجوع وصية كان أوصاني بها أبي وكنت لا أفارقها أبدًا وإذا جاء الليل وضعتها تحت رأسي وإن لم تكن تحت رأسي لا يحينني نوم ولا يقر لي قرار إن نمت بغيرها وأرى منامات مهولة وتغلب على دماغي السودا وتلك الوصية هي حل القصد فإذا أنا قد حصلتها وجئت بها فما علي من غيرها فإني لا أجد مثل تلك الروضة ولا أحسن من ترهتها ولا ثمارها ولا ريحها ولا رفيقًا مثلك صالحًا. ثم أخذ في الرجوع فقال ابن آوى: في نفسه إن تركت هذا الحمار يرجع وحده لا يعود لنا ويفوت المقصود وأداه فكره إلى الرجوع معه ولا يفارقه فربما تتم الحيلة معه ثم قال للحمار شوقتني يا أخي إلى رؤيا هذه الوصية ولا بد لي من الوقوف عليها
1 / 31